بعد أربعة أيام من الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6 حزيران / يونيو 1982، والذي مرت ذكراه الأربعون في حزيران / يونيو الماضي، كُلفت سرية من المظليين الإسرائيليين بحراسة ما لا يقل عن 1000 محتجز في باحة مدرسة دير القديس يوسف في صيدا. وعندما وصل الجنود إلى المدينة الساحلية في الجنوب اللبناني في وقت سابق من ذلك الأسبوع، وُوجهوا بمقاومة شرسة من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتلي الأحزاب والحركات اللبنانية التي كانت منخرطة في حرب أهلية تحولت حينها إلى حرب إقليمية. وهذه كانت من الحالات القليلة التي دخلت خلالها القوات الإسرائيلية مدينة عربية كبرى خارج فلسطين التاريخية، وقد صارت أحياء صيدا المكتظة بالسكان ميداناً لحرب شوارع محتدمة، مع تعرّضها لغارات جوية كثيفة.
كان الهدف المعلن للاجتياح هو استهداف مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في الجنوب اللبناني، والذين كانوا يطلقون الصواريخ على البلدات الإسرائيلية في الجليل، على الرغم من التوصل إلى وقف إطلاق النار بوساطة الولايات المتحدة قبل عام تقريباً من ذلك. ومع أن إسرائيل تعهدت بأن تقتصر العملية على التوغل مسافة 40 كيلومتراً فقط، إلّا إن الحكومة الإسرائيلية بقيادة رئيسها آنذاك مناحم بيغن، عبّرت عن طموحات أوسع كثيراً هدفها اجتثاث الحركة الوطنية الفلسطينية. ولم يمضِ وقت طويل حتى حاصر الجيش الإسرائيلي العاصمة بيروت، بينما دمرت الحملة البرية والقصف على صيدا منازل ومستشفيات بأكملها، وسوّت مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين بالأرض.
صار المدنيون في صيدا تحت رحمة الهجمات الإسرائيلية، وأمر الجيش الإسرائيلي الفارين من منازلهم بالتجمع عند الشاطىء، ثم أحضر رجال الاستخبارات الإسرائيليون مخبرين فلسطينيين ملثمين إلى موقع تجمّع المدنيين وطلبوا منهم وهم داخل سيارات أن يشيروا من خلال النافذة إلى مَن كانوا أعضاء في حركة فتح - الفصيل الرئيسي في منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات – أو في فصائل أُخرى. وبناء على هذه المعلومات اعتقل الجيش الإسرائيلي العشرات، واقتادهم إلى مدرسة القديس يوسف حيث أوثق أيديهم وعصب أعينهم وتركهم تحت رحمة حرارة الصيف.
يكشف فيلم "ساحة المدرسة" (Schoolyard)، وهو فيلم وثائقي للمخرجة الإسرائيلية نوريت كيدار (Nurit Kedar) تفصيلات وقائع جريمة الحرب التي ارتُكبت في مدرسة القديس يوسف خلال الأيام الثلاثة التالية. والمخرجة تعتمد منهجية شبيهة بمنهجية راشومون (Rashomon) التي يسرد خلالها الجناة والشهود والضحايا جميعاً تجاربهم. غير أن ما حدث في تلك المدرسة في صيدا بعيد كل البعد عن أن يكون ملاحظة تاريخية على الهامش، بل إنه يوفر أرضية تثبت لجوء إسرائيل إلى ممارسة العنف على نحو روتيني في المساحات المدنية، ويقيم رابطاً بين حرب 1982 ونكبة 1948، ويكشف عن إرث أعمق ومروّع يجب مواجهته وتصفية الحساب معه.
"شعرت بالرغبة في أن أضربهم بكل قواي"
تكشف التقارير الإخبارية ومواد الأرشيف وشهادات الكونغرس والمقابلات التي أجرتها كيدار في الفيلم، أن المعتقلين الفلسطينيين واللبنانيين والأجانب الذين احتُجزوا في المدرسة، كانوا في الواقع، في معظمهم، مدنيين: سكاناً عاديين من المدينة، وعمال إغاثة، وأطباء من مستشفى الهلال الأحمر القريب الذي قصفته إسرائيل خلال الحملة الجوية. وقد تلقت وحدة الاحتياط الإسرائيلية الأمر بحراسة السجناء في أثناء انتظارهم للخضوع للاستجواب على يد رجال جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشين بت)، بينما تمركزت سيارات مصفحة وناقلات جند مزودة بمدافع رشاشة في زوايا ملعب كرة السلة الخارجي في المدرسة لتأمين الموقع.
يظهر في الفيلم عيدان هارباز (Idan Harpez)، قائد سرية الجيش الإسرائيلي التي كُلفت بهذه المهمة، إلى جانب العديد من رجاله، كي يرووا قصة ما حدث. لقد احتُجز المعتقلون من دون ماء أو طعام تحت شمس حارقة جالسين القرفصاء، وأُجبروا على قضاء حاجتهم حيث جلسوا، حتى إن بعضهم شرب بوله يأساً. وزادت الظروف القاسية سوءاً مع الوقت، وازداد التوتر بين الجنود.
قال هارباز: "ببطء، بدأت مجموعات من المعتقلين تتحرك بصعوبة مطالبة بالماء والطعام... كان الأمر مخيفاً. سيطرنا عليهم عبر إطلاق النار في الهواء... وعندما لم ينفع الأمر كان من الواضح أن عليّ اللجوء إلى طريقة أُخرى." أصدر القائد سريعاً الأمر لجنوده بضرب المعتقلين، وأقرّ قائلاً: "أنا أيضاً كنت أرغب في ضربهم بكل قواي... شعرت بالارتياح لتوجيه ركلة هنا وأُخرى هناك، ثم أمسكت بعصا خشبية وتجاوزت مجرد القيام بحركات رمزية. كان الأمر أشبه بالغوص في الماء البارد - في البداية يرتعش جسمك وتشعر بقشعريرة، لكن بعدها، تشعر بجسدك يسخن."
