تفاوت أثر استهداف السياسات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية بين واحدة وأُخرى، وكان اقتصاد مدينة الخليل الخاسر الأكبر، إذ أُصيبت صناعاتها المحلية بمقتل، وصار أصحاب المصانع والعاملون فيها أُجراء في إسرائيل أو في المناطق الصناعية المتاخمة للخط الأخضر قرب حاجز تَرْقومْيا حيث أقيمت واحدة من كبريات المناطق الصناعية في الضفة الغربية، والتي يجري فيها تشغيل العمال الفلسطينيين في ظروف لا إنسانية، وبعائدات زهيدة.
وفضلاً عن العامل الاقتصادي، فإن العامل العشائري ساهم بشكل حاسم في إضعاف المقاومة في المدينة، فالثورة لا يستقيم عودها في مجتمع تشقّه الصراعات العشائرية. ففي ظهراني العشيرة تنشأ بيئة خصبة ومواتية للنزاع الداخلي، ذلك بأن أسباب التمايز بين الناس تؤول إلى رابطة الدم في المقام الأول، وتتجاوز روابط الثقافة والمواطنة.
إسرائيل تستغل العشائرية
أدركت إسرائيل أن استغلال عامل العشائرية هو المدخل الأول والأهم لتخريب النسيج الاجتماعي الذي يشكل حاضنة للثورة. ففي منطق العشيرة يتراجع مفهوم الوطن إلى مجرد مكان، وتُختزل المواطنة برابطة الدم، وتُستبدل مصلحة الوطن بمصلحة العشيرة. ويتضح ذلك جلياً عبر مقارنة وضع مدينة الخليل بغيرها من المدن.
وثمة خصوصية ثانية للخليل، سهّلت على إسرائيل عملية اختراق العشائر، فهي المدينة الوحيدة التي يستوطن المستعمرون قلبها ضمن عنقود من خمس بؤر استيطانية تتوزع في قلب المدينة، ويتصل بعضها ببعض ضمن شبكة طرق أمنية تمزق جغرافيا المدينة وتشقّ وحدتها الاجتماعية. وفي ضوء ذلك تم تقسيم المدينة جيوسياسياً إلى فضاءين: "H1" و"H2" ضمن اتفاقية الخليل ("مركز المعلومات الوطني الفلسطيني" / "وفا" 1997) الموقّعة في سنة 1997، والتي بموجبها تخضع المنطقة "H2" للسيادة الإسرائيلية، علماً بأنه "يعيش في منطقة 'H2' 40,000 فلسطيني مقابل 700 مستوطن إسرائيلي يتوزعون على خمسة تجمعات استيطانية" (مناصرة والطيب 2020).
وقد أسس هذا التقسيم الجيوسياسي لمدينة الخليل لتحولات عميقة في البُنى الاجتماعية أُطلق عليها مسميات شعبية من قبيل "الخليل التحتا" أو "الحارة التحتا"، وهذه التسمية لها دلالات اجتماعية تحيل إلى الخطر والخوف والقلق، إذ تحولت هذه المنطقة خلال ربع القرن الماضي إلى حَرْبَة في الخاصرة الخليلية، فصارت "قاعاً مدينياً موبوءاً" يسيطر عليه اللصوص والهاربون من العدالة والخارجون على القانون وتجار المخدرات والسلاح، كما أن إمدادات السلاح كلها لعشائر الخليل مصدرها تجار السلاح في تلك المنطقة.
عناصر عززت قوة العشيرة
ضمن المعطيات المشار إليها، نجحت إسرائيل في استنهاض العشيرة في الخليل أكثر من غيرها من المدن الفلسطينية، مستغلة المعطيات التالية:
1 - غياب أو ضعف الأطر الجامعة الأُخرى مثل الأحزاب والمؤسسات المدنية التي تستبدل روابط الدم بروابط سياسية واجتماعية وثقافية. فالخليل مثلاً لم تعرف السينما والمسرح وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، إذ إنها حوربت بقوة وعنف من طرف قوى اليمين الديني.
2 - قوة الأحزاب الدينية المتمثلة في الإخوان المسلمين وحزب التحرير، باعتبارها جماعات تقوم أصلاً على التمايز الديني والاجتماعي بين البشر، وترى في العشيرة سنداً لها.
3 - التنافس بين الأحزاب العلمانية والدينية على استمالة العشائر، الأمر الذي عزز من مكانة العشيرة السياسية بشكل غير مسبوق بحيث صارت العشيرة قوة سياسية يُحسب لها في الخليل ألف حساب.
الخليل قبل وبعد
كانت مدينة الخليل قبل سنة 2002 تمتاز بالاستقرار ويعمّها السلم الأهلي، ولم يكن ثمة ما يدعو إلى القلق إزاء هذه الناحية. وقد عُرفت الخليل تاريخياً بأنها مدينة المال والتجارة، إذ بينما كانت الصراعات العشائرية تستنزف قرى وبلدات المحافظة من حولها، كانت الخليل تبني اقتصادها القوي القائم على التجارة والصناعة، كصناعة الأحذية والجلود والبلاط والزجاج.
