ساهمت التعاونيات في قطاع غزة في إنقاذ العديد من الأشخاص من الواقع الاقتصادي المأساوي الذي نتج من الحصار والانقسام المستمرّيْن منذ أكثر من 16 عاماً، في ظل عدم وجود سياسات رسمية لمواجهة كل ذلك، وخصوصاً مع بلوغ نسبة البطالة 45٪ مؤخراً، وارتفاع نسب الفقر، وانعدام فرص العمل أمام الشباب.
وبمرور الوقت، باتت التعاونيات مخرجاً للعديد من الأشخاص، كمحاولة منهم لانتشال أنفسهم من الظروف التي تخيم على الواقع، فقد بلغ مجموع الجمعيات التعاونية في غزة 122،[1] في المجالات الزراعية، والحرفية، والخدماتية، والاستهلاكية، والإسكانية، لكن الأمر لا يقتصر على هذا الجانب، فقد ظهرت نماذج لتعاونيات بسيطة، أو "مشاريع شبابية وريادية" خفيفة تسعى للعمل من خلال قدرات بسيطة خلال الأعوام الأخيرة.
هذه التعاونيات تواجه واقعاً صعباً، والعديد من التحديات المرتبطة بواقع القطاعين السياسي والاقتصادي، عدا عن الآثار المتعلقة بالبيئة القانونية والمؤسساتية، فهناك ضعف في دور هيئات العمل التعاوني، ومشكلات متعددة بالتنسيق والتشبيك بين المؤسسات المتعلقة بدعم التعاونيات.
تدخلات المجتمع المدني
يظهر الاهتمام بالتعاونيات في غزة واضحاً وكبيراً من جانب مؤسسات المجتمع المدني التي تستقطب التمويل التنموي الخارجي لمصلحة دعم المشاريع الصغيرة والتعاونية، وقد نشطت هذه المؤسسات بصورة كبيرة في القطاع خلال الأعوام الأخيرة، ومن أمثلتها: مركز العمل التنموي- معاً، جمعية زينة التعاونية، اتحاد الجمعيات التعاونية الزراعية.
تساهم هذه المؤسسات في دعم مشاريع التعاونيات، إلا إن الظاهر اقتصار دورها على أنواع محددة ومتخصصة من التعاونيات، فنسبة كبيرة منها يتركز اهتمامها على التعاونيات الزراعية، وعلى دور المزارعين فقط، في حين يعمل بعض المؤسسات على دعم التعاونيات التي تقودها النساء، بينما يغيب دعم قطاعات أُخرى من العمل التعاوني.
نماذج تحارب الظروف
لكن كل ذلك، سواء الظروف التي تخيم على قطاع غزة ومآسيه المستمرة منذ الحصار والانقسام، أو غياب الدعم الرسمي، لم يمنع ظهور العديد من التعاونيات الإبداعية التي أثبتت قدرة المواطن الغزّي على تحدي الظروف والنهوض بواقعه.
أثّرت ظروف أُخرى في واقع التعاونيات في غزة، مثل جائحة كورونا التي أثّرت في الجمعيات التعاونية الزراعية في مجالات التسويق والإنتاج والتصدير،[2] نتيجة تكاليف النقل الخارجي والداخلي، عدا عن تعطُّل المشاريع والتدريبات التي تعتمد على التمويل الخارجي لهذه الجمعيات.
في الجانب الآخر، وبالتدقيق في الواقع الذي خلقته أزمة كورونا، ثم الأزمات المتلاحقة من حروب وتصعيدات متكررة ضد أهل غزة، ظهر العديد من المشاريع المميزة، مثل توجُّه مجموعة من النساء الجارات في حارات غزة نحو إعداد الكعك والمعمول وبيعه وتوزيعه على التجار، أو المشاريع التي خلقها بعض الأزواج أو بعض الشباب في مجالات متنوعة، مثل التطريز، أو المشغولات اليدوية، أو النجارة، وهي أفكار بدت رائجة جداً خلال الأعوام الثلاثة الماضية في غزة.
