ثلاث من الانتفاضات العشر التي دشّنت سيرورات ثورية في المنطقة العربية منذ "الربيع العربي" حتى يومنا هذا، جرى وأدها عبر تحويل مسارها إلى حرب أهلية بين قوى متساوية في رجعيتها: فبينما جرى القضاء على المسار الثوري في كل من البحرين ومصر والجزائر والعراق ولبنان، وأخيراً في تونس، بواسطة القمع الذي نفّذته قوى النظام القائم الذي هبّت الثورة ضده، غرق المسار الثوري في وحول الحرب الأهلية بين معسكرين سادت فيهما قوى رجعية في كل من سورية وليبيا واليمن. وها إن السودان الذي بقي وحده في الميدان رافعاً مشعل التغيير الثوري يشهد بدوره حالة حرب أهلية، إنما بفارق مهم هو أنها ليست حرباً بين شطرَي مجتمع انقسم على نفسه، بل اقتصرت حتى كتابة هذه الأسطر على جناحين من القوى المسلحة التي استند إليها النظام القديم الذي أسقطت الانتفاضة رأسه عمر البشير.
صحيح أن الطرفين المتصارعين في كل من سورية وليبيا واليمن ضمّا في صفوفهما أجزاء من القوات المسلحة السابقة للثورة، بيد أن المجتمع انقسم، في معظمه، في البلاد الثلاثة بين المعسكرين. أمّا ما هو فريد في السودان فهو أن المجتمع، في أغلبيته العظمى، لا ناقة له ولا جمل في الصراع الدائر بين القوات المسلحة النظامية التي يرأسها عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع التي يتزعمها محمد حمدان دقلو، والتي يعود أصلها إلى ميليشيات الجنجويد التي اشتهرت بمآثرها الإجرامية في نزاع دارفور في ظل نظام البشير، إلى أن منحها المذكور صفة رسمية قبل عشرة أعوام، جاعلاً منها قوات "دعم سريع" للقوات المسلحة النظامية، متخصصة بتنفيذ المهمات القمعية الأبشع التي يصعب زجّ الجيش فيها.
إن الشعب السوداني يتفرج على الصراع الدائر وليس مشاركاً فيه، لكنه للأسف ليس بمنأى عن آثار القتال، بل هو ضحيته الأولى؛ ضحية سلبية لا قدرة لها على الفعل في وجه المسلحين، أكانوا من الطرفين المتنازعين أم من عصابات اللصوص التي استغلت الفوضى الناشئة عن النزاع كي تعيث في الأرض فساداً (ويؤكد بعض أهل السودان أن تلك العصابات تضم في صفوفها جماعات من المعسكرين المتصارعين). أمّا النتيجة، فهي أن الشعب السوداني، ولا سيما سكان العاصمة الخرطوم، مطحون بين مطرقة الجيش وسندان الدعم السريع، ويعاني أزمة إنسانية لا تني تتسع منذ أن نشبت الحرب بحيث باتت تشمل مئات الآلاف من البشر، وهي في طريقها إلى أن تصبح مآسيَ قد تضاهي تلك التي نجمت عن حرب اليمن.
أمّا خلفية الصراع الراهن، فهي أن القوات المسلحة لم ترضَ قط بالتخلي عن سلطتها وما يصاحبها من إمبراطورية اقتصادية وامتيازات، وإنما ظنت في نيسان / أبريل 2019 أنها قادرة على الاحتفاظ بها جميعاً من خلال الإطاحة بالبشير وجعله كبش فداء لخلاصها. لكنها سرعان ما رأت أن العملية لم تنطلِ على الحراك الشعبي الذي ظل مصرّاً على مطلبه الرئيسي بتسليم السلطة للقوى المدنية على أساس ديمقراطي، فحاول العسكر أن يردعوا الحراك بمعونة قوات الدعم السريع في أوائل حزيران / يونيو من ذلك العام، فكانت مجزرة فضّ الاعتصام أمام مقرّ قيادة القوات المسلحة. بيد أن الحراك الشعبي أبى الرضوخ، لا بل ظهرت بوادر تمرد قاعدي داخل القوات المسلحة فرض على القيادة العسكرية التراجع.
