Parallel Space: Drawing Time in Walid Daqqah’s Odyssey
Full text: 

أمكنة وليد دقّة        

في "نفايات الكلام"، وهو نواة نص روائي، يقارن دقّة بين السجن الأصغر كمكان تؤدي فيه الكتابة دوراً محورياً في صمود الأسير وإبقائه ذاتاً فاعلة في الزمنَين الموازي والاجتماعي، والسجن الأكبر الذي تتحول فيه الكلمات، وخصوصاً عند السياسيين، إلى نفايات أطلق عليها دقّة اسم "ثاني أكسيد الكلام" أو "إيكو [صدى] 2". ولحل هذه المعضلة، تتخذ الحكومة والمؤسسات والأفراد إجراءات احترازية لتحديد مقدار الكلام المسموح به لكل مواطن، لئلا يختنق المكان بنفايات الكلام وينتهي الزمن. ويقترح دقّة الصمت حلاً.[1]

وكي تنجو هذه الدراسة من لعنة "الصدى"، أخلاقياً وسياسياً ومعرفياً، فإنها تتقصد الإغفال الرزين لمكونَين غير ضروريين لمفهمة أمكنة السجن في فكر دقّة. الأول، هو الدراسات الفلسطينية القليلة التي تبحث نظرياً في وحدات الزمان والمكان الفلسطيني داخل الأسر وخارجه بالعلاقة مع النظام الاستعماري الصهيوني، وما تشكّله الحركة الفلسطينية الأسيرة من "بُنية مضادة" للسياسات الصهيونية في سجنها الاستعماري الهجين بين السجن الحداثي والسجن الاستعماري. والآخر، هو الدراسات الغربية التي تبحث في الشأن ذاته منطلقة من نظرة ممركزة أوروبياً في الشمال العالمي، ومطمئنة إلى احتيازها مكانة مرجعية في الجنوب العالمي الذي تُعتبر أنظمته السجنية خطيئة أولى لجولات الاستعمار وما بعده، سواء جاء في إهاب الحداثة أو إرهابها. وعلى ذلك، ستذهب هذه الدراسة إلى "رأس النبع" مباشرة، غير متورطة في أداءات "تحرير المعرفة" وتفكيك "استعمارية المنهج" وأصلنة "عملية البحث" وادعاء العمل الميداني مع "جموع المبحوثين". فهذه الكليشيهات، وهي تخلط الزوان بالحنطة، غدت اليوم بضاعة رائجة للبحث المعاق في فلسطين الباحثة عن نفسها. فالبحث معاق في فلسطين لأنه يدّعي السير إلى الأمام وهو ينظر إلى الخلف، ويقول بنقد استعلائية النظرية البيضاء واستعماريتها وهو يرجو المغفرة، ولا يتوقف عن استدعاء العكازات الغربية لإسناد معرفة مشرقية بَتَر العنف الاستعماري أقدام باحثيها ومبحوثيها.

ونكاية بالمنهجيين وعصياناً على المنهج، تعلن هذه الدراسة بسفور تام أنها محمولة على الأخذ بيد دقّة لتحقيق حلمه في رسم الزمن. وقد جاءت هذه الرغبة الصريحة في رده على رسالة قديمة، بشأن رسوماته، قال فيها: "أريد بشدة أن أرسم الزمن، الزمن في السجن، وأعتقد أنني حاولت ذلك في 'اللوحة 21'.[2] والزمن في السجن دائري، متشابه، حتى عندما يلتقي بزمنكم عند خط التماس، غرفة الزيارة، يبقى دائرياً، لزجاً، كعلكة بغل [....] أحياناً أسأل نفسي، كيف يمكن أن أنقل للمشاهد بصورةٍ، زمنَ أربعة عقود [....] أعتقد أن هذا هو التحدي الفلسطيني، الواقع تحت الاستعمار، ومن زمن الحداثة، بأن يصف الزمن في مرحلة ما بعد الحداثة. فكّ هذه الشيفرة، سيمكّنه، بعد أن فقد المكان السيادة، بعد أن ابتلعه الزمان، من إعادة سيادته على مستقبله."[3]

لقد كان الهدف الأقرب إلى دقّة من الرسم هو إيجاد "نقطة التوازن" للحفاظ على "صحته النفسية، لا "بهدف الإبداع، وإنما بهدف الصمود، أو الحفاظ على الذات كقيمة وطنية وإنسانية بالدرجة الأولى."[4] وقد تزايد البحث عن هذا التوازن لدى دقّة في منتصف عقده الثالث في الأسر، بعد أن ألمّ به المرض، وأفقدته الأدوية القدرة على التركيز، قراءة وكتابة، فلجأ إلى الرسم لطرد المرض من ذهنه قبل جسده، "والرسم وسيلة ممتازة لإشغال العقل بعيداً عن المرض حتى لا تنهار الروح."[5] وهذه "المدرسة التطهُّرية" في الفن، التي "يطرد بها [الأسير] السجن منه"، مثلما يصفها دقّة، أمّنت له تحقيق الهدف الأبعد وهو، من ناحية، التواصل مع أهله الممنوعين من الزيارة، لئلا ينساه الصغار، وكي لا يهرم في ذاكرة الكبار؛ وأمّنت له، من ناحية أُخرى، إيصال رسالة الأسرى الذين يلاحقهم الأسر في حياتهم وبعد استشهادهم. يقول: "عندما لا تتحرر جثثنا من السجن، نحررها نصاً ولوحة مرسومة، عسى أن تكون واضحة، بعد أن غدا موتنا غير واضح."[6]

ولذا، فإن من المؤكد أن مفهمة المكان عند دقّة ترتبط جذرياً بمفهمة الزمان والإنسان في مشروع "الوعي الموازي".[7] ولرسم خطاطة شاملة للمكان في حياة دقّة ونتاجه الفكري والسردي والفني المتنوع، تقترح هذه الدراسة ثلاثة مفاهيم للمكان، هي: التراصف، والتوازي، والتراكب. وهذه المفاهيم، وإن تم الفصل بينها مدرسياً لأغراض الدرس المنهجي، لا تشكّل متوالية زمنية خطّية مكافئة لسيرة حياة دقّة (timeline)، أو كرونولوجيا مكانية تعاقبية لأمكنة حياته (spaceline)، بل هي أمكنة تتخللها علاقة تزمينية - تمكينية، بمعنى أنها مصفوفة مصنوعة (مهندَسَة) بأكثر من كونها متوالية مخلوقة (مُعْطاة). كما أن بين هذه المفاهيم الثلاثة عتبات برزخية لا ينفصل فيها الواحد عن الآخر بحدٍّ واضح، بل تتصل ثلاثتها بمناطق تقاطع، وتشكّل تثاغراً دائماً في التجربة الوجودية والتعبير عنها فكرياً وسردياً وفنياً. ودقّة لا ينكر ذلك، بل يؤكده بالقول: "اللوحات هي صور كتاباتي. أنا في الأصل كائن تجسيدي. كل خبرتي الحياتية والثقافية استمددتها من ذاكرة تصويرية. أعتقد أن في رأسي بالأصل صوراً وليس كلمات وحروفاً. أنا مؤمن بالصورة أكثر من الكلمة، وتحديداً في هذا العصر."[8]

ولذا، فإن مَن يتأمل الأعمال الفنية المتأخرة لدقّة، يوقن بوجود ثنائية للمكان في ذهنه ومخياله، شِقّاها: فلسطين السجن الأصغر وفلسطين السجن الأكبر، وما مفاهيم التراصف والتوازي والتراكب إلّا تنويعات على هذه الثنائية. ففي مجموعته الفنية الأخيرة لوحة بخلفية بيضاء يظهر فيها رأس يمثّل ملامح الوجه فيه ملقط انفلت شطراه وسقط زنبركه على الأرض. ويشكّل نصفا الملقط في المرئية رقم 1 ما يشبه وجهاً مشدوخاً. وبينما يبدو في أحد الشقين خريطة فلسطين بلون أبيض، يبدو ما يقابله في النصف الآخر بلون أسود. ولعل في هذه اللوحة ما يوجز المعنى الأكمل لظاهرة التوازي في المكان والزمان والإنسان في نتاجات دقّة. ولذا، لا بد من التحرز في وصف العتبات البرزخية بين أمكنة السجن الثلاثة للقول إن مكان السجن هو مكان واحد يوازي مكان الحرية النسبية خارج السجن. وقد دشّنت ذات الأسير بشأن هذا التصوّر منظومة مفاهيم على امتداد أعوام إقامتها فيه، مع أن المكان لم يتغير فيزيائياً (من حيث كونه حيزاً ثلاثي الأبعاد) إلّا بالسياسات السجنية التي تمارسها سلطة السجون الصهيونية قبالة إرادة جموع الحركة الفلسطينية الأسيرة.

 

المرئية رقم 1: وليد دقّة، سجن عسقلان، المجموعة السابعة، 2022.

 

ولذا، فإن التنظير لهذه المفاهيم الثلاثة إنما يسعى لقراءة دقّة بصفته نظاماً مُحيلاً إلى ذاته من خلال استخدام نتاجاته الفكرية والسردية والفنية. فهذه المفاهيم تتساقى فيما بينها لمفهمة المكان بالاستعانة بالمقولات النظرية لكل من حسين البرغوثي ومقولاتنا التي وردت كإحالات مرجعية في كتابات دقّة ذات العلاقة. وعلى الرغم من اقتراح أعمال بعينها من نتاجات دقّة كأمثلة يتجلى فيها كل من هذه المفاهيم التي تم تحقيبها تاريخياً بشكل تعاقبي، فإنه يجب الانتباه إلى أن أعماله الإبداعية هي أعمال ترحالية (nomadic) يتغاير فيها التَّزمين (temporal) والتمكين (spatial) لاستضافة أربعة عقود من الإنتاج الإبداعي (1986 - 2023)، ولسرد ستة عقود من العيش المقاوم (1961 - 2023) بين القرية، والمدينة، والسجن. ولذا، فإن علينا تصوّر ثلاثة أبعاد زمانية - مكانية لكل صيغة من نتاجات دقّة: مكان عيش التجربة (في زمنها الفعلي)، ومكان الكتابة عنها (في زمنها السردي)، ومكان تلقّيها (في زمنها الارتجاعي) الذي يتماهى فيه الزمن الفعلي بالزمن السردي. ولذا، فإن التقسيمات الكرونولوجية المزاملة للمفاهيم الثلاثة، إنما تعكس الزمن المفهومي (الارتجاعي)، بأكثر من الزمن الفعلي والزمن السردي. ولا بد، كذلك، من الإشارة إلى أنه على الرغم من تعدد الصيغ النظرية التي يقارب بها دقّة مكان السجن ذهنياً ومجازياً في المفاهيم الثلاثة، فإن هذه الدراسة لن تبحث، في صيغتها الحالية، أمكنة السجن الوظيفية، أي الفعلية، إلّا بما يتيحه المقام، وبما يجعل مفاهيم المكان الثلاثة أكثر وضوحاً. وعلى ذلك، فإن أمكنة السجن (مسرحاً وسينما وصالة عرض ومشرحة ومقبرة) التي دُرست على نحو منفرد في مشروع "الوعي الموازي"، لن يتم التطرق إليها هنا إلّا لماماً. 

التراصف Pavementation (1961 - 1986)

عاش دقّة في أمكنة متراصفة منذ ولادته حتى دخوله الأسر (1961 - 1986)، وقد شكّلت ثلاثة فضاءات فعلية هذا التراصف، وهي: الهامش المستعمَري (القرية - باقة الغربية)، والمركز الاستعماري (المدينة - "تل أبيب")، والأسر الصهيوني (السجن - المكان الذي تواصل فيه صراع المركز والهامش). وفي مخطوطة سيرة دقّة الذاتية، تتضح مفاصل هذه الأمكنة: ولد لأب من باقة الغربية ولأم من منشية وادي الحوارث، وذهب في رحلات علاجه إلى الخضيرة (1961 - 1978). أمضى دقّة مطلع شبابه (1979 - 1982) عاملاً في أحد المطاعم في "تل أبيب"، والتقى اليهود والعرب الآتين للعمل في قاع المدينة، كما زار في هذه الفترة عدة مناطق من فلسطين المحتلة كنابلس ورام الله والقدس، حين رغب في التسجيل للدراسة في جامعة النجاح أو جامعة بيرزيت أو "الجامعة العبرية". وعمل دقّة في الفترة 1983 - 1986 في مدينة طولكرم وفي مستعمرة "إيلات" في أم الرشراش المحتلة قبل أن يلتحق بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ويذهب إلى التدريب في سورية حيث مرّ بدمشق، وتدرّب في درعا، وزار مخيم اليرموك قبل عودته إلى فلسطين المحتلة، عن طريق قبرص. أمّا رحلة أسره، بين الشباب والكهولة، في السجون الصهيونية (1986 - 2023)، فتنقّل فيها بين جميع السجون ومراكز الاعتقال والعزل الصهيونية على امتداد فلسطين التاريخية.[9]

إن التراصف بين هذه الأمكنة الثلاثة لا يحيل إلى تجاورها بالمعنى الجغرافي فحسب، بل إلى إمكان قراءتها كذلك بصفتها سردية تختزن المعنى التاريخي لتجربة دقّة وتكثِّفها. وقد استخدم حسين البرغوثي مفهوم "تراصف" السطوح في بحثه المعنون "عن المكان المنقرض" عن مدينة رام الله التي لا يمكن قراءتها اجتماعياً أو معمارياً بمعزل عن الشرط الاستعماري في فلسطين. وفي هذا السياق، يقول البرغوثي بإمكان قراءة المكان (الجغرافي) كنص، وهو بذلك يتصادى مع مقولة إدوارد سعيد بإمكان قراءة النص (الروائي) كمكان، أي كجغرافيا. ويشير البرغوثي إلى أنه يمكن للعين "ما بعد" الحداثية أن تعيد إنتاج المكان كمتوالية سطوح متراصفة فراغياً ووظيفياً، من الأقدم إلى الأحدث. وبالتالي، فإن سطوح الأبنية المتراصفة إنما تشكّل حبكة معمارية تشبه حبكة الرواية، وتمكّننا من قراءة الجغرافيا بصفتها تاريخاً، أي قراءة التراصف كتقاطع ثلاثة أزمنة، هي: الماضي المنقرض، والحاضر المتشكّل، والمستقبل المحدوس. وخلاصة القول هنا أن تراصف الأمكنة يتيح قراءة تراصف الأزمنة وتأويلها، تزامناً وتعاقباً، بصفتها "كولاج" يختزن شيفرة الذاكرة والتاريخ في معاني النص المعماري.[10]

ونظراً إلى هذا التثاغر بين الأمكنة، والذي لا يمكن قراءته من دون ربطه بالشرط الاستعماري في فلسطين، فإن فضاءات القرية والمدينة والسجن، تشكّل مفهوم "التراصف" في أعمال دقّة على نحو تذكُّري، وخصوصاً في أعماله السردية، بدءاً بسيرته الذاتية: "رياحين الشباب في مفاصل صخر الدولة العبرية"،[11] وانتهاء بثلاثيته لليافعين: "حكاية سر الزيت"، و"حكاية سر السيف"، و"حكاية سر الطيف"،[12] علماً بأن أمكنة الحكاية الأخيرة تقع على خط التقاطع بين مفهومَي التراصف والتراكب.

