صدرت مؤخراً مذكرات جمال زقوت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وقد جاءت بعنوان "غزاوي.. سردية الشقاء والأمل"، وهي من المذكرات القليلة الصادرة بالعربية لفلسطينيين ينتمون إلى فصائل العمل الوطني، وممن بدأوا بالانخراط في النشاط السياسي داخل الأراضي المحتلة منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، وكان لهم دور ميداني مهم في الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
احتوت المذكرات على تقديم، وخمسة فصول، وملحق صور، تضمّن 16 صورة تجسّد بعض مراحل حياة صاحبها. تعود أهمية هذه المذكرات إلى كونها تروي جوانب من قصة الكفاح الوطني داخل الأراضي المحتلة، كما عايشها زقوت، وتتتبع صعود الحركة الوطنية داخل قطاع غزة والضفة الغربية، بعد خروج المقاومة من بيروت سنة 1982، وتسرد فصولاً من مرحلة جديدة من النضال الوطني داخل المدن والمخيمات والبلدات والقرى الفلسطينية مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر سنة 1987، كما تقدّم شهادة تتعلق بدور الجبهة الديمقراطية على الصعيد الوطني في تلك المرحلة، وتتعرض للتحديات التنظيمية التي واجهتها، والتي أفضت في النهاية إلى انقسامها على نفسها في بداية تسعينيات القرن العشرين.
جوانب من سيرة صاحب المذكرات
وُلد جمال عوض زقوت في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين في مدينة غزة سنة 1957، لأسرة فلسطينية لاجئة تعود أصولها إلى قرية أسدود المُهجَّرة في قضاء غزة المحتل. أنهى الثانوية العامة من مدرسة فلسطين الثانوية في غزة سنة 1976، والتحق بكلية الطب في جامعة عين شمس في القاهرة، ثم بجامعة صوفيا في بلغاريا، ونال درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من أكاديمية العلوم الاجتماعية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي البلغاري سنة 1985.
انتمى زقوت إلى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، ونشط في العمل الطلابي، وكان من كوادر الانتفاضة الأولى، وعمل في مكاتب منظمة التحرير في مصر والأردن، وكان عضواً في اللجنة الفرعية لدعم الانتفاضة، كما نشط على المستوى التنظيمي، فكان ضمن لجنة المناطق المحتلة في الجبهة الديمقراطية، بالإضافة إلى أنه عايش الصراع التنظيمي الداخلي في الجبهة الديمقراطية، الأمر الذي دفعه إلى تركها والانضمام إلى الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني – فدا. عاد إلى فلسطين سنة 1994، وعمل في اللجنة المدنية التي كلّفها ياسر عرفات استلام الصلاحيات وملفات الشؤون المدنية في القطاع، بعد توقيع اتفاق أوسلو، وكان مسؤولاً عن برتوكول سِجِل السكان في الفترة 1995-2000.
في البدء كان المخيم
تصوِّر المذكرات الحياة اليومية للاجئين الفلسطينيين داخل مخيم الشاطئ بُعيد تأسيسه غربي مدينة غزة سنة 1949، وتستعرض، بإسهاب، مشاهد المعاناة التي عاشها زقوت في صباه، إذ وُلد في بيت متواضع ومكتظ، وعاشت أسرته أوضاعاً اقتصادية صعبة للغاية، مثل بقية عائلات المخيم، وتلفت النظر إلى ما تحلى به اللاجئون من إرادة للصمود، والإصرار على البقاء، والحفاظ على الذاكرة الوطنية من الاندثار، عبر نقل الآباء والأمهات إلى أبنائهم قصصاً عن الحياة الفلسطينية قبل النكبة، وتشير إلى انتصار اللاجئين على سياسات التوطين في خمسينيات القرن العشرين، والانخراط في مقاومة المحتل، وخصوصاً بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967، وتوثِّق مشاهد من ممارسات الاحتلال الوحشية بحق اللاجئين ومخيماتهم، بما فيها هدم البيوت، واغتيال الناشطين، واعتقال الناس وتهجير بعضهم إلى خارج فلسطين.
لقد أخذ زقوت جرعاته الأولى في ألف باء الوطنية داخل المخيم، وفيه تبلورت المداميك الأساسية لوعيه الفكري وانتمائه السياسي، وكان دور والده ووالدته أساسياً في تشكيل شخصيته، وما حملته معها من قيم، كما تأثر بالمدرسين الذين استقى منهم معرفته الأولى بالتيارات الدينية والفكرية والسياسية، وبدأ، تحت رعايتهم، باختبار بعض الممارسات العملية، ومثال لذلك ما ذكره عن تردُّده في صباه على زاوية الشيخ إبراهيم الخالدي، صاحب الطريقة الشاذلية، من خلال فتحي الحواجري مدرّس التربية الإسلامية، ثم تأثُّره بصالح زقوت، مدرّس اللغة العربية والمقرب من الشيوعيين، والذي عرّفه على الأدب الروسي.
