A Testimony on Sabra and Shatila Massacre: Death Was the Strongest
Date: 
October 05 2023
Author: 

رائحة الموت كانت أصعب ما واجهته في مخيم شاتيلا ومنطقة صبرا في حر أيلول/سبتمبر 1982، وهنا أتحدث عن موت بشر عُزّل لا عن مخلوقات أُخرى. لم أتوقع ما اكتشفته في ذلك اليوم حين بدأت سيارة الإسعاف تقترب من مدخل صبرا الشمالي؛ رائحة الجثث قوية وكثيفة لدرجة يصعب تحملها لأول وهلة، إنها رائحة الإنسان بعد أن يموت ويُترك ليتفسخ ويتحلل. كانت الرائحة تتكثف كلما دخلنا أكثر إلى عمق المخيم، وباتت المشاهد تصبح مروعة أكثر، حينها بدأت أتأكد أننا عدنا إلى ما يشبه العصر الحجري، أو عصر أكلة لحوم البشر. لقد كنت مسعفاً متطوعاً في الدفاع المدني، وحين دخلت إلى المخيم في ذلك اليوم رأيت مكاناً موحشاً ومخيفاً؛ الدمار والخراب في كل مكان، وصمت مريب وثقيل يسود في الأرجاء، مع كثير من الذباب، والنفايات، والموت الذي تحول إلى رائحة دخلت إلى أجسادنا رغماً عن أنوفنا.

كنت ضمن شباب متطوعي الدفاع المدني التابع لـ "الجبهة الموحدة لرأس بيروت"، وكنا جميعنا طلاب مدارس بقيادة الكابتن غسان الذي حذرنا قبل الانطلاق من مركزنا في مدرسة الروضة من تناول الطعام صباحاً!

جثث بالعشرات منتفخة، بعضها يلتهمه الدود، وأناس أبرياء قتلوا مراراً بقلوب من صخر وعقول تفلتت من عقالها. الشهداء من رجال ونساء وشباب وفتيات وأطفال على الأرض في كل مكان "يا الله أين أنت من عدل الأرض!!" عند مداخل البيوت، وفي الزواريب، وفي البركة الأولمبية في المدينة الرياضية، وفي حفر أحدثتها غارات طيران العدو الإسرائيلي، كانت الجثث متروكة ومرمية فوق بعضها البعض، ومعظم هذه الجثث بقيت مطمورة بسبب تحللها بعد مرور أسابيع على المجزرة الرهيبة. الدود ينهش جثث الضحايا في قيظ ما بقي من صيف 1982، حتى بات الدود يغزو—كما الاجتياح—الأمعاء أولاً، ثم العيون، فينهشها نهشاً ويعتاش عليها.

الدود الخارج من جثة الإنسان بالآلاف يتحرك في كل الاتجاهات ويزحف إلى بقية الجثة، وهو بذلك يشبه المجرمين الذين اقتحموا المخيم بحماية جيش العدو الغازي ورعايته وإشرافه؛ يريد الدود أن ينتقم من الجثة بلا سبب؛ الدود أعمى، ولئيم، ويعرف أن الروح قد ركبت سفن الرحيل، فبقي الجسد الفاني من غير حراسة. الروح هي سر الخالق في الجسد، لكن لم نجد أرواحاً في المخيم، ولم نعثر على قلب يخفق ولا على نور في العيون، وإنما وجدنا ما تتركه الروح عادة: الجسد الفاني. لقد هجرت الرحمة هذا المكان.

ذاقت أرواح شهداء المجزرة مرارة العذاب مراراً وتكراراً قبل تركها الجسد المسكون؛ فالجسد هو ضريبة الروح المعذّبة؛ يُضرب جسد الضحية المسلّمة لأمرها بالرصاص، وبالسكاكين، والفؤوس، والنار، وأسلاك الحديد، فتنفصل رغماً عنها وتصعد متحررة من وحوش ضارية هبطت من اللامكان، من مجاهل اللامعقول، من مغاور التوحش والتعصب المجلوخ بسنوات طويلة من الحقن الطائفي والكره لشعب طُرد من أرضه رغماً عنه، وحّل هنا، وتُرك ليكون رهينة لا غد لها ولا عمر يعاش.

