كانوا نحو أربعة آلاف من الرجال والنساء والأطفال الذين لم يلتحقوا بنحو مليون من سكان شمال غزة الذين نزحوا إلى مناطقها الجنوبية، وذلك ربما لأنهم علموا بأن الغارات الإسرائيلية لم تستثنِ بقذائفها القاتلة تلك المناطق، وخصوصاً في خانيونس ورفح؛ وهم اعتقدوا أن انتقالهم إلى المستشفى المعمداني في المدينة، الذي يُنسب إلى يوحنا المعمدان الذي عمّد السيد المسيح عند المسيحيين، ويُعرف باسم النبي يحيى بن زكريا لدى المسلمين، قد يساعد على حمايتهم من صواريخ وقذائف الطيران والمدفعية الإسرائيليين التي تنهال على القطاع. لكن في الساعة الثامنة من مساء يوم أمس الثلاثاء، وفي غفلة من أمرهم، سقط فوقهم صاروخ إسرائيلي أوقع في صفوفهم مئات الشهداء والجرحى ومئات الضحايا الذين بقوا تحت الأنقاض، في مجزرة مهولة، ستمثّل، على الأرجح، نقطة تحوّل في مسار العدوان الإسرائيلي على القطاع.
زعماء الغرب: رغم الاعتداءات المتكررة على المستشفيات، تغييب الفاعل
لم يكن العدوان الإسرائيلي على المستشفى المعمداني هو الأول من نوعه، إذ اعتادت القوات الإسرائيلية، خلال حروبها المتكررة على القطاع، استهداف المستشفيات والأطقم الطبية وسيارات الإسعاف.
فمنذ 21 تموز/ يوليو 2014، اعتبرت منظمة العفو الدولية إطلاق النار الإسرائيلي الذي أصاب الطابق الثالث من مستشفى الأقصى في دير البلح، وأدى إلى مقتل أربعة أشخاص وإصابة العشرات، وكان الأحدث من بين الهجمات التي استهدفت المستشفيات في غزة، هو بمثابة "جريمة حرب". وقال فيليب لوثر، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، إن هذه المستشفيات "تكافح لاستيعاب آلاف الجرحى منذ بدء الهجوم الإسرائيلي في 8 تموز/يوليو"، وأن "لا شيء يمكن أن يبرر إطلاق النار على المرافق الطبية.، داعياً "إلى إجراء تحقيق دولي ومحايد بشكل عاجل بتفويض من الأمم المتحدة". وذكرت المنظمة أنه في الأسبوع الماضي (تموز/يوليو 2014)، تعرض مستشفى الوفاء لإعادة التأهيل في حي الشجاعية "لأضرار جسيمة في أعقاب هجومين شنتهما القوات الإسرائيلية"[1].
وإذ أباح زعماء الدول الغربية لحكومة إسرائيل استعمال جميع أدوات القتل في عدوانها الجاري على القطاع، والذي أسقط حتى الآن أكثر من ثلاثة آلاف شهيد وشهيدة، بحجة "الدفاع عن النفس"، فإن هؤلاء الزعماء سعوا، في بياناتهم التي أصدورها عقب الهجوم الإسرائيلي على المستشفى المعمداني، إلى تغييب الفاعل، وذلك في تبرئة غير مباشرة لحكومة العدوان الإسرائيلي التي أنكرت مسؤوليتها عن إطلاق الصاروخ الذي سقط على المستشفى، وحمّلت مسؤولية إطلاقه للمقاومة الفلسطينية. فالرئيس الأميركي جو بايدن، الذي اتصل ببنيامين نتنياهو وبالعاهل الأردني، قال: إنه مصدوم وحزين للانفجار وللخسائر الرهيبة التي نجمت عنه". بينما أدان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "الهجوم على المستشفى"، وأكد "أنه ما من شيء يبرر أن يكون المدنيون أهدافاً"، ودعا "إلى فتح ممر للمساعدات الإنسانية إلى غزة من دون تأخير". أما رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، فقد رأى أن الهجوم على البنية التحتية المدنية "لا يتوافق مع القانون الدولي"، وعبّر رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل عن أسفه "لأن مدنيين أبرياء يدفعون مرة أخرى الثمن الأكبر"، وأكد أن "مسؤولية هذه الجريمة يجب تحديدها بوضوح، وأن المسؤولين عنها يجب أن يحاسبوا"[2].
