منذ تأليف حكومة نتنياهو في أواخر سنة 2022، وهي تصرّ على تمرير مجموعة كبيرة من التعديلات القانونية المتعلقة باختصاص المحكمة العليا الإسرائيلية وبعض الهيئات القضائية الأُخرى، بهدف الحفاظ على الائتلاف الحكومي بين الليكود والأحزاب الشريكة له، بينها "الصهيونية الدينية"، لكن من دون إحداث معركة مع المعارضة الإسرائيلية في الوقت نفسه.
والملفت هذه المرة، بحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن الاحتجاجات الإسرائيلية القائمة ضد تعديل قانون القضاء ممولة من الولايات المتحدة الأميركية،[1] الأمر الذي يطرح علينا الأسئلة التالية: هل هدف الولايات المتحدة الأميركية الحفاظ على الديمقراطية في إسرائيل، أم تعميق الخلاف مع حكومة نتنياهو؟ وما أثر هذه الاحتجاجات في الصعيدين الأمني والاقتصادي بالنسبة إلى إسرائيل؟ وما المطلوب فلسطينياً لاستثمار هذه الاحتجاجات لمصلحة القضية الفلسطينية؟
جدلية الديمقراطية في إسرائيل
من واجب جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية احترام مبدأ استقلالية القضاء ومراعاته، وعلى الدولة أن تكفل استقلالية السلطة القضائية في دستورها وقوانينها كما نص إعلان استقلال السلطة القضائية في الأمم المتحدة.[2] وانطلاقاً من ذلك، بدأت تناقضات حادة بشأن معنى الديمقراطية، وخصوصاً بين اليمين واليسار، بحيث أصبح لا يمكن التوفيق بين جوهر الديمقراطية التمثيلية في السلطتين التنفيذية والتشريعية المنتخبة وبين السلطة القضائية غير المنتخبة التي تصدر عنها أحكام تتعلق بالشؤون العامة، والتي يمكنها أن تبطل قوانين أصدرتها السلطة التشريعية المنتخبة. وكون حكومة نتنياهو الحالية يمينية متطرفة، فمن الطبيعي أن تسلك نظرية اليمين التي تحاول تقويض صلاحيات السلطة القضائية غير المنتخبة، بالتدريج، والتي تعتبر أنها تتحكّم بممثلي الشعب المنتخبين، والمقصود هنا نواب الكنيست الإسرائيلي.
لكن في "إسرائيل"، الوضع مختلف تماماً، لجهة غياب دستور رسمي لدولة "إسرائيل"[3] الذي من المفترض أن ينص على مبدأ فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والاعتماد على القانون الأساسي الذي ينظّم تقسيم السلطات وحقوق المواطنين، ومن ناحية أُخرى، أن أغلبية المشرعين من أعضاء الكنيست إلى جانب الحكومة الإسرائيلية الحالية، هي بيد ائتلاف نتنياهو،[4] وعندما يقومون بتقليص صلاحيات السلطة القضائية، فيكونون قد قضوا على مبدأ فصل السلطات، وهيمنوا على كل المعارضين الإسرائيليين الآخرين، الأمر الذي يقوض الديمقراطية في "إسرائيل"، وليس كما يدّعي نتنياهو.
تتكون خطة التعديلات القضائية لائتلاف نتنياهو من أربعة عناصر أساسية،[5] العنصر الأول هو تمكُّن الأغلبية البسيطة (النصف+1) في الكنيست الإسرائيلي من إعادة سن قانون ألغته المحكمة العليا الإسرائيلية، ويتعين على أي قرار يصدر عن المحكمة في هذا الشأن، أن يكون بإجماع القضاة البالغ عددهم 15 قاضياً، وبهدف السيطرة بشكل أكبر على المحكمة، يشير العنصر الثاني من الخطة إلى تعيين أغلبية اللجنة التي تقوم بتعيين القضاة من جانب حكومة الائتلاف الحاكم، والعنصر الثالث هو فيما يتعلق بمنح حصانات إضافية لأفراد الشرطة والضباط أمام الهيئات القضائية، بما فيها إلغاء تدخُّل المحكمة بالسلطة التنفيذية، وتحويل المستشارين القانونيين في الوزارات إلى معاونين سياسيين، أما العنصر الأخير فهو تشريع منع إدخال المأكولات التي تشمل الخميرة، بما يتناسب مع الشريعة اليهودية في عيد الفصح اليهودي،[6] إلى جانب قضايا أُخرى يطرحها النواب الحريديم في الكنيست، مثل تخصيص حصص تدريس الدين ودراسة التوراة في المدارس، وزيادة عدد الشواطئ التي تفصل بين الرجال والنساء، وإعفاء شبان الحريديم من الخدمة العسكرية...
