Moods of Betrayal in the Story of Palestine
Full text: 

Reja-e Busailah. In the Land of My Birth: A Palestinian Boyhood. Washington: Institute for Palestine Studies, 2017. 371 pages. 

Hala Alyan. Salt Houses. New York: Harper, 2017. 320 pages. 

 

قبل بضعة أعوام قرأت مجموعة من الأفكار والتأملات الشخصية بشأن معنى أن تكون فلسطينياً في الشتات،[1] وبقي منها نصان علقا في ذهني بصورة خاصة: الأول كتبه رجائي بُصيلة، الأستاذ الفخري في الأدب الإنكليزي المولود في القدس، والذي درس وهو كفيف البصر في الخليل والرملة ويافا، وهُجِّر من منزله في اللد وأرغم على السير تحت شمس تموز/ يوليو الحارقة في سنة 1948، ولم يتسنّ له أن يعود قط. كانت مداخلته بعنوان "الشجرة": 

مثل لسان يُنتزع من فمك، انتُزعت الشجرة من ترابها الأصلي، وصارت كل جذورها مكشوفة ومذهولة وتتلوى ألماً. تبعثرت الجذور وكذلك كسرات من جذعها وأغصانها وأوراقها التي شُتِتت في كل مكان، وبات كل طرف أو عضو يصبو إلى البقية، إلى الكل؛ وعندما فشلت في الوصل، تكومت فوق نفسها لتحتفظ بما يمكن أن تحتفظ به من نكهة، أو ذاكرة أو حلم.[2] 

النص الثاني، بعنوان "في التراب"، ينقلك عبر الحالة الفلسطينية في سجل مخفف بمرور جيلين. هلا عليّان كاتبة فلسطينية أميركية شابة من عائلة تتنقل عبر الشتات، من جد بعيد، له جذور في يافا مثل أبي، مع محاولات انزراع على امتداد محطات المنفى الفلسطيني: مدن الضفة الغربية: نابلس ورام الله وبيت لحم؛ عواصم مثل الكويت وبيروت وباريس؛ وحتى، على نحو غير متوقع، في ويتشيتا، في كانساس. تكتب هلا عليّان: 

الشتات هو غياب لا نهاية له، تصوير فاصل زمني في الاتجاه المعاكس. إنه الرغبة في أن تصير عالم آثار أو عالم اختصاصه المحافظة على البيئة، وأن تصير حارس ذكريات الآخرين... الشتات هو أن تذكِّر نفسك، في أحلك اللحظات - حرب أُخرى، ووابل آخر من القنابل - بأنه ما دام لديك رئتان وهواء يملأهما، فستكون أنت ومَن سيأتي بعدك، الذكرى، وذاكرة المكان الحية.[3] 

ليس مفاجئاً أن نعرف أن كليهما شاعر، وأن كلاً منهما كتب كتاباً جديداً ورائعاً وأصيلاً عن موضوع - القصة الفلسطينية –وهو موضوع يعتقد المرء أحياناً أنه لا يمكن قول مزيد عنه.

كتاب بُصيلة بعنوان "في أرض ميلادي: فُتوة فلسطينية" (The Land of my Birth: A Palestinian Boyhood) الذي فاز في سنة 2018 بجائزة "أفضل كتاب مذكرات" ضمن جوائر "كتاب فلسطين"، والذي يتضمن سردية طبقية كثيفة وحيّة وغاضبة، إنما هو عدة كتب في كتاب واحد؛ إنه سرد للكيفية التي يتكشف بها وعيُ صبيٍّ على عالم مضطرب، وهو كتاب يمكنه أن يجد لنفسه بسهولة مكاناً على رف بجانب كتاب جان بول سارتر "الكلمات" (The Words)، أو كتاب وول سوينكا "أكيه" (Aké) ، كما أنه يُعدّ دليلاً صارماً للمبصرين لإدراك بعض ما يعنيه أن يكون الأنسان أعمى، والذي من شأنه أن يتجاوز كتاب طه حسين الكلاسيكي للسيرة الذاتية العربية، "الأيام". فهذا الكتاب، في توثيقه الذي لا مناص منه للتاريخ الاجتماعي والسياسي لأعوام فلسطين الأخيرة تحت الانتداب البريطاني، يستطيع أن يقف شاهداً في محكمة عدل تاريخية مستقبلية؛ إنه أرشيف حي لحقائق عاشها طفل لا يكذب.

