عند مدخل المقرّ الرئيسي لـ"مؤسسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت، تستقبلك منحوتةٌ برونزية لأسير مقيَّد اليدين إلى الخلف، ومثبَّت على عمود، في محاكاةٍ لحالة التعذيب التي يتعرّض لها الأسرى. هذه المنحوتة، التي تُعبّر عن حجم الألم الذي يعيشه الأسرى الفلسطينيّون، أنجزها الفنّان العراقي سيروان باران وأهداها للمؤسسة. أمّا على الجدار الأيمن للمدخل، فيقابلك عملٌ فنّي للتشكيلي الفلسطيني عبد الرحمن قطناني، أنجزه داخل المؤسسة وأهداه لها. وهذان العملان ضمن عدّة أعمال أُخرى قدّمها للمؤسسة فنّانون فلسطينيون وعرب وأجانب.
حقبة جديدة
تبدو على مبنى المؤسَّسة آثار التجديد، كأنّه يُعلن دخولها حقبةً جديدة؛ فالمقرُّ الحالي شهد تاريخاً طويلاً من العمل، وواكب أحداثاً كبرى جرت في لبنان وفي فلسطين. وهو اليوم صالة عرض سُمّيت "الكلمة الرمز.. فلسطين" تُعرَض فيها بعض الأعمال المتبرَّع بها للوقفية الفنّية، وقد استضافت القاعةُ عدّة معارض منذ افتتاحها في نيسان/ إبريل 2022.
منحوتة سيروان باران
أمّا الطبقة الرابع، وعدّة طبقات أُخرى في المبنى، فتضمّ "مركز المعلومات والتوثيق"، و"مكتبة قسطنطين زريق"؛ وهي، بحسب المدير العام لـ"مؤسَّسة الدراسات الفلسطينية" خالد فرّاج، المكتبة الأهمّ في العالم المتخصّصة في القضية الفلسطينية، وتشتمل على أرشيف للصحف والمجلّات الفلسطينية والعربية المتخصّصة بفلسطين، كما تحتوي، ضمن قسم خاص، على آلاف الصور الأرشيفية والأوراق الخاصّة والمذكّرات والخرائط وغيرها من المحفوظات.
يتكوّن المبنى من ثماني طبقات. وفي 2021، جرى ترميمُه بدعم من أصدقاء المؤسَّسة و"صندوق قطر للتنمية". وكما يشرح فرّاج في حديثه إلى "العربي الجديد"، فإنّ الترميم "يحمل رسالة مفادها أنّنا مستمرّون في عملنا وإنتاجنا البحثي من أجل القضية الفلسطينية، وهو أيضاً بمثابة رسالة شكر إلى بيروت التي استضافت المؤسَّسة طيلة ستّين عاماً منذ تأسيسها".
مواكبة للتحديث
عدا عن الكتب والمجلّات المتخصِّصة والنوعية، دخلت المؤسَّسة، منذ سنوات، العهد الرقمي، وهي تتوسّع فيه أكثر فأكثر، كما يوضح فرّاج الذي يقول إنّ "الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية" هي أحد أهم المشاريع الرقمية التي أنجزتها المؤسَّسة، بالإضافة إلى العديد من المشاريع الأُخرى، مثل مدوّنة "فلسطين الميدان" باللغتين العربية والإنكليزية، والأرشيف الإلكتروني للتاريخ الاجتماعي في فلسطين، ونشرة "مختارات من الصحف العبرية" التي تصدر يومياً، وغيرها، والتي يمكن الوصول إليها بسهولة عبر موقع المؤسَّسة. ويضيف أنّ "المؤسَّسة تقوم بتجميع ورقمنة عدد كبير من قواعد البيانات، ومجموعات الوثائق المتعلّقة بقضية فلسطين، والتي تُشكّل مصدراً غنياً بالمعلومات للباحثين والدارسين".
استمرارٌ وتحدّيات
يندر أن تجد مؤسَّسة عربية استمرت في عملها وتحقيق أهدافها لستّين عاماً متواصلة من دون انقطاع، وخصوصاً في منطقة ملتهبة مثل المنطقة العربية؛ حيث اندلعت، خلال العقود المنصرمة، العديد من النزاعات. لكن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" استطاعت الصمود والاستمرار على الرغم من مواجهتها العديد من التحدّيات في مسيرتها، ولا سيما التحدّيات المالية في السنوات الأخيرة التي شهدت انتشار وباء كورونا وانهيار الأوضاع الاقتصادية في لبنان وانفجار مرفأ بيروت، ناهيك عن الحرب اليومية التي تشنّها "إسرائيل" على الشعب الفلسطيني.
يُوضّح فرّاج أنّ المؤسسة عملت، خلال ستّة عقود، في ظلّ أوضاع قاسية وصعبة للغاية، في منطقة تشهد صراعات وحروباً وقمعاً وانهيارات مالية وسياسية، وصمدت من دون أيّ مسّ بجودة إنتاجها أو جوهره، وبقيت ثابتة على مبادئها ومتمسّكة بها وتعمل المؤسسة، اليوم، من خلال ثلاثة مكاتب، واحدٌ في بيروت وهو المكتب الرئيسي، وآخر في رام الله، وثالث في واشنطن. ويدأب العاملون في المؤسسة على تحقيق رؤيتها، من خلال العديد من المشاريع.