دخلت الطغمة العسكرية في تفاوض مع الحراك الشعبي نتجت منه مساومة سياسية أُبرمت في آب / أغسطس 2019، وتقضي بالدخول في مرحلة انتقالية لأربعة أعوام يجري خلالها صوغ مؤسسات ديمقراطية جديدة، ويتم في ختامها انتخابات ديمقراطية تستكمل انتقال السلطة من العسكر إلى المدنيين. غير أن المساومة لم تكن بالنسبة إلى العسكر سوى وسيلة لكسب الوقت من أجل الانقضاض على الحراك الشعبي. وجرى التمهيد لذلك من خلال السعي لشقّ القوى السياسية والنقابية التي تشاركت السلطة معها بموجب المساومة، فقام العسكر بانقلاب قضى على هذه الأخيرة في تشرين الأول / أكتوبر 2021، قبل أشهر من تسليم البرهان منصب رئاسة الدولة إلى شخصية مدنية. وقد راهن العسكر على أن الحراك الشعبي لن يستطيع النهوض من جديد.
غير أن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر لدى العسكر مرة أُخرى، إذ هبّت في وجه الانقلاب معارضة شعبية عارمة شكلت "لجان المقاومة" الشبابية عمودها الفقري. وقد شُلّت البلد بحيث عجز العسكر عن ممارسة السلطة مثلما شاؤوا، بل تفاقمت الحالة الاقتصادية نتيجة ذلك، ولا سيما أن الجهات الغربية المانحة جمّدت عونها للسودان، وأصرت على العودة إلى مسار المساومة بين العسكر والمدنيين. في هذه الأثناء تصاعد التوتر بين القوات المسلحة النظامية وقوات الدعم السريع، وارتأى زعيم هذه الأخيرة أن يتنصل من الجيش إزاء الإخفاق الذي أصابه، الأمر الذي جعل النقمة بين الطرفين تبلغ أوْجَها. وقد اضطر العسكر للمرة الثانية إلى التفاوض مع القوى المدنية، تحديداً تلك التي أزاحوها من السلطة في خريف سنة 2021، وعقد تسوية سياسية جديدة، وذلك بهدف كسب الوقت في سبيل الإعداد لجولة جديدة بهدف القضاء على المسار الثوري في البلد.
غير أن الجيش النظامي بقيادة البرهان أراد هذه المرة أن يقضي على استقلالية قوات الدعم السريع بحيث لا تتمكن من وضع العصي في عجلته في الجولة المقبلة، الأمر الذي فجّر الصراع الدائر، إذ رفض دقلو أن تخضع قواته لإمرة الجيش النظامي. وخلال التطاحن الدائر على حساب الشعب السوداني، يصور دقلو نفسه على أنه يقاتل ضد "الإسلاميين"، مشيراً إلى تمثيل الإخوان المسلمين وغيرهم من الأطراف الإسلامية المتشنجة التي استند حكم البشير إليها، وذلك من أجل إغراء القاهرة وأبو ظبي والرياض، الثالوث المعادي للإخوان المسلمين الذين ترعاهم الدوحة ومعها أنقرة. وبذلك يؤكد دقلو انتهازيته القصوى، هو الذي ترعرع في السلطة بفضل البشير ونظامه المستند إلى الأصوليين الإسلاميين، إلى أن شارك في الإطاحة براعيه السابق.
لكن من المستبعد جداً أن تقف القاهرة أو أبو ظبي أو الرياض ضد الجيش النظامي السوداني، ولا سيما أن العواصم الثلاث تدرك تماماً أن قوات دقلو لا تستطيع حكم السودان، وأن البديل من القوات النظامية هو الفوضى، إن لم يكن استكمال الثورة، والاحتمالان مرعبان للمحيط العربي الرسمي.
يقف السودان اليوم أمام ثلاثة احتمالات: أن يغرق البلد في وحول حرب طويلة الأمد على منوال ما شهدته سورية وليبيا واليمن، مع عامل إضافي يساهم في مفاقمة الوضع هو تعدد البلد الإثني والإقليمي؛ أن تستتب الأمور إلى حدّ ما تحت سيطرة القوات المسلحة النظامية؛ أو – وهو الاحتمال الأضعف، لكنه الأفضل من وجهة نظر المصلحة الشعبية – أن يُضعف الطرفان أحدهما الآخر بحيث تتمكن الحركة الشعبية من تحقيق ما تصبو إليه من تغيير ديمقراطي. بكلام آخر، فإن السودان يقف على مفترق طرق، بين أن يُدق الإسفين الأخير في نعش الطور الثوري الذي بدأ في تونس في نهاية سنة 2010، ثم انتعش في السودان في نهاية سنة 2018، أو أن يدشَّن طور ثوري جديد في المنطقة العربية. وفي الحالتين، فإن السيرورة الثورية التي شكل "الربيع العربي" محطتها الأولى الطويلة الأمد، ستشهد محطات أُخرى مقبلة لا محالة، ما دامت الأزمة البُنيوية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي نجمت عنها السيرورة، لا تزال قائمة.