أكتب عمّا يجري، وليس عمّا جرى، فالحدث متدحرج، ونحن لسنا متأكدين بعد متى بدأ، لكننا متيقنين من أن نهايته لا تزال بعيدة. فقد يتضح أن الحدث لم يبدأ هذا العام مع انفجار التظاهرات، وإنما بدأ مع إعلان نتائج الانتخابات في العام الماضي، أو ربما في موعد سابق تزامن مع تقديم لائحة الاتهام ضد نتنياهو، أو مع اعتلاء نتنياهو الحكم قبل 13 عاماً، أو مع بداية الانتفاضة الثانية.
سأفترض أن الحدث هو محاولة الانقلاب الدستوري / السياسي، وحركة احتجاج واسعة وغير مسبوقة وصلت إلى ذروتها مع إقالة نتنياهو لوزير أمنه يوآف غالانت، ثم تراجعه عن الإقالة في إثر هذه الاحتجاجات، وبعد ضغط من نخب الجيش والأمن.
سأطرح للنقاش أربعة أسئلة ترتبط بـ / أو ناجمة عن هذا الحدث:
1 - ما هي طبيعة التغييرات القانونية المقترحة، وإلى أي درجة هناك مشروع لتغيير طبيعة النظام الدستوري / السياسي في إسرائيل؟
2 - ما هي طبيعة القوى التي تدعم هذه التغييرات، وطبيعة القوى التي خرجت للاحتجاج والتظاهر ضدها؟
3 - ما هي الخصوصية المتعلقة بالمبنى الدستوري في إسرائيل، والتي أعطت الأزمة طابعاً دستورياً عميقاً؟
4 - ما هو موقف الفلسطينيين في إسرائيل من الأحداث، وما هو أُفق تطوير هذا الموقف؟
1 - طبيعة التغييرات
من أجل فهم طبيعة التغييرات علينا قراءة مختلف عناصرها كي نكتشف التغيير في طابع الدولة وطرق اتخاذ القرار، في حال نجحت الحكومة في تمرير أغلبية مشاريعها.
من وجهة نظر المواطن اليهودي الإسرائيلي، فإن المسألة تتعلق بتغيير جوهري ومهم ربما يكون بخلاف ما يراه أو يعتقده المواطن الفلسطيني في الضفة أو غزة أو الناصرة. فالذي يتحمل أوزار قرارات القصف أو الغارات اليومية لن يجد فرقاً كبيراً بين أن تؤخذ هذه القرارات بشكل "ديمقراطي"، أو من طرف ديكتاتور لا يستشير أحداً.
قد يبدو بعض الاقتراحات القانونية (إذا أُخذ كل اقتراح على حدة) للحكومة بريئاً في بعض الأحيان، ومقبولاً في كثير من دول العالم. غير أن جوهر المغالطة يكمن في عدم رؤية التأثير التراكمي لمجمل القوانين المقترحة التي، إن جرى تشريعها، فإنها ستؤدي إلى تغيير جدي وجوهري في طريقة اتخاذ القرار السياسي والقانوني في إسرائيل، وفي طبيعة العلاقة بين مختلف الهيئات، بحيث تصبح الحكومة هي الجسم الوحيد القادر على اتخاذ القرارات بمعزل عن الهيئات الرقابية، مع إضعاف واضح للجهازَين القانوني والرقابي (وليس فقط القضائي): الإعلام؛ مراقب الدولة؛ النيابة العامة؛ المستشار القضائي، وغيرها من مؤسسات الضبط والرقابة.
سأركز فيما يلي على خمسة اقتراحات مركزية (بين ما يزيد على ٣٠ مشروع قانون) تشكل العمود الفقري للتغييرات المقترحة:
أ - طرق تعيين القضاة ومراقبتهم وإقالتهم.
ب - تحديد دور المحكمة العليا في القضايا الدستورية، بما يُفقدها صلاحية مراجعة ما يسمى قوانين الأساس.
ج - تقييد صلاحية المحكمة في مراجعة القضايا الإدارية بما يلغي علّة "اللامعقولية".
د - التجاوز: أي تشريع قانون يتيح للكنيست تجاوز أي قرار للمحكمة العليا يلغي أي تشريع يتعارض مع الدستور (قانون أساس)، أي أنها تستطيع أن تعيد تشريع القانون نفسه الذي ألغته المحكمة، شرط أن يحظى التشريع بأغلبية معينة (أكثر من ٦٠ عضو كنيست، وهي أغلبية مضمونة).
ه - تغييرات جوهرية في المكانة القانونية للمستشار القضائي للحكومة وجميع مستشاري الوزارات.