بدقة طبيب شرعي في سرد الأسماء والأماكن والأصوات والمشاعر والتطلعات والوحشية، تمثل مذكرات بُصيلة المُقْنِعة، جلسة استحضار لنفسه الفتية الحازمة والهشّة، ولعيونه الواسعة لكن المكفوفة، وهو يكبر في فلسطين في ظل (إنها استعارة يصدمنا أن نعلم أن لا مرجعية لها لدى المكفوفين) الخيانة البريطانية والصهيونية الوشيكة التي ستغير كل شيء، وستترك الشجرة مقطعة الأوصال وتتلوى من الألم.

أمّا رواية "منازل الملح" (Salt Houses) لهلا عليّان، بما تحتويه من عاطفة وتشتت، فهي قصة أجيال متعددة لعائلة ليست غاضبة، وإنما مشحونة بالحنين والكآبة. فعليّان تستحضر إلى حيّز الوجود مجموعة من الشخصيات، العديد منها نساء (أكثر كثيراً ممّا في عالم بُصيلة، في المؤسسات التعليمية المحورية في طفولته ومراهقته، في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته)، فنرى الثورات الصغيرة والصمت المؤلم والمخاوف الاجتماعية والخسائر المتتالية تنتقل مع هذه الشخصيات على طول المحطات المألوفة للتداعيات المتعرجة لما بعد خسارة الفلسطينيين أملاكهم، بينما تطارد المآسي التي بعضها عام وتاريخي، وبعضها سرّي وخاص، قصصها المتشابكة.

وعلى الرغم ممّا يمكن أن يقود إليه الاختلاف في مزاج الشاعرين وأسلوبهما إزاء التأملات الشخصية في معنى أن تكون فلسطينياً، فإن كلا كتابيهما نجح في تحرير القصة الفلسطينية، بأعجوبة تقريباً، من التكرار المرهق وغير المجدي لحقائق وتواقيت تواريخ متروكة، وأعداد وأشكال المظالم المستمرة حتى زمننا الحاضر.

في أيار/ مايو 2018، وتزامناً مع الذكرى السبعين لحملة التهجير السريعة والكاسحة للفلسطينيين في سنة 1948 (الكارثة التي يسميها الفلسطينيون الآن النكبة)، والتي تنتهي عندها مذكرات بُصيلة، نقل ترامب - في قرار ينمّ عن تحدٍّ - السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة بينما كان الجنود الإسرائيليون يذبحون متظاهرين عزّلاً يطالبون بالحرية لغزة المحاصرة.[4] وبعد فترة وجيزة، اعتدت الشرطة الإسرائيلية بالضرب واعتقلت "مواطنين" فلسطينيين محترمين في إسرائيل في أثناء احتجاجهم سلمياً في شوارع حيفا على ذلك العنف.[5] لا جدوى من تلاوة الأرقام والأسماء لأنه لم يعد لها تأثير كبير لدى الناس، كما أنه لا جدوى من تعداد القوانين والاتفاقيات الدولية المنتهكة، فهي لم تعد مهمة على ما يبدو.

