بعد أن أنهيت المرحلة المتوسطة في مدرسة "القدس" التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين سنة 1974، كنت في سن السابعة عشرة، توجهت إلى مبنى منظمة التحرير الفلسطينية الواقع في كورنيش المزرعة في بيروت، بناءً على توصية من صديق لوالدي، وذلك بعد تحديد موعد للقاء مع السيدة تمام الأكحل شموط، بهدف تقديم طلب لوظيفة مراسل.
يوسف نعنع رفقة الفنان الراحل إسماعيل شموط في معرض دار الندوة في بيروت 1998
لقاء أول فعائلة
لم أصدق نفسي حينها، فالسيدة تمام فنانة مشهورة، وهي زوجة الفنان الشهير إسماعيل شموط، الذي كنت أحاول نسخ لوحاته بحكم موهبتي الفنية المتواضعة في الرسم. وكانا يعملان ضمن قسم الثقافة الفنية التابع لدائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير، والذي تغير اسمه سنة 1978 إلى قسم الفنون والتراث.
التقيت السيدة تمام، وكانت بسمتها مصدر راحة، فرسمت ابتسامة على وجهي، كأنني في حضرة أختي الأكبر سناً. رحبت بي وبدأت تسألني عن دراستي وعائلتي، فذكرت لها تفاصيل وضعي الدراسي، فقد كنت متفوقاً، لكن نظراً إلى الظروف المادية الصعبة، وعدم قدرة العائلة على تحمُّل نفقات دراستي وإخوتي، ها أنا الآن أمامها لأبدأ رحلتي العملية، لمساعدة الأهل في تحمّل أعباء الحياة، وخصوصاً أن أمي كانت مريضة في ذلك الوقت، وتحتاج إلى علاج طويل، والوالد عامل في مطبعة، وأولاده ست شباب وصبيتان.
انتهى اللقاء مع السيدة تمام، صافحتني، وقالت لي: أريد أن تبقى هذه البسمة على وجهك، وأهلاً وسهلاً بك في وسط عائلتنا.
التحقت بالعمل في اليوم التالي، وكنت كمن يحلم بلقاء الكبار من فنانينا، كان الأستاذ إسماعيل في المؤتمر العام لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، في ذلك المؤتمر تم انتخابه أميناً عاماً للاتحاد. كان المكتب أشبه بمعهد للفنون الجميلة، يحتضن الطاقات الشابة من الفنانين، أذكر منهم الفنان عدنان الشريف وجمال أفغاني وميشال نجار، وغيرهم الكثير.
كانوا يرسمون، ويبدعون في تصاميم الملصقات واللوحات، وبينما كنت أراقبهم، كنت أنتبه أيضاً إلى الفنانة تمام الأكحل، وهي تضع تصاميم للأزياء الشعبية الفلسطينية، التي صدر بعضها ضمن "بطاقات معايدة" عن مؤسسة "صامد".
إسماعيل شموط في معرض دار الندوة في بيروت 1998
بعد أيام من بدء عملي، عاد الأستاذ إسماعيل شموط، وحضر إلى مكتبه، فطلب رؤيتي. دخلت إليه مبتسماً، تحدث إليّ بصوته الخافت الرقيق "اسمع يا ابني"، كم كانت عبارته جميلة، وفيها حنو الأب، وهكذا كان يعامل الجميع، وأضاف: "صحيح أنك ستعمل مراسلاً في القسم، إلا أننا سنعمل على تنمية مواهبك وقدراتك، ونأمل أن تكون سعيداً معنا"، هكذا رحب بي الرجل الذي سأمضي معه أعواماً طويلة من حياتي.
التعلم مع شموط
بدأ مشواري العملي في الدائرة، وبدأت بالاستفادة من الجو الفني المحيط بي، هذا فضلاً عن قسم التصوير في المكتب الذي كانت "تحمّض" فيه الأفلام لطباعتها، وكان يتولاه الزميل خير كعوش الذي تلقى عرضاً من "الأونروا" للالتحاق بقسم التصوير فيها، وهذا ما كان. فتولى القسم بعده الزميل أسامة الحلبي (رحمه الله).
وبعد أيام، استدعاني الأستاذ إسماعيل شموط، وطلب مني الجلوس، وقال: "سأختبر قدراتك على التعلم، وسأطلب من أسامة تدريبك على تحميض الأفلام وطباعة الصور وتظهيرها، قبل أن تحمل الكاميرا، لأنك وخلال عملك في الغرفة المعتمة، ستتعرف على حساسية الفيلم وحاجته إلى التعرض للضوء بفتح العدسة وسرعة الساتر الداخلي للكاميرا.." وأضاف: "اسمعني جيداً، كثيرون من المصورين يلتقطون صوراً ومشاهد لأحداث وأمكنة، لكن لكل منهم زاويته الخاصة لالتقاط الصورة، إنه يريد إيصال المشهد من زاويته ورؤيته هو. الصورة عبارة عن لوحة.. هذا ما أريدك أن تعتمده في مشوارك القادم، وأتمنى لك التوفيق." شكرته بشدة، وقلت له "أنت أستاذي ومعلمي، وآمل أن أكون أهلاً لذلك."
