ظهرت أمس الأول الأهمية الفائقة لمسألة الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم حركة "حماس" لديها، مع إطلاق الأسيرتين اللتين تحملان الجنسية الأميركية، بوساطة قطرية. فللمرة الأولى منذ اندلاع القتال والقصف الجوي الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، تراجعت حدة القصف، وشهد القطاع هدوءاً نسبياً، تبين بعدها أنه لإفساح المجال من أجل إجراء عملية إطلاق سراح الأسيرتين، في خطوة أرادت "حماس" من خلالها إرسال رسالة إلى المجتمع الدولي، وإلى الرأي العام الأميركي خصوصاً، أنها تتعامل مع الأسرى بإنسانية، بعكس الحملات الإسرائيلية الشعواء ضدها.
وفي الواقع، إن عدد الإسرائيليين الذين وقعوا في الأسر في الهجوم الذي شنّته حركة "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر، فاق كل التوقعات، حتى توقعات المقاتلين الفلسطينيين (200 أسير، بحسب مصادر الجيش الإسرائيلي، أغلبيتهم من العسكريين من رتبة ضابط فما دون، و250 أسيراً، وفق الناطق العسكري بلسان كتائب القسّام). وهذا العدد الكبير من الأسرى، مضافاً إلى العدد الكبير من القتلى الإسرائيليين (1300 قتيل، غير المفقودين)، أظهر حجم الإخفاق الإسرائيلي الأمني والعسكري والاستخباراتي، وزعزع في داخل إسرائيل الثقة بالجيش والأجهزة الأمنية التي تخلّفت عن القيام بواجبها، وتركت سكان "غلاف غزة" وحيدين، مع المهاجمين الفلسطينيين، وجهاً لوجه.
ومنذ اللحظة الأولى، بدا واضحاً أن قضية الأسرى الإسرائيليين ستكون شائكة ومعقدة، وستكون لها تداعياتها المباشرة على سيْر الحرب في غزة، وكذلك على الحياة السياسية في إسرائيل، وبصورة خاصة على مستقبل بنيامين نتنياهو السياسي، الذي لم يجرؤ على مقابلة أهالي المخطوفين، إلا بعد مرور أسبوع على عملية الأسر، وبحسب ما نشره الإعلام الإسرائيلي، جرى تدبير اللقاء بشكل لا يؤذي صورة نتنياهو العامة، الذي يعتبره كثيرون من الإسرائيليين، بغض النظر عن انتمائهم السياسي، المسؤول الأول والأخير عمّا حدث، ويطالبونه بالعمل فوراً على حل مسألة الأسرى، وعدم تأجيلها إلى ما بعد نهاية الحرب في غزة، كما يطالب بعض وزراء الحكومة الحالية.
صدمة وارتباك وفوضى عارمة
خلال الساعات الأربع والعشرين الأولى التي تلت وقوع عملية الأسر، سادت المنظومة السياسية والأمنية في إسرائيل حالة من الارتباك والفوضى، قبل أن تتضح ضخامة المشكلة. عائلات الأسرى الإسرائيليين لم تجد أحداً يرد على أسئلتها بشأن مصير أبنائها، وعدد من هذه العائلات علم من خلال الفيديوهات التي نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي بوجود أقارب له في قطاع غزة، أو من خلال رصد أماكن وجود الهواتف الخليوية. لاحقاً، تبين من خلال شهادات عائلات الأسرى التي نشرتها، ولا تزال وسائل الإعلام الإسرائيلية تنشرها، فداحة الإخفاق الأمني الإسرائيلي وهشاشة تدابير الحماية التي اعتقد سكان مستوطنات "غلاف غزة" أنها ستدافع عنهم. كل هذا دفع عائلات الأسرى إلى تنظيم تحركاتها وخطة مطالبتها بإطلاق سراح أبنائها فوراً، ونصب أهالي الأسرى خيمة لهم على مدخل مقر هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي في تل أبيب، حتى تعقد اجتماعات مجلس الحربي.
تعقيد المسألة وتشعّباتها
مسـألة الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم حركة "حماس" وتنظيمات فلسطينية أُخرى، تختلف عن سابقاتها، والتعامل معها أكثر تعقيداً وتشابكاً، لعدة أسباب:
- وجود عدد من الأسرى المدنيين الإسرائيليين، من مسنين ونساء وأطفال، وهذه هي المرة الأولى في تاريخ النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، التي يجري فيها مثل هذا الأمر. صحيح أن "حماس" تحتجز منذ سنوات مواطنين مدنيين إسرائيليين وجثامين جنديين إسرائيليين سقطا في مواجهات عسكرية سابقة، استخدمتهما الحركة كورقة مقايضة لإطلاق سراح أسراها في السجون الإسرائيلية، من دون أن تفلح في ذلك، لكنها المرة الأولى التي يجري فيها احتجاز مدنيين إسرائيليين بهذا العدد.
- وجود عدد من الأسرى الإسرائيليين الذين يحملون جنسيات أميركية وأوروبية وآسيوية، وهو ما يوسع دائرة الدول المتورطة في هذه المسألة، ويزيد في المساعي والضغوط الدولية التي تمارَس لإطلاق سراح هؤلاء الأسرى سريعاً.
- هذه المرة الأولى التي يُحتجز فيها هذا العدد من الأسرى العسكريين والمدنيين في منطقة قتال عسكري تشهد قصفاً جوياً مكثفاً من سلاح الجو الإسرائيلي، الذي يستهدف بشكل كبير المدنيين الغزيين، الأمر الذي يعرّض الأسرى لمخاطر كبيرة. فضلاً عن الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة منذ بدء العمليات العسكرية وقطع الكهرباء والمياه ومنع دخول المواد الغذائية، وكل ذلك يعاني الأسرى جرّاءه كمعاناة أهالي غزة.