هذه المشاريع ليست سوى نماذج صغيرة وبسيطة من تعاونيات شابة، ربما لا تلقى الدعم المناسب والتمويل اللازم من الجهات الرسمية، أو حتى من المؤسسات والممولين الخارجيين، وهو ما يجعلها تقاوم هي الأُخرى الظروف التي خلقها الواقع، لتحكم عليها بخيار من اثنين: إما أن تنهض بإرادة مؤسسيها، أو تموت وتُدفن بإرادة الواقع.
البحر إلنا
تعاونية "البحر إلنا"، مثلاً، تُعد واحدة من أهم التعاونيات التي ظهرت في قطاع غزة خلال الفترة الماضية، فمؤسسها علي مهنا، وجد الدعم اللازم من بلدية غزة لتنفيذ فكرته ومشروعه،[3] الذي يقوم على الحفاظ على بيئة البحر، أحد أهم مكونات البيئة في قطاع غزة، والمتنفس الوحيد لسكان القطاع.
تهدف التعاونية إلى تعزيز المسؤولية الاجتماعية للمواطن، للحفاظ على البحر الذي عانى أعواماً طويلة جرّاء آثار الحصار والعدوان الإسرائيلي، ففيها العديد من المرافق التي تسمح للمواطنين بزيارتها والتنزه فيها، في مقابل مساهمات بسيطة تدعم البيئة، بينما تقدم مساحة لتلقّي التثقيف البيئي وقضاء وقت جيد للاستمتاع بالعروض المسرحية والأنشطة الترفيهية.
التعاونية التي باتت شهيرة في غزة، انطلقت من خلال إعادة تدوير النفايات الصلبة، كأداة صديقة للبيئة لإنقاذ البحر، وقد ساهمت بلدية غزة في دعمها وتوفير المساحة لها منذ انطلاقها، وهو أحد الأسباب الرئيسية لاستمرارها وبقائها حتى اليوم، وهو ما يؤكد لنا أن التعاونيات المختلفة ليست بحاجة إلا إلى اهتمام كبير ودعم دائم، يجعل أفكار أصحابها تنهض بالمواطنين أو المجتمع، فهذا الغياب الرسمي يعني شيئاً واحداً، ضعف التعاونيات، وقوة الظروف المخيمة على غزة.
التعاونيات الزراعية
تُعد التعاونيات الزراعية الأكثر والأشهر في قطاع غزة، فقد بلغ عدد الجمعيات التعاونية الزراعية في القطاع 21 جمعية تعاونية، من إجمالي التعاونيات المسجلة في القطاع، وتُعد من القطاعات المهمة التي تؤدي دوراً في دعم صمود المزارعين، في ظل الحصار الإسرائيلي والانتهاكات المختلفة.
في سنة 1977، أُنشئت "الجمعية التعاونية الزراعية" في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، والتي تُعد من أقدم التعاونيات في القطاع،[4] وتضم 681 عضواً من المزارعين والمربين، ويقع على عاتقها إمداد الأعضاء من المزارعين بالحاجات اللازمة للعملية الزراعية من نباتات وأسمدة وأدوات ومواد تعبئة، يتم تسديد ثمنها بعد بيع المزارعين الأعضاء الإنتاج.
وكانت الجمعية، وفقاً لمديرها محمد غبن،[5] تركز نشاطها على تصدير المنتوجات إلى الأسواق الخارجية، لكن ذلك تأثر بالحصار الإسرائيلي، بينما جرى تعويض ذلك بالتصدير إلى أسواق الضفة الغربية، الأمر الذي جعل استمرار عمل التعاونية ودعمها للمزارعين تحدياً كبيراً أمام أصحابها.