بدأت تجربتي مع الصورة، بإشراف زميلي أسامة الذي تعاملت معه كأخ أكبر، وقد توطدت صداقتنا وزاد في شأنها اندلاع الحرب الأهلية، كنا جميعاً نشعر بأننا مسؤولون عن سلامة وأمن وحاجات بعضنا.
بعد انتفاضة 6 شباط 1984 عند خطوط التماس (تصوير يوسف نعنع)
تعرّض الأستاذ إسماعيل في هذه الفترة لأزمة صحية، سافر في إثرها إلى ألمانيا الشرقية، حيث خضع لعملية قلب مفتوح، عاد بعدها إلى لبنان، وكان الطبيب قد طمأنه بأنه لن يراه بعد ما يزيد عن عشرة أعوام، لكنه عاد إليه بعد عامين، فسأله الطبيب ما الذي حدث، فقال له لا أدري، فاستفسر الطبيب على مكان إقامته، فقال له لبنان، رد الطبيب: عرفنا السبب الآن.
تطورت الأحداث، وحوصر مخيم تل الزعتر، فجسّد إسماعيل حصار المخيم وبطولته وصموده في مجموعة لوحات تحت اسم "تل الزعتر".
بدأت مهاراتي في التصوير ترى النور، وقد أعجب الأستاذ إسماعيل بذلك، فشجعني واختارني سنة 1980 للسفر إلى فرنسا برفقة الفنانين جمال أفغاني وعبد الرؤوف عبد الحميد لتغطية معرض التراث الشعبي الفلسطيني الذي أقيم في مبنى اليونسكو في باريس. بالإضافة إلى زيارة وكالة "غاما" العالمية، لاختيار صور عن القضية الفلسطينية، ولنسج علاقة مستقبلية.
وفي سنة 1981، توجهت برفقة الفنانين جمال أفغاني وميشيل نجار وحسين الريس إلى يوغوسلافيا، حيث أقمنا معرضاً للتراث الشعبي الفلسطيني في مبنى البلدية في بلغراد، وقد لاقى المعرض نجاحاً وتعاطفاً كبيرين من الشعب اليوغوسلافي، ولا سيما من طلاب المدارس والجامعات. خلال كل هذه الأعوام، كانت علاقتي تتطور بأسرة الراحل الكبير، فأصبحت واحداً منهم.
صواريخ تدك دائرة الثقافة
صبيحة أحد الأيام، وكانت الحرب الأهلية قد اندلعت في لبنان. في أثناء عملنا، أنا وأسامة، في غرفة العتمة في الطابق الثالث، اهتز المبنى، وسمعنا دوي انفجارات ضخمة. خرجنا من الغرفة لنجد زملاءنا وجميع الذين كانوا موجودين في المبنى في حالة رعب، ويهرعون إلى الشارع. كان الدخان يملأ المكان، والحجارة وقطع الزجاج متناثرة في الطابق الأول، حيث كان يقع كاليري ذبيان للمفروشات. وقد اقتُلعت أبوابه من مكانها.
بعد انتفاضة 6 شباط 1984 عند خطوط التماس (تصوير يوسف نعنع)
ما إن وصلنا إلى الشارع والناس في حالة هلع وخوف، حتى دوت انفجارات متتالية، أصابت الطابق الثاني، حيث مكتب مدير المنظمة في بيروت الأستاذ شفيق الحوت، والحمدلله أن المكتب يومها كان خالياً.
لقد أنقذتنا العناية الإلهية، إذ إن الدفعة الأولى من الصواريخ التي استهدفت الطابق الأول من سيارة رُكنت على رصيف مبنى "ريفييرا سنتر" المقابل لمبنى المنظمة، كانت منخفضة بعض الشيء بسبب انحدار رصيف المبنى، فكانت إصابتها للطابق الأول بدل الثاني، أما دفعة الصواريخ الثانية فانطلقت من سيارة أُخرى كانت مركونة في موقف السيارات الملاصق لمجلة "الهدف" القريبة من مقر المنظمة. وقد أصابت هذه الدفعة من الصواريخ الطابق الثاني كما كان المخطط الإسرائيلي لهذه العملية التي كانت تهدف إلى إيقاع خسائر بشرية، من ضمنها الأستاذ شفيق الحوت. فقد أصابت الطابق الثاني، بحسب المخطط، وانطلقت من موقف سيارات ملاصق لمجلة الهدف القريبة من مقر المنظمة. وكان الهدف من الدفعة الأولى إصابة ما يمكن من الضحايا، ليتجمع الناس لإنقاذ المصابين فتنطلق الدفعة الثانية، لحصد المزيد من الضحايا والدمار.