يتذكر الرقيب شموليك بن دور (Shmulik Ben Dor) الذي تحدث في الفيلم، كيف أخبره رائد في الجيش الإسرائيلي أنه من أجل انتزاع معلومات من سجين معين يُشتبه في مشاركته في عملية أدت إلى اختطاف جندي آخر، فإن عليه أن يؤدي دور "الشرطي الشرير" وأن يتصرف بقسوة. يقول بن دور: "ضربته... كان فعل ذلك صعباً جداً، لكن كان عليّ أن أفعل ذلك. لقد كبتُّ مشاعري كلها ونفذت المهمة لأنها بالنسبة إليّ، كانت مهمة من النوع الذي لا ينتهك قِيَمي [هنا يستخدم المصطلح العبري ديغيل شاكور (degel shachor)، ومعناه عَلَم أسود، ويعني به حالة يكون فيها الجندي مجبوراً على رفض أمر غير قانوني]. كان شيئاً يجب فعله في الحال، بناء على القواعد السلوكية التي كنت على دراية بها."
عندما طلب منه الرائد تكرار ذلك مع سجين آخر، قال بن دور: "لا، لا، لا، لن ألعب هذه اللعبة بعد الآن"، لكنه قدم إلى الرائد جندياً آخر بدلاً منه، "وللأسف، قام ذاك الجندي الآخر بعمله بطريقة وحشية على نحو لا يُصدق. لا بد من أنه استخدم أداة ما، وأصاب السجين بجروح بالغة. لقد فقأ عينه."
قدم شهود العيان تفصيلات مستفيضة عن الضرب بلا شفقة والعنف الذي أعقب إصدار هذه الأوامر. فالدكتور كريس جيانو [معروف باسم يانو] (Chris Giannou)، وهو جراح كندي كان يعمل مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني واعتُقل في مدرسة القديس يوسف، أدلى بشهادته أمام الكونغرس الأميركي بعد عدة أيام من الإفراج عنه، بقوله:
المشهد في ساحة المدرسة... كان مشهداً من الضرب الوحشي للسجناء بلا تمييز، وقد نفذه 40 حارساً إسرائيلياً. كان السجين يطلب ماء فيُقال له لا يوجد ماء، وعندما يستمر في الصراخ، يتعرض للإهانة، ثم يخترق الحارس الصفوف ويبدأ بضربه. لقد تراوحت الإساءات الجسدية بين اللكم والركل البسيط إلى الضرب بعصي خشبية، أو بخرطوم بلاستيكي، أو حتى بحبال رُبطت في أطرافها قطع من الحديد ومسامير، بما يُشبه سوطاً حديثاً بتسعة ذيول جلدية. وتعرّض أحد الفلسطينيين، وهو الطبيب نبيه [الشعيبي]، للضرب بعد أن عُلّق من يديه على شجرة، كما ضُرب الجراح العراقي الدكتور محمد إبراهيم ضرباً مبرحاً بأيدي عدة حراس تركوه مُلقى تحت الشمس ووجهه مدفون في الرمل.
أكد شهادة جيانو اثنان من عمال الإغاثة النروجيين هما الدكتور شتاينار بيرج (Steinar Berge) وأويفيند مولر (llerøMyvind Ø). فطبقاً للتقرير الذي قدمه مولر إلى وزارة الخارجية النروجية بشأن حادثة واحدة شهدها، قام جندي إسرائيلي بـ "غرز ركبته بكامل قوته بين أفخاذ السجناء، الواحد تلو الآخر، وعندما انحنى السجناء إلى الأمام، ضرب الجندي أعناقهم بيده فسقطوا على الأرض، ثم ركلهم في وجوههم وبطونهم. بعد ذلك جُمع السجناء في كومة حيث جثموا يئنون من الألم." وكان هناك عمودان لكرة السلة على طرفَي ساحة المدرسة، و"كان السجناء يُقيَّدون على نحو متكرر إلى العمودين ويُضرَبون، ويُتركون في أكثر الأحيان هناك معلقين."
بعد وصول حافلات إسرائيلية في نهاية المطاف لنقل المحتجزين من ساحة المدرسة إلى موقع آخر، وجد هارباز ورجاله سبع جثث على الأرض هي جثث محمد عكرا، وعبودي قبرصلي [ورد اسمه عبد قبرصلي في بعض السجلات]، ويحيى المصري، وسمير صباح، ومحمد منصور، وهم جميعاً لبنانيون. وكان بين هذه الجثث أيضاً جثتا محمد أبو سكينة (محمود أبو سكينة) وهو فلسطيني، ومصري لم يُذكر اسمه. وقد طلب جندي إسرائيلي من الطبيب جيانو فحص بعض الجثث للتأكد من وفاتها، ثم وضع الجيش جثث المعتقلين الملطخة بالدماء على أبواب المقبرة العامة في صيدا حيث دفنها حفار قبور لبناني محلي في حفرة واحدة.
ذكر جيانو في أثناء شهادته أمام الكونغرس، أنه رأى ضباطاً إسرائيليين والحاكم العسكري لصيدا، العقيد أرنون موزر (Arnon Mozer)، "يشهدون على عمليات الضرب تلك، وأنهم لم يفعلوا شيئاً حيال ذلك"، وأشار إلى أن بعض الحراس حاول إيقاف الضرب: "وفي عدة مرات، نشب جدال فعلي بين الحراس، بين مَن قاموا بالضرب ومَن حاولوا إيقافه." هذا الأمر كله يشير إلى انتهاك واضح لاتفاقية جنيف الثالثة لسنة 1949، وخصوصاً المادتين 13 و20، بشأن المعاملة الإنسانية لأسرى الحرب في أثناء الأسر.
وعلى الرغم من التفصيلات الدقيقة التي وردت أيضاً في تغطية "نيويورك تايمز" لشهادة جيانو، فإن متحدثاً صحافياً إسرائيلياً وصف شهادة الجراح بأنها "كذب محض". وقد رفع جيانو وأطباء أجانب آخرون شكوى إلى الجيش الإسرائيلي بشأن ما شاهدوه، وفتحت الشرطة العسكرية تحقيقاً، كما غطى الحدث الصحافي البارز روبرت فيسك نقلاً عن متحدث إسرائيلي وعده بنشر التقرير على الملأ، غير أن التحقيق لم يؤدِّ إلى أي استنتاجات عملية، وطُويت القصة في الأدراج. ومثلما قال هارباز لكيدار: "رُفعت شكوى، فاستجوبني الجيش الإسرائيلي، لكنه لم يفعل شيئاً بها." وحتى يومنا هذا، لم تُوجه أي تهمة إلى أي مسؤول أو جندي إسرائيلي.