- إطلاق سراح الأسيرتين اللتين تحملان الجنسية الأميركية أظهر الاهتمام الكبير الذي يوليه الرئيس الأميركي للموضوع، شخصياً، وإدارته عموماً، والفارق الكبير بين هذا الاهتمام وبين اهتمام السلطات الإسرائيلية الرسمية الضعيف على هذا الصعيد.
- تحولت قضية الأسرى إلى أداة في الحرب النفسية التي يشنّها الطرفان ضد بعضهما البعض. فهناك من جهة، الحملة الإسرائيلية الشعواء ضد حركة "حماس" من خلال تشبيهها بتنظيم "داعش" واستغلال قضية الأسرى، وخصوصاً الأطفال والنساء والمسنين، لتشويه سمعة الحركة واتهامها بإساءة معاملة الأسرى. وهناك من جهة ثانية، حركة "حماس" التي تحاول استغلال الموضوع من أجل الضغط على الرأي العام الإسرائيلي والدولي كي يضغط، بدوره، على حكوماته للمطالبة بوقف إطلاق النار والإسراع في حل المشكلة وإطلاق سراح الأسرى.
اللغة المزدوجة في الموقف الإسرائيلي
تبدو واضحة اللغة المزدوجة في التعامل الإسرائيلي الرسمي مع موضوع الأسرى. هناك الموقف الرسمي الذي عبّر عنه أكثر من مسؤول، بينهم وزير المال بتسلئيل سموتريتش، بعدم التفاوض مع "حماس" تحت وطأة التهديد، لكن منذ الأيام الأولى ما بعد عملية الأسر، بدأ العمل الإسرائيلي ما وراء الكواليس لفتح قنوات تفاوضية مع دول عرضت وساطتها على إسرائيل، وعلى رأسها قطر ومصر وتركيا وألمانيا، وحتى روسيا.
رسمياً، كلّف نتنياهو الجنرال في الاحتياط غال هيرش على رأس طاقم لمعالجة قضية الأسرى، والتواصل مع أهالي الأسرى وإخبارهم بالمستجدات. ومع ذلك، بدأت تظهر، أكثر فأكثر، مؤشرات تدل على تصاعُد الغضب الشعبي والنقمة على أداء الحكومة الإسرائيلية في هذا الشأن، وبدأ الضغط يزداد، أكثر فأكثر، على القيادة السياسية بضرورة الإسراع في إطلاق الأسرى، وما حدث في الساعات الماضية، من شأنه أن يؤجج، أكثر فأكثر، هذه المطالبات التي قد تصبح أكثر شدةً وعنفاً، وترتد سلباً على نتنياهو وحكومته.
ومن خلال تتبُّع ما تنشره الصحف الإسرائيلية، يبرز موقفان إسرائيليان من موضوع الأسرى: موقف يطالب بالعمل على إطلاق الأسرى فوراً، والآن، من
دون تردد؛[1] وفي المقابل، هناك موقف يشدد على عدم الرضوخ للضغط وعدم السعي لإطلاق الأسرى بأيّ ثمن لأن هذا سيمنح "حماس" إنجازاً سياسياً.[2]
قضية الأسرى والعملية البرية للجيش الإسرائيلي في غزة
يُجمع أكثر من مصدر غربي وإسرائيلي على وجود ضغوط كبيرة على إسرائيل، أميركية وخارجية، لتأجيل العملية العسكرية البرية التي تعدّها للتوغل في قطاع غزة، إفساحاً في المجال لإطلاق سراح المزيد من الأسرى الأجانب، وعلى رأسهم الأسرى الأميركيون. ويبدو أن هذا ما طلبه الرئيس بايدن وزعماء الدول التي لديها أسرى، بالإضافة إلى ازدياد الضغوط داخل إسرائيل نفسها من أجل هذه الغاية.
حتى الآن، يبدو أن القيادة العسكرية الإسرائيلية لم تتراجع عن خطتها البرية للتوغل في غزة، على الرغم من الثمن الباهظ الذي ستتكبده إسرائيل، والمخاطر الكبيرة التي يمكن أن يتعرض لها الأسرى في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على أهالي القطاع منذ أكثر من أسبوعين. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: إلى أي حدّ يمكن أن يؤثر ملف الأسرى في وقف تقدُّم الخطط العسكرية الإسرائيلية؟ وهل من الممكن أن يشكل أداة ضغط فاعلة وناجعة على إسرائيل من أجل بدء التفكير في مفاوضات بشأن وقف إطلاق النار؟
حتى الآن، لا جواب على هذين السؤالين، لكن الأكيد أن تاُثير قضية الأسرى المحتجزين لدى "حماس" في الحياة السياسية في داخل إسرائيل كبير، وسيزداد بمرور الوقت، أما مستقبل نتنياهو في الحكم، فبات في حكم المحسوم، نتنياهو سيدفع ثمن الإخفاق الكبير في كل ما حدث، عاجلاً أم آجلاً.
[1]- للمزيد في هذا الموضوع، يمكن مراجعة الروابط التالية:
"صفقة أسرى الآن"، "مختارات من الصحف العبرية" (palestine-studies.or)
"إذا نجحت جهود الوساطة، إسرائيل لا تستطيع تجاهُل اقتراح صفقة أسرى"، المصدر نفسه.
"علينا العمل الآن على افتداء الأسرى"، المصدر نفسه.
[2]- يمكن الاطلاع على هذا الرابط: "افتداء المخطوفين والأسرى: بأيّ ثمن؟ وأيضاً ليس من خلال الحسابات السياسية الصغيرة"، المصدر نفسه.