دار الكرامة والاجتياح
تجسّد طموح الأستاذ إسماعيل شموط في إقامة صالة عرض للاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين، واختار صالة كبيرة في المبنى المجاور لمنزله مقابل قاعة جمال عبد الناصر في جوار الجامعة العربية في منطقة الطريق الجديدة. وقد كانت قبل ذلك صالة "فليبرز"، ألعاب كهربائية راجت في فترة السبعينيات والثمانينيات. تحولت إلى صالة فنون، حملت اسم "دار الكرامة" التي فتحت أبوابها لعدة معارض لفنانين عرب وأجانب، كما احتضنت ملتقيات وندوات ومحاضرات فنية.
تعرّض مبنى "دار الكرامة" في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 لغارة جوية، أدت إلى دماره بالكامل، لكننا استفدنا من فترة هدوء بسيطة، تسللنا خلالها عبر الأنقاض والردم، وتمكنا من الوصول إلى اللوحات وبعض المقتنيات، وقمنا بنقلها إلى مبنى قرب الحمام العسكري، فحفظناها في منزل صديق للأستاذ إسماعيل.
وبعد أن أطبق جيش الاحتلال الإسرائيلي حصاره على بيروت، بقي الراحل الكبير وزوجته تمام وابنهما بلال في بيروت، لكنهم اضطروا إلى مغادرة منزلهم في منطقة الجامعة العربية المطل على الملعب البلدي وبوابة جامعة بيروت العربية، فانتقلوا إلى منزل والد السيدة تمام في منطقة النويري قرب الخلية السعودية، حيث زرتهم عدة مرات لقُرب منزل أهلي منهم في منطقة برج أبي حيدر، والذي تهجرت إليه أيضاً، بعد أن أمست منطقة الأوزاعي التي كنت أسكن فيها، تحت سيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلي. وفي إحدى الزيارات إلى عائلة الأستاذ إسماعيل، سلمني كاميرا وعدة أفلام، وقال لي سجل بعدستك آثار الدمار الذي خلّفه العدوان المجرم على بيروت، بالفعل، سجلت بعدستي تلك الجريمة، كما سجلت خروج المقاتلين من بيروت، حيث كان مكان التجمع في الملعب البلدي، وسلمته الأفلام بعد ذلك.
بعد انتفاضة 6 شباط 1984 عند خطوط التماس (تصوير يوسف نعنع)
كان الأستاذ إسماعيل حريصاً على أرشيف الصور التي جمعناها على مدار السنين. وكان يسعى جاهداً للحفاظ عليه، وقد أصاب حين حملنا على نقل هذا الكنز، حين طلب مني ومن بعض الزملاء أن نأخذه إلى منزل أصدقاء لعائلته في منطقة ساقية الجنزير في بيروت. لقد نجا الأرشيف من أيدي جيش الاحتلال الذي استباح مبنى المنظمة في منطقة المزرعة ومركز الأبحاث الفلسطيني في شارع السادات - الحمرا، فأفرغ محتويات المبنيين.
بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من بيروت، التقيت الأستاذ إسماعيل شموط والسيدة تمام الأكحل وابنهما بلال، بينما كان ابناهما يزيد وبشار يتابعان تحصيلهما العلمي في ألمانيا الشرقية. حينها، بلّغني أنهم قرروا مغادرة بيروت، وستكون محطتهم الأولى الكويت التي اضطرا إلى مغادرتها لاحقاً إلى الأردن، بعد دخول القوات العراقية الكويت.
عود على بدء
في أواسط سنة 1988، رن جرس هاتف منزلي، "كيف.. شو أخبارك"، أعرف هذا الصوت، هذا صوت المعلم إسماعيل شموط، "أنا في بيروت.."، لم أدعه يكمل، واتفقنا على موعد، وذهبت لمقابلته من فوري. كان لقاء بعد طول غياب. فتح لي الباب لأراه منتصباً أمامي، ضاحكاً كعادته، وخلفه السيدة تمام. عانقتهما، فقد كان هذا اللقاء بعد طول غياب، لكن من غير انقطاع عن التواصل ومعرفة الأخبار بين حين وآخر.
