إلى قاتل آخر: لو تركت الجنين ثلاثين يوماً،
إذاً لغيرت الاحتمالات: قد ينتهي الاحتلال ولا
يتذكر ذاك الرضيع زمان الحصار.
حالة حصار – محمود درويش
تتشكل صورة الهوية المحاصرة في سجن الأرض لفلسطينيي غزة بعدة تمثيلات واقعية، منها: وجودهم ضمن السياج الحدودي العالي التقنية والرقابة (قبل طوفان الأقصى)، والطائرات "الزنانة" التي تنذر بالموت، وحرمة الطيران والتوغل في البحر المحسوب الأميال، الأمر الذي اضطرهم إلى استغلال باطن الأرض تعبيراً عن المقاومة واستكمال الحياة، وإغلاقات المعابر شمالاً وجنوباً، وانقطاع الكهرباء واتشاح غزة بالسواد، وقطع الإنترنت والانعزال عن العالم الخارجي.
أمّا التمثيلات الأُخرى الخاصة بسجن الجسد لفلسطينيي غزة، فهي: وجود الجسد ضمن منظومة من الانتهاكات المتتالية والاستباحات المتكررة التي كادت تصبح حالة طبيعية لمن هم في عمر السابعة عشر (مساوٍ لعمر الحصار على سبيل المثال) أو أقل من ذلك، كونهم نشأوا على هذه الذاكرة المشوهة من غزة وعلى مشهد حصارها، إلا ّإنه سيبقى حالة الاستثناء الدائمة حتى يتم كسره. لم تبدأ الحرب في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وإنما قبل سبعة عقود، فكان سبب طوفان الأقصى أن "فاض البؤس في الشوارع واختمر مع تراكم سنين عجاف."[1]
أنت في غزة؟ إذاً أنت مسجون جسدياً لمجرد الوجود في هذه البقعة الجغرافية، ومحاصر كغزيّ، ومحبوس باختلاط الأجساد بالركام لحظة القصف، ومقيد بشعور الخوف والرعشة والبكاء وتحوّل لون البشرة من الحنطية إلى الرمادية بعد القصف والانتشال من تحت الركام وتلقي الصدمة، ومكبل عن فلسفة "جدارة الحزن" في مرحلة لا تستطيع فيها حصر خسائرك ومَن فقدت، إذ إن من الناس من يتمتع بالقيمة الإنسانية، بينما هناك آخرون لا يتمتعون بها. ويحق لنا اليوم طرح السؤال التالي: من هم الجديرون بالحزن، وأي طرف يحصل على استحقاق جدارة الحزن؟[2] وذلك بعد خسارة البشر والمنزل والمكان.
طبعاً لن تتمكن أعتى منظمة إنسانية من حصر كم الانتهاكات التي تحدث اليوم في قطاع غزة تجاه الإنسان الغزيّ، الذي تم تصنيفه وتأطير هويته على مدار السنوات تبعاً للجغرافيا التي لا تزيد على 360 كيلومتراً. حتى إن هذه المساحة الصغيرة يتم تقليصها عبر "حشر" الناس في رقعة أصغر، وإزاحتهم نحو الجنوب. وينتهك قصف الاحتلال اليوم قداسة الإنسان الغزي تبعاً لاعتبارات تصنيفية مجحفة، تعطي الإسرائيلي الحق في المطالبة بحقوقه، وتنفيه عن نظيره الغزي على اعتبار أن كلهم، صغيرهم وكبيرهم، "ولا نزكي منهم أحداً" في نظرهم إرهابيون ومخربون.
إذاً، هناك أزمة في الهوية لا تزال تتعمق، وهي نتاج صراعات مركبة ذات أبعاد متعددة، بدأت بصراع السرديات التاريخية، والصراعات الثقافية والسياسية والاجتماعية والهوياتية، والتي لا يمكن حصرها في نهج أحادي، وهي بدورها تعزز الكراهية المعلنة تجاه أي فلسطيني بصورة عامة، وغزيّ بصورة خاصة، في هذه الحرب، كما هو واضح من عشوائية القصف التي تحمل، بلا شك، صفة الإبادة العلنية التي تمارَس على رؤوس الأشهاد. وتستمر الرؤية الإقصائية للدول الداعمة لإسرائيل في تصوير الفلسطينيين كغزاة، والمستوطنين كضحايا، وأن اليهودي هو المعني بحقوق الإنسان من دون الفلسطيني.[3]
وعبر كثير من "المشاهد التمثيلية" التي شهدناها خلال هذه الحرب، تبرر إسرائيل لنفسها ما يمكن تسميته بـ"الحرب القانونية" (Legal War) وحق الدفاع عن نفسها. وكان ضمن هذه المشاهد كذبة قطع رؤوس 40 طفلاً إسرائيلياً، وتسويقها في وسائل الإعلام الغربية، وتناقلها على لسان الرئيس الأميركي أيضاً، من دون دليل سوى بعض الصور المفبركة التي تم دحضها لاحقاً، بالإضافة إلى المشاهد المبتذلة التي يعرضها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بشأن وجود أنفاق أو بعض العتاد التابع لحركة "حماس"، أو غرفة يدّعي أنها لحجز الأسرى، مع إظهار جدول لأيام الأسبوع يزعم أنه لمناوبات عناصر "حماس"، وكل ذلك داخل المستشفيات، وهو ما يبرر قصفهم المتواصل لها. والأسوأ من ذلك، هو إلصاق تهمة قصف المستشفى المعمداني بـ"حركة الجهاد الإسلامي"، وادعاء أن صاروخاً تابعاً لها قد ضل طريقه. وهناك مشهد تمثيلي آخر لفتاة تعمل كممرضة في مستشفى الشفاء في جو من التأثيرات الصوتية المركبة وحالة الذعر المصطنعة، جرى فيه الادعاء أن "حماس" سرقت الوقود والمواد الطبية من المجمع الطبي. والبهتان الأكبر الذي يروج له الاحتلال هو أن الجنوب آمن، مع العلم بأننا نشهد كل يوم قصفاً مباشراً للناس في أثناء تهجيرهم، أو على عدة مناطق.