صحيح أن دقّة عاش نحو 25 عاماً (18 تموز / يوليو 1961 - 25 آذار / مارس 1986) في السجن الاستعماري الأكبر، لكن فهمه للمكان شهد بعد دخول الأسر تحولاً لافتاً في النظر إلى السجن الأصغر. وعلى ذلك، تستند مفهمة دقّة لمكان السجن المتراصف، بصورة أساسية، إلى اعتباره ذات الأسير بحد ذاتها مكاناً، إذ "الأسير نصُّ ذاتِه" من حيث ملابسته لأمكنة السجن الأكبر قبل الأسر وخلاله وبعده، إذ الأسير امتداد للمكان الذي فيه، والمكان امتداد للذات التي فيه. وبما أنه من الممكن قراءة النص المكتوب كجغرافيا، وقراءة الجغرافيا للأمكنة المتراصفة كنص، فإن السجن، كمكان، هو حصيلة هذين النصين –الجغرافيَّين. وفي ذلك يقول دقّة: "إن النص الثقافي الشاحن للهوية في الأسر، ليس بالضرورة نصاً مكتوباً، وإنما في الغالب مجموعة من السلوكيات اليومية والمواقف التي يعيد الأسرى من خلالها إنتاج قيمهم الوطنية والأخلاقية الجامعة. وهم، بذلك، يوسِّعون حدود هويتهم، فيتحول الأسير إلى "نص" حي، ويغدون بعضهم لبعض كتباً مفتوحة تتثاقف فيما بينها. وبهذا المعنى، لا يبقى الوعي ذاتياً، وإنما يأخذ بعده الاجتماعي. عندما يكون الأسير نصَّ ذاتِه، ويغيب المثقف الفلسطيني الذي يمكن أن يحوله إلى نص مكتوب، بعيداً عن خطاب عمالقة الصبر وجنرالاته، فإن المثقف الأسير يتحول إلى المشهد والمشاهِد، والمعذَّب والذي يُبلِّغ عن التعذيب، والتجريد والتفصيل في الوقت ذاته. وهذه المهمة هي مهمة صعبة، وتكاد تكون، في أحيان كثيرة، مهمة مستحيلة."[13]

هنا، يلتقي كتاب السجن (أي المكان الفيزيائي الثلاثي الأبعاد) بكتابة السجن (أي المكان الذهني العصي على الأبعاد). وللتوسط بين الكتابين، أي النصين، تلبي ذاكرتان النداء: الذاكرة الأليفة (الناجزة الشكل) والمختزنة في ذهن الأسير عن عوالم ما قبل الأسر جرّاء وحدات زمن خطّي رتيب، والذاكرة المتوحشة (المستمرة في التشكل) التي يجري تخزينها تباعاً عبر وحدات زمن دائري متغاير. هنا، يؤدي "التراصف" دوراً مهماً في تشكيل جسر بين الذاكرتين ليضعهما على سطح واحد هو ذهن الأسير المنفعل بالزمنين (التعاقبي والتزامني) على نحو يجعل مهمَّة فهم زمن السجن ومكانه مستحيلة لمَن لم يعاين تجربة السجن بالملابَسة الفعلية.[14]

يقول دقّة إن الذاكرة تسعف الأسير، مثلاً، في الاحتفاظ بطزاجة لحظة أسره الأولى دون تجميدها. فقد جرى اعتقاله من مكان عمله في محطة الوقود وهو لم يتناول بعد ساندويشة اللبنة والزعتر التي أعدّتها له والدته، ولا فنجان القهوة الذي أعدّه بنفسه، لكنه احتفظ بمذاق اللبنة والزعتر والقهوة على امتداد أعوام أسره: بدءاً من غرفة التحقيق التي استفزّه المحقق فيها بجعله يتشمم الرغيف اليابس من دون أن يتيح له قضمة واحدة منه والمحقق يردد بيت محمود درويش الشعري "أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي"[15] ساخراً، ومروراً باقتسام ساندويشة اللبنة والزعتر في زنزانة البوسطة مع رفيقه في القيد باسل غطاس،[16] وانتهاء بغرفة العناية المركزة التي يقيم فيها حالياً بعد 38 عاماً وهو يمازح رفيقاً له على خط الهاتف بالطلب منه أن يأكل من أجله ساندويشة لبنة وزعتر في رام الله.[17] يصف دقّة امتداد لحظة الاعتقال إلى 38 عاماً بالقول: "الذاكرة انتقائية والنسيان نعمة، وعندما لا تكون قادراً على النسيان، يأتي دور خط الدفاع الثاني، وهو انتقائية الذاكرة، حتى تبقى محافظاً على توازنك. إن الاعتقال صدمة للعقل والجسد، فهو اللحظة التي تنتقل فيها من لحظة أنت بها حُر جسداً، إلى حياةٍ جسدُك مُسيطَر عليه من آسرِك. يُقيده، يحجزه، يركله... وأنا في هذه اللحظة كان عقلي، وربما روحي، تتأمل هذا الجسد الذي أُسِر من خارجه كأنه جسد شخص آخر، أو ربما أيضاً سلَّم عقلي بعقلانية باردة بأن الجسد الممدد في سيارة الجيب مقيداً لم يعد من مسؤوليته، لأنه مهما أجهد خلاياه فلن يكون قادراً على أن يمنع ما قد يلحقونه به من ألم [....] في هذه اللحظة، أوَّل عقلي المشهد بالكامل. والعقل في لحظة الصدمة بالذات مُخادع، إذ لخّص المشهد بفقداني رغيف اللبنة الذي بقي مذاقه يذكّرني بوالدتي لا بالاعتقال، الذي إن كان في الزمن العادي لحظة، فإنه في زمن السجون لحظة امتدت حتى الآن [38] عاماً."[18]

هنا، لا تكون "رائحة البن جغرافيا"[19] فحسب مثلما اقترح محمود درويش مرة، بل يصير مذاق اللبنة والزعتر كذلك جغرافيا، أي يصير مكاناً متراصفاً تجتمع فيه: رقعة محطة الوقود التي اعتُقل منها دقّة، وغرفة التحقيق (التي اندغمت فيها لحظة سكب الجندي لقهوة أم محمود درويش أمام بوابة سجن الرملة بلحظة رمي المحقق لساندويشة أم وليد في سلة المهملات في غرفة التحقيق)، وزنزانة البوسطة، وغرفة العناية المركزة، والمكالمة الهاتفية بين الرملة ورام الله. ولذا، يصف دقّة السجن بأنه "مكان حقير [....] وأسوأ اختراع صنعه الإنسان"،[20] لا لأنه مكان لاختبار الألم وتدمير الحواس فحسب، بل لأنه يجعل غير الممكن ممكناً أيضاً، حين يجمع جغرافياً أمكنة اللذة (المتذكَّرة) وأمكنة العذاب (القائمة) في مكان واحد، هو ذات الأسير: جسداً وعقلاً وروحاً. ولعل ذلك يظهر بأجلى صوره في تذكُّر دقّة، على سبيل المثال، لتفصيلات "حماية" الشِّباك الحديدي الذي يطل على الواجهة الغربية لبلدته باقة في المرئية رقم 2، وتخيُّله لما يكون قد طرأ على هذا المشهد نفسه في أعوام غيابه. أمّا ابنته ميلاد، فتجمع بين الزمنين وهي تقف على "حماية" الشِّباك الجديدة التي صنعها رشدي أبو مخ، رفيق دقّة في النضال والأسر بعد تحرره من السجن الذي أمضى فيه 35 عاماً، في المرئية رقم 3.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الأسير لا يتورط في أحلام العودة بالصور المختزنة في الذاكرة، ذلك بأنه يدرك الواقع السياسي من دون التورط في "الواقعية السياسية"، ولا يحلم إلّا بالعودة إلى فلسطين المستقبل المتحررة ممّا أحدثته تحولات منظمة التحرير الفلسطينية إلى سلطة فلسطينية. يقول: "الشوق والحنين [هما] القاسم المشترك الذي يجمع كل الفلسطينيين، بل أكاد أقول إن الشوق للأماكن أصبح مكوِّناً من مكونات الهوية الفلسطينية. اللاجىء يشتاق لبلده ويريد أن يعود، والأسير أيضاً يشتاق لبيته وأهله وحارته. لكننا في الحقيقة نشتاق للذاكرة التي تحملها هذه الأماكن، وعودتنا إليها هي عودة إلى الذاكرة، ولكنني أعي أن هذه الأماكن تغيرت بعد مرور السنوات الطويلة، ولم تعد تحمل الذاكرة نفسها، كما أدرك أيضاً أن الحداثة والعولمة التكنولوجية والاقتصادية سلّعت كل شيء، وصارت إمكانية العودة إلى الذاكرة كما نتخيلها مسألة مستحيلة. هل يعني هذا أنني تخلّيت عن العودة والتحرر؟ بالطبع لا، ولكنني لا أريد العودة إلى فلسطين الماضي، فلسطين الانتدابية حيث الصبّار والرمان وطواحين الماء، لأنها ببساطة غير موجودة إلّا في الذاكرة. عندما تصبح فلسطين رومانسية، يغدو حق العودة طوباوياً، وهذه الرومانسية للعودة تُبعدنا عن العودة نفسها. أنا أريد العودة إلى فلسطين المستقبل التي لا بد أن تتطابق فيها الهوية الوطنية الجامعة مع جغرافيا الوطن الكامل. اتفاقية أوسلو تنازلت عن جزء من الوطن مقابل الدولة، واستعاض أصحابها عن العودة بحكاية العودة. والعودة بهذا المعنى كانت فولكلورية [....] وهذا التورّم اللغوي إنما يعبّر عن العجز عن تحرير الأسرى. وأنا، بهذا المعنى، توّاق إلى الوطن أو الذاكرة التي سنصنعها. أنا توّاق إلى المستقبل، البيت الذي سأعمّره، فهناك سأعيد ترتيب الذاكرة في المكان الذي سأحدده. وربما، كما أذكر لرفاقي في الأسر أحياناً، سأُعِدّ في هذا البيت الذي سأعمّره بعيداً عن ضجيج المدينة وصخبها، دلّة القهوة، ومن حولي ستدور في الباحة أربع دجاجات بلديات، وعنزتان شاميتان، وكلب أخرس كي لا يجرح السكينة بنباحه."[21]

 

المرئية رقم 2: وليد دقّة، سجن عسقلان، المجموعة السابعة، 2022.

 

المرئية رقم 3: ميلاد دقّة، باقة الغربية، تصوير سناء سلامة، 2022.