أ - التغييرات في تعيين القضاة:
تضمن هذه التغييرات في واقع الحال أغلبية للحكومة في تعيين القضاة، كما تضمن أغلبية للحكومة في الهيئات التي تراقب عمل القضاة، الأمر الذي يعني أن الجهاز القضائي سيلائم نفسه وأجواءه وأهواءه ليكون موضع رضى من الحكومة. والتغييرات المزمع إجراؤها في هذا المجال لا تنحصر في بند معين، بل هي شبكة من التغييرات في عدة قوانين مجتمعة، ذلك بأن دور الهيئات السياسية في تعيين القضاة موجود في عدة دول (الولايات المتحدة مثلاً)، ولذلك يبدو الأمر طبيعياً للوهلة الأولى. غير أن الولايات المتحدة دولة ذات نظام فيدرالي يحدّ من دور السلطة المركزية بشكل كبير، وفيها دستور مكتوب وواضح يضمن حقوقاً أساسية، وفيها فصل واضح بين السلطات، وتراث قانوني عمره أكثر من ٢٠٠ عام، إلخ.
ب - تحديد الصلاحية في القضايا الدستورية:
لا تملك إسرائيل دستوراً واضحاً في وثيقة واحدة تشمل جميع أسس المَبْنَيَيْن الدستوري والسياسي، لكن هناك قوانين أساس يُشرّعها الكنيست، ويتم ذلك بالطريقة نفسها التي يتم فيها تشريع أي قانون عادي آخر، وتكفي أغلبية عادية لتمرير أي قانون أساس. وبموجب هذا الاقتراح لن يكون للمحكمة صلاحية إلغاء أي قانون أساس، بغضّ النظر عن مضمونه وعن انتقاصه من حقوق المواطنين. فإذا أرادت الحكومة تمرير أي قانون تريده بشكل يُحصّنه من المراجعة القانونية من جانب المحكمة، فإنها تستطيع القيام بذلك عن طريق تسمية القانون "قانون أساس". فعلى سبيل المثال، إذا مُرر قانون يسلب المواطنين الفلسطينيين حقّ التصويت، أو قانون يمنع التظاهر، أو يلغي حق المتهم في أن يكون ممثَّلاً في محامي دفاع، وأُطلق على هذا القانون تسمية قانون أساس، فعندها لن يكون للمحكمة أي صلاحية لمراجعته.
ج - اللامعقولية:
منذ أكثر من أربعة عقود تقوم المحكمة العليا، بصفتها محكمة إدارية عليا، بمراجعة جميع قرارات الحكومة وأجهزة الدولة، بناء على علّة اللامعقولية، وعلل المراجعة الكلاسيكية مثل: الخروج على الصلاحية؛ الاعتباطية؛ سوء النية؛ الاعتبارات غير ذات الصلة. إلّا إن علّة اللامعقولية أعطت المحكمة إمكان التدخل في قرارات الجهات الإدارية، حتى إذا كان القرار يقع ضمن صلاحية الهيئة التي اتخذته. بناء عليه، فإن إلغاء علّة اللامعقولية يعني تضييق الخناق على المحكمة، وتقزيم دورها وتحديد العلل التي تمكّنها من نقض القرارات الإدارية.
د - التجاوز:
بعض الدول، مثل كندا مثلاً، يتضمن دستورها بندا ًيجيز للبرلمان إعادة تشريع القانون نفسه الذي ألغته المحكمة الدستورية لأنه يتعارض مع الدستور، شرط أن يتم التشريع هذه المرة بأغلبية خاصة. وأحد المقترحات ضمن الانقلاب الدستوري يشمل قانوناً من هذه النوع؛ فداعمو القانون يشيرون إلى كندا باعتبارها واحدة من الدول التي تجيز تجاوز المحكمة الدستورية. إلّا إن ما ينساه هؤلاء هو الفروق التي لا حصر لها بين الدولتين، وأهمها وجود دستور مكتوب في كندا، ومحكمة دستورية لا يشكك أحد في صلاحياتها الدستورية، ووثيقة حقوق دستورية، ومبنى فيدرالي للدولة، وثقافة سياسية تختلف تماماً عن إسرائيل.
ه - المستشار القضائي:
إن المستشار القضائي للحكومة ولمختلف الوزارات، هو بمثابة جسم مسؤول عن تفسير القانون وتقديم المشورة القانونية للوزير المختص، فقد جرت العادة أن يكون الوزير ملزماً بهذه الاستشارة ولا يمكنه تجاوزها. وبهذا المعنى فإن الوزارات المتنوعة، والحكومة بصورة عامة، تختلف عن أي شخص عادي أو أي مواطن يستطيع أن يستبدل مستشاره القانوني كي يجد مَن يقدم له المشورة التي تلائم مصالحه، وتساعده في التحايل على القانون. إن المشاريع المقترحة تهدف إلى إطلاق يد الوزير في هذا السياق، وتتيح له أن يتصرف كتاجر عادي يبحث عن مشورة قانونية من محامٍ خاص يكون ولاؤه للوزير، وليس للقانون. وهكذا، يمكن اعتبار هذا التغيير تحريراً للحكومة والوزراء من الضوابط القانونية التي تحكم عمل المؤسسات الرسمية، فتصبح الدولة مثل أي متنافس في السوق الحرة.
