اليوميات والإعلانات: هل تستطيع الإعلانات أن تتكلم؟
في عام 1949 دوّن خ. م. في مفكرة (دفتر يوميات) يومياته كبائع متجول من رام الله؛ خ. م. هو بائع سوّق الكتب الدينية في فلسطين وشرق الأردن، ودوّن عدداً ضخماً من تفاصيل يومياته قبل النكبة وبعدها، والتي ساهمت في الإضاءة على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في إثر النكبة، وقدمت لمحة عن أحداث سياسية واجتماعية في فلسطين خلال الحقبتين الانتدابية والأردنية، من خلال تناول أوضاع اللاجئين في شتاء رام الله البارد، بالإضافة إلى تفاصيل حياته الشخصية (مزاجه، وعلاقاته، ومصاريفه، وأعماله وغيرها). وقد حُفِظت تلك اليوميات في أرشيف التاريخ الاجتماعي الفلسطيني لدى مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ولا تزال غير متاحة على موقع الأرشيف حتى اللحظة.
تحاول المقالة سرد جزء من حكاية المدينة الفلسطينية وتجارها وشركاتها ومعاملها من خلال تتبع الإعلانات الدعائية والإشهارية التي صُممت على المفكرة (أجندة) المطبوعة قبل النكبة بقليل، ويُستدل على ذلك كون المفكرة يظهر عليها تقويم عام 1946؛ أي أن المقالة لا تبحث في يوميات البائع المتجول –التي تحتاج إلى النبش والتنقيب في دراسات أُخرى - وإنما تتجول في المدينة الفلسطينية وشوارعها، وفي المحلات التجارية، وتتعرف على النشاط التجاري في بعض الأمكنة في فلسطين قبيل عام 1948، من خلال معاينة رصدية لجملة من الإعلانات المطبوعة في المفكرة على الغلاف وفي أسفل صفحاتها. والإعلانات، في معظمها، عبارة عن كلمات مكتوبة بلغة مختصرة وقصيرة كونها تأتي في الهامش السفلي لصفحة اليوميات، ولا حضور يذكر لإعلانات بصرية صورية، ربما بسبب ضيق المساحة المخصصة للإعلان، وإمكانات الطباعة المحدودة في تلك الفترة، واعتماد الرسم بدلاً من الصور. صممت المفكرة وأصدرتها شركة النشر المتحدة للشرق الأوسط، مركز الشركة في يافا، عمارة بوست وللشركة فروع في القدس وحيفا وعمان وبيروت ودمشق، ولها عملاء ومراسلون في (بغداد، القاهرة، جدة، قبرص، إستانبول، الهند، استراليا، كندا، لندن، واشنطن)، وهي أول شركة عربية مساهمة تأسست لتعاطي أعمال النشر والدعاية، وطبعت المفكرة في القدس في مطبعة الفرنسيسكان.
وفي التفاصيل يتضح أن هناك إعلانات لمتاجر ومشاغل ومحلات تجارية في المدن الساحلية، حيفا ويافا، بالإضافة إلى متاجر ومصانع وشركات في شرق الأردن ولبنان ومصر، الأمر الذي يؤكد أن المفكرة صُممت وطُبعت وجرى تداولها قبل وقوع النكبة عام 1948، أي عندما كانت فلسطين وحدة واحدة، جغرافياً وثقافياً وتجارياً، ولها ارتباط وثيق بالتجارة والتواصل الحر مع بقية المجتمعات العربية المجاورة.