وعلى الرغم من مثال الجمعية التي استمرت في عملها منذ 26 عاماً، فإن الواقع يشير إلى تراجُع دور الجمعيات التعاونية في قطاع غزة، وعدم اتخاذها الطابع التعاوني، وفق ما يرى محمد البكري،[6] مسؤول اتحاد لجان العمل الزراعي، الذي يعتبر أن دور الجمعيات التعاونية الزراعية يقتصر على مهمة التسويق فقط، بينما يغيب في جوانب أُخرى، من ناحية دعم المزارعين أو التكاتف لتحقيق أهدافهم الجماعية.
تعاونيات نسائية
على صعيد مختلف، فإن تعاونيات أُخرى باتت ناجحة خلال الأعوام الماضية في قطاع غزة، تقودها النساء بشكل أساسي، وبدعم من العديد من مؤسسات المجتمع المدني التي تسعى لتأهيلهن وجعلهن قادرات على قيادة أعمال اقتصادية، في ظل غياب معيل لأُسرهن.
من أشهر هذه التعاونيات تلك التي بدأتها رفقة عروق، بإعداد أكلة "المفتول"، أو المشهور بـ"الكسكس المغربي"، والتي بدأت تعاونيتها من مشروع خاص بإنشاء المفتول للأقارب والجيران، في حين تحول منزلها إلى مشروع يعمل فيه العديد من النساء على إعداد هذه الأكلة الشعبية الشهيرة، وتغليفها وتوصيلها للناس.
تلقت رفقة عروق دعمها من جمعية التوفير والتسليف المنبثقة من جمعية الإغاثة الزراعية، في إطار الجهود المؤسساتية لدعم التعاونيات، وهو ما جعل عملها يتطور ليصل إلى إنتاج أكثر من 40 طناً من المفتول سنوياً، وليصل هذا المنتوج إلى الخارج لتصديره إلى الأسواق الدولية.[7]
كذلك، تعمل سالمة أبو مصطفى في مدينة رفح جنوب قطاع غزة على تعاونية أسستها لإنتاج الزعتر والأعشاب الطبية، فتقوم بزراعتها، ثم تجهيزها للبيع والتوريد لاحقاً، في حين تعمل 67 امرأة معها على هذا الأمر.[8]
هذه التعاونيات خُلقت من واقع اقتصادي صعب، فغياب معيل الأسرة، إما جرّاء المرض في الحالة الأولى، أو بالوفاة في الحالة الثانية، جعل النساء مؤمنات بقدرتهن على تغيير الواقع، ولاحقاً، أصبحت التعاونيتان من أشهر التعاونيات وأكثرها عملاً في قطاع غزة.
إلا إن الواقع الآن، بالنظر إلى ما أحدثته جائحة كورونا وتأثيراتها في واقع الاقتصاد الفلسطيني، والآثار المتراكمة للحصار وإغلاق المعابر، أدى إلى ضعف عمل التعاونيات، ومحاولة لوأد وجودها، وهو ما يتطلب تحركاً ودعماً مؤسساتياً ورسمياً، يسعى لإنعاش ما تبقى منها، فهي أمل أخير للبعض ممن فقدوا الأمل في ظل الظروف الحالية في غزة.
[1] المستشار محمد الحداد، لقاء قانوني مع معهد الحقوق في قطاع غزة، 10/12/2019.
[2] "ورقة حقائق: التعاونيات الزراعية في ظل جائحة كورونا"، مركز مسارات.
[3] "تعاونية البحر لنا: نموذج للاستدامة ومحاربة التغير المناخي في غزة"، موقع مؤسسة أكشن إيد- فلسطين، 11/9/2022.
[4] موقع جمعية غزة التعاونية الزراعية.
[5] "التعاونيات الزراعية بحاجة للارتقاء بأدائها دعماً لصمود المزارعين وتعزيزاً للاقتصاد"، "صحيفة فلسطين"، 30/4/2022.
[6] المرجع السابق.
[7] "العمل بالتعاونيات لتحسين حياة النساء"، شبكة نوى، 20/5/2018.
[8] "التعاونيات... اقتصاد مقاوم يعزز صمود الغزيين"، مجلة "آفاق البيئة والتنمية"، مركز العمل التنموي- معاً، العدد 44، أيار/مايو 2012.