وشهد دوف يرميا (Dov Yermiya)، المقدم الإسرائيلي الذي أشرف على المساعدات المدنية في صيدا وصار من أبرز منتقدي حرب 1982، عمليات الضرب في مدرسة القديس يوسف، وبلّغ السلطات العسكرية ببعض الحالات، وروى لاحقاً حادثة مماثلة وقعت في لبنان قبل ذلك بعقود، خلال حرب 1948، وكيف أن تدخّله آنذاك أدى إلى توجيه التهمة إلى ضابط إسرائيلي بقتل 35 أسيراً عربياً في وادي الحولة. وقد حُكم على الضابط شموئيل لحيس (Shmuel Lahis) بالسجن سبعة أعوام، لكن عقوبته خُففت ولم يمضِ أي يوم في السجن، بل إنه في نهاية المطاف، حصل على عفو رئاسي وعُين لاحقاً مديراً عاماً للوكالة اليهودية. وقال يرميا في تأمّل للحالات الموازية: "إذا كان هذا قد حدث حينها - ومنذ ذلك الوقت ما زالت الحروب والاحتلال مستمرَّين – فإنه حتى إن كان الجيش مليئاً بالملائكة، فإنهم سيتحولون إلى جنود للشيطان."
حان الوقت لتقبّل تحمّل مسؤولية جريمة حرب
من منزله في البيلوبونيز (Peloponnese) اليونانية، يقرأ الطبيب كريس جيانو من شهادة الكونغرس الأصلية التي أدلى بها في سنة 1982، كما أن الطبيب شتاينار بيرج يروي من النروج ذكريات ما شاهده – وهذان موقعان مسالمان لا يتلاءمان مع العودة بالذاكرة إلى تفصيلات عمليات الضرب في صيدا في الفيلم الوثائقي الذي تتشابك فيه الصور الحية ومقاطع الفيديو لساحة المدرسة وللأسرى المعصوبي الأعين، مع رواية نبيه الشعيبي، الطبيب الفلسطيني الذي عُلّق من يديه على شجرة وضُرب. فالشعيبي يقدم بصوت هادىء ورباطة جأش من غرفة الجلوس في منزله في عمّان، وصفاً مروِّعاً لما عاناه خلال تجربة اقترب فيها من الموت في الأسر، لتكون شهادته العمود الفقري للفيلم الوثائقي.
يقول الشعيبي: "انتُزعت من بين الموتى وعدتُ إلى عالم الأحياء"، ويروي كيف تُرك عن طريق الخطأ بين عدة جثث، ويتذكر أنه دخل في غيبوبة وراح يهلوس في أثناء محنته: "بدأت أتخيل أنني كنت في المسرح، وليس في فصل دراسي مع جنود، في مدرسة مع الجيش الإسرائيلي." وبينما كان الشعيبي يصف التعذيب الذي تعرّض له، أشار إلى الندوب التي بقيت على وجهه، من خرّاج على خده، إلى جرح في شفته السفلى. وفي أحد مشاهد الفيلم، ينهض من كرسيه ليعيد تمثيل طريقة توثيق يديه، بينما الكاميرا تركز على يديه اللتين تحملان آثار ندوب، والمشبوكتين بقوة خلف ظهره.
من خلال المباعدة بين أصوات الجناة بهذه الطريقة، تبتعد كيدار عن نهج "إطلاق النار والبكاء" الذي يشوه عمل العديد من زملائها الإسرائيليين مثل أري فولمان (Ari Folman) الذي أخرج في سنة 2008 فيلمه "فالس مع بشير" الذي يأسر الأنظار، والذي أثار كثيراً من الجدل بشأن أخلاقيات تمثيل الصدمات في زمن الحرب. ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود الجديرة بالثناء لتسليطه الضوء على فصل مظلم من حرب 1982، فإن فيلم "ساحة المدرسة" يظل محاصراً بقيود سياسية وأخلاقية.
في دراستها للأفلام الوثائقية عن الإبادة الجماعية في كمبوديا، تحدثت السينمائية الإسرائيلية رايا موراج (Raya Morag) عن "السينما المختصة بمرتكبي الجرائم" (perpetrator cinema) التي تسمح للناجين بمواجهة مَن اعتدوا عليهم في "مواجهة مباشرة، غير أرشيفية، ووجهاً لوجه"، والتي تفتح بدورها مساحة لتحويل علاقات القوة وخلق شكل مختلف من الأخلاق.
يُصنف فيلم كيدار بقوة ضمن أفلام "صدمة مرتكب الجريمة"، ويخلق صومعة اعتراف لا يتحدث فيها الجنود سوى معها، الإسرائيلية التي هي مثلهم، والتي يمكنها إقناعهم بتقديم اعتراف بالذنب أو بالتباهي. فنحن نشهد عبر الفيلم مقتطفات من الذكريات والممارسات العنيفة بينما يروي الجنود عمليات الضرب، وهي طريقة تستحضر فيلم جوشوا أوبنهايمر (Joshua Oppenheimer) الوثائقي الصادر في سنة 2012 بعنون "فعل القتل" (The Act of Killing) عن عمليات الإعدام الجماعية للشيوعيين في إندونيسيا في ستينيات القرن الماضي.
لكن على عكس الشهود الإندونيسيين في فيلم أوبنهايمر – الذين يبدون الآن وقد انتهى القتال، سعداء إلى حد ما بإعادة تمثيل العنف القاتل الذي مارسوه - فإن الذين قابلَتْهم كيدار ما زالوا يعيشون داخل سياق أعمال العدوان اليومية المستمرة ضد الفلسطينيين في إسرائيل والأراضي المحتلة، وما زالت اعترافاتهم تستحضر درجة معينة من عدم الارتياح في أثناء اجترارهم للأبعاد الأخلاقية لأفعالهم.
ففي بعض الأحيان في الفيلم، يحاول الجنود الإسرائيليون الذين ارتكبوا الانتهاكات تبرير أفعالهم فيذكرونها على أنها أمثلة للدفاع الضروري عن النفس، أو تنفيذ لأوامر تلقوها ممّن هم أعلى رتبة منهم. وفي ترديد لخطاب أريئيل شارون الكاذب بشأن ضحايا مذبحة صبرا وشاتيلا، فإن بعض جنود فيلم "ساحة المدرسة" ينزلق من دون جهد للحديث عن الدفاع عن نفسه ضد "الإرهابيين"، الأمر الذي يستبعد فكرة وجود ضحايا مدنيين في مكان مغلق يمتلىء بالأطباء وعمال الإغاثة وسواهم من غير المقاتلين.
