كتاب "رجال من فلسطين كما عرفتهم" من نفائس كتب التراجم المتخصصة بأهل فلسطين وأشياعهم من العرب، نحته المؤرخ والكاتب الراحل عجاج نويهض، رحمه الله، وقد عكفتْ على إعداده وتصنيفه ابنته المؤرخة بيان نويهض الحوت، وأصدرته مؤخراً مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وهو آخر ما نشرته المؤرخة من إرث والدها، الذي كان جزءاً أصيلاً من انشغالاتها البحثية، فقد أصدرت مذكراته قبل ثلاثين عاماً، وانهمكت في ترتيب أرشيفه وتصنيفه، ونشرت هذه السنة أحاديثه ومراسلاته بشأن الحركة العربية في كتاب سمّته "أحاديث ومراسلات عجاج نويهض: الحركة العربية (1905- 1933).
عن محتويات الكتاب
جاء الكتاب في قسمين، عنوان القسم الأول: "حَمَلة مشاعل النهضة الفكرية الوطنية في فلسطين العربية"، وهو تجميع لمقالات عن سِيَر أصدقاء ومعارف المؤلف، وعنوان القسم الثاني: "هؤلاء كما عرفتهم: حياتهم، عطاؤهم، تراثهم"، وقد احتوى على تراجم لواحد وعشرين شخصية فلسطينية، أمَّا مصدر القسم الأول فمجموعة مقالات المؤلف في صحيفة " الأنوار" الأسبوعية والمنشورة بين عامي (1961-1962)، ومصدر القسم الثاني أوراقه الخاصة، ومذكراته، وعدد من مقالاته المنشورة في الصحف والدوريات العربية.
تضمّن الكتاب على مدى 558 صفحة تراجم قائمة طويلة من أصدقاء ومعارف الكاتب من مشاهير المحامين والقضاة والشعراء وعلماء الشرع ورجال الدين، والمشتغلين في الصحافة، والمنهمكين في السياسة، والبارزين في ميدان المقاومة والفداء، والمناصرين لقضايا العروبة وفلسطين، والمدافعين عن العمال، وأغلب شخصيات الكتاب ممن عاشت المرحلة المتأخرة من الدولة العثمانية، وظلَّت فاعلة حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين وما بعده بقليل.
افتُتحت قائمة التراجم بمعروف الرصافي، ونخلة زريق، وإسعاف النشاشيبي، وداود الصيداوي، وضمت أسماء وازنة في المجالات المختلفة، مثل خليل طوطح، وأحمد سامح الخالدي، وخليل السكاكيني، وعبد الرحيم محمود، ونوح إبراهيم، وإسحاق البديري، وموسى كاظم الحسيني، وأسعد الشقيري، وسعيد الكرمي، وسامي طه، وصبحي الخضراء، وعبد القادر المظفر، ووديع البستاني، وإبراهيم أبو دية، ورشيد الحاج إبراهيم، وعوني عبد الهادي، وأحمد حلمي عبد الباقي، وراغب النشاشيبي، والحاج أمين الحسيني، وغيرهم.
دوافع إصدار الكتاب وبعض القواعد الناظمة في إعداد السِيَر والتراجم
أوضح الكاتب أن الهدف من وضع تراجمه "إحياء الشخصية العربية الفلسطينية"، وقد دفعته إلى الكتابة عمّن مضوا إلى دار الفناء ضرورة تَعرُّف الأجيال الصاعدة إلى الراحلين من القادة والمشتغلين بالشأن العام، وإذا كان العدو ذا همة في تلفيق الأكاذيب عن بطولات الصهاينة، بينما تبقى بطولات العرب مندثرة "فالجيل العربي الجديد ما أحوجه إلى أن يعرف هذه البطولات على غضاضتها كما خلقها الله، وهي تندى بالجلال وتسبح في هالة النور.. ومن الموجع أن تعلم أن اليهود إلى سنة 1953، وكان قد مضى على الانهيار إلا خمس سنين، كانوا قد وضعوا وزوروا لا أقل من 350 كُتيباً وكتاباً في العبرية واليديشية- لغة يهود أواسط أوروبا وشرقا- في أنهم أخذوا فلسطين – أرض إسرائيل – بفداء وبطولة منحدرين من شمشون وداود واستير والمكابين. والدول العربية تعلم، ويا للأسف، ما أوغل هذا بالكذب، ولماذا استطاع اليهود الاتيان بهذا البهتان."