مسار الانقلاب على نظام الحكم الإسرائيلي
بعد أن سمح الكنيست الإسرائيلي بتمرير التعديلات المقترحة في القراءة الأولى،[7] على الرغم من الاحتجاجات من المعارضة والتظاهرات في الشوارع، قبل البدء بالقراءتين الثانية والثالثة، قام المعارضون بجمع تواقيع تضم النخب الاقتصادية والأمنية والسياسية لرفض التعديلات، وتحذير الحكومة من نشوب حرب بين العلمانيين والمتدينين، وأجرت المعارضة اتصالات باللوبيات الصهيونية في الخارج، ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما دفع نتنياهو إلى اقتراح الحوار بين الحكومة والمعارضة بشأن التعديلات القانونية التي يصرّ على تعديلها، بهدف تقليص التوتر الداخلي الذي أعاد أحياءه مجدداً وزير الأمن الإسرائيلي إيتمار بن غفير في يوم مناهضة الديكتاتورية، وفي ظل احتجاج جماهيري قارب الآلاف،[8] عندها أكدت أفعال إيتمار بن غفير ديكتاتورية إسرائيل وتقويض الديمقراطية، إذ تتهم المعارضة نتنياهو بتمرير التعديلات القانونية المتعلقة بالقضاء من أجل تغطية فساده، ولا سيما أنه متورط بقضايا رشوة وفساد وخيانة الأمانة، بغرض إلغاء محاكمته، بحسب مراسل الشؤون القضائية في صحيفة هآرتس حين معانيت.[9]
خطة هرتسوغ القضائية
دعا الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ جميع الأطراف للحوار بشأن خطة التعديلات القانونية المتعلقة بالقضاء، الذي من شأنه الحد من التوترات الأمنية، ولا سيما بعد تصريح الآلاف من جنود الاحتياط من الجيش الإسرائيلي بامتناعهم من تأدية مهماتهم، وكذلك بشأن مكانة إسرائيل في المجتمع الدولي، التي لا يمكن أن تحميها الإدارة الأميركية في الوقت الحالي من المحاكم الدولية، ونتيجة تراجُع السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية بعد التطبيع السعودي – الإيراني، برعاية بكين.
رفض نتنياهو دعوة هرتسوغ إلى الحوار، ولم يتم الاتفاق عليها من جانب ممثلي الائتلاف الحكومي، لأن جدول أعمال الحوار يديم الوضع الدائم ولا يحقق التوازن المطلوب بين السلطات، بحسب تعبيره، ولن يكون للائتلاف الحكومي أغلبية في لجنة تعيين القضاة، إذ أشارت خطة هرتسوغ[10] إلى أن تكون لجنة اختيار القضاة من 11 عضواً، من دون أغلبية للائتلاف الذي سيكون له 5 ممثلين، من ضمنهم 3 وزراء من الحكومة، ورئيس المحكمة العليا، واقتراح ضم اللجنة أربع نساء على الأقل وممثلاً واحداً للمجتمع العربي، على أن تكون المراجعة القضائية متعلقة فقط بحقوق الإنسان.
أثر التعديلات في الأمن القومي الإسرائيلي
على الرغم من أن إسرائيل تضم مجموعة واسعة من الفئات الاجتماعية والدينية والسياسية المتعددة، لكن في الوقت ذاته، ترفع المعارضة شعار الإصلاح والقومية اليهودية، وهذا دليل على تماسُك المجتمع إزاء العداء للقومية العربية، ويمكن أن تعزز حكومة نتنياهو هذه النزعة من خلال فتح معركة عسكرية مع الفلسطينيين، أو ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، لإقناع جنود الاحتياط بضرورة مواصلة عملهم والتخلي عن فكرة التمرد، أو اعتماد الاستفتاء الشعبي بشأن التعديلات المتعلقة بالقضاء، الأمر الذي من شأنه إعادة تعزيز "ديمقراطية" إسرائيل؛ ولذلك، يمكن القول إن فكرة التعديلات القضائية ليست هي نقطة ضعف إسرائيل، بل ما يضعفها ويهدد أمنها الداخلي استمرار الاحتجاجات والتظاهرات من دون التوصل إلى حلّ.
وقد نقل الإعلام الإسرائيلي قلق طياري جنود الاحتياط الذين ينفّذون الهجمات على غزة وسورية ولبنان، والذين بالتأكيد لا يمكن استبدالهم. في لقاء استثنائي جرى مع قائد السلاح الجوي الإسرائيلي تومر بار مع 50 طياراً حربياً من قوات الاحتياط،[11] ولم يقتصر الأمر فقط على الطيارين، بل أعلن 130 ضابطاً وعنصراً من وحدة "يهلوم" الهندسية للمهمات الخاصة في الجيش الإسرائيلي[12] أنهم سيجدون صعوبة في العمل إذا تمت التعديلات القضائية.
وفي الوقت ذاته، تتخوف شركات الطيران الإسرائيلية من أن يصادق الكنيست الإسرائيلي على مشروع قانون حكومي لمنح حصانة قضائية للجنود وعناصر أجهزة أمن الدولة،[13] وما ينتج منها من مخاطر قضائية على طياريها، لأنهم معرّضون للتحقيق معهم بارتكاب جرائم حرب في المطارات الأجنبية، وخصوصاً أن طياري شركات الطيران الاسرائيلية المدنية هم طيارون حربيون في سلاح الجو الإسرائيلي، وهذا ما يعطي مبرراً للمحكمة الجنائية الدولية لتوقيفهم والتحقيق معهم.