معاناة المستشفيات من العدوان لا سابق لها
منذ 10 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، استهدفت الغارات الجوية الإسرائيلية مناطق قريبة من مستشفى بيت حانون ومنشأة للرعاية الصحية في مدينة غزة، ما أدى إلى إلحاق أضرار بالمناطق المحيطة بالمنشأتين وتعذر الوصول إليهما. وأفادت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني "أن أربعة من مسعفيها قتلوا أثناء قيامهم بواجبهم عندما تم استهداف سيارة إسعاف في منطقة بيت حانون"، كما أدى القصف الإسرائيلي "إلى إلحاق أضرار بقسم طب الأطفال حديثي الولادة في مستشفى الشفاء"[3]. في 17 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، نشرت بي بي سي نيوز تقريراً عن الأوضاع في مستشفى الشفاء، وهو المستشفى الرئيسي في قطاع غزة، الذي يتعرض لضغوط شديدة بسبب انقطاع التيار الكهربائي، فذكرت أن "الجثث متناثرة على الأرض خارج المستشفى، وتمتلئ الممرات والساحات بمئات الجثث، ولا تستطيع ثلاجات المشرحة أن تتسع لهم جميعاً"؛ وفي الداخل، "يملأ مئات الأشخاص المصابين بجروح خطيرة الممرات بينما يعمل الموظفون تحت ضغط هائل من دون كهرباء، علماً بأن جميع الخدمات يمكن أن تتوقف قريياً إذا توقفت مولدات الطوارئ عن العمل". وأضاف التقرير أن الأطباء "يسابقون الزمن ويعملون على إعطاء الأولوية للأشخاص المصابين بجروح خطيرة"، وعقبت امرأة جريحة على نقالة على هذا، فقالت: "لقد أجّلوا عمليتي، قالوا إن الأولوية لأشخاص آخرين، يمكنك الانتظار قليلاً؛ ماذا يمكنني أن أفعل؟ هناك الكثير من الجرحى هنا". ونقل التقرير عن امرأة أخرى تجلس بجوار جثث بعض أقاربها الذين قتلوا خلال القصف الإسرائيلي العنيف الذي استهدف حياً مكتظاً بالسكان في غزة قولها: "لقد ضربوا منزلنا بينما كنا نائمين، ولم يكن هناك مقاتلون [في المبنى الذي نعيش فيه]؛ المبنى مليء بالمدنيين-يعيش 120 شخصاً هناك".ويشرح مدير المستشفى الدكتور محمد أبو سلمية لبي بي سي ما هي العواقب التي ستترتب على اضطرار مستشفى الشفاء إلى وقف العمليات: "لا يمكن للمستشفى أن يعمل من دون كهرباء؛ يتم تنبيب أكثر من 120 شخصاً في أقسام العناية المركزة وحديثي الولادة وغيرها؛ [إذا حدث ذلك] ستنهار جميع الأقسام والخدمات في المستشفى ولن نكون قادرين على علاج المرضى بشكل أفضل"[4].وفي تقرير آخر، عرض الدكتور غسان أبو ستة انطباعاته المحزنة عن الأوضاع في المستشفى نفسه، وورد في ذلك التقرير أن الدكتور أبو ستة ( عضو مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية) هو "جراح فلسطيني بريطاني مقيم في لندن وصل إلى غزة يوم الاثنين (في 9/10)، وهو أحد أمناء جمعية العون الطبي للفلسطينيين الخيرية، وقام بمعالجة آلاف المرضى منذ أن بدأ السفر إلى غزة لمساعدة المصابين منذ الانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وقد عاد إلى غزة خلال الحروب العديدة التي حدثت منذ ذلك الحين، وعمل أيضاً في مناطق