يقول تسور شيزاف (Tzur Shezaf)، مسعف الوحدة القتالية، أنه جادل هارباز بشأن هذا الأمر: "عيدان، يجب ألّا نفعل ذلك. ليس هناك سبب يجعلنا نضربهم. هذا ليس جيداً." ويصف شيزاف لاحقاً كيف شاهد أسيراً يُضرب حتى الموت على يد جنود آخرين: "كانت تلك المرة الأولى في حياتي - وكنت أشبه بقط شارد نال نصيبه من المشاجرات - كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها رجلاً يُضرب حتى الموت. لقد ضربوه هكذا ببساطة حتى الموت. حرفياً. أعني أنني أتذكره لأنه لم يبقَ منه شيء. لقد صار مجرد كيس يئن وبالكاد يتحرك." وعندما سئل هارباز عن مشاركته في الضرب قال: "شعرت بأنني لا أستطيع كبح جماح نفسي. سيكون من الخطأ لو لم أكن هناك، ولو أني طلبتُ من الجميع ضربهم ولم أفعل ذلك بنفسي."
الروايات الجماعية في مجملها هي وثيقة تشي عن غلظة القلب والضيق والذنب المكبوت الذي يميز المجتمع الإسرائيلي المعاصر ومعاملته اللاإنسانية للفلسطينيين. ومثلما هي الحال مع هدم القرى الفلسطينية خلال حرب 1948، فإنه لم يتم تماماً إخفاء ما حدث في ساحة مدرسة القديس يوسف. ففي سنة 1990، على سبيل المثال، كتب شيزاف بنفسه عن جريمة الحرب في موضوع من أربع صفحات في صحيفة حداشوت (Hadashot) العبرية الواسعة الانتشار، ذكر فيه مذكراته الخاصة وتأملاته بشان قدرته المحدودة على وقف عملية الضرب.
في ضوء ذلك، فإن ما كشف عنه الوثائقي حقيقة هو حاجة هارباز والجنود الآخرين إلى الحديث عن جرائمهم. فبدلاً من الاختباء أو لزوم الصمت، فإن الجنود يجدون بعض الراحة، أو ربما حتى الغفران، في إفشاء تفصيلات أفعالهم لكيدار من دون أن يخافوا مطلقاً من تعرّضهم للمساءلة.
أمّا هارباز فقال لصحافي من صحيفة "هآرتس" (Haaretz) أنه وجد صعوبة في مشاهدة العرض الأول للفيلم في آب / أغسطس 2021 في القدس. وقال: "خرجتُ بعد مشاهدة الفيلم مكتئباً؛ شعرت كأنني تلقيت ضربة على معدتي ولم أفهم لماذا، فأنا شاهدت المادة من قبل، ولم يكن هناك شيء جديد، كما لم أفهم لماذا أثرت فيّ بهذا الشكل." وأضاف: "لم أفهم الأمر سوى بعد عدة أيام عندما أحضرت نوريت [كيدار] الأطباء الذين أتذكرهم، فعندما وصفوا ما تعرضوا له، كان هذا أقوى بعشر مرات ممّا يمكننا وصفه."
ألقى القائد السابق باللوم على قوى أكبر منه، وأصرّ على أن الجنود كانوا "إنسانيين قدر الإمكان، لكن في مثل هذه الحالة فإن ذلك يكون مستحيلاً." وأوضح: "كانت مساعدتنا الشرطة العسكرية في السيطرة على المعتقلين هي المهمة الأكثر تخلفاً، لكن فجأة انقلب كل شيء رأساً على عقب، وصرت مسؤولاً. جريت إلى الحاكم العسكري والجنرال وبلّغتهما أن الأمر يبدو سيئاً، وأننا نتحمل فوق طاقتنا، ومع ذلك - فجأة فقدنا السيطرة."
وعلى الرغم من عدم ارتياحه، فإن هارباز اتصل بـ "كيدار" للتشديد على أنه يتعين عليها أن تقدّر أنه قدم نسخة من مذكراته في زمن الحرب التي كشف فيها تفصيلات ما حدث. إن حاجة هارباز إلى الكشف عن هذه الوقائع، وتوريط نفسه علناً في تلك الجريمة المروعة، يثيران أسئلة مهمة عن الدافع والعواقب والسعي للحصول على تقدير لما فعله.
على عكس رواية شيزاف المخالفة لتلك الوقائع في سنة 1990، وعلى عكس فيلم "فالس مع بشير" الذي عُرض في سنة 2008، فإن سلوك هارباز يشير إلى أن أوائل عشرينيات القرن الحادي والعشرين هي فترة أصبح فيها الاعتراف بارتكاب جريمة حرب يحظى بقبول أكبر في إسرائيل. فعلى غرار تحذير دوف يرميا ممّا حدث في سنة 1948، فإن ما كان يمكن أن يعتبره البعض خطاً أحمر في الماضي، بات الآن ممكناً الكشف عنه مع إفلات كامل من العقاب، فالخوف من كشف ما حدث اتخذ الآن شكلاً قهرياً من الحاجة إلى الإفصاح.
إن احتفاء الجمهور الإسرائيلي بـ إيلور عزاريا (Elor Azaria)، وترحيبه بالإفراج المبكر عنه – وهو مسعف عسكري أدين بعد تصويره بالكاميرا وهو يطلق النار في سنة 2016 على مهاجم فلسطيني يتلوى في زاوية شارع في الخليل بعد فترة طويلة من شل حركته عقب إصابته - هو مؤشر واضح إلى الكيفية التي تتغير وفقها حدود العنف المقبول. فمثلما تبيّن حالة عزاريا، وعلى الرغم من أن بعض جرائم الحرب قد يتم توثيقه اليوم والاعتراف به، فإن الإفلات من العقاب ما زال قائماً. وبدلاً من ذلك، فإن الحديث أمام الكاميرا يصير سياقاً آخر في المسعى الإسرائيلي للبحث عن التبرئة، من دون الاضطرار إلى مواجهة مساءلة حقيقية على الإطلاق.
قال هارباز لصحافي من "هآرتس" بعد عرض الفيلم الوثائقي: "نظرياً، لم نكن مذنبين بأي شيء. ففي نهاية المطاف، حذّرنا في ذلك الوقت ممّا كان يحدث هناك، وتكلمنا مع أعلى المستويات، وتحدثنا أيضاً عن (النقص في) الطعام والماء، وكذلك عن عمليات الضرب. لا أستطيع أن أقول اليوم أنه كان عليّ أن أفعل شيئاً آخر."