لوحة عبد الرحمن قطناني
يشير فرّاج إلى أنّه جرت "رقمنة محتويات 'مركز التوثيق وجمع المعلومات' في 'مكتبة قسطنطين زريق'، كالوثائق والملصقات والصور وإصدارات المنظّمات الفلسطينية والخرائط، كما يجري العمل على رقمنة مجموعة من الأشرطة الصوتية، في إطار اهتمام المؤسسة بالتاريخ الشفوي"، ويضيف: "كذلك نعمل على إنجاز المؤتمر السنوي الذي تنظّمه المؤسسة كل عام. وهذه السنة سيتناول المؤتمرُ الإنتاجَ المعرفي حول النكبة بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة، والستّين لإنشاء المؤسسة".
ويتمثّل المشروعُ الثالث في الوقفية الفنية التي أُطلقت العام الماضي، وتهدف للوصول إلى 1000 عمل فنّي من فلسطين والعالم العربي والعالم، بحسب فرّاج الذي يضيف: "نجحنا، خلال أشهر قليلة، في الوصول إلى نحو 600 فنّان قدّموا أفضل ما لديهم للمؤسسة. وهذه الاستجابة الكبيرة شجّعتنا على المضي قُدُماً"، مُعتبراً، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أنّ "هذا الأمر ما كان ليتمّ لولا القيم والمبادئ التي راكمتها المؤسسة طوال تاريخها"، مُضيفاً أنّ ريع الوقفية الفنية سيُخصَّص لدعم المشاريع البحثية والنشرية للمؤسسة.
ويبيّن فرّاج أن الأعمال الفنّية تُسهم في سدّ احتياجات المؤسسة، لافتاً إلى أنّ "العام الماضي كان بمثابة ورشة عمل مفتوحة داخل مختلف هيئات المؤسسة، مثل مجلس أمنائها وهيئتها التنفيذية ولجنة أبحاثها والعاملين فيها ككلّ، للتفكير والمراجعة، من أجل وضع استراتيجية عمل للمؤسسة خلال المرحلة المقبلة. وكان لا بد من طرح الموضوع المالي على رأس جدول أعمال هذا النقاش كي تستمرّ المؤسسة في أداء واجبها".
وفي هذا السياق تحدّث فرّاج عن مشروع الوقفية المالية الذي أطلقته المؤسسة هذا العام، موضّحاً أنّ الأخيرة "ستتوجّه إلى صديقاتها وأصدقائها، بالإضافة إلى بعض البلدان الصديقة حول العالم، وبعض الصناديق العربية، لتطلب منهم التبرُّع لها لمرّة واحدة، على أن تجري جدولة هذه المساهمات على أربع سنوات".
عربية الهوية والرسالة
في ما يتعلّق بهوية المؤسسة، يُشدّد فرّاج على أنها "مؤسسة عربية مستقلّة، لا تتوخّى الربح، وغايتها التوثيق والبحث العلمي في مختلف جوانب القضية الفلسطينية والصراع العربي - الصهيوني"، مُشيراً إلى أنّها "عملت في ظلّ ظروف بالغة التعقيد، سياسية ومالية وأمنية ورقابية، عاشتها وعاشها الوطن العربي على مرّ العقود الماضية"، ويضيف: "نعمل، من خلال مكاتبنا في لبنان وفلسطين والولايات المتّحدة، ومن خلال مجموعات عمل لدينا في أوروبا، من أجل فلسطين".
ويشرح فرّاج إلى أنّ المؤسسة منذ تأسيسها "عايشت نكسة 1967، وحرب 1973، والحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، والاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، واجتياح الضفّة الغربية سنة 2002، والانتفاضتَين الأُولى والثانية سنتَي 1987 و2000، والحروب المتعاقبة على قطاع غزّة بين 2008 و2021، وتمكّنت من البقاء، ومن الحفاظ على هويّتها ورسالتها ورصانتها البحثية والعلمية".
ويلفت المتحدّث إلى أن "طاقم المؤسسة كان عرضة للتشتّت في أنحاء العالم خلال مرحلة الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، كما عمد الاحتلال إلى التضييق على المؤسسة في القدس، الأمر الذي اضطرّها إلى نقل مكتبها إلى رام الله عام 2003".
مبنى "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" في بيروت
كلُّ هذا يجعلنا نتساءل عن كيفية صمود المؤسسة إزاء الظروف والتحدّيات التي واجهتها، والجواب لدى المدير العام للمؤسسة كان: "صمدنا لأنّنا حافظنا على مبادئ المؤسِّسِين، والتي تتلخّص في الاستقلالية، وصرامة البحث العلمي، وعدم التدخُّل في شؤون الآخرين، ورفض التمويل المشروط"، وتابع قائلاً: "نحن مؤسسة مستقلّة بالكامل، لا نتبع إلى أيّ حزب أو جهة أو طائفة أو دولة أو شخص"، مضيفاً أنّ "استقلالية المؤسسة شرطٌ أساسي لاستمرارها وصمودها".
