"أحيا في رأسي"، جملة مرّت بتلقائية في كتاب حسين البرغوثي الأشهر، "الضوء الأزرق"، في حوارية مع إحدى شخصياته، لعلها تلخص أسلوبه الإبداعي، وربما الحياتي، إذ لم يخرج حسين البرغوثي في نصوصه، عموماً، من نفسه، وكأن هناك حالة اكتفاء تامة بالذات، لكن هذا الاكتفاء مشبع وناضج تماماً، ذلك بأنه امتدادٌ للطبيعة الأم، وهو ما يختلف في تركيبته وتجلياته عن الفردانية التي تزحف إلى النصوص مؤخراً، والتي ترتبط، في الأغلب، بفوقيةٍ ما تجاه الكائنات. يستقي البرغوثي كينونته كلها - تقريباً- من عناصر الطبيعة حوله، وفي الأوقات التي تغيب عن مكانه اللحظي، فإنه يستحضرها بطاقة ذهنية مُرعبة تجعله ينام تحت ظل شجرة في شوارع سياتل المعدنية.
من الممكن وصف كتاباته بأنها سلسلة حواريات مع الذات، فكل واحد من محاوريه هو فكرة نبتت في رأسه، سقاها وغذّاها، هكذا حتى تشكلت بشراً أمامه، فيلسوفاً أو مشرداً أو زميلاً أو كاهناً، يجادلهم ويجادلونه، يغضب ويصرخ ويرحل ويعود ليرمي ما في سلته على طاولتهم. وحتى عندما يتحدث عن أفراد عائلته وعلاقته بهم، فإنه يصفهم بمشاهد كما يراها هو، كما تعيش في خياله، ويضفي رشاقة غزلان الجبال، التي عششت فيها، على كل أنواعها، أحاديثه، تلك التي تبدو من بعيد دردشة عادية مع رفاق جمعته بهم مصادفة عابرة.
لا صدف في نصوصه ولا عابرين، إذ ترتكز كل شخصية على مدرسة فلسفية في فهم الكون والتعامل معه. منهم مَن يتجاهل الواقع المحسوس ويخلق له عالماً بديلاً، ومنهم مَن يشتغل في صقل مهاراته ليصير "سمكة" تسبح في أي ماء. منهم مَن يعيش حاضره في ماضيه، ويتسلل إلى "مكان أمين فوق طاولة الذاكرة" كلما "أفلس"، ويشحذ بها عزيمته، "لا نستطيع السير في الحياة إلا ملفعين بالماضي"، ومنهم مَن يرغب في الرؤية، لكنه يريدها مجتزأة، "يريد أن يرى، ويكاد لا يحتمل ذلك." وهناك مَن يعيش في قلب اللامبالاة، أو مَن "يتورط في الحياة"، وكثير من شخصياته يمضي حياته في التيه، "نحن نبحث عن شيء لا نعرفه ولكن نحس أن وجودنا ناقص بدونه." وأما أكثرهم حظاً "ففقد كل شيء وأصبح حراً، أو فقد حريته فأصبح كل شيء!" ولعل فلسفة "التقزز" من الذات كخطوة أولى في اتجاه التغيير، هي الأكثر جاذبية بين مدارسه الفلسفية جميعها، تلك التي تتجلى ذروتها في مشهد المعركة بين الجبان ووحيد القرن في كتابه "الضفة الثالثة لنهر الأردن".
اللغة عنده "أرض"، ولها "مناطق نفوذ"، ومع أن توظيفها لخدمة الفكرة يبدو عفوياً كخروج الحشائش من شقوق الجبل، إلا إن حضوره الذهني الطاغي كان كفيلاً بانتقاء المفردات الملائمة للمعاني الأساسية التي يطرحها. تتكرر على نحو ملحوظ مفردات بعينها عبر نصوصه المختلفة، على رأسها: الجبل والبحر والذاكرة والكلمات والأزرق والقلب والصوت والصمت، وكل ما يرادفها، وهو ما يضعنا أمام مخازن اكتفائه الذاتي، الطبيعة واللغة، ويفسّر عزوفه الحاد عن مجتمع الفُرجة. لا تحتوي كتبه على أحداث بعينها، وهو ما يجعلها تبدو تأملاً واسعاً، لكنه سريع بإيقاعه، إذ يقفز من فكرة إلى أُخرى، من سؤال وجودي إلى سؤال وجودي أكبر، ولا يراوح بين الأفكار في العمل ذاته، وإن كان يتأرجح أحياناً بين فكرة وأُخرى على امتداد عملين أو أكثر. لذلك، فإن تلك المفردات تطفو على وجه كتبه، ذلك بأنها في لبّ الأفكار التي تُقلقه، وقد امتدت فكرة "الضوء" ومفرداتها وانعكاساتها عبر عدة نصوص له، كان منها الأصفر الهزيل، الشاحب، والأخضر الذي يترك بقعاً لا تزول، وصولاً إلى ضوئه الذي شغله حتى ابتلعه، الأزرق.
لا تصاب أفكاره بالتلف، فهي لم تتحول في أي مرحلة إلى طريقة، ولم ينشغل كثر بتفاصيل تطبيقها، فظلت منيرة ساطعة هكذا، كالنجوم، واضحة للعيان، يمكنك أن تطيل النظر إليها وترى انعكاسها فيك لو شئت، ويمكنك أن ترفع رأسك قليلاً، وتبتسم، ومن الممكن أن لا تنظر إليها مطلقاً، والأغلبية تنسى أنها موجودة أصلاً. يقتضي التعامل مع الأفكار التي يطرحها البرغوثي مساحة تأمّل واسعة، وهذا يؤمّن لها حماية من عصر الزيف، ويجعل الوقوف عندها والبناء عليها مهمة يعزف عنها مستهلكو المعرفة.
عندما يكتب شاعر كتباً فلسفية، تخرج إلى الوجود حكماً مقطرة، وحين يكون هذا الشاعر ابن الجبل والشجر، رفيق المرافئ والمشردين، تكون الحكمة كقصص الجدّات، سلسة، شيّقة، والأهم أنها لا تُنسى. لقد أثبت حسين البرغوثي أنه يمكنك أن تكون فيلسوفاً وتكتب في متاهات الحياة، وتترك إرثاً فكرياً صافياً، في مئة وثلاثين صفحة، بعيداً عن المنابر، مخففاً من مصطلحات المنظّرين ولغة الزينة التي جعلت القارئ يصطدم بأوانٍ لغوية فارغة، ويضعنا أمام خيانة فجة للغة بهيّة.
من الممكن النظر إلى مجمل أعمال البرغوثي الشعرية والسردية - إن كان هذا التصنيف يصحّ في حالته- على أنها رؤية حياتية متكاملة، ولم ألحظ اشتغالاً له بفكرة الموت وماهيته، وأعتقد أنه ربما فضّل عليه الحياة، وربما لم يتسنّ له وقتٌ كافٍ لذلك، وربما انشغل به وأرّقه، "الغابة الزرقاء"، ولم أرد أن أبصرها، لهذا أميل إلى الاعتقاد أن نصوصه تقترح الكثير من الحياة، بما لا يترك مجالاً لفكرة كبرى ثانية، كالموت. يقول البرغوثي في "سأكون بين اللوز": "أنا ممن يتقنون البدايات وليس النهايات"، وفي "الضفة الثالثة لنهر الأردن": "ماذا سيحدث لو فشلت أنت وأنا؟" "نبحث عن بداية أُخرى."