إن رؤية هذه التغييرات مجتمعة تعني تغييراً حقيقياً في طرق اتخاذ القرار. صحيح أنه بالنسبة إلى المواطن الفلسطيني في الداخل، فإن الدولة لم تكن ديمقراطية أصلاً، إلّا إنه بالنسبة إلى الفلسطيني في غزة والضفة فإن منطق الاحتلال كان ولا يزال سائداً. وفي المقابل فإن ما يجري يشكل تغييراً عميقاً وجوهرياً بالنسبة إلى المواطن في تل أبيب. وعندما أقول جوهرياً فأنا لا أقصد مضمون القرارات، وإنما طريقة اتخاذها. ولا شك في أن هذه التغييرات تعني تغيراً في طبيعة العلاقة بين المواطن اليهودي والدولة.
يمكن القول إنه حتى الآن، كان القانون الإسرائيلي والمبنى الدستوري يعملان لمصلحة الدولة اليهودية والشعب اليهودي ضمن إطار ديمقراطي شكلاً. أمّا مع هذا التغيير فإن الدولة، وخصوصاً الجهاز القضائي، سيصبحان أداتين في يد الحكومة. ففي السابق كانت الدولة منحازة إلى مصلحة اليهود من دون أن تكون منحازة إلى مصلحة فئة سياسية ضد فئة أُخرى داخل الشعب اليهودي نفسه. غير أن هذه المشاريع تعني إخضاع الجهاز القانوني برمّته للحكومة وليس للدولة، أي إخضاعه لخدمة مشروع أيديولوجي يتبنّى تأويلاً محدداً للصهيونية، ويستبعد تأويلات أُخرى.
يقود هذا التغيير إلى زعزعة العقد الاجتماعي بين اليهود أنفسهم، لكن من دون إلغاء حقيقة أنه في معظم الموضوعات التي تتعلق بسؤال فلسطين لا يوجد خلاف جوهري حقيقي بشأنها، بل هناك حالة من شبه الإجماع على أغلبية تلك القضايا: إجماع يقوم على رفض المطالب الفلسطينية في حدّها الأدنى؛ إجماع على يهودية الدولة بالمعنى العميق وليس الشكلي؛ إجماع بشأن الاستيطان؛ إجماع على رفض إقامة دولة فلسطينية؛ إجماع على السيطرة على غور الأردن، وغير ذلك من القضايا التي تتعلق بمصير فلسطين. لكن هذا كله يجب ألّا يحجب أن هناك خلافاً حقيقياً داخل إسرائيل، وهو خلاف ليس بشأن فلسطين، ويختلف عن الخلاف الذي نشب منذ 30 عاماً في إثر اتفاق أوسلو ومقتل رئيس الحكومة رابين، حين كانت قضية فلسطين في المركز، والطبيعة الديمقراطية في الهامش نسبياً.
إن النظام السياسي / القانوني الذي يسعى الانقلاب الدستوري لتحقيقه، ليس نظام حكم ديكتاتورياً تماماً من نوع نظام حكم الجنرالات في أميركا اللاتينية مثلاً، وليس نظاماً توتاليتارياً بالمعنى الأيديولوجي للكلمة، وإنما هو نوع من نظام الحكم الذي يتشدق بالديمقراطية وإرادة الشعب، لكنه معادٍ للقِيَم الليبرالية ولحقوق الإنسان وللنخب بصورة عامة، وللمؤسسات التي تراقب عمل الحكومة، وللأقليات والتعددية. وبناء عليه، فإن الحديث يدور على نظام حكم يحاول الحفاظ على شرعية النظام الديمقراطي بعد أن يُفرغ هذا النظام من مكوناته الأساسية، ويضيف إليه نزعات سلطوية وفاشية في آنٍ واحد.
2 - طبيعة قوى الانقلاب
تشمل القوى المعنية بالانقلاب الدستوري ثلاثة فرقاء، علماً بأنها جميعاً تتغذى من مناخ متشابه ومن تطورات عميقة داخل المجتمع الاستيطاني الإسرائيلي.
الفريق الأول والمعنيّ المباشر بشكل واضح وجلي، والمستفيد من هذه التغييرات، هو رئيس الحكومة نتنياهو الذي يأمل بأن ينجو من محاكمته.
قد يضيف البعض أن حرب نتنياهو على النخب القديمة، الأكاديمية والإعلامية والقضائية، كانت موجودة دائماً وتعود إلى أسباب شخصية وعائلية وتاريخية، وهي سابقة على محاكمته؛ وهذا الأمر صحيح طبعاً، وكل مَن يراقب الحلبة السياسية والقانونية في العقد الأخير يلاحظ هجوماً مستمراً على الأجهزة القضائية، وتشريعاً لمجموعة من القوانين التي تحدّ من عمل جمعيات حقوق الإنسان، وهجوماً على المؤسستين الإعلامية والأكاديمية. لكن يجب الانتباه إلى أن نتنياهو وقف في الفترة التي سبقت محاكمته في وجه محاولات المسّ بالمحكمة والجهاز القضائي عامة، حتى إن شارك في الهجوم الإعلامي عليهما. لقد فهم نتنياهو بخبرته الواسعة وسعة اتصالاته الدولية أهمية الدور الذي تؤديه المحكمة في تبييض سمعة إسرائيل، وفي حماية شرعيتها الآخذة في التآكل مع استمرار الاحتلال والاستيطان.