مشكلاتٌ وحلول
يوضّح فرّاج أنّ منصب المدير العام للمؤسسة شكّل التحدّي الأكبر بالنسبة إليه، "ولا سيما في ما يتعلّق بالسعي لحلّ المشكلات والصعوبات التي تواجهها المؤسسة، خصوصاً أنّ لبنان، الذي يحتضن المقرّ الرئيسي، يعاني جرّاء أزمة اقتصادية خانقة مع بدء الانهيار سنة 2019، والذي انعكس علينا، بشكل أو بآخر. لكنّنا مستمرّون، وفاءً منّا لبيروت، بل أستطيع القول: لقد خرجنا من عنق الزجاجة".
ويُشير إلى أنّ مهمّته الأولى، بعد تولّيه الإدارة، تمثّلت في تعزيز قيَم المؤسسة وإرسائها والحفاظ على أصالتها، وإجراء مراجعة للوضع القائم، وخصوصاً الوضع المالي؛ حيث كانت المؤسسة تعاني أزمة مالية خانقة"، مُوضّحاً: "اتّفقتُ مع الزميلات والزملاء في اللجنة التنفيذية على أنّنا بحاجة إلى بعض الوقت من أجل النهوض بوضعنا المالي من خلال حثّ أصدقائنا ومموّلينا، من أفراد وصناديق ومؤسسات، على الاستمرار في دعم المؤسسة".
ويضيف فرّاج: "بدأنا في خريف سنة 2017 بالتحضير لنشاطَين كبيرَين في المؤسسة يحميان استمراريتها وبرامجها بعد الظروف الصعبة التي مرّت بها؛ فأقمنا عشاءً خيرياً استضافته مدينة بيروت، واستطعنا أن نحشد فيه 600 شخصية سياسية واقتصادية وثقافية من سيّدات ورجال أعمال وفنّانات وفنّانين ومثقّفات ومثقّفين من العالم العربي تحت سقف واحد، هو سقف مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، وتابع: "ونتعاون مع جهات داعمة، منها 'الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي'، وسواه من الهيئات المانحة".
إصدارات ومشاريع
تنشر المؤسسة، حالياً، ثلاث مجلّات فصلية؛ هي: مجلّتا "الدراسات الفلسطينية" (بالعربية والإنكليزية)، و"القدس" (بالإنكليزية). وتحتوي هذه المجلّات على مقالات أكاديمية محكَّمة، بالإضافة إلى التقارير، والمقابلات، ومراجعات الكتب، وملّفات أُخرى. وتُعتمد المجلّات، على نطاق واسع، كمصادر لا غنى عنها في الأبحاث المتعلّقة بفلسطين.
وأصدرت المؤسسة منذ تأسيسها أكثر من 800 كتاب، ودراسة، وورقة غير دورية، ومجموعة وثائقية باللغات الثلاث: الإنكليزية والعربية والفرنسية.
ويُعتبر العديد من كتبها مراجع أساسية، ويُشار إليها كمصادر موثوق بها في القضية الفلسطينية في الجامعات العربية والأجنبية ومراكز الأبحاث، وقد نُشر بعضُها بالاشتراك مع كبريات دُور النشر الجامعية. كذلك تنظّم المؤسسة عدة مؤتمرات، بالإضافة إلى مؤتمرها السنوي الذي يُعقد في فلسطين وجاهياً وافتراضياً، مثل "مؤتمر مراجعة الانتداب البريطاني على فلسطين" الذي عقدته السنة الماضية، بالتعاون مع كبريات الجامعات في العالم، وبمشاركة أكثر من سبعين ورقة علمية قُدمت على مدى ثلاثة أيام في "جامعة بيرزيت".
كذلك نظّمَت المؤسسة معرض "تحية لأسرى وأسيرات الحرية"، السنة الماضية، في مقرّها ببيروت لمناسبة يوم الأسير الفلسطيني، وضمّ المعرض أعمالاً لثلاثين فنّانة وفنّاناً من مختلف أنحاء فلسطين والعالم العربي والعالم، بعضُهم كان أسيراً في سجون الاحتلال، وقدّم هؤلاء لوحات، ومنحوتات، وفيديوهات، وصوراً فوتوغرافية، وملصقات تاريخية، دفاعاً عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.
ومؤخَّراً، أطلقت المؤسسة، بالتعاون مع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، الدورة الأولى من "المنتدى السنوي لفلسطين" في الدوحة، والذي قُدمت فيه العديد من الأوراق البحثية في مختلف المجالات المتعلّقة بالقضية الفلسطينية، وأُطلق خلاله العديد من المشاريع الرقمية؛ مثل منصّتَي "ذاكرة فلسطين" و"القدس: القصة كاملة"، وهُما بالإنكليزية، ويشرف عليهما "المركز العربي"، إلى جانب "الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية" بالعربية والإنكليزية، والتي تشرف عليها "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" بالشراكة مع "المتحف الفلسطيني".
*أجرت المقابلة صمود غزال، ونشرت في ١٩ آذار/مارس 2023 في العربي الجديد.