 

هذا الواقع، يصيب الأسير بالصدمة الوجودية التي تمكّنه، للمفارقة، من احتمال التقاء هذه الأمكنة في نقطة كثيفة هي ذاته (جسداً وعقلاً وروحاً). فالأسير يدرك أنه لا يملك حق النفاذ إلى هذه الأمكنة وهو في الأسر، لكنه يطور آليات النفاذ الذهنية والروحية لهذه الأمكنة (أي للحياة) عبر الآخرين من أهل ورفاق يتجاوز عبر التواصل معهم زمنَ السجن الدائري (الموازي) ومكانه المغلق على الماضي نحو زمن الخارج الخطّي (الاجتماعي) ومكانه المفتوح على المستقبل. يبدع الأسير، كتابة ورسماً وغناء، ليبقى حياً في الزمنين المتوازيين، وفي الأمكنة المتراصفة. يقول دقّة: "إن أسوأ ما في الزمن داخل الأسر، دائريته المملة والمتكررة إلى حد اللزوجة تماماً، كباحة السجن التي ندور فيها حول لا شيء. إن سناء جعلت زمني في السجن خطاً مستقيماً صاعداً نحو المستقبل الذي نسير إليه رغم محيطات العنف والكراهية، بزورقنا الصغير الذي صنعناه من نعناع وريحان الحياة، حتى نصل به إلى شاطىء المستقبل ليكون ميلاداً جديداً."[22]

ومن أجل أن يحقق دقّة هذا الهدف، فإنه يتوسل مجاز القطار الذي لا نوافذ له إلّا من خلال الأهل والرفاق كي يتمكن من البقاء حياً في عربة بلا نوافذ: ثابتة المكان، متغايرة الزمان. يقول: "دوماً كنت أشبّه الحياة في السجن كالعيش داخل عربة قطار مغلقة وبدون نوافذ. وحتى تعرف أين وصلت بك هذه العربة، وما هي المسافة التي قطعتها، أو ربما لتعرف السرعة، لا بد من أن تُحْدِث ثقباً في الجدار، والكتابة أو الرسم هو إحداث ثقب في الجدار. وردود الفعل التي أتلقّاها على ما أُنتجه، كرسالتك، أو مجمل ما كتبتَه وما أبديتَه من اهتمام، هي مشاهد الطبيعة التي أراها من هذا الثقب، الجبال والأشجار، وهي التي تحدد لي زماني ومكاني وسرعتي. دوماً هناك، داخل العربة، متمرّسون في 'السفر'، يقرأون نصك، ويقولون لك أين وصلنا، وما هي سرعة القطار. لكن هؤلاء المتمرسين يبقون مسافرين مثلي، ودوماً أحتاج، ليس للتقدير، وإنما لمشهد يقينيٍّ من خارج الزمن الموازي. والعيش في الزمن الموازي، هو العيش دون مرايا، والعيش دون مرآة يعني ألّا تعرف إن كنت جميلاً أو قبيحاً، والذات لا تغدو ذاتاً إلّا بفضل مرآة الآخر. بهذا المعنى، الإبداع في السجن هو شعاع أُرْسِلُه عبر نص أو رسومات إلى المرايا، إشاراتٍ إلى عالمكم، وعندما أتلقى ردّاً منك أو من الأصدقاء، فإنما أتلقى ليس تقييماً لنص، بل تشكيلاً للذات، ليس فقط كذات في مواجهة محاولات السجّان تحويلها لموضوع، وإنما ذات تدرك ذاتها. إذا كان الزمان والمكان يحددان حياة الإنسان فيزيائياً، فإن المرايا تمنحنا الوعي لندرك هذا الزمان والمكان. المرايا تحدد نوعية هذه الحياة في الزمن الموازي، فتضيف ألـ التعريف لحياة، فتصبح الحياة، أو على الأقل تقربها من أن تكون كذلك. بهذا المعنى كانت سناء مرآتي، وألـ تعريف حياتي."[23]

غير أن هذه العربة السجنية مليئة بالتفصيلات التي يختبرها الأسير على جسده، ويرصدها العدو بأنظمته الرقابية، ويحاول الأسير تخيّل هذه العربة من خلال التسلل، ذهنياً، إلى كاميرات المراقبة ليرى ذاته ومكانه وزمانه بعين الجلاد. وفي هذا السياق، تسعف مجموعة من رسومات دقّة التي صادرتها سلطات السجون في جعل هذا التقمص لِعَين الكاميرا أكثر وضوحاً، وفي تخصيص حالة "التراصف" من كونه تراصفاً بين جغرافيات مفتوحة، إلى كونه تراصفاً بين غرف سجن مغلقة يتكرر فيها كل شيء، من ممارسات سلطة السجون إلى مجاملات الأسرى: من "صباح الخير" إلى "تصبح على خير".

ففي الفترة 2014 - 2016، حاول دقّة رسم السجن، أولاً لأنه اعتقد أن تصوير حياة الأسرى بالرسم أسهل من الكتابة لـ "تحريرها"، أي لـ "تهريبها"، إلى خارج السجن.[24] وثانياً لأنه اعتقد أن في وسع الرسم تحويل الروتين إلى بشارة، وتحويل الملل إلى فن. رسم دقّة، في حينه، سلسلة كاريكاتيرات مكونة من ثماني صفحات، أربع منها تحاكي مقاطع كاميرا المراقبة في سجن "هداريم"، وقد حصلنا على تصوير هاتفي لهذه الصفحات، رديء الدِّقة، بعد بضعة أعوام على رسمها. تُصوّر الرسومات حياة الأسرى اليومية في مقاطع مستطيلة أو Panels بمعدل 6 مستطيلات في الصفحة الواحدة، بحيث يعكس كل منها جانباً من حياة الأسرى، ويبلغ عددها الكلي 22 مشهداً، و5 مقاطع غير مرقمة، ومقطعاً فارغاً. تصف الرسومات ما تخيّله دقّة من مقاطع لشاشة الكاميرا التي تراقب غرف أو "إكسات" قسم 3 الخاص بالأسرى الفلسطينيين السياسيين، وعددها 40 غرفة. ويمثّل كل مقطع فاعلية من الروتين اليومي للأسرى في تلك الـ "إكسات" التي يعرف دقّة أن كاميرات المراقبة الخاصة بإدارة السجن تسجلها على مدار الساعة، لكنه لم يكمل هذه السلسلة لأنه نُقل من سجن "هداريم" في أم خالد المحتلة إلى سجن "رامون" في صحراء النقب المحتلة، ثم إلى سجن نفحة المجاور. وقد توقّف الزمن عند المقطع الفارغ في أسفل الصفحة رقم 8، فلم يتمكن دقّة من استكمال رسم فاعليات الأسرى اليومية في بقية الـ "إكسات"، إذ بعد الانتهاء من رسم المقطع 22، بُلّغ بأنه سيُنقل. حينها، قام دقّة بإرسال الرسومات الفعلية، في بريد الأسرى، أي بالتهريب، من سجن "هداريم" إلى سجن "إيشل" في بئر السبع المحتلة، ومنه إلى سجن "رامون" حيث استلمها أسرى "حماس"، وأخرجوا منها نسخة عبر تطبيق "واتساب"، وهي النسخة الوحيدة التي لدينا الآن. حين وصل دقّة إلى سجن "رامون"، رفض استقباله مَن رفض استقباله، ولمَن رفض استقباله في "رامون" عباءة من حرير. عندها، سلّمه رفاقه الأسرى الرسومات ليخرجها معه إلى سجن نفحة، غير أن تفتيش حقيبته، بتوصية من "جماعة الكابو" على ما يبدو، أدى إلى مصادرة الرسومات التي يُعتقد أنها أُتلفت بعد الاطلاع على فحواها.

في رسمه لهذه السلسلة التي لم تكتمل، لم يحاول دقّة الانتقال من الزمن الموازي ومكانه في السجن الأصغر إلى الزمن الاجتماعي ومكانه في السجن الأكبر، وإنما حاول نقل واقعه لنا، نحن الذين نقف خارج عربة القطار الصدئة التي يقيم فيها الأسرى "المنسيون في الزمن الموازي"، مثلما يفيد عنوان مسرحية دقّة الشهيرة. وعلى شهوة من الصور التي تبثّها سلطات الاحتلال من داخل السجون، شكّلت رسومات دقّة التي ظفرنا بنسخة مصوّرة عنها، وكان قد جرى مصادرة الأصل منها، قصة نجاة لوثيقة مهمة من المدوَّنة الأصلية والأصلانية لوصف السجن. ومن أجل توضيح مقصد دقّة في تخيّل الشاشات التي تُبثّ عليها كاميرات المراقبة في السجن، قمنا، بمساعدة من المصمم شريف موسى، بمونتاج تركيبي أدخل فيه بعض المقاطع من الرسومات في المرئية رقم 4 على صورة شاشة غرفة المراقبة في المرئية رقم 5 من مشهد فعلي أخذناه من تسجيل نادر بثّته سلطة السجون الصهيونية. 

التوازي Parallelization (1986 - 2010)

أمضى دقّة في السجن 38 عاماً أضاف خلالها إلى المكان في علاقته بالزمن أبعاداً أُخرى، إذ عمل على مفهمة عامة للزمن تفيد بوجود زمنين ينفعل بهما الأسرى وجودياً: "الزمن الموازي" وهو مفهوم فلسفي يصف الحياة داخل السجن الأصغر قبالة "الزمن الاجتماعي" خارجه الذي يحياه الفلسطينيون في السجن الأكبر.[25] وبقيت هذه الثنائية قائمة حتى سنة 1994، فقد أنتج دقّة ورفاقه الأسرى مقولات نظرية بشأن موقعية الأسير الفلسطيني في إنتاج معرفة قادرة على الخروج من "الزمن الموازي" الآسن إلى "الزمن الاجتماعي" المفتوح على المستقبل والحرية. آنئذٍ، أصيب الأسرى بالخذلان جرّاء تركهم في السجون، وصارت الرؤية أكثر تركيباً حين انفصل "الزمن الموازي" للحركة الأسيرة عن "الزمن الاجتماعي" العام للحركة الوطنية (بصفتها تعبيراً عن ثنائية المنظمة والسلطة). وهكذا، صار للزمن إسقاطات أنطولوجية جديدة بدأت تتشكل في المكان الموازي، وأخذت شكلها الأكمل في المكان المتراكب الذي سنتطرق إليه في القسم الثالث من هذه الدراسة.

وقد تبلور مفهوم "الزمن الموازي" لدى دقّة في ثلاثة نصوص يفصل بين كل منها نحو نصف عقد من الزمن، وجاءت على شكل: "رسالة الزمن الموازي" في سنة 2005 في سجن "جلبوع" في بيسان المحتلة؛ مسرحية غنائية عنوانها "حكاية المنسيين في الزمن الموازي" في سنة 2011 في سجن "جلبوع"؛ "مسرحية الزمن الموازي" التي أنتجها مسرح الميدان في حيفا وأطلقها في سنة 2014، بالتشاور مع الأسير دقّة في سجن "هداريم" في أم خالد المحتلة.[26] في هذه النصوص، لا يتأمل دقّة الزمن بمعناه الواسع بقدر تأمله، مثلاً، لنفاد زمن الزيارة القصير الذي يقاوم فيه آفة النسيان بتسجيل ملاحظاته على يده، لأن استخدام القلم والورقة ممنوع في أثناء الزيارات، فتبقى الذاكرة هي الوسيلة الوحيدة في سجن العدو، كما تبقى ثنيات وجه الأم، وشيبها الذي تقصّدت إخفاءه بالحناء وإخفاء عمرها الحقيقي بالوقار، شارات على ثواني العمر التي تثني الوجه، والظهر، والعمر، والأزمنة، إذ لم يعد ابنها يعرف عمرها، ولم تعد هي تعرف عمره، حين اختلفت وحدات الزمن.

 

  1. المرئية رقم 4: وليد دقّة، سجن "هداريم"، المجموعة الثانية، 2016.

المرئية رقم 5: مشهد تركيبي، مونتاج شريف موسى، 2023.

 

بسخرية جارحة يستحضر دقّة الأحداث التي جرت منذ انتهاء الحرب الباردة حتى انتفاضة الأقصى، فالأسرى يعيشون زمنهم الموازي، لكن الأهم هو إحساسهم بالزمن في ثبات المكان الذي أسقطوا فيه من لغتهم مفاهيم الزمان والمكان العاديين. يقول دقّة: "نحن جزء من تاريخ، والتاريخ كما هو معروف حالة وفعل ماضٍ انتهى، إلّا نحن ماضٍ مستمر لا ينتهي. نخاطبكم منه حاضراً حتى لا يصبح مستقبلكم. زماننا غير زمانكم، فالزمن عندنا لا يسير على محور من ماضٍ وحاضر ومستقبل، وزماننا الذي يجري في ثبات المكان أسقط من لغتنا مفاهيم الزمان والمكان العاديين، أو قل أربكها وفقاً لمعاييركم، عندما لا نسأل 'متى؟' و'أين؟' نلتقي مثلاً، بل نحن قد التقينا وما زلنا نلتقي في نفس المكان. نحن نسير هنا بمرونة ذهاباً وإياباً على محور الماضي والحاضر، وكل لحظة ما بعد لحظة الحاضر هي مستقبل مجهول لم نعد قادرين على التعامل معه. مستقبلنا لا سيطرة لنا عليه، وما أشبه حالنا بحال كل الشعوب العربية، مع الفارق الجوهري، بأن احتلالنا أجنبي وسجّانهم عربي، هنا سُجِنّا لأننا نبحث عن المستقبل، وهناك دُفن المستقبل حياً."[27]

يعرّف دقّة الزمن، فلسفياً، بصفته "الوجه المتحرك للمادة" التي يعبّر المكان عن ثباتها، لكن الأسرى في الزمن الموازي صاروا هم وحدات الزمن المتصارعة مع المكان، والتي لا تتحدد، للمفارقة إلّا به: متى أُسر فلان؟ ومتى تحرر علّان؟ إن الـ "قَبل"، و"الآن"، والـ "بَعد"، لديهم لا تقاس بوحدات الزمن خارج السجن، بل بإحداثيات السجن نفسها: حركة الأسرى في البوسطة وبين الزنزانات وغرف التحقيق وأقسام العزل والمحاكم والمستشفيات، وسكونهم، ووصول أشيائهم، أو تأخرها. وبالتالي، ففي الزمن الموازي ماضٍ وحاضر، وليس فيه مستقبل. يقول دقّة: "لأننا لا نعرف متى سيُعتقل فلان أو ينتقل من سجن إلى آخر، ليس لنا ما نحدد به إحداثية مستقبلية على محور الزمن فنستعير وحداتكم الزمانية عند الحديث عن المستقبل. زمنكم هو الزمن الحقيقي. زمنكم هو زمن المستقبل."[28] وعلى ذلك، فإن جميع ما تبقّى للأسرى من المستقبل هو القرائن المكانية الدالة عليه: الأهل، والزيارات، والأشياء الحميمية، والمقتنيات التي تذكّر الأسرى بأنهم كانوا مرة، أو سيكونون، خارج زمنهم الموازي، أي في الزمن الاجتماعي العادي... زمننا.