ومن خلال الإعلانات الموجودة في المفكرة يمكن تكوين لمحة عن التاريخ الاجتماعي والثقافي والتجاري والصناعي لفلسطين، كونها توفر مادة أولية خصبة عن طبيعة المحلات التجارية والصناعية والمصالح والمعامل والشركات التي كانت منتشرة في فلسطين. وهذا لا يعني أن النشاط التجاري والثقافي والصناعي مقتصر على المصالح التجارية التي لها إعلانات في المفكرة فحسب، إذ تكمن الفكرة في إظهار طبيعة المحلات والمصالح والمتاجر التي تهتم بالإعلانات وعمليات الترويج كي تسوق خدماتها وسلعها على نطاق واسع، وهذا مرتبط بازدهار تلك المصالح والمعامل ورغبتها في توسيع أسواقها والوصول إلى زبائنها عبر الإعلانات وعمليات الإشهار. ويعكس هذا أيضاً قدرة تلك المحلات على الترويج ودفع تكاليف الإعلانات في المفكرة، إلى جانب أن تلك المصالح التجارية ترى أن زبائنها وعملاءها هم في أماكن وجغرافيا تبعد عن موقع المحلات والمصانع المتمركزة في مواقع معينة. ويمكن الإشارة إلى بعض الملامح التي تعكسها تلك الإعلانات، مثل تمركزها في ثلاث مدن رئيسية، وعدم تغطيتها للقرية الفلسطينية، والتنوع في السلع والخدمات التي تروجها، كما أن بعضها يعكس البعد الطبقي للمصالح التجارية والعائلات المالكة للتجارة، وانفتاح فلسطين على الإقليم، وازدهار صناعات ثقافية وترفيهية وسلعية جديدة.
إعلانات المراكز المدينية: القدس، وحيفا، ويافا، وشوارعها
إن جزءاً كبيراً من الإعلانات المنشورة في المفكرة هي لمصالح تجارية تتركز في المدن المركزية الثلاث، حيفا ويافا والقدس. فقد ورثت القدس مكانتها من مركزيتها في الإمبراطورية العثمانية كمتصرفية في إبان الفترة العثمانية، واستمرار ازدهارها وارتفاع مكانتها الدينية والسياسية والاقتصادية في إبان فترة الاستعمار البريطاني وما بعده. أمّا تركز المصالح التجارية في مدينتَي الميناء، حيفا ويافا، فيرتبط بازدهار المدينتين نتيجة عملية التحديث التي شهدتها فلسطين، وارتباطهما بوجود موانئ وحركة تجارة بحرية ناشطة بالتصدير والاستيراد والتجارة والانفتاح على العالم عبر البحر.
فعلى سبيل المثال، تظهر من الإعلانات في المفكرة مركزية المدن الثلاث بشكل واضح ضمن شرق المتوسط؛ أحد الإعلانات هو عن البنك العثماني الذي تأسس سنة 1863 ومكتبه الرئيسي في لندن، ولديه فروع في القدس، ويافا، وحيفا، ونابلس، وعمّان، وهذا يبين انتشار البنك في أربع مدن فلسطينية، بينما هو موجود في مدينة عمّان لوحدها في شرق الأردن؛ كذلك يمكن الاستدلال على مكانة المدن التي يتواجد فيها البنك في العمل التجاري والاقتصادي، وثقلها السكاني.
ويظهر في أغلبية الإعلانات بروز فروع للمصالح التجارية في تلك المدن الرئيسية الثلاث، القدس وحيفا ويافا، ومثال لذلك إعلان "شركة الوحدة العربية المحدودة القدس يافا حيفا، وكلاء شركة أقلام باركر"، وشركة الخدمات التجارية التي لديها فروع في القدس وحيفا ويافا وإعلانها هو "التأمين، تخليص البضائع، الشحن، أنشئت لخدمة الاقتصاد العربي"، وشركة شكري ديب وأولاده وشكري سليمان طنوس وشركاه المحدودة التي كانت تعمل في القدس وحيفا ويافا في ثلاجات فريجيدير البيتية والصناعية.
كما تتركز بعض المصالح في مدينتين فقط، مثل إعلان وكالة سيارات في القدس ويافا "لند وحلبي محدودة الضمان، يافا- القدس، وكلاء سيارات روفر الإنكليزية الشهيرة"، وأحياناً تبين الإعلانات أن في المصلحة التجارية ذاتها يكون المصنع في مدينة والمتجر في مدينة أُخرى، مثل مصانع الأمعري للنسيج المحدود التي سوقت لنفسها على النحو التالي: "أفخر المعامل العربية للصناعات الوطنية أنوالها تدار بالكهرباء تنتج أفخر الأقمشة الصوفية والحريرية والقطنية، الصبغات ثابتة، المكاتب في القدس المصنع في رام الله" ويظهر من الإعلان محاولة المصنع رفع قيمة منتوجاته عبر كلمات ودلالات تعكس جودة المنتج وحداثة الآلات التي أُنتج بها، إذ يعدُّ شائعاً في إعلانات تلك الفترة تضمين الإعلان كلمات على وزن أفعل مثل: أفخر، أفضل، أسرع، أمتن.. إلخ.