لون جلد الجثث كان يميل إلى الأزرق الغامق، وكان متعفناً تكسوه ألوان غريبة متفاوتة؛ بقع هنا وهناك، والدماء حول الجثث ليست حمراء بل كانت تميل إلى السواد. الذباب، كالعدو الغازي، وكالمجرم المقتحم، لا يرحم الجثة، فكما أن العدو لم يرحم الناس العزل وهم أحياء، فإن الذباب لا يرحم الجثث المتعفنة، ولا يتركها بحالها، ويبقى يحوم حولها وعليها تماماً كما كانت تغير طائرات العدو الإسرائيلي على المخيم قبل أيام تمهيداً لاقتحامه؛ الذباب في كل مكان، ورائحة الموت تسود. في البداية لم نتمكن من تحملها، وكنا جميعاً نضع الكمامات، والبعض وضع أكثر من كمامة، لكن بلا جدوى، فرائحة الموت تخترق كل شيء، حتى الملابس التي تعود معنا إلى بيوتنا فتتذمر الأمهات من غسلها.

صار لدي فلسفة خاصة عن الموت بعد "مدرسة صبرا وشاتيلا". الآن أبلغ من العمر 59 عاماً، وحتى اليوم أعود إلى دفاتر ذاكرتي فيخبرني الشهداء والشهيدات ويعلّمونني الكثير. ربما تكون رائحة جثة الشهيد المظلوم أقوى وأصعب؛ أقول ربما! لأن شهداء صبرا وشاتيلا ماتوا وعاشوا ثم ماتوا ثم عاشوا مراراً. منهم من ترك الجسد الفاني مستسلماً لقدر من سبقوه في مسيرة الوطن الصليب، ومنهم من قُتل ودُفن في أماكن بعيدة غير معروفة، ومنهم من بقي حياً ليخبر هول ما رأى، ومنهم من عاش وفقد العقل القادر على استعادة الماضي الذبيح. للشهيد المظلوم هالة ورهبة خاصة لأن ظلمه وقع على يد ظالم عماه الظلم وعتمته. آه يا "أهل الأخدود ...كيف أنساكم؟" يا أهل أخدود صبرا وشاتيلا؟ كم صارت الحياة تفاصيل بعد هول ما جرى لكم. الموت ليس بمخيف! بل ما يسبقه هو المرعب. وأنتم عشتم واختبرتم، وتألمتم كثيراً قبل أن تسلموا الأمانة. الموت هو الوجه الآخر للحياة، فلا حياة بلا موت، والعكس صحيح. لذلك قيل في الحديث: "موتوا قبل أن تموتوا"، بمعنى، أن اتعظوا ممن سبقكم ورحل عن هذه الفانية.

ترف هي الفلسفة والتنظير في ذكرى جثث شهداء تكومت في المخيم، ينخرها الدود، والذباب يحوم حولها، والرائحة تغلف المخيم. أكاد أخجل من هذه الكلمات بعد 41 سنة من أهوال ما حصل على الأرض للفلسطينيين العزل. يا لخجل الكلمات والحروف من واقع يصعب استعادته بالمعاني والذاكرة. ويجول في بالي اليوم سؤال عن القتلة: أين هم؟ وكيف يمضون حياتهم؟ وكيف يتعايشون مع ما ارتكبت أيديهم؟ وهل يشعرون بالندم بعدما بدأ موعد الرحيل يدنو من خيط حضورهم القصير؟

كان الكابتن غسان على حق حين حذّرنا من تناول طعام الصباح في ذلك اليوم من أيلول، لأن رؤية الجثث المتحللة والمتعفنة شيء، وتحريكها شيء آخر!

بعد سنوات طويلة، عدت والتقيت بالكابتن. لم يخطر في بالي يوماً أنه فلسطيني.

أخيراً، كشاهد على هول المجزرة، وكمتطوع في "الدفاع المدني" خلال اجتياح بيروت في حزيران/يونيو 1982، أرجو تكريم شهداء هذه المجزرة الرهيبة، بأن تُفتح المدافن مباشرة على الطريق العام (هي حتى اليوم مخفية خلف بسطات البالات والأحذية القديمة! وغير مرئية للمارة من الخارج).

انظر

انظر

Read more