أثر التعديلات في الاقتصاد الإسرائيلي
هناك علاقة وثيقة بين الاستثمار والنمو الاقتصادي من جهة، وبين السلطة القضائية والنظام الديمقراطي من جهة أُخرى، وعندما تضعف السلطة القضائية وتقوم السلطة التنفيذية المتحكمة بالسلطة التشريعية بفرض مشاريع قوانين، سيُفتح الباب أمام المزيد من الفساد والغموض السياسي، وهذا ما يخشى منه المستثمرون.
ما زال نتنياهو ووزير المالية سموتريتش ينفيان تأثير التعديلات القضائية في الاقتصاد الإسرائيلي، وهو ما جعل درور سالي، [14] أحد المستثمرين في مجال التكنولوجيا في إسرائيل، يصرّح للصحافة الإسرائيلية، بأنه لن تتمكن أي شركة متخصصة في مجال التكنولوجيا من جذب استثمارات مالية خارجية، وأن ما تم بناؤه في الأعوام الثلاثين الأخيرة بدأ ينهار، وقد هددت شركة بابايا غلوبال،[15] المتخصصة في بناء منصات لتسديد الرواتب، بإخراج أموالها من إسرائيل، والبالغة قيمتها ثلاثة مليارات ونصف، كما أرسل مدير عام شركة ريسكيفايد الإسرائيلية عيدو غال،[16] والتي يجري تداوُل اسمها في نيويورك، رسالة إلى موظفيه مفادها أن الشركة أخرجت مبلغ قيمته 500 مليون دولار من البنوك الإسرائيلية إلى البنوك الأجنبية.
ما المطلوب فلسطينياً؟
نشرت بيثان ماكيرنان في صحيفة الأوبزرفر[17] تقريراً عنوانه "موجة احتجاجات الربيع الإسرائيلي لا مكان فيها للفلسطينيين"، ومن هنا، يظهر غياب دور فلسطينيي 1948 الذين يشكلون خُمس السكان في "إسرائيل"، على الرغم من الانعكاسات السلبية للتعديلات القضائية عليهم في حال تمت هذه التعديلات.
يعود ذلك إلى معاناة الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948 جرّاء نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، وقوننة الفوقية اليهودية، والانتهاكات المستمرة للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية، إذ يعتبر الفلسطينيون أن جميع الحكومات المتعاقبة هدفها الأول توسيع المستوطنات، والتهجير القسري، وتهويد المكان والزمان، وارتكاب المزيد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين، للتأكيد أنه لا وجود للديمقراطية مع "إسرائيل" القائمة على نظام استعماري ونظام الأبارتهايد.
على الشعب الفلسطيني في الوقت الحالي توسيع دائرة المقاومة الشعبية بكافة أشكالها وأنواعها، من خلال الاشتباك المباشر مع قوات الاحتلال، والعمل على استغلال هذه الأحداث لتأكيد نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، ودعوة المحكمة الجنائية الدولية إلى التسريع في تحقيقها، نظراً إلى أن الحصانات القضائية ستشمل الجنود والضباط المتورطين في جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني، كما يمكن لحركات المقاطعة أن تلعب دوراً بارزاً في المساهمة في ضرب الاقتصاد الإسرائيلي، لفرض العقوبات على إسرائيل والتشجيع على سحب الاستثمارات منها، وذلك من خلال إيجاد برنامج عمل موحد في إطار كافة الفعاليات والفصائل الفلسطينية، وتحديداً الجاليات الفلسطينية التي يمكنها أن تُحدث فارقاً كبيراً لمصلحة القضية الفلسطينية وإنهاء الانقسام الداخلي.
خاتمة
أشار جورج فريدمان[18] في بداية الألفية الجديدة إلى أن إسرائيل تعيش في مأزق غير قابل للحل، وقال توماس فريدمان،[19] بعد تأليف الحكومة الحالية، إن إسرائيل دخلت في نفق مظلم، وتحديداً بعد التوترات الإسرائيلية مع واشنطن التي تقاطع الحكومة الحالية، وهذا ما يعيدنا إلى حرب الروايات القائمة على طبيعة الاستعمار الصهيوني الفاشي والعنصري؛ ولكي ينتصر الفلسطينيون في هذه الحرب الجديدة المتجددة، عليهم الاستعداد الدائم للمواجهة، والاستفادة من الصراعات الدولية لاكتساب حلفاء جدد، لإعادة تدويل القضية الفلسطينية على صعيد الصراع وليس الحل، وكل ذلك يقودنا إلى استحالة استقلالية القضاء الإسرائيلي.
[3]https://caus.org.lb/ar/israels-unwritten-constitution/