كلا الكتابين يقترب من تجربة ما يعنيه أن تولد فلسطينياً، سواء في سنة 1929 عندما أتى بُصيلة إلى العالم المضطرب الذي يعيشه مجدداً في هذه المذكرات التي نُشرت مع اقترابه من ذكرى ميلاده التسعين، أو في سنة 1986 عندما دخلت عليّان لأول مرة عالم أسرة جزأتها عمليات التهجير المتتالية، لكنها ظلت مع ذلك فلسطينية بكل تصميم. الكتابان عابقان بروائح وأذواق الذاكرة المشتركة: الياسمين والغاردينيا؛ التين والبرتقال؛ البطيخ والرمان؛ الزيتون والزعتر البري؛ صواني الكنافة والقطايف الشهيرة؛ وينقلان أصوات الجدل السياسي المتصاعد ولزوم الصمت لدى الاستماع للإذاعات أو مشاهدة التلفزيون، ويُعرّفان عن الجيران والمعلمين والأصدقاء الذين يجعلون الحياة قابلة للعيش في أوساط اجتماعية غنية (وأحياناً خانقة)، وينسجان للقارىء حبكة حول الآباء والأجداد والأخوات والإخوة والعمّات والأعمام وأبناء العم. لكنهما يقتحمان عالمك بعد ذلك بـ: الرعب، والارتباك، والشجاعة، والإذلال، وعدم اليقين، والانتظار، والرهبة، وبموضوع يوهن العزيمة ويثير الأعصاب ويمتد مثل نصل عبر كلا الكتابين: الخيانة الموجودة بتصميم وإصرار في مذكرات بُصيلة، والتي تلتف بهدوء في قلب "منازل الملح" الجريح.

على الرغم ممّا يجود به بُصيلة بعد مضي نحو 70 عاماً على تلك الأحداث، من الأسماء الأولى والأخيرة لكل شخص أحدث فرقاً بالنسبة له: كل معلِّم تحداه أو هدّ عزيمته أو آمن به؛ كل صديق وزميل في الصف أمسك بيده وهو يستقل الحافلة أو يتجه نحو بستان ليتسلق شجرة فاكهة أو يسير في فناء المدرسة؛ كل فتاة وفتى ورجل قرأوا له سواء الصحف أو البيان الشيوعي أو الشعر العربي الجاهلي أو شكسبير؛ وخصوصاً صديقه في المدرسة الثانوية حيدر العلمي الذي جاء لإحضاره وهو يختبىء بمفرده خلف بساط ملفوف، مرتجفاً لا يقوى على فهم الانفجارات والطلقات النارية والألسنة التي تتحدث بلغة غريبة، وجرّه على طول الطريق الحجري الذي لا يرحم، والذي سار عليه سكان اللد وقد تملكهم الرعب عندما سمح لهم الجنود الصهيونيون بالمغادرة بعد أن استولوا على المدينة ووقفوا يحرسون الطريق الذي قادهم إلى المنفى، فإن بُصيلة شعر بلسعات الخيانة.

تعرّض بُصيلة للخيانة عندما كان صبياً، حين هرب رفاقه فجأة وتحدوه بقسوة أن يجد طريقه إلى المنزل بمفرده، أو أن يحرر نفسه من الرمال وهو يسمع الأمواج تقترب عندما كانوا يلعبون على شاطىء البحر الأبيض المتوسط. لقد شعر بأن الرب خانه عندما تجاهل صلاته الصادقة ودعاءه في ليلة القدر كي يبرأ من عماه، تلك الليلة في رمضان التي أُنزل فيها القرآن على النبي محمد، والتي يكون دعاء المؤمنين فيها مستجاباً.

تعرّض للخيانة من أب كان قلقاً بشأن مستقبله فتركه في السادسة من عمره في دار الأيتام الصناعية الإسلامية في البلدة القديمة في القدس كي يتعلم صناعة المكانس والفُرَش وتلاوة القرآن. أي مستقبل آخر كان يمكن تخيله لصبي أعمى في سنة 1935؟ الضرب؛ التبول اللاإرادي على سرير حديدي؛ تنظيف وفرك القدمين يومياً؛ الزيتون الذي تنخره الديدان؛ الممرات الحجرية لهذه المؤسسة القاسية والجديرة حقاً بعالم تشارلز ديكنز، حتى إن امتلأ وتفتّح عالمه بالمغامرات والقصص والأصدقاء الجدد. لقد شعر بالخيانة من صديق لعائلته عديم الحس قدم له لعبة أحجية مقطعة برسم بقرة وحصان سببت له إحباطاً لأنه لا يستطيع أن يراها أو يلمسها. كان يفضل تدوير البلبل الخشبي وتطيير الطائرات الورقية وتسلق الأشجار واستخدام المقلاع. كيف؟ لقد تركنا بتواضع نجرجر تساؤلاتنا ولم يخبرنا.