يشار أيضاً إلى الحضور الخجول لمدن أُخرى في الإعلانات، مثل نابلس ورام الله، فعلى سبيل المثال إعلان شركة الشرق الأدنى للمنسوجات في نابلس التي "تنتج أفخم وأمتن وأجمل المنسوجات الصوفية والقطنية والحريرية". ويعكس هذا الأمر دور المدن المركزية الثلاث في الحركة التجارية والصناعية، واهتمام نخب تلك المدن المركزية وتجارها بترويج سلعهم وبضائعهم وإشهارها، بينما قد يكون هناك عدم اكتراث واهتمام بالترويج والإشهار لدى أرباب المصالح التجارية الصغيرة في المدن الصغيرة الأُخرى، كما يلاحَظ غياب أي إعلان مرتبط بالريف الفلسطيني وسلعه.
ويُستشف من الإعلانات تركز المحلات التجارية في شوارع معينة؛ فمثلاً في القدس تبرز أسماء شارع يافا، وشارع مأمن الله، وشارع جوليان، وشارع الأميرة ماري، وفي يافا حظي شارع الإسعاف، وشارع ظريفة، وشارع بسترس، وشارع الملك جورج، وشارع العجمي ببروز لافت في الإعلانات، أمّا في حيفا فكان التداول الشائع لاسم شارع أللنبي. وتكشف أسماء تلك الشوارع عدداً من الأمور أهمها: أن هناك تخطيطاً مدينياً حضرياً عصرياً في تلك المدن، ووجود بنية تحتية متقدمة تشمل رصف الشوارع وترقيمها وتنظيمها، وتوفر خدمة البريد داخل مدينة مقسم إلى أجزاء لتسهيل عمليات التنقل ووصول البريد، كذلك وجود شوارع رئيسية تتركز فيها الحركة التجارية والثقافية والحياتية، في مقابل هامشية شوارع ومصالح تجارية أُخرى لم ترد في إعلانات المفكرة. ويدل ذكر اسم الشارع ورقمه أن تلك المصالح والمتاجر لها زبائن خارج تلك المدن، ومن أمكنة بعيدة عن المدينة، لتسهيل مهمة الزبائن والتعاملات التجارية واستلام وتسليم البريد.
العلاقة/ الانفتاح على الجوار والشراكة معه
تفصح مجموعة من الإعلانات في المدونة عن علاقات اقتصادية بين المدن الفلسطينية ومدن الجوار العربي في شرق الأردن ولبنان وسورية ومصر، كذلك تبين أن هناك علاقات شراكة قائمة تتجاوز حدود فلسطين الانتدابية، فهناك شراكات لمصالح تجارية في القدس وعمّان وغيرها من المدن. إلى جانب ذلك تعكس بعض الإعلانات رواج سلع ومنتوجات من الأسواق العربية المجاورة من سورية ولبنان ومصر، وخير مثال لذلك الكتب والمجلات التي تصل إلى فلسطين من مدن وعواصم عربية مجاورة.
على سبيل المثال، يبيّن إعلان الشركة التجارية العربية كرامة وطويل في عمّان والقدس أنهم "وكلاء سيارات دايموندتي ورينو ولوازم السيارات، ممثلو ووكلاء فبارك ووكالات الجاعوني في شرقي الأردن استيراد وتصدير تراكتورات زراعية ولوازمها- فرع خاص للحبوب، فرع خاص للنوفوتيه والفاتورة"، وهو ما يعكس أن الشركة التجارية العربية مملوكة لعائلتين هما كرامة وطويل، ولها فرعان، في عمّان والقدس، وتعمل في مجال السيارات والزراعة والملابس، كما يبين أن الشركة متعددة الأعمال والخدمات، ولا يقتصر عملها على جانب تجاري واحد فحسب، وهذا مؤشر على أن جزءاً من العلاقات التجارية والشراكات لا تقوم على أساس القرابة فحسب، بل توجد أيضاً شراكات خارج إطار العائلة، وخارج الحدود السياسية للجغرافيا الفلسطينية.