الطريق إلى الجبهة الديمقراطية
تسرد المذكرات رحلة زقوت التنظيمية، وصولاً إلى انتمائه إلى الجبهة الديمقراطية وانخراطه في نشاطاتها، وتُظهر أنه بدأ بتشرُّب قيَم اليسار وأفكاره في مرحلة مبكرة من حياته، وكيف أن والده لعب دوراً محورياً في احتواء نزعة التديُّن لديه، ودفعه في اتجاه آخر، كما أن عدداً من أفراد عائلته كان من المنتمين إلى عصبة التحرر الوطني قبل التهجير سنة 1948، مثل عبد الله ربيع زقوت (أبو نجم)، وكان بعض أقربائه من المدرّسين الشيوعيين، مثل عبد الله زقوت (أبو سامي)، وصالح زقوت (أبو مازن)، أما انتماؤه إلى الجبهة الديمقراطية، فكان لأخيه بشير وسيرته النضالية دور محوري في ذلك، وكانت البداية في أثناء دراسته الجامعية في مصر، ثم تحوُّله إلى كادر طلابي فاعل في صفوف الطلبة الفلسطينيين في بلغاريا، حيث عُيِّن نائباً لرئيس اتحاد الطلبة الفلسطينيين في بلغاريا حتى سنة 1985، وانخراطه في العمل التنظيمي بعد عودته إلى قطاع غزة، ومحاولته تعزيز مكانة الجبهة، ووصوله إلى ذروة العمل الوطني بانخراطه في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ومساهمته في تشكيل القيادة الوطنية الموحدة حتى إبعاده في آب/أغسطس 1988، وخوضه تجربة العمل التنظيمي والوطني خارج فلسطين، وملاحظته الدقيقة لِما اعترى العمل التنظيمي والوطني في الخارج من رتابة، وما أصابه من نزاعات واصطفافات، وكان آخر ما تحدث عنه في هذا المضمار الخلافات الداخلية في الجبهة الديمقراطية وانحيازه إلى حزب فدا، ورجوعه إلى فلسطين سنة 1994.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى
خصّص زقوت فصلاً كاملاً للانتفاضة الفلسطينية الأولى، سمّاه الانفجار الكبير، وهو في رأيي، الفصل الأهم في الكتاب، إذ قدّم فيه شهادته بشأن اندلاعها وأحداثها اليومية في أشهرها الأولى، وهي شهادة مهمة، كونه كان أحد كوادر الانتفاضة، ومن مؤسّسي القيادة الوطنية الموحدة التي اضطلعت بدور مركزي في تحديد البرنامج الميداني اليومي للانتفاضة، بالإضافة إلى برنامجها السياسي، وقد منح القارئ، من خلال حديثه عن تجربته، صورة لواقع الحال وشكل الصراع الدائر بين الشعب المنتفض والقوة الاحتلالية الغاشمة، كما بدا له، بالإضافة إلى تفاصيل الدور الذي اضطلع به كادر الجبهة الديمقراطية في تلك المرحلة، فإن هذه الأهمية لا تمنح الرواية صدقية مطلقة في كل تفاصيلها، لأن الراوي يعتمد على الذاكرة في تقديم روايته، والذاكرة كما نعرف، يصيبها بعض التلف بمرور الزمن وتزاحُم الأحداث، وهي هنا غير خاضعة لصرامة الدراسات، ولا لتدقيق الباحثين، وربما تأثرت بدوافع الراوي، وخصوصاً إذا كان كادراً سياسياً حاضراً في الميدان في المرحلة التي يتحدث عنها، وربما كان حريصاً على تعزيز دوره الشخصي، أو دور حزبه، والتقليل من شأن أقرانه ومنافسيه.
الإسلاميون الوطنيون.. نظرة من الخارج
قدّمت المذكرات إطلالة على الحركة الإسلامية في فلسطين، وتطوُّرها التاريخي، وعرضت بعض مواقف رموزها، وهي ضرورية، في رأيي، نظراً إلى زيادة الاهتمام بالحركة الإسلامية وتاريخها، وبصورة خاصة بعد أن أخذت تلعب دوراً محورياً في القضية الفلسطينية وملفاتها الساخنة، كما أنها جاءت من خارج التيار الإسلامي، وتحمل رؤية نقدية تحتاج إليها الحركة الإسلامية والمهتمون بدراستها.
يستذكر زقوت بداية نشأة الحركة الإسلامية ودور بعض قياداتها التاريخية، وطبيعة تعبيراتها المؤسساتية، ويشير إلى علاقاتها المتوترة بالفصائل الوطنية، وبداية انخراطها في المقاومة، عبر تأسيس حركتيْ "حماس" والجهاد الإسلامي، مع التركيز على الأولى، كونها الأكثر حضوراً وتأثيراً، وعلى الرغم من أن بعض ما ذكره زقوت ثبُتت صحته، عبر دراسات وأبحاث وشهادات عديدة بشأن تلك المرحلة، نُشرت خلال السنوات الماضية، إلا إن كلامه حوى بعضاً من المقولات التي تُظهر تحامُلاً على الحركة الإسلامية لا مبرر له، فمثلاً، نجده يذكِّر القارئ مرتين بأن تأسيس المجمع الإسلامي في غزة جاء بموافقة إسرائيلية، وذِكْر الموافقة الإسرائيلية هنا يشي بنَفَس تحريضي ضد المجمع وأهداف تأسيسه، لأن كل المؤسسات والجمعيات الفلسطينية كانت مضطرة إلى الحصول على ترخيص إسرائيلي حتى تستطيع العمل، بغض النظر عن توجهات القائمين عليها، سواء كانوا إسلاميين، أو وطنيين.