تكررت زياراتهما إلى بيروت، وفي كل مرة، كان يتكرر اللقاء، وكانت لقاءاتي وسهراتي مع الراحل الكبير، في معظمها، في غرفة مرسمه، فقد كان يعمل على تحويل الأفلام السينمائية قياس 16ملم إلى أشرطة فيديو، وكانت هذه الأفلام تحتوي على مقابلات لشفيق الحوت وصلاح جاهين وشخصيات أُخرى، ومراحل تكوين جيش التحرير الفلسطيني، وأحداث أُخرى، فضلاً عن رحلات العائلة والأصدقاء.
وكان شموط قد أخرج وصوّر أكثر من فيلم سينمائي، من بينها "معسكرات الشباب" (1972)، "ذكريات ونار" (1973)، وهو فيلم حمل عنوان إحدى لوحاته، "النداء الملح" (1973)، وظهرت فيه الفنانة الفلسطينية زينب شعث وهي تعزف وتغني باللغة الإنكليزية، وفيلم "على طريق فلسطين" (1974) الذي تناول اغتيال القادة الثلاثة كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار.
وعاد إلى فلسطين
في أحد اللقاءات التي جمعتني به، وكان قد ذهب إلى فلسطين في سنة 1997 مع زوجته الفنانة تمام الأكحل، فجالا في مدن فلسطين وقراها، وذهب إلى اللد، حيث مسقط رأسه، وإلى يافا، حيث مسقط رأس تمام. روى لي حادثة حصلت معه في اللد، فبينما كان يتجول في شوارع مدينته، يتذكر الأهل والرفاق والأماكن، محدقاً بالتفاصيل، اقترب منه رجل كبير في السن، فسأله: ما بك تحدق في شوارع المدينة ومعالمها بهذا الشغف؟ فأجابه إسماعيل: "هي مدينتي، حيث وُلدت، وعدت إليها بعد غياب،" أصر الرجل على مرافقة إسماعيل إلى مقهاه لشرب فنجان قهوة، وهما في الطريق، أخبره أنه سيُريه لوحة فنية رائعة للحاج أمين الحسيني على جدار في المقهى بريشة الفنان إسماعيل شموط، "ياه، أما زالت تلك اللوحة موجودة!" عادت به الذاكرة إلى تلك الأيام، وفور دخولهما إلى المقهى، توجّه إسماعيل كمن يعرف المكان، إلى ذاك الجدار يتلمس لوحته، لا زالت في حالة جيدة. فتعجب الرجل الذي اصطحبه، كيف له أن يعرف مكان اللوحة؟ قطع عليه إسماعيل حبل أفكاره، وأخبره: "أنا يا أخي مَن رسم هذه اللوحة، أنا إسماعيل شموط"، قفز الرجل من الفرح، رغم السنين التي أثقلت كاهليه، واحتضن إسماعيل، وبدأ ينادي رواد المقهى والناس في الشارع، تعالوا.. تعالوا.. إنه الفنان الكبير إسماعيل شموط ابن اللد بيننا، التف حوله الناس مرحّبين. وبكى.
كانت لعودة إسماعيل وتمام إلى فلسطين ثمرة، "السيرة والمسيرة"، ففي سنة 2003، افتتح معرضهما في القاعة الزجاجية في بيروت، وضم هذا المعرض 19 لوحة (11 لاسماعيل و8 لتمام)، لوحات شموط استعرض فيها الحياة من رحلة الولادة في اللد، والأعراس والأفراح، ومواسم فلسطين الغنية، إلى الاقتلاع من الأرض، والشتات، فالثورة، والتعليم والانتشار، حتى حلم العودة. أما لوحات الأكحل فانطلقت من يافا، وأشجار البرتقال وزهره ورائحة عطره، إلى بحرها الممتد إلى ما لانهاية، والوجه البشع للاحتلال، فالمقاومة والثورة، والحياة اليومية.
مع اقتراب ذكرى رحيله السابعة عشرة، أستحضر إسماعيل بإرثه الثقافي والفني والإنساني، كما أستحضره بدور المعلم والأب والمربي، فقد غيّر حياتي كما غيّر حياة غيري من الشباب الكثر الذين التقاهم ورعاهم، وأعطاهم من وقته ومعرفته. وقد كان من حسن حظي في مرافقته، أنني كنت واحداً من بيته الذي كان منتدى ثقافياً وفنياً وأدبياً حضر فيه العديد من الفنانين والشعراء والمفكرين.
صدق محمود درويش حين قال في جداريته "هزمتك يا موت الفنون"، تلك العبارة التي نُحتت على ضريح الراحل إسماعيل شموط، تؤكد أن أمثال هذا الفلسطيني لن يرحلوا، وسيهزمون بريشتهم وبكلمتهم، الموت، وأي احتلال.