ويرد إعلان يخص سلامة إخوان، وهي شركة لها فرعان، في القدس وعمّان، جاء فيه: "موزعو سيارات إنترناشيونال وإطارات ومصنوعات فايرستون الشهيرة لفلسطين وشرقي الأردن"؛ فتكرار مثل هذا الإعلان المهتم بالسيارات وقطع الغيار قد يكون مؤشراً على انتشار السيارات في فلسطين ولو بشكل محدود، الأمر الذي يتوافق مع فكرة وجود مدينة وشوارع وتسميات لها، وتخطيط حضري، وبنية تحتية تسهل انتقال المركبات والسيارات من مكان إلى آخر.
كذلك يعكس وجود كتب من مختلف الأقطار العربية العلاقات التجارية والانفتاح على الجوار، فمثلاً كانت المكتبة السعدية في يافا توفر وفق الإعلان "أحدث الكتب العلمية والأدبية والقرطاسية على مختلف أنواعها والجرائد والمجلات الفلسطينية والسورية واللبنانية والمصرية"، وأيضاً مكتبة الطاهر إخوان في يافا كانت تبيع بحسب الإعلان "جرائد ومجلات عربية فلسطينية ومصرية وسورية ولبنانية وإنكليزية وأميركية"، أمّا شركة تكسي السنترال في يافا فأعلنت عن خدماتها على النحو التالي: "سفريات لجميع جهات فلسطين وشرقي الأردن وسورية تكسيات ليلاً ونهاراً."
تعكس طبيعة هذه الإعلانات انفتاحاً جغرافياً واجتماعياً وثقافياً وتجارياً مع المدن والحواضر العربية المجاورة لفلسطين في الأردن وسورية ولبنان ومصر، وهو ما يظهر من خلال بناء شراكات بين تلك المدن وتجارها، وافتتاح فروع للمصالح التجارية، وعملية التبادل الثقافي والمعرفي التي تتجلى في جلب كتب المدن العربية وصحفها وجرائدها. وهذا أيضاً مؤشر على صلابة العلاقة مع مدن الجوار وتجارها وثقافتها ومعارفها، وبروز حركة تجارية وثقافية ناشطة داخل فلسطين مشتبكة مع الجوار العربي.
ملامح السلعة والخدمات المتداولة
يتضح أن هناك اهتماماً بالمنسوجات والملابس والأحذية والسيارات والدخان في الإعلانات، فمثلاً يبين إعلان شركة المصنوعات العربية، لأصحابها توفيق وسعيد وفا الدجاني، الواقعة في باب الخليل - القدس، أن سلع الشركة هي "الأقمشة الصوفية والحريرية والقطنية بمختلف أنواعها، والبيع بالجملة والمفرق"، وهذا يبين أن هناك إنتاجاً محلياً من الملابس والأقمشة يلبي حاجة السوق إلى إنتاج ألبسة من الصوف والحرير والقطن، وذائقة الزبائن.
في حين يخبرنا إعلان آخر عن محلات في القدس (نوكديم أخوان)، في شارع يافا رقم 68، تبيع ملابس مستوردة من الخارج، إذ يعكس الإعلان دخول الموضة العصرية من الملابس إلى السوق، وعدم اقتصار السوق الفلسطينية على الملابس المصنعة محلياً، فيقول الإعلان "من بضائعنا الجديدة الممتازة التي وصلتنا حديثاً من الخارج: الكرافات والكلسات والقمصان والبيجامات والمحارم وحقائب السيدات وجميع أنواع الملبوسات الداخلية والخارجية للسيدات والرجال والأولاد". ولم يقتصر الاهتمام باللباس على القطن والحرير والصوف، بل برزت أيضاً صناعات الجلود وإنتاج الأحذية، ويتبين أن هناك محلاً لجوزيف مهنا في القدس في شارع مأمن الله يعمل في مجال الأحذية وورد في إعلانه: "مخزن لبيع وتفصيل جميع أنواع الأحذية". وفي إطار المنافسة على الأسواق والتجارة تصبح بلاغة الإعلانات وجاذبيتها جزءاً من عملية الفخر بالبضائع، وتقديمها على أنها لصالح المشتري وراحته، وهذا ما بينه الإعلان التالي: "في الربيع أكمل بهجة الربيع وجماله وجاذبيته بأن تلبس حذاءً من إنتاج معامل فراج إخوان" في حارة النصارى، سوق الدباغة في القدس.