لقد بدأ التحول في موقف نتنياهو مع تقديم لائحة الاتهام، لكنه اتخذ منحى جديداً مع تشكيل الحكومة.
أمّا الفريق الثاني الذي لديه حساب مفتوح مع المحكمة والجهاز القضائي، فهو الأحزاب الدينية، وخصوصاً المتزمتة منها (الحريدية). فهناك عداء سافر ومباشر يتمثل بداية في سلسلة المحاكمات التي خضع لها زعيم حزب شاس أرييه درعي منذ التسعينيات، وانتهاء بالقرار الأخير للمحكمة الذي منعه من تسلّم منصب وزير الداخلية، وهذه كلها قرارات تعتبرها قيادة شاس وجمهوره بمثابة ملاحقة سياسية / اجتماعية بسبب الخلفية الشرقية لشاس عامة، ودرعي خاصة.
يسود شعور في الشارع الديني بأن المحكمة العليا تتدخل أكثر من اللازم في قضايا المؤسسة الدينية عبر محاولة فرض أجندة ليبرالية على هذه المؤسسة، علاوة على بعض قراراتها العامة التي تتعلق بقضية التجنيد الإجباري للشباب المتدين أسوة بسائر الشباب اليهود، وتوجهاتها بشأن مناهج التعليم في المدارس الدينية، بهدف فرض مناهج تعليم غير دينية عليها تشمل موضوعات أساسية كالرياضيات والتاريخ، وذلك على غرار المدارس الأُخرى. ففي هذه الأمور كلها تبدو المحكمة كأنها حليف للقوى العلمانية الليبرالية، الأمر الذي أثار ويثير حفيظة القوى الدينية.
بناء على ما سبق، يمكن وصف الصراع بأنه بين قوى يمكن تسميتها علمانية، وأُخرى هي قوى دينية. غير أن هذا الوصف يبقى جزئياً لأن هناك تقاطعات أُخرى لطبيعة الصراع تؤشر إلى فريق ثالث هو عبارة عن: قوى أشكنازية ضد قوى شرقية؛ طبقة وسطى ضد الطبقات الفقيرة؛ مركز البلد ضد الهوامش؛ أحفاد جيل المؤسسين في مقابل أحفاد جيل الهجرات اللاحقة. فجيل الأشكناز الأوائل نجح في تأسيس نفسه اقتصادياً وسياسياً، واستغنى عن الخدمة في الجيش كطريقة للتقدم الاجتماعي والاقتصادي، بحيث صارت القوى التي تخدم في الجيش وتواجه الفلسطينيين على الحواجز، هي بشكل أساسي القوى الشرقية الدينية والفقيرة التي تشكل خط المواجهة الأول مع الفلسطينيين، وتضمر الحقد على الطبقة الوسطى الأشكنازية التي تتهم الشرقيين المتدينين بالكراهية العنصرية ضد العرب. فالطبقة التي استفادت من نكبة 1948، تعتبر الاستفادة من احتلال 1967 نوعاً من العنصرية، وهكذا تختلط هذه المشاعر والخلفيات والمواقف كلها مُحوّلة الصراع إلى مزيج من القضايا المتشابكة. وإذا كان من الممكن الحديث عن درجة عالية من التجانس الفكري والسياسي بشأن فلسطين والفلسطينيين بين القوى الممثَّلة في الحكومة، فإن قوى المعارضة أقل تجانساً، لكن نستطيع القول إن الجزء الأكبر من المحتجين يتفق مع حزب الليكود في قضايا الأمن والاستيطان ومصير المناطق المحتلة، غير أن هناك جيوباً ديمقراطية يسارية بين المحتجين ذات مواقف مختلفة نسبياً.
بصورة عامة، هناك مدخلان نظريان أساسيان لفهم طبيعة هذه التحولات:
الأول يضع إسرائيل والتحولات الجارية فيها ضمن إطار مقارن داخل مجموعة واحدة مع دول أُخرى، مثل روسيا، وبولندا، وهنغاريا، وتركيا، والولايات المتحدة تحت حكم ترامب. ويركز هذا المدخل على النزعات الشعبوية التي يشهدها العالم، والتي نمَت في ظل مزيج من السياسات النيوليبرالية مع سياسة الهويات والعداء للمهاجرين والأجانب. وتدّعي هذه النزعات الشعبوية احتكار التمثيل الأصيل للشعب والتحدث باسمه، وتُبدي عداء سافراً للنخب، ولمعظم الإجراءات القانونية التي تعتبرها مجرد إجراءات شكلية، كما أنها تكنّ العداء للقيم الليبرالية وللأقليات والمهاجرين، وتُبدي حماسة شديدة تجاه الزعيم القوي الذي يعيد إلى الشعب روحه الأصيلة. وفي واقع الحال، يمكننا أن نلاحظ تشابهاً معيناً بين حكم نتنياهو، وبين هذه الأنظمة السلطوية الشعبوية الأُخرى.
الثاني يتمثل في خاصية تمتاز بها إسرائيل من غيرها من تلك الدول، وتتعلق بطبيعتها الكولونيالية وبكونها دولة احتلال استيطانية، فضلاً عن طابع الثيولوجيا الدينية المسيانية التي تسيطر على الخطاب السياسي والأيديولوجي في إسرائيل.