اكتُشف ذكاؤه وأذنه الشعرية عندما وجد أبوه بديلاً تربوياً هو مدرسة مستنيرة افتُتحت حديثاً للمكفوفين في الخليل. فهناك تعلّم بُصيلة طريقة بريل (braille) والتاريخ والشعر والنثر العربيَّين والإنجليزيين بدلاً من صنع المكانس، وبرع في الجغرافيا، مع أن الطلاب كانوا يقضون معظم وقتهم في دراسة الجزر البريطانية. وحتى مادة الرياضيات الصعبة، وتعلُّم القرآن الذي كان صعباً جداً عليه، لم يثبّطا حماسته.

بعد أعوام، أكد له والده، في بادرة تنمّ عن احترام فاجأت الفتى بُصيلة الذي اعتاد اتخاذ موقف دفاعي، أنه إذا نجح في امتحان الثانوية العامة، فسيبيع كل شيء لتمكينه من الذهاب إلى الجامعة. وكانت السلطات البريطانية، تحسباً لتخليها عن فلسطين للقوات الصهيونية والعنف الذي كانت مدركة أنه سيتبع ذلك، قد قدَّمت موعد الامتحانات بضعة أشهر إلى آذار/ مارس 1948. لقد سمع بُصيلة عبر الإذاعة اسمه بين الناجحين، تماماً مثل رفاق صفه، كوالدي (تقصد المؤلفة والدها إبراهيم أبو لغد) وشفيق الحوت، بعد أن فقدوا وطنهم وانهار المستقبل الذي حلموا به.[6] ليس لدى والده شيء كي يبيعه. إنها الخيانة مرة أُخرى.

شعر المراهق بُصيلة بالغضب من خيانة الحكومة البريطانية للفلسطينيين: ألم تحرمهم من حقوقهم السياسية مع وعد بلفور بالمساعدة في بناء وطن لليهود في فلسطين؟ وتمثلت الخيانة العظمى في النزوح الجماعي الساحق الذي حمل بُصيلة إلى نهاية العالم الذي كان يعرفه. الفصل الأخير من مذكراته يحمل عنوان "سقوط اللد"، وما ورد في هذا الفصل لم يرد من قبل كهذا السرد المروع للأصوات والرائحة الكريهة واليأس البشري من الاقتلاع المؤلم الذي تعرّض له الفلسطينيون في سنة 1948 على أيدي المسلحين الصهيونيين، في العملية التي أُطلق عليها اسم عملية داني.

هذه الوقائع التي تكررت عبر السهول والتلال والموانىء الساحلية في فلسطين التاريخية، حوّلت الناس إلى كتلة من اللاجئين الجرحى الذين يسير بعض أحفادهم اليوم نحو السياج المرتفع الشائك الذي يحاصرهم داخل غزة. لكن السكان أصيبوا بالصدمة حينها، فمدن مثل اللد والرملة ويافا ما كان ينبغي لها أن تشهد عمليات الطرد لأنها تقع بوضوح داخل الحدود المخصصة لدولة فلسطين العربية التي أوصت بها خطة الأمم المتحدة في سنة 1947.