الحرب في سوريا والعراق واليمن وليبيا؛ وعندما سُئل عن سبب عودته إلى غزة، قال: "إنه الظلم الصارخ لما حدث لشعب غزة، لقد أجريت للتو عملية جراحية لطفل هذا الصباح أصيب في الصيف الماضي عندما قصف الإسرائيليون غزة في ثلاثة أيام، طفل يبلغ من العمر ستة أعوام أصيب بجرح حرب ثانٍ، إن عدد الأطفال المصابين يحبس أنفاسك". ويتابع أبو ستة: "النظام الصحي على ركبتيه، ونحن نفتقر بالفعل إلى المنتجات الأساسية مثل المطهرات والخيوط الجراحية، وإذا استمر هذا، فإن النظام سوف ينهار؛ ففي وحدة الحروق الشديدة، عليك تنظيف المريض بمحلول مطهر لمنع الالتهابات، وهو ما يقتله؛ لم يكن لدينا أي شيء في العناية المركزة، فأخذنا قطعة من الصابون وقمنا بتنظيف المريض بها؛ إنها مراهقة، ربما يتراوح عمرها بين 12 و14 عاماً، مصابة بحروق تزيد عن 70% من جسدها؛ بالفعل، الضغط على غرف العمليات مرتفع للغاية لدرجة أنه ما لم تكن عملية جراحية منقذة للحياة، فلن يتم قبول المرضى في غرف العمليات؛ إنها مجرد مذبحة، إنها مفجعة”. ويخشى الدكتور أبو ستة–كما يتابع التقرير-أنه لم يتبق سوى أيام قبل نفاد الإمدادات في مستشفى الشفاء إذا لم تصل المساعدة إلى المستشفى، وقال: "إن غرف العمليات هي الأولوية بالنسبة للمولدات، وحقيقة أن هناك حصاراً كاملاً دون وصول المازوت سيؤثر على المستشفى؛ لا توجد كهرباء والمولدات لا تدوم إلى الأبد، ولا يمكنك تشغيلها بشكل مستمر، فهي بحاجة إلى الديزل؛ هناك احتمال أنها ستنفد في نهاية المطاف وسيتعين علينا إيقاف تشغيل الحاضنات وآلات التهوية وآلات التشغيل". وأضاف: "لقد تحوّل المستشفى إلى مخيم للاجئين، مليء بالعائلات التي لديها مراتب، وتحاول العثور على مكان صغير للنوم؛ إنهم خائفون جداً من أن يتم استهدافهم في كل مكان"[5]. لقد نجا الملتجئون إلى مستشفى الشفاء حتى الآن من مذابح العدوان الإسرائيلي، ولعل شهداء وجرحى المستشفى المعمداني يوقظون أخيراً من سباته ما يُسمى بـ "الضمير الإنساني" ليعمل على الأقل على وضع حد لهذه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على البنى التحتية الطبية في القطاع، ويضمن تأمين الماء والكهرباء والوقود والغذاء لسكانه.
[1] https://www.amnesty.org/fr/latest/news/2014/07/israelgaza-attacks-medical-facilities-and-civilians-add-war-crime-allegatio/
[2] https://www.leparisien.fr/international/israel/un-raid-israelien-sur-lenceinte-dun-hopital-a-gaza-fait-plus-de-200-morts-selon-le-hamas-17-10-2023;
[3] https://news.un.org/fr/story/2023/10/1139572; https://actu.fr/monde/dans-les-hopitaux-a-gaza-la-situation-est-catastrophique
[4] https://www.bbc.com/afrique/articles/cw5wgpgk5rwo
[5] https://nouvellefr.com/cest-un-carnage-nous-avons-du-utiliser-du-savon-a-la-place-de-lantiseptique-declare-un-chirurgien-britannique-a-lhopital-le-plus-important-de-gaza/