إن الإطار الأشمل لفهم طبيعة ما يجري هو إطار المشروع الاستيطاني الذي دخل في مراحل جديدة، ويحظى بدعم أساسي من القوى الدينية الصهيونية، ومن أوساط متزايدة داخل حزب الليكود. ويمكن القول إن هذا التطور حدث منذ انهيار مشروع أوسلو في كامب ديفيد، ولا سيما منذ الانتفاضة الثانية وتصريحات إيهود باراك آنذاك عن عدم وجود شريك فلسطيني. فهذه التصريحات كانت نوعاً من الانتحار السياسي لمعسكر الوسط / اليسار، ذلك بأن عدم وجود شريك فلسطيني يعني أن لا بديل من فرض الأمر الواقع، ومن الاحتكام إلى لغة القوة، وتسريع الاستيطان وتوسيعه وتعميقه. وفضلاً عن ذلك، فإن المبرر الوحيد لوجود هذا اليسار هو قدرته على التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين، وعندما يعلن انتفاء احتمالات الحل، فهذا يعني أنه فقد مبررات وجوده.
بعد هذا التحول جرى الانتقال إلى فرضية إدارة الصراع بدلاً من حلّه، لكن بدأت في الأعوام الخمسة الأخيرة محاولات لحسم الصراع وليس مجرد إدارته. وحسم الصراع يعني تكثيف الاستيطان وقضم الأرض إلى درجة ألّا يبقى خيار أمام الفلسطينيين سوى الاستسلام أو الرحيل. إن كل مَن يقرأ خطة سموتريتش سيجد أن هذا ما يقترحه بالضبط. وقد وجد هذا المنطق تعبيره في قانون القومية (2018) الذي تعامل مع فلسطين التاريخية كوحدة واحدة خاضعة للسيطرة والسيادة الإسرائيليتين. لقد شكل قانون القومية لحظة وأدٍ لمشروع الدولتين من ناحية دستورية، وأنهى فكرة، أو إمكان الفصل جغرافياً، لكنه أبقى على فكرة الفصل ضمن دولة واحدة وسيادة واحدة على أساس عرقي عمودي بدلاً من أن يكون الفصل جغرافياً أفقياً.
ومع أن قانون القومية هو الأساس الدستوري للتفوق العرقي ولنظام الأبارتهايد، إلّا إن سموتريتش وبن غفير (كلاهما ينتمي إلى التيار الصهيوني الديني المتطرف جداً) لا يقبلان بالأبارتهايد بهذه البساطة، وإنما يسعيان لتجاوزه. فالأبارتهايد بصيغة رئيس الحكومة السابق نفتالي بينت، يستطيع التعايش مع وجود فلسطيني لا يملك حقوقاً قومية، أمّا سموتريتش وبن غفير فيعتبران أنه يجب الانتقال إلى الهجوم والضغط على الفلسطينيين من أجل ترحيلهم. ولإنجاز مثل هذا المشروع فإن أي بقايا من نظام شبه ديمقراطي ولو شكلي سيشكل عائقاً أمام مشروع توسعي من هذا النوع، وبالتالي فإن المرحلة الكولونيالية الاقتلاعية الجديدة تستوجب منطقاً دستورياً جديداً يلائم طبيعتها. والانقلاب الدستوري بهذا المعنى ما هو إلّا توسيع لمنطق الاحتلال والاستيطان ليصبح هو المنطق السائد والناظم في إسرائيل ذاتها. وإذا كان المنطق الذي يحكم الاحتلال هو انعدام القانون وسيادة الإرادة الاعتباطية للجندي الذي يقف على الحاجز في مواجهة الفلسطيني، فإن الانقلاب الدستوري يريد أن يحكم إسرائيل الدولة مثلما يحكم العسكر المناطق المحتلة. وبدلاً من أن يكون هناك منظومة دستورية تضبط المشروع الكولونيالي الاحتلالي، فإن عملية احتلال كولونيالي للدستور نفسه هي التي أضحت قائمة، بحيث يصبح الدستور على شاكلة الاحتلال، ويصير القاضي مثل الجندي المطيع الذي ينفّذ ولا يعترض، ورئيس الحكومة مثل الحاكم العسكري الذي يأمر من دون رقيب أو حسيب، علاوة على أن الحُكم بصورة عامة بات من دون أحكام أو قوانين تضبطه.
3 - الأزمة الدستورية
هناك خصوصية معينة للمبنى الدستوري في إسرائيل تفسر حدة الإشكالات ومدى عمق الأزمة.
إن ما يعقّد الأزمة في إسرائيل هو السؤال التالي: هل يوجد دستور في إسرائيل أم لا، وما معنى ذلك وأثره في الحالة السياسية في إسرائيل؟
في سنة 1949، جرت الانتخابات الأولى في إسرائيل من أجل انتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية التي أنيط بها كتابة دستور الدولة، وذلك بموجب قرار مجلس الدولة الموقت الذي أقرّ إجراء هذه الانتخابات. إلّا إن الهيئة التأسيسية لم تقرّ أي دستور لعدة أسباب بينها: عدم رغبة بن - غوريون في أن يتم الحدّ من صلاحياته وصلاحيات حكومته؛ النقاش والخلاف مع القوى المتدينة؛ الرغبة في عدم إعطاء مكانة واضحة للمواطنين العرب؛ اعتبار الحركة الصهيونية هي الأساس والدولة مجرد أداة، علماً بأن معظم اليهود لا يزال في المهجر. وقد أدى هذا كله إلى اعتماد قرار بتأجيل موضوع الدستور، وتشريع مجموعة من قوانين الأساس على مراحل متعددة. وفي الفترة نفسها حوّل مجلس الدولة الموقت صلاحياته إلى الهيئة التشريعية، وهكذا أصبحت الهيئة التأسيسية ذات صلاحيات تشريعية وصلاحيات دستورية في الوقت نفسه. وبين القوانين التي أقرّتها هذه الهيئة قانون نقل جميع صلاحيات الهيئة التأسيسية إلى الكنيست الأول الذي أصبح - ومن بعده كل كنيست - صاحب الصلاحية في تشريع الدستور، وفي تشريع القوانين العادية.
مع هذا التحول غير المخطط له، صار الكنيست هو الهيئة المخولة كتابة قوانين الأساس ذات الصبغة الدستورية والقوانين العادية، وذلك ضمن النوع نفسه من الإجراءات وطريقة التصويت. وبما أنه لا يوجد أي هيئة تشريعية أُخرى مسؤولة عن تعديل الدستور، فإن الكنيست يملك أيضاً هذه الصلاحية، وبهذا المعنى بات الكنيست يملك ثلاث قبعات: كتابة الدستور؛ تغيير الدستور؛ تشريع القوانين.
إذا نظرنا إلى بعض الدول فسنجد أن مَن يقوم بهذه المهمات هو هيئات منفصلة، وإذا لم تكن منفصلة فإن هذه المهمات تتطلب إجراءات منفصلة ومتنوعة. وفي العادة يكون الدستور هو الإطار العام لمبنى الحكم والسلطات، وهو الذي يقرّ الحقوق الأساسية للمواطنين، ويحدد قوانين اللعبة بما فيها طرق التشريع وقضية المراجعة القضائية ومبادىء فصل السلطات، إلخ؛ أي أن السياسة العادية، بما فيها عملية التشريع، تدور وتُدار ضمن إطار دستوري واضح المعالم يحدد قوانين اللعبة. أمّا المشكلة في الحالة الإسرائيلية فهي أن هذه الصلاحيات مجتمعة هي في يد هيئة واحدة وضمن نوع الإجراء نفسه؛ فالهيئة التي تقرّ القوانين تستطيع بعد ساعة أن تقرّ قانون أساس دستورياً بأغلبية عادية، الأمر الذي يعني أن من الممكن تغيير قوانين اللعبة في منتصف اللعبة نفسها، وبالتالي يصبح كل شيء ممكناً. فلا توجد بُنى وقواعد عمل أساسية خارج اللعبة السياسية، وبذا تهيمن حالة من السيولة السياسية المفرطة، لأن كل شيء قابل للتغيير والتبديل في أسس النظام وأركانه، ولا شيء ثابتاً أو مفروغاً منه تماماً.
إن ما ساعد في ثبات هذا الوضع نسبياً حتى الآن هو مجموعة معينة من التفاهمات غير المكتوبة بين الحكومة والمعارضة، بشأن ما هو معقول وما هو غير معقول في أسس التعامل الدستوري والمحافظة على قوانين اللعبة، أي أنه جرت المحافظة على أسس معينة للعبة حتى إن لم تكن مكتوبة بشكل واضح. غير أن الشعور هذه المرة هو أن الحكومة الحالية تقوم بتغييرات دستورية عميقة بهدف تغيير قوانين اللعبة، وأنها تسعى لإدامة حكم اليمين من خلال خنق وضرب ولجم جميع منظومات الرقابة على عمل الحكومة.
الأمر الأهم في هذا السياق هو الانكشاف السافر للطبيعة الفاشية لليمين المتطرف، واستعداده لكسر قوانين اللعبة، وهو كسر يحمل أهمية كبرى ذات دلالة عميقة، لأن ليس من السهل العودة إلى التفاهمات غير المكتوبة التي ضبطت عمل الكنيست منذ نشوئه. واليمين المتطرف يعرف اليوم أن وجهه انكشف، ولذلك فإنه يخشى، في حال عودة المركز إلى الحكم، من أن يتم تغيير قوانين اللعبة بطريقة تحدّ من عمله أو نشاطه، ولهذا سيسعى لتشريع قوانين تؤسس لنظام يضمن بقاءه في الحكم فترة غير محدودة. ومن ناحية أُخرى، فإن حركة الاحتجاج الذي يقود المركز جزءاً منها على الأقل، لم تعد تملك الثقة بإمكان التوصل إلى تفاهمات مع الحكومة، لأن الحكومة تستطيع - بحكم الأغلبية التي تحظى بها - تشريع ما تشاء في أي لحظة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الأمر الذي أرجأ عملية التشريع في نهاية المطاف هو الموقف الواضح لبعض قوى النخبة في الجيش، فضلاً عن الموقف الأميركي. غير أن هذا يعني خلق سابقة يستطيع فيها الجيش - أو قوى معينة في داخله - وضع فيتو على قرارات حكومة منتخبة، بحيث لا يصبح مستبعداً أبداً في أي عمل سياسي في المستقبل تقوده أي حكومة مركز، مثل إخلاء بؤر استيطانية، أو إقرار تشريع يتعلق بالحريات العامة أو يتعارض مع التعاليم الدينية، أن تقوم قوى يمينية في الجيش بوضع فيتو من طرفها على قرارات من هذا النوع. وهذا الأمر يعني أنه إذا كانت الحكومة الحالية محدودة في قدرة تحركها نتيجة القوى المعارضة وموقف الجيش، فإن أي حكومة مستقبلية ستعاني وضعاً شبيهاً، وهو ما يدل على أن هامش مناورة أي حكومة إسرائيلية - في كثير من القضايا - أصبح محدوداً لأن هامش الشرعية بات ضيقاً. وإذا شاءت إسرائيل ألّا يتدحرج الوضع فيها إلى خلاف مفتوح لا نهاية له، فإنه سيكون عليها خلق إجماع بالحد الأدنى يشكل نواة صلبة لإجماع جديد.
في حالة كهذه، فان العداء للفلسطينيين، وتثبيت قيم الدولة اليهودية، والهاجس الأمني العسكري، أمور كلها تشكل نقاط التقاء يمكن التعويل عليها لإعادة إنتاج توافق قومي يهودي إسرائيلي. وقد شاهدنا ذلك في دعم المعارضة للحكومة في إبان القصف الوحشي على غزة (في أيار / مايو 2023) واغتيال قادة الجهاد الاسلامي، لكني لا أعتقد أن هذا سيكون كافياً وحده لخلق نقطة إجماع بشأن قوانين اللعبة. فقوانين اللعبة لا تعني فقط التوافق على أمور جوهرية (دولة يهودية؛ أرض إسرائيل؛ جمع الشتات؛ إلخ)، بل تحتاج أيضا إلى توافق إجرائي على كيفية إدارة المشروع الصهيوني وطريقة اتخاذ القرار فيه، لأن المجموعات المتنوعة باتت تمتلك وجهات نظر متضاربة بشأن إدارة المشروع.
4 - الفلسطينيون والأزمة
لا يفرق سكان غزة المحاصرة بين الصواريخ التي تتساقط عليهم، ولا يهمهم طريقة اتخاذ القرار الذي أدى إلى موتهم تحت الأنقاض، كما أنه لا فرق لديهم فيما إذا كانت حكومة أولمرت، أو نتنياهو، أو بن غفير هي مَن يلقي القنابل. أمّا الضفة الغربية المحتلة فشهدت في العام الماضي في مرحلة حكومة لبيد / بينت / غانتس، عمليات قتل وقمع لم تشهدها منذ أكثر من عقد من الزمن. ومع ذلك لم تتعرض إسرائيل لأي انتقاد من الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، وإنما جرى التعامل معها كأنها حكومة متعقلة متوازنة ذات حصانة تجعلها عصية على النقد. وللتذكير فقط، فقد أصدر غانتس بصفته وزيراً للدفاع، قراراً بحظر 6 مؤسسات قانونية على رأسها مؤسسة "الحق" العريقة. صحيح أن الضفة لم تشهد جريمة مثل جريمة حوارة تحت الحكومات السابقة، إلّا إن اعتداءات المستوطنين لم تتوقف قط، والتنسيق بينهم وبين الجيش يسير على قدم وساق. ويمكن القول إن سياسة تضييق الخناق وتوغل الاستيطان وضم الأرض، كانت ولا تزال في جوهر السياسة الإسرائيلية، غير أن ما من شك في أن هناك تصعيداً مع الحكومة الجديدة التي تسعى لضمّ أراضي الضفة نظرياً وقانونياً، وليس فعلياً فقط. يضاف إلى ذلك أن الوزير سموتريتش يعمل بكل قواه لرفع منسوب الصدام مع الفلسطينيين كي يكون هناك مبرر يومي للبطش والقمع، وذلك بهدف ترحيل أكبر عدد منهم وتحويل حياتهم إلى جهنم، مسترشداً بأيديولوجيا دينية عنصرية عِرْقية وفوقية. أمّا فيما يتعلق بفلسطينيي الداخل فيمكن القول، من حيث المبدأ، إن الوضع القانوني الدستوري السابق - وخصوصاً قانون القومية - قام على إجماع صهيوني معادٍ لحقوقهم، مع أن البعض قد يشير إلى أن الحكومة السابقة كانت على استعداد للسماح بمشاركة بعض القوى العربية - الحركة الإسلامية الجنوبية - في الائتلاف الحاكم، الأمر الذي أدى إلى خفض منسوب التحريض ضد العرب، وهو أمر ربما يكون صحيحاً إلى حد ما.
هل يمكن القول إن الانقلاب الدستوري لن يؤثر في وضعية الفلسطينيين، وإن ما كان هو ما سيكون، وإن الانقلاب ليس سوى خطوة جديدة في المشروع الصهيوني الذي يقوم على العداء للعرب؟
الانقلاب الدستوري هو خطوة أُخرى في المشروع الصهيوني نفسه، لكنها خطوة أو درجة أعلى في هذا المشروع، ولهذا يجب رؤية الاستمرارية، ومشاهدة الجوانب الجديدة المميزة للحظة الراهنة. صحيح أن هناك خطاً متواصلاً بين الآباء المؤسسين للصهيونية وبين ما نشهده الآن، إلّا إن هذا لا يبرر القول إن لا شيء جديداً على الإطلاق، فالانقلاب الدستوري هو تصعيد جديد.
إن الهجوم على ما تبقّى من جيوب ليبرالية وهيئات حقوق الإنسان وأنظمة المراقبة والمراجعة القانونية، ما هو إلّا مقدمة للانقضاض على ما تبقّى من إنجازات وحقوق للفلسطينيين في إسرائيل، وللقضم الاستيطاني على ما تبقّى من أراضٍ في الضفة. ولذلك، فإن الفلسطينيين في إسرائيل لا يمكنهم الوقوف موقف غير المبالي بما يحدث كأن الأمر يجري في دولة أُخرى.
يدور نقاش شرعي بشأن الدور الممكن الذي يستطيع الفلسطينيون القيام به إزاء هذا الصراع، فَهُم، معنوياً وسياسياً، لا يستطيعون الانضمام إلى حركة الاحتجاج بوضعها الحالي، وبشعاراتها، وتحت آلاف الأعلام الإسرائيلية التي ترفرف عالياً. زد على ذلك أن حركة الاحتجاج - في أغلبيتها - لم تربط بين الاحتلال والاستيطان والقمع والفوقية اليهودية، وبين سؤال الديمقراطية الداخلية، فحركة الاحتجاج تقوم بفصل معرفي وأخلاقي بين السؤال الداخلي (سؤال الديمقراطية والدستور)، وبين السؤال الخارجي (الاحتلال والاستيطان)، الأمر الذي يفترض ضمنياً إمكان إدارة الاحتلال والقمع بطريقة ديمقراطية ليبرالية.
لكن البعض يحاجج بأن من الممكن الدخول إلى هذه التظاهرات مع الشعارات الخاصة بنا، وبالتالي خلق لغة وشعارات جديدة لحركة الاحتجاج والتأثير فيها من الداخل. وقد شارك البعض في هذه التظاهرات، وتم رفع الأعلام الفلسطينية، لكن يبدو أن تأثير هذا الحراك بقي محدوداً.
هل من طريق آخر؟
إن الصراع الحاضر في إسرائيل لا يدور حول سؤال فلسطين، لكنه في الوقت نفسه يملك تأثيراً في مستقبل هذا السؤال. فالخلافات والصراعات الداخلية في مجتمع ودولة الاستيطان والمستعمرين، لها أثر مباشر في الشعوب الخاضعة لسيطرتها، حتى إن لم يكن مصير هذه الشعوب هو موضوع الخلاف المباشر.
وإذا كان اليمين الفاشي يسعى لمصادرة ما تبقّى من الحد الأدنى من الحريات والضمانات القانونية، وإذا كان المركز يسعى بكل قوته للحفاظ على الوضع الراهن مثلما هو بما يضمن استمرار الاحتلال والاستيطان والفوقية اليهودية، لكن بنعومة لا تلفت انتباه العالم ولا تستجلب الاستنكار الدولي وتحافظ على صورة لائقة لإسرائيل، فإن دور الفلسطينيين في إسرائيل هو طرح بديل ثالث يسعى لتغيير الوضع الراهن نحو اليسار، أو نحو مشروع ديمقراطي يربط الشكل بالمضمون، ويربط سؤال الديمقراطية بسؤال الاحتلال، وسؤال الداخل بسؤال الخارج، ويطرح أُفقاً سياسياً بديلاً يقوم على رفض التفوق العرقي اليهودي، وعلى المساواة الفردية والقومية بين النهر والبحر (في دولة ثنائية القومية، أو دولتين، أو أي حل يجمع بين الحلّين)، ويصرّ على استحالة إنقاذ الديمقراطية الليبرالية مع بقاء الاحتلال والاستيطان والفوقية اليهودية والسياسات العنصرية ضد الفلسطينيين أينما يكونوا. إن مشروعاً من هذا النوع يجب أن يكون مستقلاً ويقوده فلسطينيون من الداخل ولا مانع (لا بل من المفضل طبعاً) أن ينضم إليه يهود ديمقراطيون، ولا يكون رهينة للحراك الحاضر، بل يطرح صوته بشكل علني.
على الفلسطينيين أن يتحولوا إلى القطب الديمقراطي الحقيقي في المعادلة، مقدمين بديلاً تاريخياً يرسم أُفقاً على المدى البعيد.