لم يكتفِ دقّة بالقول إن الأسرى صاروا وحدات الزمن، بل مثّل في واحدة من رسوماته أطراف الأسير بصفتها "عقارب الساعة" في مكان السجن الذي غدت أبواب زنزاناته هي إحداثيات الساعة الـ 12 في حياة الأسير. ولو تم تدوير الزوايا في المرئية رقم 6، لنتجت ساعة تُشكّل أبواب الزنزانات وحدات الزمن فيها. وقد صمم الجغرافي والمعماري سمير حرب لهذه اللوحة محاكاة ذهنية في المرئية رقم 7 جعل فيه جسد الأسير ممراً، والممر الفاصل بين غرف السجن جسداً للأسير، يحتجّ به، فيستشهد، أو يشهد الحرية المشتهاة.

يختنق دقّة باللغة وبالواقع الذي تتاخمه اللغة، فتتجاوزه تارة ويتجاوزها أُخرى، لكنه لم يخطط لأن يكتب عن السياسة أو الزمان أو المكان أو الفلسفة، وإنما أراد أن يكتب عمّا يقلقه، عن كتابته غير المخططة كحياته غير المخططة، لا سياسياً ولا ثقافياً ولا نضالياً ولا شخصياً… لكنها حياة محمولة على ضرورة الإحساس بإنسانية الفلسطيني الذي لا يكفّ عن المبالاة حتى إن كان لديه رغبة ملحّة في اللامبالاة في ظلمة الزمن الموازي الذي يستهدف فيه العدو إنسانية الأسير، ليس ككائن سياسي، بل ككائن اجتماعي، إذ "المستهدف بالدرجة الأولى الكائن الاجتماعي والإنسان فيك. المستهدف هو أي علاقة خارج الذات، أي علاقة يمكن أن تقيمها مع البشر والطبيعة بما فيها حتى علاقتك بالسجّان."[29]

 

المرئية رقم 6: وليد دقّة، سجن عسقلان، المجموعة السادسة، 2022.

 

المرئية رقم 7: سمير حرب، برلين، محاكاة ذهنية، 2023.

 

يعترف دقّة، بتواضع العارف، بأنه لم يخطط للكتابة عن الزمان والمكان، لا في السياسة ولا في الفلسفة، لكنه يستنتج أنه "إذا كان الزمن كمفهوم، ملازماً للمادة [و]هو الوجه المتحرك لها، والمكان هو ثباتها، فإننا في الزمن الموازي أصبحنا نمثّل وحدات هذا الزمن. نحن الزمن الذي يتصارع مع المكان وفي حالة تناقض داخلي معه [....] زمنكم هو الزمن الحقيقي. زمنكم هو زمن المستقبل. في الزمن الموازي وفي جدلية العلاقة بيننا وبين المكان، نطور علاقات غريبة مع الأشياء لا يفهمها إلّا مَن أُسر في الزمن الموازي."[30]

في السجن الأصغر بصفته مكاناً موازياً (يشكّله الزمن الموازي) في مقابل السجن الأكبر بصفته مكاناً اجتماعياً (يشكّله الزمن الاجتماعي)، يمكن الاستنتاج أن ذات الأسير في مراقبة الزمانين والمكانين، الموازي والاجتماعي، لا تنفصم، بل تلاحظ انفصام الزمان والمكان في لحظة دخولها السجن أو خروجها منه. ولعل في هذا ما يستدعي مفهمة حسين البرغوثي لانفصام شخصية المكان. فالبرغوثي يستغرب من أن "المكان يبدو كمصيدة أحياناً"،[31] سواء في جذب المكان الخارجي له لارتياده (وهو في الشتات)، أو في جذب المكان الداخلي له لتذكُّره (وهو في فلسطين). غير أن الذات تبقى هي الفاصل بين حضور الراهن وإلحاح الماضي، بينما الفعل الاستعماري هو الذي يخلق حالة "الانفصام" التي ظهرت إرهاصاتها في تجربة البرغوثي السردية الأولى، وهي "الضفة الثالثة لنهر الأردن"،[32] كي يكافح الشعور بالاغتراب ويتمكن من إدارة الأزمات الشخصية في الصراع بين رعوية الذاكرة الريفية (الناجزة الشكل) في فلسطين، وصناعية الذاكرة الحضرية (المستمرة في التشكُّل) في المركز المديني الغربي.

إلّا إن البرغوثي في "الضوء الأزرق" يعود إلى انفصام شخصية المكان بين ضفتَي نهر الأردن. فقد سكن البرغوثي في منتصف الثمانينيات خلف سجن رام الله المركزي (المقاطعة اليوم)، وكانت تسكنه مخاوف من الجنون، وخشية من فقدان الصلة بالواقع، ورؤى متكررة لشبح يشبهه، وذلك على غرار مناحم ميلسون، الحاكم العسكري الصهيوني لمدينة رام الله، والذي كان مصاباً بانفصام الشخصية. ويرى البرغوثي أن نهر الأردن هو الخيط الذي يشقّ المكان إلى "ضفتين": غربية وشرقية. ومناحم ميلسون يحكم الغربية فقط، فهناك ضفة أُخرى شرقية تنزلق من بين يديه باستمرار، وهوسه بالهيمنة عليها يشبه الأغنية الصهيونية المعروفة: "للأردن ضفتان: الأولى لنا، والأُخرى لنا". فنهر الأردن، بالنسبة إلى البرغوثي وعدوّه المنفصم، هو الذي يحدد الجهات، ولو اختفى النهر لاختفت معه الجهات. يقول: "التاريخ ماكر: انفصام شخصية المكان إلى ضفتين 'حالة فضائية'، فيها كل شخصية تستقلّ عن الشخصية الأُخرى، ولا بد من 'ممرّ' ما، خدعة ما، كي يمكن القول إن الشخصيتين تسكنان معاً في 'نفس' الشخص رغم استقلالهما، في 'جسم واحد'، ومريض واحد، ومكان واحد. هذه الخدعة جسر صغير من خشب وحديد فوق نهر الأردن نفسه، ممر وخدعة، من هنا يَعْبُر، خارجاً من الغرب للشرق، مَن حشره التاريخ في قنينة الاحتلال، ومن هنا يَعْبُر، داخلاً من الشرق للغرب، مَن سوف يحشره التاريخ في قنينة الاحتلال. ولا مكان هنا لا للدخول ولا للخروج إلّا من شخصية أولى إلى شخصية أُخرى في وضع فصامي. الـ 'جسر' هو لحظة تبديل الشخصيات. حين تستولي على الفصاميِّ شخصيته الأُخرى وتنزاح الأولى، أكثف تعبير عن اللامكان، وعن فلسطين، وعن المدينة التي كنت أسكنها أنا ومناحم ميلسون معاً: رام الله."[33]

وإذا كان نهر الأردن لدى البرغوثي هو الإحداثي المكاني للانفصام والانسجام، والذي يحافظ على معنى الجهات من الخلخلة، فإن شُبّاك الزيارة والرسالة المكتوبة أو الصوتية لدقّة، هي الإحداثي ذاته للانفصام والانسجام بين الزمان والمكان. وبذا، فقد أدى هذا الانفصام في شخصية الزمان وشخصية المكان إلى ولادة الزمانين والمكانين، الموازي والاجتماعي، اللذين يقيم دقّة في البرزخ الموجود بينهما. فهنا، أصبح السجن الأصغر مكاناً موازياً للسجن الأكبر بصفتهما سجنَين تحكمهما المنظومة الاستعمارية ذاتها، وتمارس عليهما مختلف أنماط سلطتها: سيادياً وتأديبياً وحيوياً وحِكمانياً. وبقراءة رسم دقّة في المرئية رقم 8 لقاعة الزيارة، والتي تبدو "صالة مرايا" يتناسخ فيها الزمن الموازي والمكان الموازي على نحو لا يمكن ضبطه، عملتُ مع المهندسة المعمارية ميرا إدريس على تصوُّر مخططات معمارية لهذه القاعة بثلاثة أساليب: الأول، مخطط أفقي لقاعة الزيارة الفعلية في المرئية رقم 9، والثاني، عمودي للقاعة المتخيلة في المرئية رقم 10، والثالث ثلاثي الأبعاد في المرئية رقم 11.

إن هذه المخططات الهندسية، بطبيعة الحال، ترد من باب التوضيح البصري المباشر لواحدة من وحدات السجن الاستعماري ما بعد الحداثي التي لا يتيح المقام هنا للإسهاب في وصفها، وهي "قاعة الزيارة". لكن لا بد من الإشارة إلى أن ثمة العديد من المخططات الهندسية لوحدات وظيفية أُخرى، كبرج المراقبة. فالبرج يتحول في تنظير دقّة وظيفياً "مَثَل نافٍ" لعمارة السجن الحداثي بدلاً من كونه قاعدتها الأولى. ويعقِّب دقّة على المرئية رقم 12 بالقول: إنها "تُصوّر من نقطة مشاهدة السجّان في برج المراقبة، مجمل ساحات السجن التي يتكشّفها بكاملها بنظرة واحدة، بينما الأسرى المتواجدون في الساحات لا يرون سوى الساحات منفردة، كل في ساحته. هندسة المكان ثانوية هنا، الأساسي هو هندسة الزمان. الزمن الموازي، لأن الزمن الحقيقي يطل من مشهد الطبيعة في أعلى اللوحة، وهو خارج الهندسة. لكن الأسرى، كل منفرد، لا يدرك الزمن الموازي، لزمنه الموازي، ولا الزمن الحقيقي خارجه. وهذا هو السجن، أو جوهر السجن، أو ربما الأصح، جوهر الاحتجاز في السجن."[34]

لكن هذا لا ينفي أنه في ظل عزلة الأسير عن عالم الحداثة خارج الأسر، يوضح دقّة أن السجن يضع الأسير في مواجهة مباشرة مع سلطة السجون التي ترغب في تذريره وتشتيته وقمعه عبر "أدوات ونظم إدارة حديثة وهندسة بشرية مركَّبة"، وللمفارقة بأدوات السجنين الحداثي وما بعد الحداثي. لقد كثّفت إدارة السجن الاستعمارية جميع رموز وآليات سيادتها القومية في السجن الأكبر للسيطرة على الأسرى في السجن الأصغر. ولذا، فقد "كفَّت الزنزانة في الحقبة ما بعد الحداثية في واقع السجون 'الإسرائيلية' عن القيام ببعض وظائفها (الحرمان من الضوء والإخفاء) واحتفظت بوظيفتها الثالثة (الحبس الذي يُعدّ حبساً يحجب الشمس عن الأسير ولا يخفيه مقيداً في دهاليز مظلمة تحت الأرض). [....] إن ذلك لا يعني بأن السجن تحوَّل [إلى مكان] أقل فظاعة وقسوة، وإنما انتقل من استهدافه جسد الأسير، وصار موضوعه عقل الأسير الذي يراد له أن يتحول إلى زنزانة فعلية، وحواس الأسير لأدوات تعذيب."[35] هنا، يعتقد دقّة أن المعنى الجديد للسجن يمكن تلخيصه بالصمود في معركة "عذِّب نفسك بنفسك" عبر آلية "ثقِّف نفسك بنفسك" لتصل إلى نتيجة "حرِّر نفسك بنفسك". ولذا، تتحول المعركة من معركة جمعية (بعد انهيار القيم الوطنية الجامعة)، إلى معركة فردية للحفاظ على الذات ضمن "معركة الصمود" الكبرى حتى التحرر من السجن. وفي هذه المعركة تحتل الثقافة، ومنها التعليم الأكاديمي المنهجي في جامعة السجن في "هداريم" الذي صار جامعة القدس داخل السجن، مركز الصدارة، حين يدرك الأسرى أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" وأنه "لا توراة من دون قمح"، أي حين يتمكنون من حل "المعضلة ما بين المقولتين"، لـ "يكتشف الأسير أهمية هذا التوتر ما بين الخبز والتوراة في صياغة عقلين: العقل الأداتي، والعقلانية التي تشمل متطلبات الروح والقلب والأخلاق، وتصبح التعددية طاقة بناء وليست طاقة هدم في تعريفه للوطن."[36]

 

المرئية رقم 8: وليد دقّة، سجن "هداريم"، المجموعة الثالثة، 2017.

 

المرئية رقم 9: ميرا إدريس، القدس، مخطط أفقي، 2023.

 

المرئية رقم 10: ميرا إدريس، القدس، مخطط عمودي، 2023.

 

المرئية رقم 11: ميرا إدريس، القدس، مخطط ثلاثي الأبعاد، 2023.

 

غير أن موقعية دقّة الأخلاقية والسياسية والمعرفية كأسير من فلسطين 1948، زجّه اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، مع رفاقه الذين ينتمون إلى الموقعية ذاتها، في غيابة النسيان، تكمن في أنه مارس الكتابة من أجل النقد، وكي يبقى حياً. ففي سنة 1994 كفّت منظمة التحرير الفلسطينية عن أداء مهمتها التاريخية للتحرير، وغرقت في مستنقع السلطة الفلسطينية ضمن منحى تراجيدي قتل فيه الوليدُ والدَه وأبقى صورته معلقة على الجدار، وانتقلت من استراتيجيا الكفاح المسلح إلى استراتيجيا كفاحِ المسلح. وقد كرّس دقّة نقده على حقبتين، هما: انتفاضة الأقصى التي أعقبها تغييب الرئيس ياسر عرفات وبروز قيادة فلسطينية جديدة يسّرت صَهْر وعي الفلسطينيين (2000 - 2010)، وإحكام قبضة التنسيق الأمني والعنف المتبادل بين الفلسطينيين بعد الانقسام واستشراء سياسات الإغواء والإغراء (2010 - 2022)، وهما الحقبتان اللتان يمكن عبر قراءة أدبياتهما، الخارجة من السجن، استخلاص معانٍ جديدة في مفهمة الزمان والمكان.[37]

لقد أسعفت هذه الموقعية دقّة في وصف فرادة السجن الصهيوني الذي لا يشبه أياً من سجون المركز الأوروبي أو الجنوب العالمي، ذلك بأن المستهدف ليس جسد الأسير الفلسطيني فحسب، بل حواسه ووعيه وروحه أيضاً. فهدفُ العدو هو "إعادة صياغة البشر وفق رؤيا إسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما صهر وعي النخبة المقاومة في السجون"،[38] من خلال زجّهم في ورطة مشابَهةِ الواقع الذي خارج السجن عبر: القراءة الخطأ، والتعامل الأكثر خطأً مع العدو، والمعالجات التقليدية للقضية الفلسطينية الأم التي سالت تنافذياً بين داخل السجن وخارجه، فصارا واحداً. يحلل دقّة آليات الرقابة، والإخضاع، والسيطرة، والتنظيم، التي تتوسلها سلطات السجون الصهيونية (التي تُعتبر عالَماً مخبرياً مصغراً لفلسطين خارج السجون) من أجل كسر إرادة الفلسطينيين ضمن عمليات هندسة اجتماعية محكمة تتضمن ضرب بُنيتهم التحتية. وقد استخدم دقّة ثلاث مقاربات غربية لتوضيح هذا التمرئي للسياسات الصهيونية والاستجابة الفلسطينية لها خارج السجن وداخله، هي: عقيدة الصدمة والمراقبة والمعاقبة والحداثة السائلة.