ولإضافة حصار فوق الحصار، وفي دعوة صريحة إلى ارتكاب ما يسمى جرائم حرب، فرض وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حصاراً مضاعفاً بقوله: "نفرض حصاراً كاملاً على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق"، متبنياً مبدأً للتعامل مع من نعتهم بـ"الحيوانات البشرية" يخضع لما هو متعارف عليه ضمن سياسات نزع الصفة الإنسانية (Dehumanization) تجاه الآخر بصيغة العدو، وتحويل الغزيين إلى أشياء عبر "تشييء الإنسان" لتمكين السيطرة عليه أو استيعابه ضمن سياسات الدولة المحتلة، إلى درجة نزع التوطن عن الفلسطيني الغزيّ وإزاحته (de-placing) إلى بقعة جغرافية من دون إرادته. وهذا يفسر التجريد العنيف الممنهج من جانب الاحتلال للسكان الأصليين من أراضيهم والاستحواذ على السيادة وتبنّي الإبادة كحل، تماماً كما صرح مَن يُطلق عليه وزير التراث عميحاي إلياهو متبجحاً بإلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، والمحو المعرفي المتعمد للشعوب من السرد التاريخي، وهي عملية ذات طابع متجذر ومستمر وليست طارئة.
عبّرت سلمى الدباغ عن حالة التشييء هذه بأنها تفريغ للكينونة من معناها وطبيعتها، والخاصة بالحالة الفلسطينية الغزية، وذلك بأن "الاحتلال وعبر سياساته من إغلاق وحصار قطع سيقاننا، بتر أطرافنا وتركنا نزحف في الوحل. نحن كلنا في غزة بلا أرجل."[4] لم تعد الهوية في غزة في هذه الحرب ذات خصوصية فردية معينة، وإنما تم تعميمها على الرجال والنساء والأطفال وحتى الأجنة؛ إذ يولد الطفل في لحظة الموت نفسها، ولم يعد هناك أي وزن للحرية أو الكرامة الإنسانية التي أصبحت اليوم رفاهاً صعب المنال.
حتى هوية الأماكن تم تفريغها من معناها ومقصدها، إذ لم يعد المستشفى آمناً، فقد تم انتهاك ساحات مستشفى الشفاء، وتغير هدف الاستشفاء والأمن والرعاية إلى استباحة موغلة وعدمية للحياة وتراكم للجثث التي أصبحت متاحة للحيوانات وانعدام القدرة على إنقاذ الجسد الذي نُزعت منه الروح بدفنه، وأصبح المستشفى المعمداني ساحة حرب راح ضحيتها أكثر من 450 إنساناً. حتى دور العبادة، من مساجد وكنائس، فقدت قداستها وروحانيتها من دون أدنى اعتبار لأي مبدأ، عبر قصف كثير من المساجد، وكنيسة القديس برفيريوس. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المدارس التي لجأ إليها الناس، إذ لم تعد آمنة بعد الاكتظاظ الهائل في مدارس الأونروا وإسقاط قنبلة في وسط المدرسة على رؤوس لاجئيها.
يجادل جورجيو أغامبين في إحدى صور استباحة الحياة، بأن حياة الإنسان المعرضة للموت تنشأ أحياناً نتيجة السلطة السياسية حتى لو كانت سلطة العدو، وهنا نقصد سلطة الاحتلال وامتداد أذرعها نحو الفلسطينيين والتحكم برقابهم منذ الولادة،[5] فيكونون معرضين للقتل وإمكان إعدامهم وإنهاء حياتهم بجريرة "فلسطينيتهم"، وهي الحياة التي تم انتزاعها من المكان إلى اللامكان بسلب الأرض وعدم الاعتراف بالآدمية. وإلى جانب غزة، يتركز هذا التصور في الضفة الغربية باستهداف الفلسطينيين العشوائي وغير الممنهج من جانب المستوطنين بتهديد حياتهم وإطلاق الرصاص، والاستهداف الممنهج من جانب الجيش الإسرائيلي خلال عمليات الاقتحامات والتخريب والاعتقال والقتل في نابلس، وجنين، وطولكرم، والخليل، وغيرها من المناطق.
وعلى ذلك، أثبتت الحالة الفلسطينية على مدار السنوات انعدام إمكان "تطبيع الاستعمار"، أي جعله شكلاً طبيعياً من العلاقة التي تحكم البشر كـ"العقد الاجتماعي"، إذ سيبقى نظاماً شوَّه طبيعة الأرض، والفضاء، وطبيعة البشر التي انتقلت من حالة السلم إلى الحرب بتبنّي حق الدفاع عن حقوقها كافة.
[1] سوزان أبو الهوى، "الأزرق بين السماء والماء" (الدوحة: دار جامعة حمد بن خليفة للنشر، 2018)، ص 279.
[2] جوديث بتلر، "مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 41.
[3] نيكولا بيروجيني ونيف غوردون، "عن ’حق الانسان‘ في الهيمنة" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 57.
[4] سلمى الدباغ، "غزة تحت الجلد" (الدوحة: دار بلومزبري-مؤسسة قطر للنشر، 2015)، ص 141.
[5] جورجيو أغامبين، "المنبوذ: السلطة السيادية والحياة العارية" (بغداد: منشورات الجمل، 2017)، ص 117-122.