كلمات التبرير هذه يكذبها فصل هارباز لأفعاله عن النتيجة التي تلت: "فجأة يحدث ذلك. وفجأة عندما أخلوا الباحة بعد الظهر، كان هناك أشخاص موتى. لذلك فهو شيء يبقى معك طوال الوقت، والسؤال هو ما إذا كان يتعين علينا أن نتصرف على نحو مختلف على أي حال." في رواية هارباز، يبدو الأمر كما لو أن "الموتى" ظهروا للتو، وتجسدوا بمحض إرادتهم. فالمسافة التي يضعها بينه وبين جنوده والجثث الماثلة أمامهم تعكس الخط المتآكل للوعي الجماعي الإسرائيلي في إدراك العواقب الأخلاقية لعنف الدولة والعنف الفردي المستمر بلا هوادة اليوم.
وبدلاً من مواجهة وجود ضحايا مجهولين، فإن قصة هارباز تدور مرة أُخرى حول صدمة الجندي، الأمر الذي يغذي أيضاً، وعلى نطاق أوسع، المشاعر العامة في إسرائيل حيث يُستبعد باستمرار التفكير في العلاقة السبيية وراء ما يحدث، أو يتم تبريره. وفي شرح أسباب مشاركته في "هآرتس"،
يأمل هارباز بأن يكون وثائقي "ساحة المدرسة" قادراً على إثارة نقاش عن "الضرر الأخلاقي" أو "الصدمة الأخلاقية": وهي مصطلحات نفسية تصف الضرر الذي يلحق بضمير شخص عندما يقوم بأفعال لا تتفق مع معايير قِيَمه، أو قواعد سلوكياته وأخلاقياته، أو فشله في تجنّبها. يقول هارباز: "إنه شيء لا نتحدث عنه على نحو كافٍ، وأعني بذلك الأشخاص الذين يفعلون أشياء معينة، ثم في وقت لاحق يشعرون بأنه ما كان ينبغي لهم فعلها من الناحية الأخلاقية. هذا يحتاج منا إلى أن نتحدث عنه، لأن الجنود في المناطق ]المحتلة[ يتعرضون بالتأكيد لمثل هذه الأمور اليوم. فكثيرون من المدنيين يُقتلون في المناطق، لكن لا أحد يتحدث عمّا يفعله ذلك بالجنود. هذه قضية تتعرض للإهمال، وهؤلاء الأشخاص بحاجة إلى العلاج."
وبالتالي، فإن هارباز دليل مثالي على أمراض المجتمع الإسرائيلي الذي تنهشه عدم القدرة على التعامل مع عواقب القوة، والقادر فقط على رؤية نفسه في موقع الضحية على أيدي الآخرين. إن هذه التقوى تبدو جوفاء عندما يتم التحدث عنها داخل حدود نظام يرفض الاعتراف بوظيفته كمورِّد للعنف؛ نظام معتاد جداً على التحدث بعبارات غير إنسانية عن رعاياه العرب والفلسطينيين.
من الطنطورة إلى صيدا
حظي فيلم "ساحة المدرسة" باهتمام كبير في إسرائيل، بعد أن عرضت قناة كان (KAN) نسخة مختصرة منه في تشرين الأول / أكتوبر 2021. كما حاز تنويهاً مشرفاً في مهرجان القدس السينمائي في تلك السنة. غير أن معاناة كيدار المبكرة من أجل تأمين التمويل للفيلم يشير إلى الإحجام العام عن إعادة النظر في مجريات حرب لبنان.
هذا الأمر يمثل جزئياً إرث ما يسمى "حرب الاختيار" التي لم تحظَ بتأييد شعبي كبير في إسرائيل، إذ كان الجمهور الإسرائيلي يصارع للتعامل مع أهداف الحرب المضللة ومع أحداث مؤلمة مثل مذبحة صبرا وشاتيلا. وقد أدى التمزق الاجتماعي إلى رفض الخدمة العسكرية والاحتجاج العام والإنتاج الثقافي والاضطرابات المناهضة للحكومة التي عززت الحركات الداعية إلى السلام مثل حركة "السلام الآن"، و"هناك حدود" (يش غفول)، (التي دعمت الإسرائيليين المستنكفين ضميرياً عن أداء الخدمة العسكرية) ومنظمات المجتمع المدني الأُخرى. والدافع إلى فقدان الذاكرة الانتقائي هو أيضاً نتيجة ثانوية للاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني لـ 18 عاماً، والذي أثّرت خسائره في أجيال متتالية من الجنود، وكانت وراء "حركة الأمهات الأربع" التي ساهمت في الضغط الشعبي للانسحاب من لبنان في سنة 2000.
في أعقاب حرب لبنان، نشأت حركة تدعو إلى إجراء محاسبة تاريخية لقصة الرواية الأصلية لإسرائيل بشأن هذه الحرب. فتجاوُز الغزو للأهداف المعلنة، والمناخ السياسي الداخلي، دفعا علماء على غرار أولئك الذين يُعرفون باسم "المؤرخين الجدد"، إلى إعادة النظر في الأساطير التي تأسست عليها الصهيونية والدولة، مسنودين بأرشيف حرب 1948 الذي رُفعت عنه السرية بعد مضي 30 عاماً. وإذا كان مناحم بيغن خدع الناس بشأن نيته عدم التوغل أكثر من 40 كيلومتراً في حزيران / يونيو 1982، أفلا تستحق مزاعم ديفيد بن - غوريون بشأن العدوان العربي وفرار الفلسطينيين في أيار / مايو 1948 التحقيق فيها أيضاً؟
إن الذكرى الأربعين لحرب لبنان السنة الماضية تزامنت مع السماح المتزايد بالاطلاع على مجموعات وثائقية رئيسية مثل أرشيف الجيش الإسرائيلي، إلى جانب وجود رغبة أكبر لدى قدامى المحاربين في الجيش، في الحديث علناً عمّا مروا به من تجارب. ولا شك في أن هذه الظروف ستولد أشكالاً جديدة من الذاكرة التاريخية، ومخاطر مصاحبة لها هي مثلما كتب الباحث الإسرائيلي آشر كوفمان (Asher Kaufman)، أن سنة 1982 يمكن أن تُستذكر على أنها حرب معفاة من الشعور بالذنب، أو حتى "مصدر فخر وطني".
