شهر رمضان المبارك ينقل البلدة القديمة في القدس من صوت يحاول المستعمر كتمه إلى صوت مقاوم بتفاعلاته الاجتماعية، لا يهدأ ولا يكلّ. فقبل حلول الشهر المبارك، كانت البلدة القديمة في القدس تشهد هدوءاً نسبياً، ولا سيما بعد صلاة العشاء، تصحبه أصوات مستمرة لمحاولات استفزاز المستوطنين للفلسطينيين الذين يعيشون في البلدة القديمة. فتُسمع أصوات مسيرات استيطانية تجري في أغلب الأحيان بعد العشاء، أو في منتصف الليل، وهي تهدف إلى إزعاج أهالي البلدة، بينما يتخلل صوت أذان الجوامع العذب ضجيج السائحين وأصواتهم المرتفعة المتحدثة بلغات عدة، وأصوات عابري الطريق، ودخول السيارات إلى البلدة القديمة.
في شهر رمضان، ينقلب الروتين الذي عهدناه، فتتنفس البلدة بتوافد الشمال والجنوب إليها، ويصبح الطبيعي هو السهر، والأمسيات الشعبية والدينية وغيرها. ويصبح الهدوء النسبي الذي كانت تشهده البلدة، مقتصراً على وقت الأذان، وتطربك بعده الشوارع والحارات بأصواتها المختلفة.
في أول ليلة من رمضان عمّت الأصوات في أرجاء البلدة، ومنها أصوات البائعين في المحلات والمنادين على البسطات، التي يُسمح بها في رمضان فقط، وأصوات الأغنيات والأناشيد التي تكون متداخلة، وعلى الرغم من ذلك التداخل وعبور الأصوات، فإن لها شعوراً خاصاً ممتعاً، وبصورة خاصة أصوات أطفال البلدة وصراخهم في أثناء اللعب. وتتعالى أصوات الشبان المتجمهرين حول شاشات التلفزة في المقاهي الرمضانية، التي تتحول أحياناً إلى أمسيات غنائية بعد صلاة التراويح. وبذلك تمتزج أصوات المارين وتكبيرات المصلين الذين يتوجهون إلى المسجد الأقصى بأصوات مكبرات الصلاة التي تُشعرك بأجواء الخشوع.
ومن الأصوات التي يتفاعل الناس معها في منطقة باب حُطة في البلدة القديمة، خروج المصلين من المسجد الأقصى المبارك وتهليلات فرقة عائلة الرازم للأناشيد، والتي بات غناؤها في رمضان تقليداً سنوياً في البلدة، حيث تُفتتح بعبارة "هاي العادة عادتنا، ما بنغير عادتنا". وكالعادة، نالت تفاعلاً كبيراً من الحاضرين، كما حوّلت وجهة البعض إليها، فالغناء واستخدام الأدوات المختلفة، مثل الطبل والمزمار، يشدان كل مَن يسمعهما، وخصوصاً ليلة الخميس التي صادفت إنارة فانوس رمضان في جمعية برج اللقلق المجتمعي، فتحولت الجموع من المسجد الأقصى إلى برج اللقلق، مع وجود فرق الكشافة التي حشدت الجموع من مناطق متفرقة من البلدة القديمة ومحيطها، كشارع صلاح الدين، وباب الأسباط، وباب الساهرة، وباب العامود. أصداء أصوات تلك الفرق لم تقتصر على المناطق المذكورة، فضجيجها كثّف الحضور بشكل غير مسبوق، إذ تولت جمعية برج اللقلق المجتمعي إنارة الفانوس على أرضها للعام السادس على التوالي، برعاية وكالة بيت مال القدس الشريف، برئاسة العاهل المغربي.