أوضح المؤلف في القسم الأول من كتابه أنه عرف رجاله، ولقيهم لقاءً وافياً، منحه الفرصة للحديث عنهم على نحو متميز، وقد كان في نصه متجاوزاً لقيود الكتابة الأكاديمية، فلا عبرة لديه أين تقع ترجمة فلان ولا علان، وارتأى أن لا يصنفهم وفق الحروف الأبجدية، ولم يجعل "لون الفكر هو القاضي بالترتيب"، ولا السن جعله يُقدِّم أو يؤخر، فالترتيب، وفق المؤلف، "هو كيفما اتفق، لكوكبة من هؤلاء بعد كوكبة،" لكنه فضَّل أن يذكر الراحلين أولاً، وأن يبدأ بمن عرفهم، لا بمن سبق من الأوائل، كما أنه لم يعِر مسألة أصل الشخوص انتباهاً، وإنما المحدد علاقتهم القوية بفلسطين، وعيشهم فيها، وانخراطهم في همومها، وليس انشغال الشخص في السياسة هو المحدد الوحيد لاختياره في قائمة السِيَر، والمقام الأول في الاختيار راجع إلى "عنصر الخير العام وما له من مآثر في الحيز الذي شغله."
اعتنى المؤلف بذكر جوانب محددة من كل شخص من شخوص كتابه، فيذكر الاسم، وإن كان فيه غرابة أو غموض أزاله، ويذكر مولده ووفاته، وأصله، وشيئاً عن عائلته، وتعليمه، وثقافته، وكسبه الاقتصادي، وما اشتهر به من مجالات، مثل العلم أو الأدب أو السياسة، ويركز على مَن اشتغلوا في القضيتين العربية والفلسطينية، فيذكر كدحهم في سبيلهما، وما لاقوه من تعنّت، ولا يغفل تقييم تجارب بعضهم، بذكر إنجازاتهم وإخفاقاتهم، ويختار ما يناسب من جمل معبِّرة وعميقة من دون تجريح أو تجنٍّ أو اتهام، وقد حرص المؤلف على ذكر مصادره، وخصوصاً عند سرد بعض المعلومات والأحداث التي لم يكن على اطّلاع عليها، أو لم يكن أحد شهودها.
ومما تميز به الكاتب لغته العالية، وتعابيره الفائقة الجمال، وما يبث في حديثه من روح، تحيل "اللُمعة" إلى مشهد حقيقي، فكأن الشخصية التي يتناولها ماثلة أمام القارئ بشحمها ولحمها، وتمارس أمامه ما اعتادته من طقوس يومية، وتعيد نحت مواقفها وتسجيل أقوالها، وتكشف عن مشاعرها وأحاسيسها، فيبدو عرض السيرة للقارئ أقرب إلى البرنامج الوثائقي الممتع، ومما زاد في جمال السرد بعض ما فيه من معلومات تخص الشخوص لا يعرفها إلا الخُلَّص من الناس.
وإن كان المتن يحكي سيَر الأعلام، فإنه ما أن ينتهي القارئ من الكتاب حتى يكتشف أن فلسطين وقضيتها هي المتن الأساسي، فما من صفحة في الكتاب إلا وتسرد جانباً مما ارتبط بفلسطين من تحولات اجتماعية واقتصادية وتربوية وتعليمية وثقافية وسياسية، فعلى سبيل المثال، ترى في المتن تأريخاً لتطور التعليم في فلسطين، وبداية الانبعاث الأدبي والاجتماعي، وولادة الحركة الوطنية وكدحها في سبيل فلسطين، وبعضاً مما حققته من إنجازات، وما واجهته من تحديات، ودور بريطانيا الخبيث في التمكين للمشروع الصهيوني، وأهوال ما جرى في فلسطين من تقتيل وتهجير لأهلها واستيلاء على أرضها وتراثها.