 

المرئية رقم 12: وليد دقّة، سجن "هداريم"، المجموعة الثالثة، 2016.

 

وفي استكمال لتأمله في المشروع الاستعماري الصهيوني، والمقارنة بين السجون الصغرى في "الجغرافيا السادسة" والمعازل الكبرى في الجغرافيات الفلسطينية الخمس الأُخرى، يرصد دقّة النقلة التي حدثت في نظام السجن الصهيوني: من مراقبته للفلسطينيين إلى مراقبة الفلسطينيين لأنفسهم. وهنا، يتساءل عن المدى الذي بلغه انتقال نظام المراقبة والسيطرة الإسرائيلية من "نظام المراقبة الدائري (البانوبتيكون / Panopticon)" الذي ناقشه سابقاً في "صهر الوعي"، إلى "نظام الإغراء والإغواء (السينوبتيكون / Synopticon)" في "ما بعد صهر الوعي".[39] ويرى دقّة أن تفكيك المشهد الفلسطيني الراهن يشبه نزع العصبة الفعلية التي يضعها الصهيونيون على أعين المعتقلين، والعصبة الاستزلامية على أعين السياسيين الذين خضعوا لآليات "راقب نفسك بنفسك"، وساهموا في تكريس التحول من مراقبة الأقلية للأكثرية (سابقاً)، إلى مراقبة الأكثرية للأقلية (لاحقاً)، والذي تجاوز التنسيق الأمني فيه حتى صيغته التي نصّ عليها اتفاق أوسلو.

لم يرغب دقّة في طرح جديده بشأن زمان السجن ومكانه عبر عدسة المنظّرين الغربيين بقدر ما رغب في طرحها لمجرد المقارنة، وكذلك للمقارنة بين منظومات الإكراه الاستعمارية ومنظومات الصمود الأصلانية. وفي هذا السياق، لا يكتفي دقّة بتوصيف أثر منظومة السجن الصهيونية على حواسّ "الأصحاء" من الأسرى الذين خبروا تجربة السجن بجوارحهم كلها، بل يتجاوز ذلك أيضاً، إلى توصيف "الإحساس" بزمان السجن ومكانه من طرف الأسرى الذين فقدوا بعض حواسهم. وفي هذه الحالة، الأسرى الذين امتلكوا جميع الحواس، يشاركون إخوتهم ورفاقهم الذين فقدوا بعضها، "تَذَهُّنَهم" لزمان السجن ومكانه الموازيين قبالة زمان خارجه ومكانه الاجتماعيين.[40] هنا، يمشي الـمُقعَد، ويبصر الكفيف، ويسمع الأصم، وينطق الأبكم، بإذن الأسرى وإرادتهم. غير أن الأسير المكتمل الحواس ليس كائناً كليّ القدرة على استخدامها وهو في الزمن والمكان الموازيين على الرغم من إحداثيات الانفصام والانسجام التي تربطه بالمكان والزمان الاجتماعيين. وفي هذا الحالة، تتيح المخيلة للأسير، وربما تلزمه بأن "يرى" الأمكنة: لا فيما تفرضه خاصية التوازي الثنائية، بل فيما تتيحه خاصية التراكب التذرُّرية. 

التراكب Imbrication (2010 - 2023)

يحيل التراكب في مفهمة المكان لدى دقّة إلى رؤيته إلى السجن مثلما تبلورت في الفترة 2010 - 2023، بصفته "ملهى الإغواء والإغراء" الذي حققت فيه السلطة الاستعمارية الصهيونية ما لم تكن تطمح إليه حين صممت سياسات "صهر الوعي". وهي رؤية مركبة قائمة على وعي الأمكنة الفلسطينية في ظل الاستعمار الصهيوني والمسار النكبوي الذي عاشه الفلسطينيون منذ سنة 1948. يحاور دقّة في رؤيته إطارين نظريين للزمن الراهن: أحدهما أطروحاتنا عن "الزمن الموقوت"، والآخر أطروحة حسين البرغوثي عن "شعاع الزمن"، وعلاقة الذات بالمكان الذي تسكنه ويسكنها في جدل لا بدء له ولا انتهاء.

في "الزمن الموقوت"[41] بحثٌ عن سؤال الأزمنة الفلسطينية، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، في علاقته بمسارات التحرير انطلاقاً من الحدث المؤسس لهذه الأزمنة، وهي نكبة 1948 وامتداداتها. وقد أنتجت هذه الأزمنة خمس جغرافيات فلسطينية تشكّل أنظمة جيوسياسية لكل منها زمانه ومكانه، وهي: فلسطين 48، والضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس، والشتات، مضافاً إليها "الجغرافيا السادسة" وهي السجون الصهيونية.[42] يفعل الزمن في هذه الجغرافيات على نحو يجعلها تبدو أنظمة حرارية معزولة على الرغم من ارتباطها بماضي "الانفجار الفلسطيني الكبير" الذي ولَّدها في سنة 1948. وفي كل منها يتنازع زمنان: زمن الفاعلية الاستعمارية الثابت في إنتاج القهر، وزمن المقاومة المتغير في إنتاج الصمود. وحصيلة الزمنين هي "زمن موقوت"، قابل للانفجار مثلما يشير كاريكاتير ناجي العلي في المرئية رقم 13 التي تصف واقع الفلسطينيين بين الداخل والخارج. ولذا، فإن الزمن الفلسطيني يتوزع في ثلاثة مسارات قابلة للتحرير: الماضي العام؛ الحاضر الخاص؛ المستقبل الموازي. وفي كل من هذه المسارات، ثمة إمكان لإنقاذ الزمن الفلسطيني من الارتهان للزمن الاستعماري، لكن عبر إدامة خاصية "الموقوتية" في هذا الزمن، الأمر الذي يضمن عدم استقرار الفلسطينيين في الأنظمة الجيوسياسية المغلقة التي يعيشون فيها. وقد أنتج الفلسطينيون، بالهوية والهوى، مقولات نقدية لتحرير هذه الأزمنة: فقال فيصل درّاج بإمكان تحرير الماضي (في مسار الزمن العالمي العام) عبر عدم التورط في إعادة تاريخ المستعمِر الصهيوني وحاضنته الغربية. وقال إلياس خوري بإمكان تحرير الحاضر (في مسار الزمن الفلسطيني الخاص) بعدم تحويل المسار النكبوي للنكبة المستمرة إلى ذاكرة، بل تحويل تاريخ الفلسطينيين إلى تاريخ بإنهاء مظلمتهم التاريخية. وقال وليد دقّة بإمكان تحرير المستقبل بصفته "أقدم أسير عربي" (في مسار الزمن الموازي الذي خلقه الزمن العام في الزمن الخاص) عبر عدم جعل ماضي النكبة مستقبَلاً لأجيال حاضرها.

 

المرئية رقم 13: ناجي العلي، كاريكاتير (غير محدد المكان والتاريخ).

 

وفي "الصوت الآخر"[43] ومقدمته النظرية،[44] كثير ممّا نهل منه دقّة في مفهمة المكان في مرحلته المتأخرة بصفته "متاهة"، لا "مصيدة"، يشكّلها "إزميل الزمن". ففي مقالته "السيطرة بالزمن"،[45] يستثمر دقّة جينيالوجيا فعل الزمان في المكان وفي تشكيل الذات وإدراكها لذاتها لدى البرغوثي في ثلاث خطوات: من خطية الحسِّ (المصيدة)، إلى امتدادية الحدس (السلالة)، إلى سيولة التحول (المتاهة). في الخطوة الأولى، ينطلق البرغوثي من فهمه للزمن الديني على أنه إدراك الذات، عبر الحواس، لسهم الزمن المنطلق كشعاع من الماضي مروراً بالحاضر نحو المستقبل. وبذا، يخترق الزمن الأمكنة ويشكّلها، كما يشكّل الذات بصفتها مادة مكانية. أمّا الذات، فتتمركز حول إدراكها الخاص لثالوث الوجود المكوّن من الزمان والمكان والمادة. وبالتالي، فإن الوعي بالمكان، المتأثر بفعل الزمن في المادة، هو الذي يشكّل مفهوم المكان الذي ينحته إزميل الزمن. وفي الخطوة الثانية، يتجاوز البرغوثي إدراك المكان عقلياً، أي بالحواس، إلى إدراكه روحياً، بالقلب. وهنا، تتناسخ الأمكنة من خلال تواصل سلالة الذات (من الجد إلى الابن إلى الحفيد على سبيل المثال)، لتعيد سيرة المكان باستنساخ سيرورة الزمان فيه. وهذا ما يفسر مقولة البرغوثي "مَدِّ الزيتون في الزيت"،[46] أي تجاوز التزمين والتمكين نحو استعادة إدراك الذات للمكان نفسه، وإن تغاير الزمان. وفي الخطوة الثالثة: يشتت البرغوثي مفهوم المكان كلياً حين يصف الذات الواعية بذاتها بأنها "مركز السراب" الذي يصير فيه "الجسد مصيدة للروح" بعد أن كان المكان "مصيدة للجسد".[47] وبذا، فإن إدراك الذات للمكان إنما يستند إلى "وهم الجهات"، ذلك بأن الجهات غير موجودة فعلياً إلّا بصفتها تشكيلات ذهنية صنعتها الذات لتحديد موقعها على خريطة الوجود. وبالتالي، فإن من السهل فقدان إدراك الإحساس بالجهات حين لا تتعرف الذات على معالم المكان في لحظة معينة،[48] وهنا تنجز الذات تحولاتها، وتصير جغرافيات المكان "مرايا سائلة"[49] تسيل الواحدة في الأُخرى على مرأى من الزمن ومفاعيله.

في الأمكنة المتراكبة وأزمنتها تنفصل الذات عن الأمكنة والأزمنة، ولا تنفصم مثلما هي الحال في الأمكنة المتراصفة. وعلى ذلك، فقد قال دقّة، أولاً، بتعدد الجغرافيات الفلسطينية واختراق الزمن الاستعماري لتشكيلاتها. وقال، ثانياً، بفاعلية الأسير الفلسطيني وصموده الذي يساهم في تشكيل فضاء للحرية خارج عنف السلطة الاستعمارية في السجن الأصغر أو السجن الأكبر. وبالتالي، فإن عنف النظام الاستعماري في السجن وخارج السجن يستند بشكل مباشر إلى توظيف الزمن لغرض السيطرة، وذلك على الرغم من وعي دقّة للفروق الصغيرة بين أنماط العنف وفواعله في الأمكنة المسيطر عليها استعمارياً.[50]

لقد صاغ دقّة مقولته عن "السيطرة بالزمن" بصفته أداة تحكُّم في يد الاستعمار الصهيوني، وهو في السجن الأصغر - "جلبوع" القابع في بيسان المحتلة، قلب السجن الأكبر - فلسطين.[51] وبينما يقرّ الجميع باختلاف الأمكنة في اللحظة الواحدة، يعتقد دقّة باختلاف الأزمنة في "المكان الواحد". ولذا، فإنه يقرأ تشكُّل الذات الفلسطينية، وبصورة أكبر ربما الهوية الفلسطينية، في تعدد الأمكنة التي يخترقها "شعاع" الزمن أو "إزميله" الذي تحاول سلطة الاحتلال احتكاره للسيطرة على الفلسطينيين في أمكنتهم المقطَّعة، وأزمنتهم التي تسعى لتقطيعها، مثلما جاء في "صهر الوعي"[52] و"احتلال شمولي".[53] هنا، يبيّن دقّة ما الذي يحدثه "إزميل الزمن" في نحت الهوية الفردية والجماعية للفلسطينيين من ناحية، ويتأمل أنماط العقلانية المقاوِمة التي أظهرتها إرادة الأسرى المحكومة بالأمل من ناحية أُخرى - بدءاً من الإضراب عن الطعام، وانتهاء بمواجهة سياسات "الأخ الكبير" التي تمارسها إدارة السجون الصهيونية، والواقعية السياسية التي تمارسها الرسمية الفلسطينية. ولا يكتفي دقّة بالتوصيف، بل يقول إن تذرُّر المكان الفلسطيني في خمس جغرافيات فلسطينية في فلسطين التاريخ والشتات، مضافاً إليها السجون بصفتها "الجغرافيا السادسة"، يجب أن يحمل الفلسطينيين في كل منها على رفض مبدأ العقلانية الذي يطبِّع الهزيمة، وتجاوزه نحو مبدأ اللاعقلانية الذي ينتج المواجهة.