ويمكن القول إنه حتى سنة 2002 لم تشهد مدينة الخليل خلافات عشائرية تهدد استقرارها ووحدتها الداخلية، حتى جاءت حادثة خلافية بين عائلتين كبيرتين كان يمكن أن تمر بشكل طبيعي في مرحلة ما قبل السلطة الفلسطينية، بل إن حوادث أصعب منها تم تجاوزها، لكن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت هذه المرة بالمرصاد، فقامت من خلال وكلائها بشحن الأطراف المتخاصمة، وفتحت للمتخاصمين منافذ السلاح. وتفاعلت الأحداث بشكل دراماتيكي، فظهر سلاح العشيرة لأول مرة أمام كاميرات المصورين مُبرزاً نفسه بقوة وكثافة ليضع المدينة أمام حقبة قاسية لا تزال تدفع ثمنها حتى الآن.
تُظهر الفيديوهات الموجودة في وسائط التواصل الاجتماعي أن البنادق التي يحملها أفراد العشائر هي من نوع M16 التي يحملها أفراد الجيش الإسرائيلي، واللافت أن هؤلاء ينتظمون ضمن تشكيلات عسكرية، ويتحركون بأسلوب حرب الشوارع.
قاد انتشار السلاح إلى ازدياد جرائم القتل التي تفاعلت وتصاعدت بوتائر غير مسبوقة ضمن ثارات عشائرية متتابعة، فعلى سبيل المثال في أقل من شهرين في سنة 2022 قُتل 9 أشخاص في مدينة الخليل جرّاء الثارات العشائرية (زوايا 2022). ويُقدّر عدد قتلى الصراعات العشائرية في العقدين الأخيرين بنحو 150 قتيلاً. وفي إثر شيوع هذا النمط، صارت دواوين العائلات بمثابة غابات بنادق، ومن حين إلى آخر كانت تُبثّ عبر وسائط التواصل الاجتماعي فيديوهات لمجموعات مسلحة من العائلات توجه تهديدات إلى الخصوم، لا بل إن قائداً لإحدى المجموعات العشائرية ظهر في فيديو يطالب الرئيس محمود عباس بأن يأذن له بتأديب الضفة الغربية.
هل تنهض المدينة مجدداً؟
عندما كانت جنين ونابلس والقدس ومدن أُخرى تقدم نماذج للعمل الفدائي الفردي والجماعي، كانت الخليل تكتوي بنار ثاراتها الدموية، علاوة على أنها تعرضت لاعتداءات وإجراءات قاسية من طرف جيش الاحتلال والمستوطنين، مثل: قتل فلسطينيين من زوار الحرم الإبراهيمي؛ إحداث تغييرات في عمارة الحرم الإبراهيمي وبناء مصعد كهربائي فيه؛ تسريب عقارات فلسطينية في قلب المدينة للمستوطنين. وفي يطَّا تكاد اعتداءات المستوطنين تكون يومية، وخصوصاً على قرى مُسافِر يَطّا. وقد حدث هذا كله وأكثر من دون أي مظهر للمقاومة.
وفي الوقت الذي كانت المدينة تودع عاماً كئيباً من الصراعات الداخلية والاعتداءات الإسرائيلية من دون ردّ، خرج على نحو مفاجىء وغير متوقع ذئب الخليل الأول، الفدائي محمد كامل الجعبري، وهو معلم ورب أسرة في الثلاثينيات من عمره، والذي حمل سلاحه الشخصي تحت عباءة سوداء ونفّذ عمليته الفدائية في مستعمرة كريات أربع المتاخمة لمدينة الخليل حيث قتل مستوطناً معروفاً بعدائه الشديد للخليل وجرح خمسة آخرين.
كانت عملية الجعبري صفعة في وجه عشائرية غارقة في ثاراتها، فالفدائي أخفى سلاحه تحت العباءة في إشارة ذكية إلى مخاتير لا يجيدون قراءة ما وراء المشهد. أراد محمد أن يقول: "إن العباءات التي تغطي السلاح العشائري يمكن أن تخبىء السلاح الثوري أيضاً".
ومحمد الجعبري ليس مثلاً فريداً في الخليل، فكثيراً ما كانت الخليل في ذاكرة الاستعمار بمثابة الأسد النائم الذي إن نهض أبدع في أساليب المقاومة، هكذا يقول التاريخ؛ ولعل واحدة من أهم مرتكزات السياسات الأمنية الإسرائيلية إزاء الخليل هو إبقائها نائمة. لكن في المقابل فإن ما يميز المقاومة في فلسطين هو صعوبة التنبؤ بانفجاراتها ومآلاتها، فمدينة الخليل التي يبدو أنها تغفو على جروحها القديمة، من الممكن أن تنهض من كبوتها وتلقي عن كاهلها عبء ثاراتها وتلتحق بركاب الثورة.
المراجع:
- "الخليل المشتعلة بنيران النزاعات العشائرية.. ما أصل الأزمة؟" (16 / 5 / 2022). موقع "زوايا"، في الرابط الإلكتروني.
- "مركز المعلومات الوطني الفلسطيني" / "وفا" (15 / 1 / 1977). "الخليل (بروتوكول إعادة الانتشار) 15 / 1 / 1997"، في الرابط الإلكتروني.
- مناصرة، أمل ومحمد الطيب (2020). "ورقة حقائق: القيود الإسرائيلية على حركة الفلسطينيين في المنطقة H2 بمدينة الخليل". رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية/ مسارات، في الرابط الإلكتروني.