إن الاحتفاء بالفانوس الضخم داخل البلدة القديمة كان الحدث الرئيسي في أول ليلة من ليالي رمضان، وكانت الأغنيات الدينية والشعبية التي صدحت في تلك الليلة المحرك الأول لاستقطاب الناس. فأنشدت فرقة عائلة الرازم العديد من الأناشيد الدينية، مثل نشيد "المسك فاح، المسك فاح لما ذكرنا رسول الله"، وكانت أصوات الجمهور تتعالى مع صوت الطبل عند قول "المسك فاح"، وترديد كلمة الله، وكأن الكلمة تخرج من أفواه جميع الحاضرين، وكان النصيب الأكبر من التفاعل عندما تمت إضاءة الفانوس وسط الإعجاب والتصفيق والصفير. بينما دقت الفرق على الطبل، لإحياء تلك الليلة بالمدائح النبوية والأناشيد الدينية والشعبية. واستُخدمت الألعاب النارية، ووُزعت فوانيس مضيئة على الحاضرين، فمنحت البلدة وكل زائريها البهجة والسرور.
في العودة إلى أبواب وطريق المسجد الأقصى المبارك، نسمع الباعة حولنا من دون النظر إليهم، نستشعر وجودهم من أصواتهم، والمذهل حقاً هو القدرة على التفرقة بينهم، فكلٌ منهم له طابعه وأسلوبه الخاص في المناداة، بائع الذرة ينادي "ذراية حلوة بس بخمسة شيكل"، وبائع الحلويات ينادي بالمفاضلة، "أهلا وسهلا تفضلوا الزاكي هون". ويجدر التنويه بأن البيع في الليل يختلف عما هو عليه في النهار، فبيع النهار يشمل السائحين الغربيين، إذ تسمع بائع العصائر ينادي لبيعه "ويلكَم فريش جوس"، وبجانبه بائع المصليّات ينادي "المصلية بس على عشرة شيكل". عبارات كثيرة تخرج من أفواه الباعة تبدو غريبة لدى مَن يسمعها لأول مرة، فينادي بائع الشواء: تفضلوا يا "شويوي"، وللوهلة الأولى، يعتقد البعض أن ليس لها معنى، ويقصد بها البائع اللحوم المشوية.
بانتهاء أول ليلة من ليالي رمضان وقدوم موعد السحور، ننتقل إلى فقرة تميّز البلدة القديمة، فوجود المسحراتي له طابع سحري في إيقاظ أهالي البلدة، مع التنويه بأن العائلات تكون مستيقظة قبل قدومه بسبب كل ما يحدث، لكن لقدومه نكهة خاصة. أما العبارات التي يرددها بصوته العذب مترافقة مع الدق على الطبل، تجعلنا نتغافل عن كل الأصوات المحيطة بنا، للتركيز على جمال عباراته، واستفتاحية "يا سامعين ذكر النبي، صلوا عليه.. صلوا على النبي صلوا، لولا النبي لا نبني جامعاً ولا صلوا"، وبعدها مناداته على أسماء العائلات ودمجها في عبارة "يا نايم وحد الدايم .. يا آل* العمر مو دايم"، وبعد هذه اللفتة الجميلة في أحياء البلدة، يبدأ ضجيج الوافدين إلى صلاة فجر الجمعة وتجمهُرهم على أبواب المسجد الأقصى التي تكون مغلقة، وفي هذه الاثناء، تتعالى التكبيرات لله والتسبيح والحمد والشكر له، يبدأ الموضوع بقول أحد الشبان "تكبير"، فتردد الجموع الله أكبر، حتى دخولهم إلى المسجد.
دخول يوم الجمعة ينقلنا إلى تفاعلات تميزه من بقية أيام الأسبوع، فهذا يوم انتشار البسطات بشكل كبير من ساعات النهار الأولى، وعلى مدار اليوم يبقى التفاعل حياً، فبعد الفجر وخروج المصلين وأصواتهم للذهاب إلى ديارهم، يبدأ البيع يوم الجمعة في هذه الأثناء، ويزداد التفاعل بعد ساعات نظراً إلى توافُد المصلين إلى صلاة الجمعة، وحدوث الأزمات في أثناء الدخول إلى الأقصى، مع مناداة الباعة والمشاجرات لفتح الطريق، لكن استماعنا إلى خطبة الجمعة له مكانة خاصة، إذ يصل صداها في هذا اليوم إلى أحياء البلدة القديمة، فتكون كل سماعات المسجد الداخلية والخارجية مفعّلة، وحين تبدأ الصلاة، يقلّ الضجيج تدريجياً، فنسمع سورة الفاتحة من الإمام، ثم يردد جميع المصلين وغير المصلين كلمة "أمين" خلفه، هذه الكلمة لها صداها عند المسلمين، وهذه هي نكهة نهار الجمعة.