الرجل البالغ غير القادر على تصديق ما جرى، والذي يكتب خاتمة "في أرض ميلادي"، يصرّ على أن عليه أن يتحدى الأكاذيب التي تُسرد في الروايات الصهيونية لما حدث في فلسطين. وهو يفعل ذلك بسرد ذكريات الطفل الحية عن شغفه بالتعلم، وعن الانتصارات الصغيرة والآمال الزائفة ومسارات السكك الحديدية وبرتقال يافا والأتراك والألمان واليهود، وطبعاً البريطانيين الذين أضرب الطلاب القوميون رفضاً لفرض اللغة اللاتينية عليهم في مناهج المدرسة الثانوية، لكن من معهدهم الملكي الوطني للمكفوفين اشترى بُصيلة الجهاز الثمين للكتابة بطريقة بريل (ومع ذلك فإنه وجد أن من الغرابة أن يواجه مشكلة في تمريره عبر الجمارك، نظراً إلى أن البريطانيين كانوا يتحكمون أيضاً في دخول البضائع). وتتوازن هذه الذكريات مع قصص التجذر في الأرض وصلات القرابة والمكان.

إنه ساخط بصورة خاصة على التستر على ما خبره على نحو مباشر: فالجثث الفلسطينية التي مر بالقرب منها في شوارع اللد في سنة 1948، والرعب الذي عاشه سكان البلدة، لم يردا في مذكرات يتسحاق رابين، وإنما وُجّهت اتهامات غامضة لجماعات معادية كانت تقوم بمقاومة مسلحة لا وجود لها. كما لم يرد ذكر للمذبحة التي ذهب ضحيتها رجال في مسجد دهمش القريب، بل إن جلّ ما ورد هو اختصار لأحداث ذلك اليوم المشؤوم في تموز/ يوليو بأن القوات الصهيونية أطلقت بعض الطلقات العشوائية التي حطمت زجاج بعض النوافذ وقتلت دجاجاً، وهذه رواية جعلت بُصيلة ساخطاً. وهنا يقتبس بُصيلة من مقال مخادع نُشر في سنة 1989 في مجلة "ذا نايشن" (The Nation) بقلم عاموس كينان الذي يقول: "حتى يومنا هذا، لم يحسب أحد عدد الدجاج والأبقار والحمير والجمال والأغنام والماعز التي قُتلت في الحرب." دجاج؟ أبقار؟

إنه مغتاظ من تصريح ونستون تشرشل بشأن الفلسطينيين الذي حُذف من محضر اجتماع لجنة بيل في سنة 1937، والذي أعيد الكشف عنه أخيراً.[7] قال تشرشل: "لا أوافق على أن الكلب الموجود في المذود له الحق النهائي فيه، مع أنه قد يكون مكث هناك فترة طويلة جداً... فعلى سبيل المثال، أنا لا أعترف بأن خطأ فادحاً ارتُكب في حقّ الهنود الحمر في أميركا أو السود في أستراليا." لماذا؟ لأن مَن حل محلهم هو "عرق أقوى، عرق أعلى درجة، عرق أكثر حكمة."

ينصبّ حنق بُصيلة على استعداد العالم للسماح للصهيونيين بالدوس على البند الشَّرْطي الذي حدد وعد اللورد بلفور لصديقه اللورد روتشيلد بالتالي: "من المفهوم بوضوح أنه لن يتم عمل أي شيء من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين."

أمّا رواية عليّان فتبدأ بعد 15 عاماً من التاريخ الذي انتهت عنده مذكرات بُصيلة [1948]، وبعد أن كان الناس قد هُجِّروا من المنازل والمدن والمصانع والمزارع، وبدأوا، بتردد، بإعادة بناء حياتهم وزراعة حدائق صغيرة تلهيهم عن الألم. لكن ربما نسمع جَدّاً محتضراً يصرخ قائلاً: "لقد أخذوا داري وأخذوا رئتَيّ"، مع إصراره على أن "مرضه له علاقة باحتلال يافا، المدينة التي تركوا فيها وراءهم منزلهم الذي كان بلون الدراق". غير أن المزاج، مثل الناس، بات خاضعاً، والتدخل السياسي العنيف هو الذي يحدث لكن بشكل متقطع.