يدشّن دقّة هذه المقولة التي تفضي إلى ما وسمته هذه الدراسة بـ "المكان المتراكب"، منطلقاً من خمسة مبادىء في وعي: الهوية، والزمان، والمكان، والذات، والمقاومة. الأولى، أن مركزية الإحساس بالزمان والمكان تأتي من كونهما وعاء تشكيل الهوية الفردية وإطار الهوية الجماعية. فالزمان هو إزميل الهوية التي تنقشها الذات في المكان، وبقدر ما تسيطر الذات، فردية أو جماعية، على هذا الإزميل، بمقدار ما تترك أثراً فيه. وبذا، يغدو التمايز الحضاري مجرد اختلاف في قدرة الذات على التحكم في الزمن في أمكنة الذات وأمكنة الآخرين، أي في مراياهم الحضارية. الثانية، أن الوعي الإنساني كلِّي، ويتجاوز الإدراك الحسّي بالعقل نحو الإدراك الحدسي بالقلب، بينما تُتِم الروح مهمة نقض ثنائية "الواقع" و"المثال"، أي نقض الإحساس بالمكان ووعي المكان. وبالتالي، فإن تقسيم الزمن إلى وتائر متفاوتة وتقسيم المكان إلى وحدات متنوعة (بين السجن الصغير بين "خيام" سجن النقب و"غرفه"، أو بين "رام الله المفتوحة" و"غزة المحاصرة") يكرّس الواقع السياسي والقانوني في هذه الأمكنة. الثالثة، أن تجربة السجن تحيل إلى أن الأماكن بوتائر زمنية متنوعة تصنع هويات متعددة حتى لأبناء الشعب الواحد. وهذا ما يسعى العدو للتدخل فيه وبرمجته من خلال تقطيع الأزمنة والأمكنة وعزلها. فالأماكن لا تُدرَك من طرف الذات إلّا بوحدات الزمن التي تمنح الأماكن معانيها فيما تتركه من نقوش فيها، أي عبر ما تخلقه فيها من تمايز هويّاتي. الرابعة، أن العدو يتخذ من السجن الأصغر مختبراً للتلاعب في صناعة هوية الفلسطينيين الفردية والجماعية في السجن الأكبر، فيعمل على تشويه صورة الأسير بتشييئها في مرآة نفسه (أي رَضِّ فاعلية الفرد في تشكيل هويته في السجن الأصغر). وحين ينجز هذه الإبادة الفردية في حقّ الأسير جسدياً، يعمل العدو على استنساخ ذلك في مرآة الجماعة الوطنية بتشتيتها (أي رَضِّ فاعلية الجماعة في تشكيل هويتها وإبادتها سياسياً في السجن الأكبر). الخامسة، أن العدو يحاول السيطرة على الجغرافيات الست، غير أن مقاومة هذه السيطرة يجب أن تنبع من المشترك الوطني الذي يجعل للفلسطينيين إرادة هوية جامعة. وهذا المشترك، الذي تلونه المعاناة، يجب ألّا يستند إلى عقلانية الموضوعية (ثقافة الهزيمة)، بل إلى لاعقلانية المواجهة (ثقافة الانتصار).

لقد عبّر دقّة عن هذا التراكب المكاني في لوحة رسمها في سجن عسقلان، وحاول من خلالها رسم الزمن على شكل رحلة بصرية لعين تحدّق في أمكنة فلسطين التي سيطر عليها العدو أو كاد. وهذه الرحلة - القصة هي مجاز بصري، ومدخل تحليلي، لعلاقة الأسير الفلسطيني في السجن الصهيوني الصغير بسجّانه، وفي خارج السجن، سواء في السجن الكبير – فلسطين، أو ما وراء فلسطين. وخلال حديث دقّة عن المرئية رقم 14، فإنه يصفها بأنها تصوّر أسيراً في زنزانة على شكل دائرة، والدائرة هي ساعة بلا عقارب. يجثو الأسير على ركبتيه، وينظر إلى فتحة في أرضية الزنزانة - الساعة ويرى تحتها ساعة أُخرى بعقارب متعرجة، لكنها موجودة على الأقل. وهذه الساعة هشَّة، وشفافة، وإن علاها الغبار، وتُفضي إلى ربع دائرة تحتها، هي ساعة ثالثة، بعقارب منفلتة، ودائرة غير مكتملة. أمّا أفق اللوحة، فوعد بالحرية على شكل شمس.[54] حينها، لم تكن اللوحة قد تحررت من السجن بعدُ، لكننا توصّلنا إلى قواعد مبدئية لفك شيفرة اللوحة التي تحتوي على أربعة أنظمة من الزمان والمكان، هي: الساعة - الزنزانة التي من دون عقارب، هي زمان الأسر ومكانه وإنسانه، أي سجون العدو الصهيوني حيث يقيم دقّة ورفاقه؛ والساعة الشفافة الهشة التي يعلوها الغبار، وذات العقارب المضطربة، هي زمان دولة الاستعمار الصهيوني ومكانه وإنسانه الذي وحّشته الصهيونية؛ والساعة غير المكتملة، والمنفلتة العقارب، هي زمان السلطة الفلسطينية، ومكانها، لكن ليس إنسانها بالتأكيد، فهي ساعة مقاطعة رام الله، وزمنها الرديء، وسياساتها الأردأ؛ أمّا ساعة الساعات، فهي الشمس التي تعبّر عن زمن الحرية ومكانها وإنسانها. وقد عملتُ، بعد تحرر اللوحة الفعلية، مع الجغرافي والمعماري سمير حرب على محاكاة اللوحة بالاستعانة بتوصيفها الصوتي والكتابي من طرف دقّة، في المرئية رقم 15.

 

المرئية رقم 14: وليد دقّة، سجن عسقلان، المجموعة الخامسة، 2022.

 

المرئية رقم 15: سمير حرب، برلين، محاكاة معمارية، 2023.

 

وعلى الرغم من التراكب الذي تحيل إليه هذه الأنظمة الزمانية - المكانية الأربعة، أي السجن والمستعمرة والسلطة والحرية، فإن كلاً منها، وخصوصاً السجن، يشتمل على مجازات متعددة، وهي متراكبة بدورها داخل النظام الزمني - المكاني الواحد. فالسجن تتراكب فيه أمكنة مجازية، غير الزنزانة وصالة الزيارة وساحة الفورة، كالكهف والمغارة، والمرصد والمنارة والبوصلة.

ولعل أبلغ مجاز دشّنه دقّة هو مجاز "رجل الكهف"[55] الثيولوجي لا الأنثروبولوجي، غير أن الفرق التراجيدي بينه وبين "رجل الكهف" الديني هو أن دقّة لم ينم في سجنه، وإنما حافظ على حالة صحو نادرة قوامها النظر والتنظير. فعلى امتداد نحو أربعة عقود، اتخذ دقّة من ثبات "الموقع" (السجن) رصيداً لدوام الحركة (خارجه) عبر فاعلية الإنتاج الإبداعي بمختلف أنواعه، مع محافظته على حلمه بألّا ينسى، ويحاذرُ كابوسَه بألّا يُنسى.[56] "رجل الكهف" لدى دقّة هو قناعه لنفي القدرة على استيعابِ جديدِ الزمن الاجتماعي الذي فات الأسيرَ وهو قابع في زمنه الموازي، لكن "رجل الكهف" كذلك هو مجاز دقّة للقول أنه ينتمي "لعصر مضى"، وغريب عن "عصر حاضر" وفاعل في "عصر سيأتي". وكي لا تتحول فاعلية ذات الأسير إلى لغز بين هذه "العصور"، يستدرك دقّة بالقول أنه، كأسير، اكتسب بعض سمات الكائنات الماورائية، كالملائكة والشياطين والجن، والتي في وسعها أن تكون "هنا وهناك في آنٍ واحد." غير أن لرجل الكهف، في الماوراء الذي هو السجن، فضيلة على الرجل الموجود خارج الكهف، ذلك بأنه لم يفقد إحساسه بالمكان نتيجة تكاثر العوالم الافتراضية التي تلاعبت بمفهوم المكان والزمان. لكن الأهم من ذلك هو أنه لم يفقد منظومة القيم التي لوّثتها تلك العوالم التي تحوَّل حرمان الأسير منها من نقمة إلى نعمة.

غير أن هذا "الكهف" السجني، على الرغم من "فضائله" النادرة، تحوّل بفعل سياسات "الأخ الأكبر" في المراقبة، وسياسات "صهر الوعي" في المعاقبة، وسياسات "الإغواء والإغراء" في المحاسبة... إلى "مغارة ضباع" أو "موتشره" مثلما يسميها الفلسطينيون. ففي السجن الصهيوني ما بعد الحداثي، تتضافر هذه السياسات للسيطرة على الحركة الفلسطينية الأسيرة التي تفككت عُراها في السجن الأصغر (في محاكاة لما جرى في السجن الأكبر)، ولا يغدو في وسع الأسير إلّا القتال الفردي للحفاظ على فردانيته، كذات إنسانية وكذات وطنية في آنٍ معاً.[57] أي أن الأسير لا يغدو قادراً على التفريق بين السجّان الصهيوني الذي يحمل الهراوة والغاز والصاعق الكهربائي والبندقية، وبين رفيق القيد الفلسطيني في الأسر والمستعد للتواطؤ المقصود (بصفته أحد أفراد جماعة "الكابو") أو غير المقصود، مع إدارة السجن (بصفته من المنتفعين من امتيازات نظام "ملهى الإغواء والإغراء"). وهنا، تتحول المقولة اللاتينية الشهيرة "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان" (Homo homini lupus)، لتصير في الممارسة الفلسطينية "الأسير ضبع لأخيه الأسير". وفي الثقافة الشعبية الفلسطينية، تقول المروية الشهيرة إن الضبع يضبع ضحيته، بعد أن يبول على وجهها، فتنضبع، وتتبعه، وتقول للضبع: "يابا". يقتاد الضبع ضحيته مسلوبة الإرادة إلى "الموتشره"، ولا تنتبه الضحية إلى بؤس مصيرها إلّا حين يرتطم رأسها بباب "الموتشره"، فيسيل دمها، وربما يلتهمها قبل أن تتمكن من الصحو والفرار. ولعل هذا المجاز هو من أبلغ ما قيل في الربط بين استحواذ المتنفذين في الحركة الوطنية الفلسطينية على السلطة، واحتكار "شرعية" القيادة، وممارسة سياسات "التنسيق" مع العدو في السجن الأكبر، و"التفاهم" معه في السجن الأصغر.

وفي مقابل "الكهف" و"الموتشره" كثنائية للنظر الأفقي إلى حال الحركة الوطنية الفلسطينية، الأسيرة والتي خارج الأسر، يقترح دقّة ثنائية للنظر العمودي هي "المرصد" داخل السجن و"الفنار" خارجه، وهما "جهازا" نظر جماعيين، أو يفترض أن يكونا كذلك. غير أن هذين الجهازين، المرصد – بصفته نقطة ثبات لمَن هم على الأرض، والفنار – بصفته نقطة ثبات لمَن هم في البحر، أصابهما العطب والصدأ، وتوقفا عن أداء ما أُنيط بهما من مهمة في إرشاد الجماعة الوطنية حين "غرقت الفكرة عن الثبات"، أي حين غرقت منظمة التحرير الفلسطينية في مستنقع السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو. وهنا، تحولت مهمة التحرر الجماعي إلى الخلاص الفردي، فاستعاض كل من أفراد الحركة الوطنية الفلسطينية عن المرصد والفنار الجماعيين، ببوصلة فردية، أو GPS الثقافة.[58]

وقد طور دقّة من هذا المجاز الجارح، موقفاً سياسياً من تكلّس أطر منظمة التحرير الفلسطينية التي أعطبتها السلطة الفلسطينية. يقول: "لم تكن الفنارات غاية السفن، ولم تعد تُستخدم لتؤشّر لها موقعها في البحر، لا سيما في زمن يَستخدم فيه البحارة نظام الـ GPS وتقديراً لها، ولهذه الحقبة الزمنية من تاريخ الإبحار، حولتها شعوبها، في بعض البلدان، إلى متاحف أو مقاهٍ يطل منها محتسو القهوة على زبد الموج دون أن يتعرض للبلل، فهي تبقى أقرب نقطة للبحر، لكنها أبعد نقطة لدخوله. في وطننا، تصر الفنارات على أنها غايتنا، رغم أنه لم يعد هناك مَن يسترشد بمؤشرها المعطَّل، إلّا إنها تطل من حين لآخر وتضيء على البرج معلنة أنه (لا جديد تحت الشمس)، فالبحر هو البحر. وتذكِّرنا بـ (العاصفة) و(الصاعقة)، بنفس اللغة الخشبية. وربما كانت خشبية الخطاب في زمن من الأزمنة، قبل اكتشاف بعض المعادن، ضرورية لاكتشاف ملوحة البحر حتى لا ينال منها الصدأ. لكن، ماذا بشأن التكلُّس الأخلاقي؟ في زمننا، فناراتنا تكلّست فَصَّالات مداخلها، وعند بواباتها الأيديولوجية الموصدة بالمصالح التي جزأت البحر إلى بحيرات، تقف طوابير من الشباب والشابات، تمتلك المهارات والخبرات، وتنتظر فرصتها في تحديث البرج بمفردات خطاب عصرها وهمومها، أو ربما بنظام الحاسوب على أمل أن يظهر المستقبل على شاشته. لكن فناراتنا ترفض إحالتها إلى التاريخ، وتعاند منطق الطبيعة والحياة، وتصرّ أن يبقى ماضيها حاضرنا المستمر، فلا بد، بالرغم من ذلك، من البحث عن المستقبل. لكن في هذه الأثناء، وإلى حين أن نطلق قمرنا الصناعي الخاص، سنهتدي إلى فلسطين الوطن بـ GPS أخلاقي، تحمله كل شابة وشاب بوجدانه وإحساسه الطبيعي بالعدالة، ويحمله كل فلسطيني في عقله وقلبه أينما وُجد."[59]

لكن دقّة، على الرغم من ذلك، لا يكفّ عن رسم الأمل، إذ يحلم بمرآة وطنية نرى فيها أنفسنا، مرآة غربية ومتغايرة عن تلك التي بشّر بها فلاسفة الاستعمار، بل مرآة شرقية ثابتة كالتي بَشّرت بها الآلهة اليابانية، قادرة على مقاومة شاملة لاحتلال شمولي. وبما أن الفلسطينيين لم يحظوا بآلهة تمتلك السيف والجوهرة والمرآة، كآلهة اليابانيين، كناية عن القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والقوة المعرفية،[60] فإنهم يقومون على الأقل، بتدشين مرآة ثقافية صقيلة تمكّنهم من رؤية الذات على طريق نقدها. 