بعد خروج المصلين من صلاة الجمعة، البلدة لا تهدأ، بل يزداد التفاعل فيها؛ فيبدأ البائعون بتجديد بضائعهم وتحضير البسطات للبيع قبل أذان المغرب، مثل بيع الخبز المجدل، وصوت هذا البائع لم يهدأ بقول "قرّب قرّب العشرة بعشرة هي المجدل وهي الصح.. الله يجبر" ومناداته في الوقت نفسه للسياح "come come just in one dollar".
بعد صلاة العصر، يبدأ الناس بالتوافد من أجل الإفطار في المسجد الأقصى، ويقومون بشراء حاجاتهم من الطعام للإفطار، وهنا تتعالى أصوات الباعة والمشترين، على أنغام الأغنيات التي يضعها بعض الباعة، مثل "صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم… شرف مكة لما أتاها ثم النور علاها وعمّ"، وتسمع تمتمات البعض مع الأناشيد؛ وكأن المدينة تنشد مع زوارها بصوت واحد أناشيد رمضان، وتبقى المدينة على هذه الحال من الحديث والمناداة والصراخ والسؤال عن الثمن والبيع إلى أن يحين موعد أذان المغرب، ليعمّ الهدوء بانتظار مدفع رمضان الذي تتميز به مدينة القدس. وهذا التقليد في القدس يعود إلى العصر العثماني، إلى أكثر من 120 عاماً، ولا يعتبره المقدسيون مجرد تقليد للتنبيه في رمضان، بل إن صوته يمنح سامعيه الاطمئنان، ويدلل على صلابة المدينة، على الرغم من سياسات الطمس المختلفة. كما يُعتبر هذا المدفع شاهداً على عروبة البلد وأصالته، وبعد ضرب المدفع، لا نسمع سوى الأذان. دقائق قليلة، ثم نعود إلى الأصوات والضجيج المحبّب، وبالأخص لي، فهذه الأصوات في البلدة القديمة، أشعر بأنها حكر على مَن يسكنها، حيث تسيطر على الإدراك الحسي، وعلى واقعنا.
من خلال تجربتي في العيش في البلدة القديمة، أرى أنني أمتلك القدرة على التمييز بين أبسط الأصوات التي خلّفها الاستعمار لنا، وكما ذكرت، فإن بعض الأصوات التي نسمعها في البلدة ونميزها هو صوت مدفع رمضان، الذي قد يظن الغريب أنه صوت رصاص أو مفرقعات نارية، إلا أننا في رمضان لا نضع الطعام في فمنا إن لم نسمع هذا الصوت.
على الرغم من كل التفاصيل الجميلة التي لها رونقها في البلدة القديمة، فإن هذا النص في ثناياه يفتقد بعض الشيء إلى الأمان، كل التفاعلات التي تحدثت عنها، تجري بوجود شرطة الاحتلال التي تُشعر الناس بالتهديد، فكل حركة وهتاف أو نداء هو تحت المراقبة، وإن لم يشعر الفلسطيني بالتهديد منهم، فإنه يشعر بالتهديد من المستوطنين الذين يفتعلون أي شرارة للاعتداء على الفلسطينيين. هذا ما نعيشه في واقع البلدة القديمة من تهجمات المستوطنين على المقدسيين وشتمهم. وعلى الرغم من أنها تقلّ في رمضان، فإنها لا تختفي، وعلى الرغم من هذا، فإن في كل تصعيد تعيشه مدينة القدس بصورة عامة، وبلدتها بصورة خاصة، يطغى الصوت الفلسطيني على صوت الاستعمار.