On Ruins and Emptiness: Another Attempt to Understand the Colonial Situation in Palestine
Full text: 

المشهد الأول

خلال أحداث الانتفاضة الثانية في سنة 2000، وتحديداً في أيلول / سبتمبر من تلك السنة، ومع تصاعد المواجهات والأحداث، توجهت مجموعة من سكان مستعمرة كفار شاليم التي أقيمت على أنقاض قرية السلمة المهجرة شرقي يافا (انظر الصورة رقم 1)، حاملة أسلحة بيضاء ومعاول وقضبان معدنية ومطارق، لهدم ما تبقّى من مسجد القرية الذي لم يُهدم خلال النكبة. فكان أن استجابت الدولة الإسرائيلية بأن أرسلت فرقة عسكرية (قوامها 20 فرداً بعتادهم) لحماية خرائب المسجد من الهدم على يد المستوطنين. وتجدر الإشارة إلى أن المسجد، وما بقي منه، ومنذ الاستيلاء على القرية وبناء المستعمرة، ظلا مهجورَين لفترة طويلة، ولم يُستخدما، غير أن الدولة، وكي لا يأتي مَن يهدمهما، حوّلتهما إلى نادٍ رياضي للشباب. 

المشهد الثاني

خلال مواجهات "برافر لن يمر"، والتي شهدها الداخل الفلسطيني المحتل في سنة 2013، وفي أثناء المواجهة مع قوات الشرطة الإسرائيلية في جادة الكرمل في حيفا المحتلة، أو ما أُطلق عليه اسم شارع بن - غوريون، حيث مشهد المدينة المهيب، والشارع الممتد صعوداً نحو مقابر البهائيين، كانت رقعة التظاهرات تتسع، وصولاً إلى الأجزاء المهجّرة من الحي العربي القديم، خلف جادة الكرمل. وكانت ردة فعل الشرطة الإسرائيلية عنيفة ضد المتظاهرين والمتظاهرات الذين خرجوا وخرجن من حيّز الشارع الشهير حيث كانت سياسة قوى الأمن هي الاحتواء والضبط فقط، إلى حيز البيوت العربية حيث توحشت قوى الأمن الإسرائيلية في مواجهة المتظاهرين. 

المشهد الثالث

في أواخر سنة 2013، أقامت مجموعة من الناشطين الفلسطينيين في المقاومة الشعبية (نحو 250 ناشطاً) "قرية باب الشمس" على الأراضي التي قرر الاحتلال الإسرائيلي بناء 4000 وحدة استيطانية عليها، فيما يُعرف بمخطط "إي 1" الذي سيفصل شمال الضفة الغربية عن جنوبها وعن القدس.

تجمّع الناشطون من عدة مناطق في الضفة الغربية بدعوة من الحملة الشعبية لمقاومة الاستيطان والجدار ولجان المقاومة الشعبية، على أراضٍ أعلنت إسرائيل نيّتها بناء آلاف الوحدات الاستيطانية عليها في منطقة القدس، والتي يسميها الفلسطينيون "أراضي الزانبة"، حيث تعيش 15 عائلة بدوية تضم أكثر من 200 فرد منذ أكثر من 80 عاماً. وقد أطلق الناشطون اسم "قرية باب الشمس" على المخيم الذي بنوا فيه أكثر من 40 خيمة قالوا أنهم سيقيمون فيها ثلاثة أيام.

 

الصورة رقم 1: قرية سلمة بعد الاجتياح في النكبة.

المصدر: الأرشيف الوطني الإسرائيلي، المصور: زولتان كروجر (Zoltan Kluger)

 

مدخل

قبل محاولة التأسيس لفهم المشاهد أعلاه، وربطها بسياسات الحيز (territory) في المنظومة الاستعمارية، من خلال مفهومَي الخرائب (ruins)، والفراغ (emptiness)، كبراديغمات تحليلية مقترحة، فإن علينا تناولهما من خلال اللغة التي هي مَعبَر متحيز للظواهر.

نستعير المفهومَين من التنظير والبحث الغربيين إلى الحيّز البحثي والتنظيري العربي، من خلال اللغة كبُنية سياقية تربط بين الزماني والمكاني والاجتماعي، بما يؤثر في علاقة الظاهرة بالواقع ويؤدي إلى تحيّزاتها، وأحياناً إلى عطبها،[1] فضلاً عن تحيزات الإبستمولوجيا الكولونيالية التي يفرضها السياق الحداثي الغربي.[2]