كذلك برزت أسماء مصالح تجارية تهتم بالملابس، مثل شركة الألبسة الفلسطينية في القدس شارع مأمن الله، ولم يقتصر الأمر على الملابس وحدها، بل أيضاً دخلت أدوات التجميل والعطور إلى السوق، مثل "خرداوات، حراير، أصواف، أدوات تجميل، قمصان وبيجامات وكلسات"، وهذا ما ورد في إعلان محل ثيوفيل جريس خوري في حيفا- شارع أللنبي، كما يبيع أبو غزالة في يافا- شارع بسترس "قمصاناً، وبيجامات، وجرزيات، وكلسات، وأدوات التواليت، وروائح عطرية". وهذا يبين أن هناك سلعاً عصرية تروَّج في الأمكنة المركزية الثلاثة، وتعكس التحول في نمط الملابس المدينية الحديثة بدلاً من تلك الملابس الريفية المتمثلة في الحطة والعقال والقمباز وغيرها، والتي لا تُذكر في الإعلانات.
وإلى جانب الاهتمام بالملابس، برز اهتمام بتسويق المجوهرات، فمثلاً يعلن شكري زريق في يافا أن محله مختص بـ "تجارة ذهب ومجوهرات وأحجار كريمة وبيع وشراء السندات المالية". كذلك يلاحَظ رواج واسع للدخان، فيبرز الترويج للسلعة الخارجية، مثل إعلان عن السيجارة التركية "السكاير التركية شهرتها عالمية، ومعروضة للبيع في جميع أنحاء فلسطين (جوكي كلوب، سركل دوريان، ينجه، إكسترا إكسترا)"؛ يبين هذا الإعلان أن هناك ولعاً بالسلع التركية، وخصوصاً الدخان، منذ زمن طويل. وهناك في سوق البازار في شارع مأمن الله في القدس يروج الحاج داود سليم أهرام وشركاؤه "معامل سكاكر وحلويات، تجارة ومال قبان، معاصر سيرج، تجارة مانيفاتورة، تجارة قطن خام، ملابس مستعملة وأقمشة"، ومحلات أُخرى تروج المفروشات، مثل معرض المفروشات لأصحابه علي الدباغ وشركاه يافا شارع المحطة "أكبر مصنع عربي للمفروشات الحديثة"، ومصنع موبيليا الخيزران لأصحابه سلام ورجب خلف في يافا شارع المدارس "أجمل أنواع الكراسي الخيزران- طقومات كاملة وأدوات بيتية". تعكس هذه السلع طبيعة التحول في المجتمع الفلسطيني المتمثلة في اقتناء سلع ترفيهية وحديثة لم تكن جزءاً من الحياة اليومية الفلسطينية.
ملامح التجارة والشراكات
يتضح أن المصالح التجارية تقوم على الشراكة بين عائلات مختلفة، لكن أغلبية الشراكات في المصالح التجارية تقوم على النحو التالي: الأب وأبناؤه، والأخ وإخوته، كما تبرز أسماء عائلات أرستقراطية فلسطينية في الإعلانات، مثل الدجاني، ويُلاحظ بروز كلمات تدل على مكانة اجتماعية ودينية مثل استخدام كلمة "الحاج"، كما يتضح أن هناك مصالح تجارية وإنشائية غير مقتصرة على الخدمات والسلع التقليدية، فمثلاً يبين إعلان لمصلحة فؤاد الحاج إبراهيم وإخوانه في حيفا طبيعة الاهتمام بالأعمال البحرية فيرد فيه أنهم "متعهدون للأشغال البحرية ووكلاء بواخر وتخليص وشحن البضائع".
في حين تبين الإعلانات علاقات شراكة قائمة على الأخوة مثل إعلان شاهين إخوان في القدس شارع مأمن الله: "متعهدو إنشاء الأبنية والمعسكرات والشوارع وشبكات توزيع المياه"، إذ يوضح هذا الإعلان طبيعة الأعمال الإنشائية الكبرى التي بدأت تنمو في فلسطين، مثل بناء المعسكرات والمطارات وغيرها من المرافق الحداثية التي كانت تؤسسها دولة الاستعمار البريطاني في فلسطين.
أمّا بعض الشراكات فهو بين عائلات مختلفة مثل: طه وجندلي وشركاهم في حيفا "مبيع جميع لوازم البناء والأدوات الصحية"، ويوضح هذا الإعلان الاهتمام بترويج سلع البناء، وهذا مؤشر على الانتقال إلى مرحلة البناء المعماري الحديث، والتحول عن نمط البناء التقليدي الريفي.
يبرز إعلان شركة التموين الاقتصادي الزراعي في يافا بيعهم "الأسمدة الكيماوية، والأدوات الزراعية، وبذور الخضار والبطاطا، وأدوات وماكينات زراعية"، ويقول إعلان ألفرد طلامس وشركاه في يافا أنهم "مصدرو برتقال، ووكلاء أخشاب وحديد، وتصدير واستيراد جميع أصناف القطن الخام"؛ تبين هذه الإعلانات وجود مصالح تجارية متعددة الاهتمام في مجال بيع السلع وتقديم الخدمات لتشمل مواد كيماوية وأطعمة وألبسة وغيرها، الأمر الذي يدل على اتساع السوق الفلسطينية، وبدايات التحول في طرق وأساليب الإنتاج والزراعة والتصنيع الحديث.
يقول لنا إعلان شركة مصنع الباصات الشرقية لأصحابها أيوب داود السروجي وإخوانه في يافا أن مصنعهم هو "أكبر مصنع عربي في فلسطين لصنع أجسام السيارات والباصات"، وبالتالي فإن مرحلة التصنيع في فلسطين لم تكن مقتصرة على الصناعات الصغيرة والخفيفة، بل كان هناك أيضاً صناعات ثقيلة تدخل في مجال الصلب، وهذا مرتبط بمحاولة تحديث فلسطين، ونمو قطاع المواصلات العامة والسيارات فيها.
توضح لنا الإعلانات أن هناك نسبة كبيرة من المحلات التجارية تقوم على الشراكة بين أفراد العائلة الواحدة، مثل الشراكة بين الأب وأبنائه أو الإخوة، أو شراكة بين عائلتين أو أكثر، ومن الناحية اللغوية يتضح أن هناك رواجاً لكلمة "شركاه" في الإعلان بدل كلمة "شركاؤه" الدراجة في اللغة الكتابية والمحكية هذه الأيام. ويمكن من خلال البحث المعمق استكشاف ملامح تكوّن الطبقة البورجوازية الفلسطينية عبر تتبع خط الاستمرارية التاريخي من تلك الإعلانات وما قبلها مع مرحلة ما بعد النكبة؛ وهذا يحتاج إلى جهد بحثي لاحق.
خاتمة: التنقيب عن فلسطين
إن توفر المصادر الأولية والأرشيفية والتاريخ الشفوي والكم الهائل من البيانات والمواد عن فلسطين، يجعل من مهمة التنقيب عن فلسطين وتاريخها الاجتماعي والثقافي والتجاري مهمة شاقة وصعبة وذات أولويات مرتبطة بالأجندات البحثية والمؤسساتية. فقد نكون بحاجة إلى امتلاك المنهجية والرؤية والعزيمة للعمل والكتابة، ذلك بأن الكتابة فعل حفر وتنقيب وتحرر، كما أن تناثر المواد الأولية على امتداد العالم عن فلسطين محفز للعمل من الأطراف ومن الداخل، ومن شأن تأمل تلك المواد وتبصرها أن يفتح الأفق من جديد أمام مقولات ومعارف جديدة عن فلسطين تجعل الهامش والتابع والمنسي يتكلم!