وليد دقّة: المشهد والمشاهد

من خلال قراءة مفاهيم التراصف والتوازي والتراكب، يمكن القول إن السجن كفضاء، بالنسبة إلى دقّة، لا ينقطع عن مفهومه للزمن، بل هو مولِّد له ولغيره من المفاهيم. والذات هي محور المفاهيم كلها حين يفصل السلكُ الشائك، أو الشبكُ، أو الزجاجُ، أو جسدُ الحارس، الأسيرَ عن العالم الخارجي، وعن القاطنين خلفه. لكن السجن، كذلك، هو مكان للتأمل في المعاني الإنسانية بعيداً عن مادية السجن الفعلية أو المتذَهَّنة. فالسجن هو أن تدرك أن السبيل إلى هزيمة المكان والسجّان والزمان الاستعماري إنما يتجلى في تعرُّفك إلى إنسانيتك، وهي، للمفارقة، الإنسانية التي تتأمل في إنسانية الآخر الصهيوني الذي توحّش، لكنه لم يفلح في توحيش ضحاياه الفلسطينيين الذين دافعوا عن إنسانيتهم التي حيّدها جلادهم خلال المعركة. وهي المقدرة الدائمة على استنفار الأسئلة من دون استنفاد الأجوبة، واقتراب من حافة الهاوية للنظر لا للسقوط.

وفي مفهمته للمكان، يتأمل دقّة أحد أكثر أسئلة الحداثة إلحاحاً: لماذا تتخلف القيم على الرغم ممّا تشهده الحياة من شبهات التقدم التكنولوجي، وليس التقدم إلّا أسطورة الغالبين؟ ويقارب هذا السؤال بمزيد من الأسئلة من السجن مؤكداً أن السجن منطقة حسمٍ لا تحتمل الوسطية، ولا تتحقق معه المألوفية مع الرمادي، إذ السجن منطقة النقيض للعادي والطبيعي والسوي: زماناً، ومكاناً، وإنساناً؛ نقيض لمبدأ الحرية، جملة وتفصيلاً. السجن مكان محض لا يتحول إلى فضاء إلّا بمهمات الأسير المستحيلة، وهي الألم والأمل والتأمل في فقدان التواصل مع الخارج، إذ يبقى "السجن واقعاً عنيداً لا يحتمل الوسطية مصبوغاً بالأسود والأبيض مقسماً لخير وشر: مَن هم خلف القضبان ومَن هم خارجها، مَن هم معنا ومَن هم ضدنا. إن عالم السجن وإن كان يبسط تعقيدات حياة وواقع بعينه، لكنه ليس بالضرورة يخلق فهماً للحياة. فنحن في السجن لا نعرف الفصول الوسطية ولا نراقب تساقط أوراق الأشجار في الخريف، ولا نشم شذا زهر اللوز في الربيع."[61]

وعلى الرغم من سوداوية دقّة المبررة، فإن ولادة ابنته ميلاد جعلت للفصول معنى آخر. فقد ظهرت ميلاد في أعماله النقدية والسردية والفنية، فلوّنت السجن، وأعادت إلى اللوز زهره. لكن ملاحقة الطفل الذي في وليد، والطفل الذي من وليد (ميلاد)، لم تتوقف، لا في السجن ولا خارجه. ففي 5 شباط / فبراير 2023، كان من جملة التفصيلات المروّعة لاقتحام قوات الاحتلال بيت دقّة في باقة [الغربية]، والذي تسكنه زوجته سناء سلامة وابنتهما ميلاد، أن ميلاد دافعت، بالصراخ والبكاء، عن حِليّها التي صادرها الجنود الصهيونيون اعتقاداً منهم أنها من الذهب. لقد صادروا ممتلكات العائلة، ومنها "ممتلكات" طفلة من نطفة محررة كانت قد أكملت لتوها عامها الثالث. وكانوا قد صادروا قبل ثلاثة أعوام رسومات حِليّ، خواتم وحلق وأساور، رسمها والدها خلال عزله الانفرادي في سجن "جلبوع"، في ربيع سنة 2020، عقاباً على إنجابها، وكان يستدعي بها حِليّ أمه التي ظل يرسم وجهها كي لا يدركه توحّش النسيان في العزل. واستناداً إلى وصف استرجاعي لتلك الرسومات، وبعد عدة محاولات، تمكّن فنان الكاريكاتير محمد سباعنة من محاكاة بعض الرسومات المصادرة، والتي تضمنت واحدة تمتنع فيها ميلاد من العزف، بعد تحرر والدها، احتجاجاً على بقاء أسرى آخرين في السجون مثلما نرى في المرئية رقم 16 من رسم دقّة، وفي المرئية رقم 17 من رسم سباعنة. صادر الغزاة معظم الرسومات، لكن ما نجا منها أتاح بعض الأمل في المقارنة، والمقاومة، إذ لن يصادر الغزاة الخيال، ولا الموسيقى، ولا قدرة الفلسطينيين على "الغناء لأوقات الظلام."

 

المرئية رقم 16: وليد دقّة، سجن "جلبوع"، المجموعة الرابعة، 2020.

 

المرئية رقم 17: محمد سباعنة، رام الله، استعادة ذهنية، 2021.

 

يتساءل دقّة إن كان ثمة لوز في السجن ليزهر، وإن كان لا يزال يزهر في الربيع، وإن كان ثمة فصل للربيع الأنطولوجي بعد 38 عاماً على رحيل الربيع السيكولوجي، وهو بذلك إنما يدلف إلى سؤال فلسفي أعمق: أين اختفى ربيع الإنسانية؟ وأين اختفت منظومة القيم التي دمرها تقدُّم حداثة الغالبين، وفوات حداثة المغلوبين؟ ففي ظل تغيّر قيم العالم الخارجي، لم يتطور عالم الأسرى القيمي بما يتلاءم أو يوازي تطوره خارج الأسر، وقد رأى دقّة في ذلك ما يمكن أن نطلق عليه نعمة التخلف: "لقد تخلّفنا فتخلّفت قيمنا. لكنني عندما أنطلق من حين لآخر نحو عالم مَن هم خارج الأسوار أحس بأن تخلفنا نعمة حمانا من انهيار عالمنا القيمي."[62] ولذا، يتساءل دقّة إن كان يكتب بفعل رهاب الحداثة وإرهابها الذي زجّه في سجن عدوه حين مارس واجبه في المقاومة لانتزاع حقه في حريته، إذ "عندما تغيب الحرية، نتلهّى بالخوف منها." لكن الأمر بالنسبة إلى الحركة الفلسطينية الأسيرة يتجاوز ذلك بتصعيد إضافي ضمن "عالم الحقائق المطلقة" الذي كوّنته الحركة على امتداد نصف قرن من الزمان، غدت فيه "أيديولوجيا المواجهة" مع العدو مقبرة لـ "قيم المواجهة" مع الذات.

يواصل دقّة الأسئلة عمّا إذا كان الاحتلال وسياساته شرطاً لوجود حياة قيمية ونضالية لضحاياه، أم إن منظومة القيم والأخلاق تنشأ بمعزل عن الواقع المادي. وحين تستعصي الإجابة، يحيل دقّة نفسه وقارئه إلى مكان موازٍ، مؤكداً أن السجن، الأصغر والأكبر، على حدّ سواء، يحفّز على "دفء الإجابات" إذا ما انشغل المحاصَر أو الأسير بالذات التي يمليها المستعمِر والسجّان على الواقع، فيدفن بها ذاتَ المستعمَر وينتصر عليه. أمّا انتصار الفلسطيني، فيحدده دقّة بقدرته على الاستمرار في السؤال، إذ "في حالة السجن كما في حالة الحصار، قمة النضال هو أن تبقى قادراً على السؤال، وأن تكون مستعداً حتى للنوم في فراش أسرك."[63]

في السجن واقع موازٍ، بإنسانه ومكانه وزمانه، يحمل الأسير الفلسطيني على تأمل كل شيء، حتى ظله الذي يغدو مكاناً. ودقّة لا يحاور الظل على أرض يدوسها، لأنه لا يملك ترف السير على التراب منذ نحو أربعة عقود،[64] كما أن ظلَّه طفل معاند يحرس الذاكرة من الخلخلة، ولم يتقدم في السن ثانية واحدة، إذ هو الحلم، والأحلام لا تشيخ، ولا تموت، وهي علّة أولى، لذاتها ولصاحبها. لكنه من ثنائية العمر والأسر، التي تحيل ذاته وجسده إلى حيّز الترادف بين العمر والأسر، يحاول دقّة نفي ما يمكن أن يعلق بالمقولة الفلسفية في تأمله من نرجسية، أي يحاول إفراغ ذاته الأنطولوجية - الشاغرة من أناه السياسية - الشاعرة، وإدراك الفرق الخالص بين الاثنتين، وهو الفرق الخالص بين جسد تثنيه الثواني وظلٍّ عَصيّ على الانثناء حين تكون الروح مرآة الذات والآخر. "قلت أنني صقلت زجاج روحي، وأتحت للنور أن يعبرني، تقشّرتُ من جسدي الذي خرجتُ منه وتأمّلتُني، كنتُ المشاهد والمشهد، الذات والموضوع في الوقت نفسه. لم أكن أنا، لكنني لم أكن الآخر، أو كنت في الحقيقة اللا - أنا... كنت في الحقيقة اللا - أنا حتى تمكّنت من التسلل بين الأنا واللا - أنا والتقيتُ بروحي."[65]

في هذه المحاورة، الأقرب إلى المساررة، يستدعي دقّة الذي يتساءل عن البحر واللوز والتراب، بمعانيها الحسيّة لا الأيديولوجية، فالشعرية الخالصة في العودة إلى "مرحلة المرآة" في سياق استعماري أحدث رضّة قاسية في جسد الطفل وجسد الظل، والجسد – الطفل - الظل الذي يُجري المساررة مع نفسه في كرنفال تأملي مهيب في ساحة السجن وقت الفورة. لكنه، مع ذلك، يُنصّب ذاته - الشاغرة (الأنطولوجية) حَكَماً بين الجسد والظل، الصديقين اللدودين في ذاته - السياسية الشاعرة، في حوارية رهيفة فحواها أن الظل ينكر الجسد الذي شكّله وجودياً، ونفاه سياسياً، حين صار من موجودات الزمن الموازي، وصيّر الظل شاهداً عليه، وشهيداً معه. وهنا، ينقلب الظل على صاحبه، وينكره: "مَن أنت؟ أنا لا أعرفك"، ويعيده ستين عاماً إلى الوراء، ولا يقبل اعتذاره، ويصرّ على أنه لا يريد أن يعرفه لأنه عطّل أحلامه ومستقبله، وتركه وحيداً.

لا تقتصر المساررة على عتاب الذات - الظل لصاحبها - الجسد، بل تمتد إلى نقد سياسات الأمل المؤدلجة التي لا تعدو كونها "أوهاماً يرسمها عقله المحموم"، وإلى نقد أيديولوجيا الصبر، إذ يعاتب الظلّ صاحبه: "لقد سبق واخترتَ طريقك، وطريقك قادتك إلى هنا، إلى العزلة والسجن، عليك أن تتوقف عن مثل هذه الأحلام، فأنت تعاود مرة أُخرى لتعذبني بأحلامك."[66] لكن الذات - الجسد تكابر، مكابرة العارفين الذين يؤدلجون الحسرة، ولا يستوعبون التفريق بين القدرة على اختيار الطريق والتسليم بالمصير بصفته قدراً. أمّا ظل - الذات، فيصرّ على أن الأيديولوجيا هي خيار وليست قدراً، كما أنها وهم يصطنعه العقل البشري لتحقيق التوازن بين الإدراك والواقع في الحلم والحقيقة، وذلك في إطار العتاب المرّ للذات - الجسد على خيارها الذي أوصلها إلى السجن، وجرّ معها ظلّها، ولم تفدهما الأيديولوجيا إلّا في تجنّب الانتحار، لأنها زودتهما بجنّة طوباوية يمكن فيها تحقيق التوازن بين العقلي والنفسي.

تتواصل هذه المساررة التي يشفق فيها دقّة على ظله، ويراه طفلاً يجب عدم كسره، غير أن الظل - الطفل يدافع حتى النهاية عن صوابية رأيه، ويسخر من صاحبه، بل يرفض السير معه، كما يرفض محاولات نبش ذاكرته المؤلمة في حيّز السجن الذي أول ما يُصادَر فيه هو طيبة الأسير وبراءته قبل اسمه وفردانيّته وحرّيته في كل شيء. وفي هذه اللحظة التي تشهد هدنة إكراهية بين الظلّ - وصاحبه، يقطع السجّان الصهيوني الأرعن، ذو الثمانية عشر عاماً، مساررة دقّة مع ظله ليعيد الرجل وظله الطفل إلى الزنزانة من دون أن يمنع دقّة من التأمل في المفارقة الساخرة التي تجعل السجّان أسيراً للسجين من خلال مراقبته له، ومزاملته له أنطولوجياً في سجنه، وأنه حين يقيّد الأسير، فإنما يقيّد نفسه كذلك في "المرايا السائلة" بين الفاعل والمفعول.