ثمة صعوبة في اقتراح ترجمة عربية ملائمة لمفهومَي الخرائب والفراغ، ولعل أحد الأسباب الرئيسية يعود إلى تركُّز معظم الدراسات المتعلقة بتلك المفاهيم في المؤسسات البحثية الغربية، ولا سيما الإنجليزية والفرنسية، ليس فقط بسبب موقعهما المركزي في بُنية الحداثة الغربية، بل لما لهما من موقع أيضاً في التاريخ الكولونيالي بالنسبة إلى الإبستمولوجيا، وإنتاج المعارف الغربية، فضلاً عن أزمة البحث عربياً. كما أن بُنية (structure) المفهومَين وسيرورتهما (process) وتحولاتهما (changes)، وتأثرها بما يُعرف بنظرية الجنوب و / أو العالم الثالث، كبيرٌ بما يتجاوز قصور عمليات البحث الأكاديمي والإبستيمي العربي بشأنها. أي أن التعامل معها يأتي متأخراً، ليس على مستوى النظرية فحسب، بل على مستوى الإدراك والاشتباك أيضاً، على الرغم من حضورها في الحيّز اليومي في مدننا العربية، وارتباطها بالسياسات الحيّزية الحضرية المؤثرة في تجاربنا اليومية في تلك الأحياز، وفي السوسيولوجيا اليومية للمواطن / ة العربي / ة، وخصوصاً لأن مدننا هي أرشيفنا المتبقي لنا.

الأمر نفسه ينطبق على ترجمة المفهومَين، إذ لم نجد مرادفاً في اللغة العربية قادراً على التعبير عن كلمتَي الخرائب والفراغ كظاهرتين، مثلما يُقصد بهما في النظرية الغربية، وعلى تتبُّع تحولاتهما في الفكر. وفي محاولة من بعض ثقاة المترجمين والمترجمات، جاء ضمن قائمة الترجمات المقترحة لكلمة ruins، ما يلي: الأطلال، غير أن هذه الكلمة لا تكشف بالضرورة عن المضمون العملي للكلمة الإنجليزية، ولا تشير إلى التهجير الممنهج في الحالة الفلسطينية، حتى إن كانت مرتبطة برومانسية تاريخية عربية في الشعر، وهو ما حدث في السياق الغربي في بادئ الأمر أيضاً، مثلما سنفصل لاحقاً؛ واقتُرحت كلمات حطام وأنقاض وركام، وكلها تشير إلى وجود تكتلات مادية عمرانية لا تربطها علاقة وظيفية، فركام الشيء هو ما تبقّى منه مهدماً، وهذه التكتلات تفقد بنائيتها وفراغيتها، ذلك بأن العلاقة بين أجزاء الركام هي علاقة الناتج من الهدم كتعريف، ويتضح الأمر هنا بالفارق بين الركام والأطلال.

أمّا الخرائب فليست كيانية مهدومة بالشرط، أو فاقدة للعلاقة الوظيفية فيما بينها؛ فخراب المنزل، مثلاً، حادث مرتبط بالهجران و / أو الهدم. ولذا استخدمنا هنا كلمة "خرائب" لأنها تميل إلى وصف العلاقة بين الحيز وواقعه في اليومي المعاش، بين ما كان عليه، وكيف هو الآن، وهي في نظرنا أعمّ وأشمل في المعنى من الركام والأنقاض والأطلال، كما أنها لا تقتضي الهدم. صحيح أنها تتقاطع مع الأطلال في الإشارة إلى غياب العنصر البشري (فرادى وجماعات)، إلّا إنها أقل كثافة منها في المحمول الشاعري، وتلك مقولة أُخرى نسعى لإعلائها. بقي أن نشير إلى أن هذه التسمية هي اقتراح لا يحقق المعنى وترادفه بصورة كاملة، ولعل تفصيل هذا الأمر ما هو إلّا دعوة إلى إعمال مزيد من البحث والتأمل والحفر في اللغة، وكذلك في الواقع، وأن نعي الأثر المادي للغة التي هي طاقة استعارية للأشياء والأمكنة.

أولاً: في النظر إلى الخرائب / الفراغ

في هذا العنوان نشير إلى أمرين أساسين، حتى إن تداخلا لأغراض تتعلق بالطرح: النظر والخرائب، فهما كلاهما أمران تركيبيان (compositional)، أي أنهما يتعلقان بسياسات البُنية (structure) والعلاقاتية (relational) بين أجزائهما، والتغيرات التي تطرأ عليهما. بمعنى آخر، النظر ليس فعلاً فيزيولوجياً / جسدياً / عضوياً فحسب، بل له أيضاً سياسات (politics) تحدد ممارساته ومعانيه والأهم تركيب العالم أمامه. وعليه، فإن النظر هو تحديق[3] (gaze) يُنتج معنى ويستهلك آخر، ويرتب المعاني ضمن نصٍّ ما، مثلما سنرى. أمّا الخرائب والفراغ، فهما خاصيتان تتعلقان بمادية النص المكاني العلاقاتي، إذ يُقرأ بأكثر من طريقة، وطرق قراءته - وتحديداً الخرائب - لها "تقاليد عتيدة في التحديق."[4]