كما أن بعض خلاصاته بشأن بداية انخراطها في المشروع المقاوم بحاجة إلى مزيد من الدراسة والفحص، فقد استبعد، من غير دليل، دخولاً مبكراً للإسلاميين الفلسطينيين في عصر الانتفاضة، إذ ظلوا، وفق روايته، مُحجمين عن المشاركة حتى أواسط شباط/فبراير 1988، ولم يتقدموا إلا بعد أن لاحظوا خطر انحسارهم وانفضاض الناس عنهم، لكن هذه الرواية تتجاهل التطور التاريخي لالتحام الإسلاميين بالمشروع المقاوم، والذي بدأ منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، وفق روايتهم، واتّسم بالتدرج، وبكونه يُطبَخ على نار هادئة، وأصبح معلوماً أنهم أسّسوا خلايا سرية مُقاوِمة في بداية ثمانينيات القرن العشرين، كُشف النقاب عنها بعد اعتقال أفرادها من طرف الاحتلال، وبدأ العديد من الكوادر، وخصوصاً طلاب الجامعات، بالمشاركة في الفعاليات الشعبية المناهضة للاحتلال في الفترة نفسها، وكل ذلك يعزز الاعتقاد أن دخولهم في الانتفاضة كان مبكراً، وجاء في إطار تطوُّر طبيعي لفعلهم المقاوم، وليس بفعل ضغط اللحظة والخشية من خسارة المؤيدين، ولا ننسى أن العلاقة بين الإسلاميين ومجايليهم من الوطنيين قد شابها في تلك المرحلة سوء الظن والتصورات البعيدة عن الحقائق، الأمر الذي يدفع كل طرف إلى استسهال اتهام الآخر، أو نفي أي صفة إيجابية عنه، وربما دخلت تصورات زقوت لتلك المرحلة في هذا الباب.
أما إشارة زقوت إلى مطالبة بعض قادة الحركة الإسلامية بوقف الانتفاضة، فيمكن تفسيره في إطار تصدير مواقف غير دقيقة لدواعٍ أمنية، تتعلق بتجنُّب الملاحقة، أو في إطار التنافس التنظيمي الذي يدفع كل طرف إلى عدم الكشف عن نياته الحقيقية، ويؤكد هذا الاعتقاد ما اتّسمت به مشاركة الإسلاميين في الانتفاضة من توسُّع أفقي وعمودي، وخصوصاً في قطاع غزة، الأمر الذي لا يعطي مجالاً للاعتقاد أنهم كانوا ينوون وقف الانتفاضة، أو غير راغبين في استمرارها.
ملاحظة ختامية
تضمنت المذكرات معلومات قيمة عن شخصيات أثّرت في الحركة الوطنية ومسارها الطويل، سواء داخل فلسطين، أو خارجها، وتناولت مواقف وأحداثاً كانت لها تداعياتها على حاضر القضية الفلسطينية ومستقبلها، لكنها حوت بعض المعلومات الخاطئة، فعلى سبيل المثال، أخطأ زقوت في اسم أول شهيد في الانتفاضة الأولى، إذ ذكر أنه حاتم السيسي، والصحيح أنه حاتم أبو سيسي، وذكر أن الشهيد جواد أبو سلمية، الذي ارتقى سنة 1986، كان من قيادات الشبيبة في جامعة بيرزيت، والصحيح أنه كان من كوادر الكتلة الإسلامية، وأن الاحتلال حكم على الشيخ أحمد ياسين، عندما اعتقله سنة 1989، بالسجن 15 عاماً، والصحيح أنه حكم عليه بالسجن المؤبد و15 عاماً.
ولا بد من أن نذكر أخيراً أن الكتاب حوى بعض التقييمات التي تستوقف القارئ، فعلى سبيل المثال، يؤكد سرد زقوت الدور المركزي للجبهة الديمقراطية في الانتفاضة الأولى، وخصوصاً في أشهرها الأولى، على الرغم من أن الديمقراطية في ذلك الوقت كانت فصيلاً نخبوياً، وامتداده ضعيف في الأوساط المختلفة، وخصوصاً الشبابية، وعلى الرغم من توقُّع مشاركته في الفعل الانتفاضي منذ البداية، لكنه لا يرقى إلى مستوى أن يكون محورياً في صوغ أجسام الانتفاضة التمثيلية ورسم المعالم الرئيسية لفعلها في الميدان.