سألت دقّة مرة إن كان في السجن أي شيء جميل، فرد بسخرية العارف إن الجمال الوحيد هو كسر رتابة القبح: "الجميل في السجن هو كسر المألوف، أو 'السيمتري'. 'السيمتريا' مسيطرة على الزمان والمكان، التوازي، التناسق، التشابه الزماني والمكاني متعب للعين ومرهق للروح. كسر هذا كله به جمال، وبه تحدٍّ، وأشعر بلحظة الانتصار، وبأن في القبح جمال. اللحظات، أو الجماليات قليلة بقلّة السعادة والفرح، لكنها سعادة نظيفة طاهرة. جَلْب القمر لساحة السجن، أو الأطفال إلى الزنازين، هو تحدٍّ لوحشية هذا المكان، كسر للمألوف به. أن تبني حمامة عشها عند شباك زنزانتك، أن تقيم علاقة صداقة مع هرّة عبر الشباك، جميعها جميل. لكن هذا الجميل لما أعرناه انتباهاً بدون القبيح - السجن."[67] إن قهر الجمال للقبح هو انتصار روحي للذات أولاً، وللجمال ثانياً... غير أن الجمال، مثلما جاء في مقولة شهيرة، لن ينقذ العالم، بل يحتاج إلى مَن ينقذه. وكي ننقذ الجمال لا بد من أن نتأمل في مجازات صانعيه ممّن أحسنوا التنقّل بين العربة والمحطة.

إن السجن ليس مكاناً موازياً في تجربة دقّة الأنطولوجية والفكرية فحسب، بل هو أيضاً عتبة، محطة بينية هو فيها "بائع تذاكر" يتقن مراقبة ذاته ومراقبة مُراقِبه، أي أنه يتقن مراقبة المراقبة ويمارسها.[68] ففي قصته القصيرة "بائع التذاكر" ومخطوطتها في المرئية رقم 18، ينفذ دقّة إلى عمق المأساة الفلسطينية في أزمنتها غير السعيدة، وهو يرقب من شباك المحطة الدائمة - السجن (وحدة الزمن التي تجمدت في المكان، وتجمّد فيها)، من خلال مجاز "بائع التذاكر" الذي لا يهجو السفر، ولا يلعن انحناءات المسافرين أمام شباك التذاكر كشرط للسفر، بل يرثي لحال المسافرين الذين أخطأوا وجهتهم لأنهم اختاروا طرقاً معبّدة صنعها غيرهم لهم، فقادتهم إلى الهاوية… هو في المحطة، وعلى جانبه واقعان: واقع السجن الأصغر الذي صار هو ذاته وحدة الزمن فيه، وواقع السجن الأكبر الذي لم يعرفه تماماً وإن عرف وجه مسافريه وقِيَمهم وغاياتهم، وهو يقول للمسافرين وللمقيمين ما قاله جدّه الصوفي: "وقتكم يمضي، ووقتي ما له طرفان."

 

المرئية رقم 18: وليد دقّة، سجن "جلبوع"، مخطوطة، 2017.

 

المصادر:

[1] وليد دقّة، "نفايات الكلام" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2017).

[2] اللوحة 21 المشار إليها في هذا الاقتباس هي المرئية رقم 8 في هذا الدراسة.

[3] وليد دقّة، "رسالة رفيق: إلى عبد الرحيم الشيخ" (سجن "هداريم"، 17 حزيران / يونيو 2019).

[4] المصدر نفسه.

[5] المصدر نفسه.

[6] المصدر نفسه.

[7] للاطلاع على ما نُشر من مشروع "الوعي الموازي" في فكر وليد دقّة، انظر: عبد الرحيم الشيخ، "مورفولوجيا فم الذئب: وليد دقّة (1961 – 2021)"، "مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية"، العدد 39 (شتاء 2022)، ص 173 - 210؛ عبد الرحيم الشيخ، "الزمن الموازي في فكر وليد دقّة"، "المجلة العربية للعلوم الإنسانية"، السنة 39، العدد 155 (صيف 2021)، ص 271 – 308؛ عبد الرحيم الشيخ، "الشهداء يعودون إلى رام الله"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 133 (شتاء 2023)، ص 128 - 155؛

Abdul-Rahim Al-Shaikh, “The Parallel Human: Walid Daqqah on the 1948 Palestinian Political Prisoners”, Confluences Méditerranée, vol. 117, no. 2 (2021), pp 73-87.

[8] دقّة، "رسالة رفيق..."، مصدر سبق ذكره.

[9] على الرغم من حضور تجربة الأسر في مفهوم التراصف، كون السجن هو أحد الأمكنة الثلاثة التي أمضى فيها دقّة الردح الأطول من حياته، فإنها كتجربة وجودية سيتم تفصيل القول فيها ضمن مفهومَي التوازي والتعاقب.

[10] انظر: حسين البرغوثي، "الفراغ الذي رأى التفاصيل"، تحرير وتقديم مراد السوداني (رام الله: دار البيرق العربي للنشر والتوزيع، 2006)، ص 81 - 103؛ إدوارد سعيد، "الثقافة والإمبريالية"، ترجمة كمال أبو ديب (بيروت: دار الآداب، ط 4، 2014)، ص 73 - 127.

[11] وليد دقّة، "رياحين الشباب.. بين مفاصل صخر الدولة العبرية" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2002 - 2022).

[12] وليد دقّة، "حكاية سر الزيت" (رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، 2018)؛ وليد دقّة، "حكاية سر السيف" (رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، 2021)؛ وليد دقّة، "حكاية سر الطيف، أو الشهداء يعودون إلى رام الله" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2021).

[13] وليد دقّة، "حرّر نفسك بنفسك"، "صحيفة الحدث" (16 نيسان / أبريل 2020)، في الرابط الإلكتروني.

[14] للمزيد بشأن ذاكرة السجن، انظر: الشيخ، "الشهداء يعودون..."، مصدر سبق ذكره، ص 41 - 46.

[15] انظر: وليد دقّة، "رياحين الشباب..."، مصدر سبق ذكره؛ محمود درويش، "ديوان محمود درويش" (بيروت: دار العودة، ط 14، 1996)، المجلد الأول، ص 93 - 94؛ بيروت حمود، "الأسير منذ 34 عاماً وليد دقّة: أوسلو قسَّم الفلسطينيين وشعبنا سيحاكم هذه القيادة"، مقابلة منشورة في "جريدة الأخبار" (11 نيسان / أبريل 2019)، في الرابط الإلكتروني.

[16] باسل غطاس، "أوراق السجن: من أروقة الكنيست إلى سجون الاحتلال" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022)، ص 113.

[17] وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (عيادة سجن الرملة، 14 أيار / مايو 2023).

[18] حمّود، مصدر سبق ذكره.

[19] درويش، مصدر سبق ذكره، ص 454.

[20] حمود، مصدر سبق ذكره.

[21] المصدر نفسه.

[22] المصدر نفسه.

[23] دقّة، "رسالة رفيق..."، مصدر سبق ذكره.

[24] المصدر نفسه.

[25] انظر: وليد دقّة، "الزمن الموازي وأمور أُخرى - أشتاق لمشهدين.. الأطفال والعمال"، "فصل المقال" (22 نيسان / أبريل، 2005)، ص 23؛ وليد دقّة، "حكاية المنسيّين في الزمن الموازي – مسرحية غنائية" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2011).

[26] لقراءة مقارنة في هذه النصوص، انظر: الشيخ، "الزمن الموازي..."، مصدر سبق ذكره، ص 271 - 308.

[27] دقّة، "الزمن الموازي..."، مصدر سبق ذكره، ص 23.

[28] المصدر نفسه.

[29] المصدر نفسه.

[30] المصدر نفسه.

[31] حسين البرغوثي، "الضوء الأزرق" (رام الله: بيت المقدس للنشر والتوزيع، 2001)، ص 103.

[32] حسين البرغوثي، "الضفة الثالثة لنهر الأردن" (رام الله: بيت الشعر الفلسطيني، 2006).

[33] البرغوثي، "الضوء الأزرق..."، مصدر سبق ذكره، ص 103 - 106.

[34] دقّة، "رسالة رفيق..."، مصدر سبق ذكره.

[35] دقّة، "حرّر نفسك..."، مصدر سبق ذكره.

[36] المصدر نفسه.

[37] للمزيد بشأن هاتين الحقبتَين، انظر: وليد دقّة، "يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002" (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 2004)؛ وليد دقّة، "صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب" (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2010).

[38] دقّة، "صهر الوعي..."، مصدر سبق ذكره، ص 22.

[39] وليد دقّة، "ما بعد صهر الوعي - نظام الإغواء والإغراء" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2022).

[40] للمزيد عن بعض هذه التجارب، انظر: حمود، مصدر سبق ذكره.

[41] انظر: عبد الرحيم الشيخ، "الزمن الموقوت: نكبة فلسطين ومسارات التحرير"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 118 (ربيع 2019)، ص 16 - 26.

[42] للمزيد بشأن هذا المفهوم، انظر: عبد الرحيم الشيخ (إعداد وتقديم)، "ندوة الحركة الفلسطينية الأسيرة: الجغرافيا السادسة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 128 (خريف 2021)، ص 9 - 59.

[43] حسين البرغوثي، "الصوت الآخر: مقدمة إلى ظواهرية التحوُّل"، حوّله إلى العربية وقدّمه عبد الرحيم الشيخ، (عمّان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2021).

[44] عبد الرحيم الشيخ، "الإصغاء إلى الصوت الآخر" في: المصدر نفسه، ص 7 - 48.

[45] وليد دقّة، "السيطرة بالزمن"، موقع "أوان"، 16 حزيران / يونيو 2021، في الرابط الإلكتروني.

[46] حسين البرغوثي، "سأكون بين اللوز" (رام الله: المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي، 2004)، ص 62 - 63. وانظر كذلك: حسين البرغوثي، "قصص عن زمن وثنيّ"، "الكرمل"، العددان 72 - 73 (صيف / خريف 2002)، ص 297 - 338؛ حسين البرغوثي، "السَّادن، الناقة، قصص عن زمن وثنيّ"، إعداد وتحقيق مراد السوداني (رام الله: المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي، 2003).

[47] البرغوثي، "الصوت الآخر..."، مصدر سبق ذكره، ص 129.

[48] للمزيد، انظر: حسين البرغوثي، "الأنا والمكان"، مجلة "مشارف"، العدد 10 (آب / أغسطس 1996)، ص 44 - 51.

[49] للمزيد عن مفهوم الذات والمكان في الخلق الفني عند حسين البرغوثي، انظر: عبد الرحيم الشيخ، "مرايا سائلة: رؤية الصوت، سماع الصورة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 114 (ربيع 2018)، ص 117 - 148.

[50] وليد دقّة، "العنف في أراضي 48: حين نتخلى عن تحليل الخطاب الكولونيالي"، "عرب 48 / فسحة ثقافية"، 26 كانون الأول / ديسمبر 2021، في الرابط الإلكتروني.

[51] دقّة، "السيطرة بالزمن..."، مصدر سبق ذكره.

[52] دقّة، "صهر الوعي..."، مصدر سبق ذكره.

[53] وليد دقّة، "احتلال شمولي: الحواجز كأداة للسيطرة على مستقبل الفلسطيني" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2012).

[54] وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن عسقلان، 13 أيار / مايو 2022).

[55] حمود، مصدر سبق ذكره.

[56] للمزيد بشأن مخاوف الأسير من أن يَنسى عوالم خارج السجن، أو يُنسى في عوالم الخارج، انظر: الشيخ، "الشهداء يعودون..."، مصدر سبق ذكره، ص 128 - 155.

[57] للمزيد بشأن هذا المجاز في توصيف دقّة للسجن بصفته "مغارة"، انظر: دقة، "حرّر نفسك..."، مصدر سبق ذكره. وانظر كذلك توصيفات دقّة للضبع "سحويل"، والكلب "أبو ناب" في ثلاثية اليافعين: دقّة، "حكاية سر الزيت"، مصدر سبق ذكره؛ دقّة، "حكاية سر السيف"، دقّة، "حكاية سر الطيف..."، مصدر سبق ذكره.

[58] للمزيد، انظر: دقّة، "حرّر نفسك..."، مصدر سبق ذكره.

[59] وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن "جلبوع"، 9 أيلول / سبتمبر 2020)؛ وليد دقّة، "محادثة هاتفية" (سجن عسقلان، 13 أيار / مايو 2022).

[60] حمود، مصدر سبق ذكره.

[61] وليد دقّة، "لا لوز في السجن ليزهر"، "عرب 48"، 31 تشرين الأول / أكتوبر 2010، في الرابط الإلكتروني.

[62] المصدر نفسه.

[63] المصدر نفسه.

[64] وليد دقّة، "في ثلاثينية أسره: مقابلة خاصة مع الأسير وليد دقة"، "عرب 48"، 22 نيسان / أبريل 2016، في الرابط الإلكتروني.

[65] وليد دقّة، "أنت تطلب الإذن لتقييد نفسك"، "عرب 48 / فسحة ثقافية"، 7 شباط / فبراير 2018، في الرابط الإلكتروني.

[66] المصدر نفسه.

[67] دقّة، "رسالة رفيق..."، مصدر سبق ذكره.

[68] وليد دقّة، "بائع التذاكر" (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2017).

Author biography: 

عبد الرحيم الشيخ: أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت.