لم أكن واثقاً من دخولي إلى فلسطين، كان ثمة احتمال أن أتعرض لتحقيق طويل، وأن يعيدونني من المطار.
هناك أصدقاء شجعوني على السفر، وأن أجرِّب، ففي أسوأ الأحوال، سيعيدونني من المطار، آخرون قالوا لي إن قضيتي صارت قديمة جداً، صديقي المناضل محمود أبو دنهش، الذي فقد بصره جرّاء رصاص وحقد الصهاينة، شجعني على السفر، قائلاً إنهم لا يهتمون بالقدماء ممن هم ما قبل أوسلو، وأنه (أي محمود) سافر أكثر من مرة وزار بلدته حلحول، وفي حالتي، الجنود الذين طعنتهم جرحى، ولم يمت أحد منهم.
تواصلت مع ثلاثة من المحامين. قررت أن أحجز وأسافر، ما دفعني إلى اتخاذ هذا القرار على وجه الخصوص هو مرض شقيقيَّ في فلسطين، نهاد ومراد، بالسرطان ورغبتي في رؤيتهما، فالأعمار بالنسبة إليّ وإليهما بيد الله "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖوَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ" (لقمان: 34)، وقد رأيت شقيقي نهاد وحضرت عرس ابنه وليد، لكنني تلقيت خبر وفاته بعد عودتي، وأنا في مطار تولوز، لروحه الرحمة والسلام، ولشقيقي مراد الشفاء إن شاء الله.
بجانب نهر الأردن
دخولي إلى فلسطين جرى بيُسر وبصورة مفاجئة وغير متوقعة.
في أثناء رحلة الطائرة، من مطار تولوز إلى مطار بروكسل إلى مطار اللد، كنت أتمتع بخدمة assistant، ثمة مَن يساعدني ويقودني على كرسي متحرك. عند الوصول إلى مطار اللد، مربط الفرس، قادني شاب يهودي من الموظفين المكلفين بمساعدة المعوقين. دخل من بوابة مخصصة للمعوقين، تناول مني جواز سفري البلغاري، وأنا جالس على الكرسي، وقدّمه للشرطية الموجودة خلف نافذة التدقيق في جوازات السفر. بعد أقل من دقيقتين، ومن دون أي سؤال، سلّمت الشرطية الشاب جواز سفري مع ورقة صغيرة عليها فيزا لمدة 3 أشهر.
حين علمت زوجتي فاطمة بما جرى معي سجدت شكراً لله، وبكى بعض الأصدقاء والصديقات من الفرح. أن أدخل إلى فلسطين بعد 54 عاماً، وبهذه السهولة!
جاء الصديقان مروان مشرقي ورائد نصر الله من الناصرة إلى مطار اللد لاستقبالي، تأخر وصولهما قليلاً بسبب ازدحام حركة السير، آنذاك، كان ثمة قصف بالصواريخ من غزة.
في زيارتي إلى فلسطين، خلال ما يزيد عن شهر، لم يكن الوقت وقت كتابة، كنت منشغلاً في مشاهدة المدن والشوارع والأزقة والمحلات والوجوه والملامح والناس والأسواق والباعة والسماء والجبال والوديان وحقول الزيتون وكروم العنب، أتشرب الأصوات والألوان، وأختزن في رأسي وقلبي كل شيء.
بعد أن أقلّني بسيارته صديقي الوفي ابن البلد ابن الناصرة مروان مشرقي من مطار اللد إلى مدينتي خليل الرحمن، أول ما قمت به هو زيارة قبريْ أمي وأبي وأضرحة الشهداء، وقرأت الفاتحة على أرواحهم.
وفود كثيرة أتت لتهنئتي والسلام عليَّ، من آل جابر ومن عائلات أُخرى في الخليل، وكذلك وفد من أهالي دورا الكرام، بلدة الشهيد باجس أبو عطوان والشهيد ماجد أبو شرار.
أقيمت على شرفي ولائم عديدة، وأكلت "القدرة الخليلية" التي كنت نسيتها.
رأيت الصغار الذين كبروا، وتأملتُ الكبار الذي هرموا وشاخوا. في الحياة، حين يحدث لقاء بعد انقطاع، وعودة بعد غياب، حتى الأشياء البسيطة يكون لها وقع وصدى..
نجوم فلسطين أجمل
في الصباح، أول صباح لي في فلسطين وفي مدينتي الخليل بعد هذا الغياب الطويل، بينما كنت أشرب القهوة مع شقيقتي سامية، أم إسلام، وزوجها عصام، أبو إسلام، على شرفة البيت، وأمامنا دالية عنب أوراقها تصلح لطبخة ورق عنب أو "يَبرق" كما يقولون في سورية، وتحت الدالية حوض "نعنع" نضر، بينما كنا في هذه الجلسة الصباحية الرائعة، أطلق "حمار خليلي" من الجوار نهيقه، ضحكتُ وقلت: "حتى صوت الحمار في الوطن جميل".
في الصباحات التالية، كلما أطلق الحمار نهيقه، كان أبو إسلام يقول لي: "اسمع"، فأعلّق ضاحكاً: إنه يرحب بعودتي بعد هذا الغياب الطويل!
في العاصمة البلغارية صوفيا، كنا مجموعة من المرضى على شرفة الطابق الثالث في المستشفى. كانت ليلة من ليالي الصيف والنجوم تتلألأ في السماء، قلت لفتاة يونانية قربي: انظري، ما أجمل النجوم! قالت لي: ولكن النجوم في اليونان أجمل.
في إثر ذلك، نشرتُ مقالاً في مجلة "الهدف" بعنوان: "ولكن النجوم في فلسطين أجمل"، النجوم هي ذاتها، لكن الإحساس بها يختلف، والوطن واحد، لكن الإحساس به يختلف بين مَن يقيم به طوال الوقت، أو يعود إليه وقتما يشاء، وبين إنسان محروم منه، أو يعود إليه بعد غياب طويل.
لذلك، فإن رؤية الوطن، والإحساس بالوطن، والتأثر بالوطن، والموقف منه، يختلف بالنسبة إلى الفلسطيني عنه بالنسبة إلى الأوروبي، فرنسي، أو سويدي، أو سويسري...، هذه المسألة يمكن ترجمتها بلغة الفلسفة: الوجود في ذاته، والوجود لذاتنا.
في حيوات السجن، واللجوء، والتشرد، والغربة، والمنافي، ثمة مجالات رحبة ومريرة للتداعي والانثيالات والمقارنات.
"الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام، حتى الظلام – هناك أجمل، فهو يحتضن العراق" (بدر شاكر السيّاب، قصيدة "غريب على الخليج").
نابلس
في البلدة القديمة في نابلس، شربت الماء من "سبيل"، وقلت: "ماء الوطن أجمل من ماء المنافي". من بين الزيارات العديدة التي قمت بها إلى مدن وأماكن في مختلف أنحاء فلسطين، بعد غياب 54 سنة، كانت زيارة مدينة نابلس هي الأكثر تأثيراً في نفسي.
في نابلس، أخذني الصديق الدمث عاشق التاريخ المهندس زياد عميرة مسؤول قسم المساحة في بلدية نابلس في جولة بسيارته ليريني نابلس الحديثة، رفيديا وغيرها من المناطق، أما رؤيتي لنابلس القديمة فقد تكفلت بها أربع صبايا هن: فاطمة عبده، شذى عبده، رولان عبده ولينا حداد ابنة الشهيد ربحي حداد الذي علمني الفلسفة في سجن عسقلان سنة 1970، قبل أن أنال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من بلغاريا سنة 1991. وذهبت إلى ضريح معلمي ربحي (أبو رامز) برفقة أسرته ورفاق وأصدقاء، ووضعت عليه إكليلاً من الورد.
مع الأسرى المحررين في رام الله في ندوة عن الأسير خضر قنداح
هؤلاء الوردات النابلسيات كُنَّ لي خير رفيقات وخير دليلات. قلتُ لهن: أريد الذهاب إلى البلدة القديمة في نابلس وإلى حارة "الياسمينة" معقل "عرين الأسود"، حتى لو استشهدت.