بحزن أكثر منه غضباً، وباتساع الفارق الزمني، تروي عليّان الخلافات السخيفة بين الأمهات والبنات، واللمسة المضطربة للزوج والزوجة، والخيانات التافهة لوعود قُطعت للأطفال بالذهاب في رحلة إلى حديقة الحيوان، أو بشراء فساتين لأعياد الميلاد، وكيف تنتهي بمرارة المغازلات بين الراديكاليين المتفاخرين في حانات باريس. الشخصية الرئيسية هي علياء التي تعيش في الكويت في الثمانينيات مثل العديد من الفلسطينيين المنفيين الآخرين، والتي تشعر بالعزلة. وفي إحدى الأمسيات، تتوسل سائقها الآسيوي الجنوبي أن يأخذها إلى البحر هرباً من الحر ومن أطفالها وزوجها الأجرب الذي تنزف جروحه في الحمام. يتوقف المحرك والوقت ليل؛ تتعثر بالكعب العالي وهي تسير فوق الصخور؛ تريد أن تشعر بالمياه الشديدة البرودة على أصابع قدميها.

تكتب عليّان هنا: "الحنين إلى الماضي بلاء، وقد قال أحدهم ذلك مرة أمام علياء، وها هي الآن، بعد أعوام، تتذكر تلك الكلمات. فالحنين إلى ما قد اختفى هو مثل الحمى أو السرطان اللذين يُضعفان الإنسان ويدمران صحته، وليس المقصود هنا الخسائر التي لا تُحتمل فحسب، بل حتى الأشياء الصغيرة أيضاً." ومع أن معظم الفصول يحمل أسماء أنثوية - سلمى وعلياء ورهام ولينا ومنار - إلّا إن الخيانة الكامنة في قلب القصة ذكورية.؛ إنه أمر سياسي، وقول المزيد من شأنه أن يشي بالكثير.

عليّان هي في الواقع حارسة الذكريات. ففي الرواية، تقع حزمة من الرسائل في أيدي جيل جديد وتمر بهدوء بينهم، غير أنه يجب حمايتها من قبضة ضابط أمن خلال الاستجوابات في مطار بن - غوريون، والتي هي من الأمور المعتادة المثيرة للتوتر في القصص التي يرويها الفلسطينيون عن زيارة "البلاد". تتوقف الاستجوابات فجأة مع القيء الناجم عن غثيان الصباح، في إشارة إلى جيل آخر من الفلسطينيين المشردين الذين لن ينسوا.

هذه هي مشاعر الخيانة في قصة فلسطين.

 

* هذه القراءة نُشرت باللغة الإنجليزية:

Lila Abu-Lughod, “Moods of Betrayal in the Story of Palestine”, “Public Books”, 18/7/2018.

ترجمة: صفاء كنج.

 

المصادر:

[1] انظر:

Yasir Suleiman, ed., Being Palestinian: Personal Reflections on Palestinian Identity in the Diaspora (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1st edition, 2016).

[2] Reja-e Busailah, “The Tree”, in: Ibid., p. 115.

[3] Hala Alyan, “In Dust”, in: Suleiman, op. cit., p. 65.

[4]Israel’s Gaza Response ‘Wholly disproportionate’-UN Rights Chief”, “BBC News”, May 18, 2018.

[5] Ruth Eglash, “Israeli Police Accused of Brutality in Crackdown on Demonstrating Israeli Arabs”, Washington Post, May 21, 2018.

[6] لمزيد عن رفاق صف بصيلة، انظر:

Ibrahim Abu-Lughod, Resistance, Exile and Return: Conversations with Hisham Ahmed-Fararjeh (Birzeit: Ibrahim Abu-Lughod Institute of International Studies, Birzeit University, 2003), p. 52; Shafiq al-Hout, My Life in the PLO: The Inside Story of the Palestinian Struggle, translated from Arabic by Hader al-Hout and Laila Othman (London: Pluto Press, 2011), p. 20.

[7] وجد بُصيلة هذا الاقتباس في:

Martin Gilbert, Churchill and the Jews: A Lifelong Friendship (New York: Henry Holt, 2008), p. 120.

Author biography: 

ليلى أبو لغد: أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة كولومبيا في نيويورك.