ومع وصول أصوات الجنود الذين شاركوا في حرب 1982 إلى جماهير أوسع، فإن الناجين اللبنانيين والفلسطينيين يواجهون مشهداً عاماً من الإفلات من العقاب الإسرائيلي، مضافاً إليه النجاح السياسي للسياسيين اللبنانيين الفاسدين تماماً، والذين كانوا عملاء للتدمير في زمن الحرب، ومعززاً باتفاقيات التطبيع العربية مع إسرائيل التي همّشت التطلعات السياسية الفلسطينية. وبهذا المعنى، فإن حرب 1982 لم تنتهِ حقاً، بوجود أفلام مثل "ساحة المدرسة" تسلط الضوء على خيط تاريخي واضح يخبرنا عن الحاضر بقدر ما يخبرنا عن الماضي.
إن الفيلم الوثائقي الأخير "الطنطورة" (Tantura) للمخرج ألون شفارتس (Alon Schwarz) يقدم مثالاً لهذا الخيط أو الامتداد التاريخي، إذ يتضمن الفيلم شهادة جنود لواء إسكندروني الذين ذبحوا أكثر من 200 فلسطيني في قرية للصيادين على شاطىء البحر خلال حرب 1948، وهي واقعة نفاها المسؤولون الإسرائيليون مراراً وتكراراً، لكن الشهود والناجين ما زالوا يتذكرون تفصيلاتها جيداً، وقد أرّخها على نطاق واسع كتّاب وباحثون فلسطينيون ومنتجو أفلام مثل حاج محمد نمر الخطيب، ومصطفى الوالي، وابتسام مراعنة.
والجدير بالذكر أن أطروحة ماجستير مكتوبة بالعبرية بشأن ما حدث في الطنطورة، والتي قدمها المؤرخ تيدي كاتس (Teddy Katz) في جامعة حيفا، سُحبت بعد اتهامات باطلة بأنه اختلق مصادره الواسعة. غير أنه في الواقع أجرى مقابلات مع مرتكبي جرائم الحرب أنفسهم الذين يتحدثون الآن علانية عن أفعالهم أمام الكاميرا، وجمع أكثر من 100 ساعة من الشهادات من فلسطينيين ويهود.
ومثلما يبيّن فيلم شفارتس، فإن الجمهور العام لا يولي الحدث أي اهتمام إلى أن يروي الجنود أو المخرجون الإسرائيليون ما حدث، الأمر الذي يؤدي أخيراً إلى لفت الاهتمام وإن بشكل عابر، إلى مثل هذه الفظائع. فالشهادات الفلسطينية عن النكبة - مثل روايات شهود العيان على عمليات القتل في ساحة المدرسة في سنة 1982، أو أعمال العنف الأخيرة في غزة والضفة الغربية – استُقبلت على الدوام بالإنكار، هذا إذا تم تسجيلها أساساً، لكن التاريخ لا يعدم وسيلة لتصحيح الإنكار المستمر، مثلما تفعل هوية ناقل الرسالة.
تمتد جذور المناخ السائد بضرورة معالجة صدمة الجاني والمطالبة بالغفران أعمق في التاريخ الإسرائيلي، وتتميز بنمط من الأفعال اللاأخلاقية متبوعة بالاشمئزاز منذ النكبة. ففي الماضي - سواء في رواية س. يتسهار (S. Yizar) "خربة خزعة" (Khirber Khizeh)، أو الرواية الممنتجة لجنود شاركوا في حرب 1967 وما بعدها كجزء من كتاب أبراهام شابيرا (Avraham Shapira) وعاموس أوز (Amos Oz) "اليوم السابع" (جرى إخراجه لاحقاً في فيلم وثائقي) - ألقى التلميح بالحرج والشعور بالخزي مسحة من الجدية الأخلاقية على ممارسة الذاكرة. لكننا دخلنا عصر الإفلات من العقاب حيث يتم تبرير العنف على أنه ضروري، وشرط مسبق للبقاء، ويُفصح عنه من دون تردد.
إن المقابلة الصريحة التي أجراها المؤرخ الإسرائيلي بني موريس (Benny Morris) مع الصحافي آري شافيت (Ari Shavit) خلال الانتفاضة الثانية هي رمز لهذا التحول. فقد وصف موريس التطهير العرقي للعرب على أنه الطريقة الوحيدة لمنع إبادة اليهود الجماعية، وأنه سردية تدخل في باب "الضرورة" التي يروج لها اليمين الإسرائيلي للإصرار على أن النكبة لم تذهب بعيداً بما فيه الكفاية.
حتى شافيت بدا ساخطاً في ذلك الوقت إلى أن نُشر ما كتبه عن إخلاء مدينة اللد الفلسطينية من سكانها على صفحات "ذا نيويوركر". فقد كتب عن مرتكبي جريمة الحرب تلك: "إذا لزم الأمر، سأقف إلى جانب مَن تقع عليهم اللعنة، لأنني أعلم أنه لولاهم لما ولدت دولة إسرائيل. لولاهم لما وُلدتُ. لقد أدوا العمل القذر الذي مكّن شعبي وأمتي وابنتي وأولادي، ومكّنني أنا نفسي من العيش."
ربما تآمر في الماضي قدامى العسكريين الإسرائيليين الذين ارتكبوا مجزرة الطنطورة للتستر على القتل العشوائي للأسرى الفلسطينيين بعد نهاية المعركة، لكن الآن، فإن ما اقترفته أيديهم أصبح يناقَش علانية أمام الكاميرا. هذه ليست مواجهة من أجل الجبر والإصلاح. لنأخذ مثالاً لذلك الفيلم الأخير "أمهات بالتوازي" (Parallel Mothers) لبيدرو ألمودوفار (Pedro Almodóvar)، ومشهده الأخير المؤثر حين يقف أحفاد الديكتاتور فرانكو معاً بينما يكشف خبراء الطب الشرعي عن وجود مقبرة جماعية خارج قريتهم، الأمر الذي يؤشر إلى طريق للمضي قدماً بعيداً عن تاريخ من العنف.
وفي المقابل، استقبل المؤرخ المشاكس يوآف غيلبر (Yoav Gelber) الحديث عن نبش مقبرة جماعية في الطنطورة في نهاية فيلم شفارتس بالإنكار. فالمقبرة تقع تحت موقف للسيارات على شاطىء نحشوليم (Nahsholim) من دون أي لافتة تشير إليها، فضلاً عن عدم وجود لوحة تذكارية. لكن في المشهد الأخير من فيلم "ساحة المدرسة"، يؤتى بمنتج أفلام محلي إلى مقبرة صيدا لمقابلة أحمد فايز، نجل حفار القبور الذي ساعد والده في دفن الرجال السبعة في صيف سنة 1982. وبينما هو يشير إلى قبرهم الجماعي، تبدأ أسماء المشاركين في الفيلم بالظهور على الشاشة، وكذلك صور بعض القتلى.