رأيت في أزقة البلدة القديمة أقمار الشهداء، وتجولت في أماكن الاشتباك بين المقاتلين الفلسطينيين النبلاء وبين الصهاينة العنصريين الذين يصرون على أن "العربي الجيد هو العربي الميت".. رأيت المكان الذي استشهد فيه معلمي ربحي حداد خلال اجتياح سنة 2002. مشينا في حارة الياسمينة إلى نقطة محددة. عدنا من دون أن يحدث لنا سوء.
في اليوم التالي، اقتحمت قوات الاحتلال حارة الياسمينة.
ولاداتي
أنا عدنان جابر، "عدنان السيخ"
الحالم الذي يعشق الحرية ويمقت الطغاة
لم أستشهد بعد
ما زلتُ مسجَّلاً في كتاب الحياة.
وُلدت ثلاث مرات.
المرة الأولى، حين ولدتني سعاد إبراهيم صلاح في الخليل، بتاريخ 13-8-1952، هناك في كروم العنب. عنب الخليل يسري في دمي: عنقود عنب طازج من الدالية مباشرة، زبيب، عنطبيخ، دبس، ملبن. وعنب الخليل، الذي ذكره عز الدين المناصرة عنواناً لأحد دواوينه "يا عنب الخليل"، يسري في دمي من حليب أمي. من المحال أن تجد امرأة خليلية تنكر العلاقة بين حليبها وعنب الخليل. كما لا يستطيع إخوتنا "التلاحمة" أن ينكروا صلة الرحم بين خمرة بيت لحم وعنب الخليل. لم أجد تعبيراً عن تضحية الأم في سبيل ابنها كتعبير أمي حين كتبت لي وأنا أتلقى العلاج في رومانيا، بعد خروجي من الأسر:
"ليتني قطعة شاشٍ أبيض، ألتف بها على قدمك يا ولدي الحبيب"
الموت يخطف أياً كان، ويخطف الأمهات. الموت لئيم، لم يستمع إلى رجاء عيسى قراقع: "يا موت، اترك لنا أمّنا". رحم الله أمهاتنا، تحت التراب وفوق الثرى.
لا تنسَ في الصباح أن تشربَ القهوةَ مع أُمِّك، قبل أن يأتيَ وقتٌ تكونُ فيه بِلا أُمّ.
وُلدت ثانية حين خرجت من الأسر بتاريخ 29-11-1976، مبعداً من سجن بئر السبع إلى جسر الأردن، جالساً في عربة عسكرية، معصوب العينين والأغلال في يديَّ وقدميَّ، وثلاثة من الجنود الصهاينة يتناوبون على ضربي.
في السجن، كنت أخشى شيئاً واحداً: أن أصاب بالجنون. الحمد لله، خرجت من السجن وأنا بكامل قواي العقلية، بل إن عقلي ازداد واغتنى معرفةً وعلماً وفكراً وقيماً.
نلتُ الثانوية العامة مرتين في السجن، مرة أدبي وأُخرى علمي، فحين تم أسري (5-6-1969) كان عمري 17 عاماً وأنهيت الصف العاشر فقط. في السجن قرأت كثيراً، تثقفتُ من آخرين، ثم شاركتُ في تثقيف آخرين. وخارج السجن، كنتُ مدرّس الفلسفة في مدرسة الكادر للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وُلدت للمرة الثالثة حين زرتُ وطني فلسطين بعد غياب قسري دام أكثر من 54 عاماً، 7 أعوام ونصف العام في السجن (5-6-1969/ 29-11-1976)، ثم مباشرة أُبعدت عن فلسطين لمدة متصلة وصلت إلى 47 عاماً، حين استطعت زيارة البلد بتاريخ 10-5-2023 لمدة شهر.
كما الدهشة حين غادرت السجن، كانت الدهشة أكبر حين دخلت فلسطين: الجبال، الوديان، السماء، الرائحة، الألوان، صوت الباعة، صخب الشارع، الصمت والوجوم، دفء الأهل، صوت الأذان، الصلاة في الحرم الإبراهيمي الشريف، وفي الأقصى، أكلة "القدرة الخليلية"، الكنافة النابلسية، أماكن لها ذكريات، الأسرى والمناضلون القدماء، قبور وصور الشهداء. حتى اللقاءات في الراديو والتلفزيون والندوات التي أقمتها في الخليل ونابلس كان لها نكهة أُخرى، وحضور آخر، واستقبال آخر.
عودة بالزمن
من بيت شقيقي جهاد في البلدة القديمة في الخليل، حارة بني دار، ذهبت مشياً على الأقدام برفقة ابنه صالح لصلاة الجمعة في الحرم الإبراهيمي الشريف.
في المسجد الأقصى المبارك
وصلت إلى البقعة التي نفّذت فيها عمليتي، والتي أدت إلى أسري وتغيير حياتي، تأملتُ البقعة التي اشتبكت فيها مع الجنود أمام الحرم الإبراهيمي في الخليل. لم أتوقع أن يسبقني لقبي إلى فلسطين وينتشر هذا الانتشار الواسع (عدنان السيخ)، بعد تلك العملية التي قمت بها ثأراً لذاك الطفل الذي قتله جندي صهيوني، هو الذي منحني لقبي، وهو أهم عمل قمت به في حياتي. أهم من شهادة الدكتوراه في الفلسفة التي أحملها، أهم من المقالات العديدة التي نشرتها والعديد من المحاضرات التي ألقيتها، وأهم من الكتب الأربعة التي ألّفتها. ذاك العمل الذي قمت به هو مساهمتي الصغيرة في حب فلسطين، وهو رصيدي الأهم عند الله.
منذ ذلك اليوم وحتى الآن، خلال أكثر من نصف قرن، حين أتحدث عن هذا الجندي ـــ الوغد وعن هذا الطفل ـــ العصفور مع عرب أو أجانب، في محاضراتي في دول عديدة عن الاحتلال والأسرى وتجربتي الخاصة، وفي ندواتي التي عقدتها في الخليل ونابلس مؤخراً، لا أتمالك نفسي، وأجهش بالبكاء.
لا أندم. ولا أعتذر عمّا فعلت.
زيارات مَن رحلوا
سافرت إلى القدس برفقة ابن خالي مروان صلاح. صليت في الأقصى وجلبت تراباً من هناك. في رام الله، وبرفقة الصديقين المهندس إيهاب الفلاح والشاعر خالد جمعة، زرت ضريح الشاعر محمود درويش وضريح الرئيس ياسر عرفات، أما في كوبر فزرنا ضريح الشاعر المفكر حسين البرغوثي. كما زرت كنيسة المهد في بيت لحم برفقة زميل الأسر الصديق محمد مناصرة.
كما زرت "كنيسة البشارة" و"جبل القفزة" في الناصرة، برفقة زميليْ الدراسة في بلغاريا الصديقين العزيزين مروان مشرقي والدليل السياحي الرائع رائد نصر الله؛ أيضاً زرنا ضريح القائد الشعبي الشاعر توفيق زياد صاحب قصيدة "أناديكم" التي غناها أحمد قعبور، وضريح الشهيد الشاعر عبد الرحيم محمود صاحب قصيدة "سأحمل روحي على راحتي".
على شاطئ عكا، قرب الموج تماماً، احتسيت القهوة برفقة الصديقة الفنانة المسرحية سامية قزموز بكري والصديق العزيز زميل الدراسة في بلغاريا ابن حيفا ماجد خمرة.
أقلّني ماجد بسيارته إلى المقبرة وزرنا ضريح "الباقي في حيفا" المناضل الكبير والأديب الفذ إميل حبيبي وقرأتُ الفاتحة على روحه.
أمام ضريح إميل حبيبي في حيفا
لا أنسى فرحتي حين نشر لي إميل حبيبي قصيدة عن حصار بيروت بعنوان "كان ذلك في بيروت" على ثلاثة أعمدة كاملة في صحيفة "الاتحاد" (3 كانون الأول/ديسمبر 1982).
حزنت لأنني لم أتمكن من زيارة جنين، ولم أتمكن من زيارة ضريح أيقونة فلسطين في القدس الشهيدة شيرين أبو عاقلة.
بعد الغياب
في فلسطين، كل شيء كان جديداً عليَّ بعد أكثر من 54 عاماً من الغياب، من الإبعاد والتشرد والتنقل والإقامة في المنافي والمستشفيات والجامعات وأماكن العمل والانشغال بالصراع بين الوجود والمعنى.
رأيت الاشتباك الجغرافي بين فلسطين وسرطان الاستيطان، مستوطنات تمتد وتلتف كأفعى كبيرة على السفوح، وفي أعالي الجبال.
جدار الفصل العنصري طويل وعالٍ، يخترق مدناً ومناطق عديدة، والمستوطنون يعيشون في شقق فارهة وبنايات عالية، وينظرون إلينا من عَل.
لن تقدروا علينا، نحن وإياكم والزمن، قصير أو طويل، قالها الطفل فارس عودة لدبابتكم، وهكذا تقول لكم نابلس وجنين وعشاق فلسطين. في فلسطين، أينما تجولت ويممت وجهك ترى صور الشهداء.
وفي فلسطين، رأيت القهر خارجاً من أفواه الناس، وقائع وقصص كثيرة؛ عن فساد السلطة ونهم بعض المسؤولين والضباط الكبار للمال والنهب والثراء بأي ثمن، عن أباطرة الفساد الذين يهيمنون على سجائر الشعب، ووقود الشعب، ودواء الشعب، واتصالات الشعب.
في فلسطين، "في ناس بشموا هوا، وفي ناس بياكلوا هوا!"، في فلسطين "ناس بيحكوا بالملايين، وفي ناس بالكاد يجمعوا ملاليم!"، وفي فلسطين، الفرق كبير بين القابضين على الجمر، والقابضين على الدولار.
الفساد الفلسطيني أسوأ من الفساد العربي، لأننا ما زلنا تحت الاحتلال ولم تقُم لنا دولة بعد، ما رأيته أن الفساد الفلسطيني هو الاحتلال الثاني! ففي فلسطين، أينما تجولتُ، حين يتعلق الحديث بالعدو الصهيوني والعمليات التي يقوم الشبان الأبطال بتنفيذها، كنت أرى الثقة بالنصر في عيون وكلمات الناس، وأسمع "الله كبير، آخرتها بتفرج".
في الوقت ذاته، حين يتعلق الحديث بالوضع الفلسطيني الداخلي، عن السلطة، والعلاقات مع الاحتلال، كنت أرى الغضب والمرارة.
بعد زيارتي إلى فلسطين، توجعني أكثر عبارة ناظم حكمت المحيِّرة والمريرة: "أن تكون سجيناً في وطنك، خيرٌ من أن تكون إمبراطوراً في المنفى".
زيارتي إلى فلسطين، بعد 54 عاماً من الغياب القسري، امتزج فيها الحلم مع الواقع. هذه الزيارة منحتني فرحاً لبقية حياتي، وعوضتني عما مضى من حرمان وأسى. سأحاول زيارة وطني من جديد، فهناك أماكن وأشخاص لم أتمكن من زيارتهم. وثمة حاجة إلى هواء الوطن ونبضه وإيقاعه.
فلسطين وطننا الذي لا يُستبدل ولا يُعوَّض. مع الفلسطيني لا تُجْدي عبارة "أهلاً بك في وطنك الثاني" التي تقال لنا أحياناً في بعض الدول، ففي رحلة التشرد واللجوء والمنافي تطول قائمة "الأوطان"، وتصعب معرفة ما هو "الوطن الثاني" وما هو "الوطن العاشر"..
مثلما للإنسان أم واحدة، فله وطن واحد. هذه خلاصة زيارتي إلى فلسطين، والروح تغتني بالذكريات ما دمنا في قيد الحياة.
تقول الروائية التشيلية إيزابيل الليندي: "الذكريات ترافق الإنسان حتى القبر".
يا بلدنا يا بلد!