خلاصات في إرث المؤلف وأفكاره وآرائه
أبدع المؤلف في عرض معتقداته وأفكاره وآرائه بشأن الحركة العربية وفلسطين وقضيتها وتطوراتها، وقد نثرها في ثنايا المتن بشكل يثير الإعجاب، وبدا بوضوح عروبياً في فكره وتوجهاته، وهذا واضح من موقفه من الدولة العثمانية، وحديثه عن أساطين العروبة أواخر القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين، سواء مَن كانوا في مواقع رسمية، أو أهلية، أو كانوا من أهل الكتابة والتأليف، كما أنه منتمٍ لفلسطين وقضيتها، فلا يفتأ يذكر ما مرَّ بها من أهوال ويتمنى خلاصها، وتراه ناقماً على بريطانيا والحركة الصهيونية، مشيداً بالقادة الشهداء، أمثال الشيخ عز الدين القسّام وعبد القادر الحسيني.
وفي الكتاب تقييم للحركة الوطنية الفلسطينية وشخوصها وتجربتها، اعتمد فيه الكاتب على تجربته داخلها والتصاقه بقادتها واطلاعه على خفاياها، فجاء حديثه عن شخوصها غنياً، وتحليله عميقاً، ومما يلفت النظر صراحته في نقد انقسامها بين مجلسيين ومعارضة، واعتراضه على ما شابها من أخطاء، مثل ظاهرة الاغتيالات السياسية التي انتشرت في أثناء الثورة الفلسطينية الكبرى.
ولا بد في هذا المضمار من أن نشير إلى الحس الديني في لغة الكاتب، فتراه يترحم على شخوصه عند ذكر موتهم، ويدعو لفلسطين وأهلها، ويردد كلما ذكر محنتها "ردها الله إلى العرب"، أو "أعادها الله إلى العرب"، ويدعو على دولة الاحتلال، فيقول في غير موضع "قوض الله قوائمها"، ويذكر في حق المحتلين من البريطانيين ما يفيد استنكاره الشديد لشناعاتهم، فيقول في أحد المواضع: "وسيحيط بهم من عذاب الله ما يستحقون،" والملاحظة الأخيرة في هذا السياق أن الكاتب خطّ وصفاً لحرب 1948 ومآلاتها، فوصفها بـ"سنة الانهيار" وتكرَّر لفظ "الانهيار" كلما مرَّ على أحداث ذلك العام الرهيب، ولم يستخدم مصطلح النكبة إلا مرة واحدة فقط.
خاتمة
لا شك في أن الكتاب نص ثري، ومرجع في مجاله، وموسوعي حوى عدداً كبيراً من التراجم والأعلام، ويمكن أن ينبثق منه عدد من الدراسات التي تتمحور حول فكر ورؤى ومواقف مؤلفه من بعض القضايا المرتبطة بفلسطين وملفاتها الساخنة، مثل الحركة العربية وفلسطين مطلع القرن العشرين، والحركة الوطنية الفلسطينية، والانقسام الفلسطيني في أثناء مرحلة الاحتلال البريطاني، والحركة الأدبية والثقافية في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، وغيرها، ومع أهميته الكبيرة التي دلَّلنا عليها أعلاه، فإن القارئ الكريم مطالبٌ بالانتباه إلى طابعه الصحافي، وأنه خُطَّ في ذكرى الراحلين من أصدقاء الكاتب ومعارفه ووفاءً لهم، وهو ما يعني أن الكاتب قد يتجاهل بعض أوجه القصور في سِيَرهم، واسْتُل أغلب ما فيه من الذاكرة، والذاكرة تضعف أحياناً، وفيه معلومات ربما دحضتها الوثائق والروايات الأُخرى، كما توجد فيه خلاصات لتجربة الكاتب الشخصية، والتي لا يمكن أن تكون قادرة على الإحاطة الكاملة بالشخوص والأحداث، وبعض سيَره مختصرة ولا تفي أصحابها حقهم، وعلى الرغم من هذا، فإنني أنصح القراء بالإسراع إلى اقتناء الكتاب وقراءته.