الانحلال الأخلاقي
باستثناء الشعور بالشفقة على الموتى، ما الذي تخبرنا به هذه القصص؟ هل حقاً يُجدي مثل هذه الأفلام في ظل غياب العدالة ومع استمرار الإفلات من العقاب؟ إن أحد الدوافع الملحة إلى مشاهدة "ساحة المدرسة" أو "الطنطورة" هو رؤية الجناة يخضعون للتحقيق وتوجيه التهمة إليهم عن جرائمهم. فبدلاً من مشاهدة الكاميرا تعبر فوق وجوههم المسنّة، يتساءل المرء إن لم يكن من الأجدى مشاركة الأدلة مع المحامين لبدء الإجراءات الجنائية الدولية ضدهم.
أهداف كيدار أكثر تواضعاً مثلما أوضحتْ لصحيفة "هآرتس": "من ناحية، تقول لنفسك حسناً، إن كثيراً من الأشياء يحدث في الحروب، لكن هذا لا يبرر ما حدث هناك. بالنسبة إليّ، من المروّع أنه منذ الحرب العالمية الثانية كانت جميع الحروب في العالم عبارة عن حرب يخوضها جيش ضد مدنيين، وفي حروب كهذه، هذا ما يحدث. أنا لا أتظاهر بأنني قاضية لأحدد مَن على حقّ ومَن ليس كذلك، لكني أريد أن أضع مرآة أمامهم."
لكن مَن هو الذي يشاهد بالضبط؟ ففي زياراتي الأخيرة لتل أبيب، صُعقت بالانفصال المتسع باستمرار بين العنف اليومي ضد الفلسطينيين والتوسع الاقتصادي المستمر في المدينة. هذا الأمر لم يقلل من حماسة الإسرائيليين للخدمة العسكرية الإلزامية، أو التفاني العميق للجيش، فالزملاء تحدثوا بصراحة عن رغبة الأطفال والأحفاد في الانضمام إلى الوحدة 8200، وهي فيلق استخبارات الجيش الإسرائيلي الذي يحظى بشعبية كبيرة لدى الأشكناز من الطبقة الوسطى العليا في أحياء تل أبيب المتروبولية. وبالنسبة إلى أولئك الذين يرغبون في تجنّب الأدوار القتالية، فإنه يمكن للمجندين بدلاً من ذلك العمل في عمليات استخبارات سرية قبل الانتقال سريعاً إلى العمل في قطاع التكنولوجيا.
في هذا المشهد الإسرائيلي في القرن الحادي والعشرين، قد يكون الفيلم الوثائقي دخيلاً من الناحية السياسية، لكنه مرآة للتغير الجاري في الأعراف المجتمعية، ولعالم أخلاقي ينتقل من القلق والخوف من الاضطهاد إلى الاستعداد للكشف عن أعمال غير مسؤولة ارتُكبت في الماضي، بل حتى التباهي بذلك. فالحاجة إلى الحديث عن جرائم الحرب تشير إلى شكل معين من الذنب، وممارسة مشوهة لإحياء الذاكرة بدأت تطفو على السطح. ومع أنها تربط أحداث سنة 1982 بما حدث في سنة 1948، فإنها تُظهر أيضاً عدم القدرة على التحرر من الماضي من خلال مواجهة حالات العنف التي تحدث اليوم.
لننظر إلى عملية تكميم الفلسطيني - الأميركي عُمر أسعد البالغ من العمر 78 عاماً على يد جنود إسرائيليين في قرية جِلْجِليّة في الضفة الغربية في كانون الثاني / يناير، والتي تسببت بإصابته بنوبة قلبية أدت إلى وفاته، من دون أن يكون لذلك أي تداعيات. هناك حالة من الخِسة والخَدَر في الردود الرسمية والعامة على جرائم الحرب الفظيعة هذه: فالحالات التي كانت تُصنف في السابق على أنها "عَلَم أسود" يستلزم الرفض، بات اليوم يُدافع عنها في العديد من النواحي، وهو مؤشر واضح إلى المدى الذي وصله الانحلال الأخلاقي الإسرائيلي.
عندما لا تُسمى الجرائم على أنها جرائم، وعندما تظهر الجثث ببساطة فجأة على الأرض - سواء في مقبرة الطنطورة الجماعية أو في ساحة مدرسة صيدا، أو على طريق خارج جِلْجِليّة - فإن الجناة يُتركون للتحدث في الفراغ ومصارعة شياطينهم، لكن ليس مع البنى المؤسساتية التي تواصل ارتكاب مثل هذا العنف. إنها مساحة خادعة للتفكير والتعبير عن الأسى والضيق لأنه لا يوجد غفران من دون مساءلة، ولا قدرة على النظر إلى الوراء من دون عدالة.
إن حرب لبنان تقدم دروساً مهمة في هذا الصدد. فقبل أيام من قيام هارباز ورجاله بضرب السجناء في ساحة المدرسة، رفض طيار احتياط إسرائيلي تنفيذ أمر بقصف مدرسة قريبة في صيدا، والذي كان موضوعاً لعمل الفنان أكرم الزعتري الآسر "رسالة إلى طيار رافض". لكن حالات الرفض هذه تتراجع وترسم حدود الرفض في عصر يسهل فيه الاعتراف بالذنب. فالجيش الإسرائيلي الذي ما زال حتى اليوم أيضاً يواصل مقاومة التحقيق في الاتهامات بارتكاب عمل غير قانوني، هو أقل تأثراً من قبل بالازدراء أو الإدانة الدولية التي يتعرض لها.
على المستوى الأصغر، يستحضر هذا الانقسام بين الأعمال الفردية الشجاعة، والعنف البنيوي، المعركة بين الذين يضربون الأسرى والمعارضين لذلك في ساحة مدرسة صيدا. وهذا هو السبب الذي يجعل ردات فعل كثير من الفلسطينيين لاذعة بشأن ما كَشف عنه في عملية "كسر جدار الصمت" (Breaking the Silence) جنودٌ إسرائيليون شهدوا جرائم حرب: فهم ينظرون إلى معاناتهم على أنها خطاب احتجاجي أكثر من كونها بحثاً عن العدالة، لأن شهاداتهم مدموجة في السياق الاستيطاني الأوسع. ففي إطار الثقافة السياسية الإسرائيلية لسنة 2022، فإن مَن تولوا ضرب السجناء هم الذين يحظون بعلوّ الشأن، حتى لو أن الأصوات المعارضة تساعد على الحفاظ على روح الدولة.
في صباح اليوم نفسه الذي قُتلت الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في أثناء تغطيتها عملية اقتحام نفذها الجيش الإسرائيلي في جنين، تلقيتُ بريداً إلكترونياً من أرشيف الجيش الإسرائيلي يحتوي على ملف فيه مقاطع فيديو كنت قد طلبتها من أجل مشروع كتاب عن حرب 1982: صور أحد الأفلام إجلاء عائلة لبنانية من مشارف بيروت خلال القصف الكثيف؛ أم وأب يمسكان بأطفالهما وهم يركضون إلى سيارتهم ويتجمدون في مكانهم وسط أزيز الرصاص.
رافقتني نظرة الرعب على وجه ابنهما الصغير وأنا أشاهد مقاطع من مشاهد ما يجري في جنين، فوجه شذى حنايشة، زميلة أبو عاقلة، حمل نظرة الألم نفسها وهي تقف بجانب جسد المراسلة الجريئة بعد أن فارقت الحياة. إنها صورة العجز والصدمة نفسها في وجه العنف.
دارت في وسائل التواصل الاجتماعي رحى معركة متوقعة بشأن مَن يتحمل مسؤولية مقتل أبو عاقلة. فقد نشر رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت مقاطع فيديو على حسابه على تويتر في محاولة لإثبات أن المسؤول عن مقتلها هو مسلح فلسطيني وليس قناصاً إسرائيلياً. وكتب نحمان شاي (Nachman Shai)، وزير شؤون الشتات الإسرائيلي، أن وفاتها "أمر محزن ومؤسف جداً"، مضيفاً أنه "يجب تحديد المسؤولية عن وفاتها من خلال تحقيق سريع جدير بالثقة وشفاف، وأن على الفلسطينيين السماح بإجراء تحقيق مشترك مع مسؤولين دوليين، من أجل القيام بذلك."
لقد شكّل نمط الاتهامات والإنكار والدعوات إلى التحقيق منعطفاً آخر في جولة من الممارسات غير الإنسانية. فبالنسبة إليّ كمؤرخ يبحث في أحداث سنة 1982، فإن التصريحات العلنية كانت حلقة مألوفة من التبريرات المعتادة التي استُخدمت في أثناء دخول إسرائيل إلى بيروت، الأمر الذي ساعد على محاربة التغطية الإعلامية النقدية.
ومن المفارقات أن شاي هو الذي كان عرضة لانتقادات في صباح اليوم التالي لأنه أشار عبر الإذاعة إلى أن التحقيق الإسرائيلي في مقتل أبو عاقلة قد لا يُعدّ ذا صدقية نظراً إلى السجل الحافل لمثل هذه التحقيقات. فقد قال: "مع كل الاحترام لنا، يجب أن نقول إن صدقية إسرائيل ليست عالية جداً في مثل هذه الحالات."
وبطبيعة الحال، صبّ النقاد المنتمون إلى اليمين غضبهم على شاي - لكن من الصعب اعتبار الوزير بطلاً صهيونياً ليبرالياً. ففي مقالة في صحيفة "نيويورك تايمز" عن شهادة كريس جيانو أمام الكونغرس قبل 40 عاماً، لم يكن المتحدث الإسرائيلي في واشنطن الذي نفى عمليات الضرب في صيدا سوى الشاب نحمان شاي نفسه الذي وصف شهادة جيانو بأنها "كذب محض". وهنا يحقّ للمرء أن يتساءل كيف سيصف الوزير شهادات ساحة المدرسة اليوم.
لم تتم محاسبة أي شخص على ضرب سبعة رجال حتى الموت في صيدا، وما من شك في أن المسؤولين عن مقتل أبو عاقلة لن يحاسبوا كذلك. فالتحقيقات التي أجرتها "نيويورك تايمز" و"سي إن إن" و"أسوشيتد برس" تؤكد أن القوات الإسرائيلية استهدفتها على الأرجح، بينما خَلُص تحقيق فلسطيني إلى أن قتلها كان متعمداً. إن المطالب الإسرائيلية بإجراء تحقيق كامل قوبلت بالانتقادات والاستنكار.
غير أن إسرائيل وداعميها في الخارج عملوا على عرقلة إمكان حدوث عواقب لما حدث، كما أن الجيش قرر أن "ما من حاجة" إلى فتح تحقيق جنائي بسبب "طبيعة العمليات التي جرى خلالها قتال كثيف وتبادل مكثف لإطلاق النار." وعشية زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإسرائيل في ذاك الشهر، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً صيغ بدقة وخَلُص إلى أن "من المرجح أن إطلاق النار من مواقع الجيش الإسرائيلي هو المسؤول عن مقتل شيرين أبو عاقلة"، لكن "لم يُعثر على سبب للاعتقاد بأنه كان متعمداً." وعند رفض فكرة القصد، فإن المنظومة الشاملة التي تنتج مثل هذا العنف وتضفي الشرعية عليه تظل مهيمنة من دون منازع.
وهكذا يوضح موت أبو عاقلة عبرة أساسية من أحداث سنة 1982، وهي أنه من دون جبر وتصحيح جرائم الحرب التاريخية والمستمرة، فإن المجتمع الإسرائيلي سيبقى في مخاض العنف، مجرداً من الإدراك المتأخر، وغير قادر على مواجهة عواقب تصرفات الفرد أو الدولة. فمن دون المساءلة، سيستمر الجناة في سرد أفعالهم في جلسات خاصة وأمام الكاميرات – بطريقة ملتوية أو حتى بمباهاة، أو بالتهجم على الضحايا - بينما يفتقرون إلى الواعز الأخلاقي، أو إلى التسوية النفسية التي يتوقون إليها.
هذا موقف ضعف استراتيجي وأخلاقي مثير للشفقة، لكنه ليس مأسوياً، لأن الفلسطينيين هم الذين سيستمرون في دفع ثمن الإفلات من العقاب. فما دام الإسرائيليون لا يستطيعون أن يواجهوا تبعات سلطة الدولة وسيادتها في كل من مظهرَيها القومي والاستعماري، فإن المستقبل سيشهد مزيداً من هذه الجرائم.
* مقالة لسِثْ أنزيسكا بعنوان: “Confession Without Consequence”، منشورة في 26 تموز / يوليو 2022، في مجلة +972 Magazine.
ترجمة: صفاء كنج.