ما يذكّرنا به الباحث الفلسطيني إسماعيل الناشف، بشأن الخرائب[5] (أو كما سمّاها "الركام")، حذرنا منه أدورنو قبله، وهو أن النظر إلى الخرائب إنما يقتضي الخضوع / الاستسلام للمأساة (catastrophe) أو مقاومتها، وكلاهما مدّ خيطاً من تنظير والتر بنجامين عن جمالية الخرائب، في المنطق التاريخي. إن استيعاب موقع الخرائب من الحداثة هو مساءلة لانتزاع الفاعلية من أجل مواجهة خطر الخرائب الكامن في النظر. وهنا السؤال: أين هو الفلسطيني / ة من الخرائب، وليس فقط من النكبة كمأساة، وكيف ينظر[6] إليها؟ وما هو مآل العلاقة بين الفراغ والخرائب؟

تعود سياسات التحديق في الخرائب إلى مخيال حداثي يستند إلى رومانسية القرن الثامن عشر بشأن الخرائب،[7] لكنه يقطع معها ليؤسس نظرة تاريخانية إليها، تقوم على مركزية الخرائب في الحداثة لتقديم الفصل بين الحديث وما قبله (pre-). ومن نماذجها ديالكتيك الخرائب والإعمار في التاريخ، والذي أسسه هيغل كدينامية تأخذ شكل الدورة. وسبقه الفيلسوف الفرنسي دي فولني (de Volney) إلى موضعَي بالميرا (Palmyra) ومومباي (Mumbai) باعتبارهما حداً فاصلاً بين الحداثة وما قبل الحداثة في التاريخ الأوروبي. والقائمة لا تنتهي بهما، فهي تمتد إلى نابليون الذي كان مأخوذاً بالخرائب في مصر القديمة، وألبرت سبيير (Albert Speer) وأوصافه عن خرائب برلين كيوتوبيا حداثية، وصدمة فرويد في زيارته لخرائب الأكروبول (Acropolis) التي دفعته إلى الانغماس أكثر في الحداثة عبر الخضوع والتسليم للتعليم المدرسي كمؤسسة حداثية مهيمنة (الجامعة والإبتسمولوجيا)، حين قال: "هكذا أرى أن هذا كله موجود فعلاً مثلما تعلمناه في المدرسة!."[8]

وإذا ما أردنا مدّ الخيط النقدي نفسه، بين الخرائب والفراغ، علينا أن نبدأ بالمشهد الثالث أعلاه: قرية "باب الشمس" (الاسم مستوحى من رواية إلياس خوري الشهيرة، والتي سنعود إلى موقعها من الخرائب لاحقاً في المتن):

كانت ردة فعل رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك بنيامين نتنياهو واضحاً بشأن التعامل مع مفهوم الخرائب كسياسة مكانية، فقد أصدر أمراً بإزالة القرية الحديثة، بعد ساعات فقط من إعلان إقامتها. وهذا الحدث يكشف أن السياسات العمرانية المكانية الإسرائيلية ليست مهيمنة في البيئة المبنية / المادية فحسب، بل تمتد أيضاً إلى العمارة باعتبارها سياسات فراغية أساساً.

لكن ماذا يرى الفلسطيني في مقابل الإسرائيلي حين ينظر إلى الأرض الفارغة؟

الفراغ والخرائب هما سياسات إخضاع تستند إلى تقسيمات إثنية للترتيبات الاجتماعية في المنظومة الاستيطانية العنصرية. الفراغ هنا ليس محايداً (ثمة نموذج آخر في المتن)، وهو مرتبط بمجموعة من المفاهيم المتعلقة بالحدث الاستعماري الأوروبي، وارتباطه أساساً بإخفاء الآخر ضمن سياسات الإزاحة والإحلال. وبالتالي، فإن سياسات الفراغ والخرائب تشكل هي أيضاً سياسات النظر، ذلك بأن الفلسطيني لا ينظر إلى الأرض الفارغة مثلما تنظر إليها إسرائيل، لأنها بوجوده ليست فارغة، بل إن وجوده فيها هو جزء من ضرورة إفراغها. أمّا إسرائيل فتفرغ الحيّز وتفكك فلسطينيته (deterritorilization) إلى "ما قبل" الدولانية، وتعيد تصويره على غرار "النوادي الليلية المضاءة بمصابيح النيون" في نهاية الأسبوع في الريفييرا[9] مثلما يصفها فرانز فانون.

وبالإشارة إلى الخرائب نظراً، نشير إلى أعمال أنسلم كييفر (Anselm Kiefer)، النحات والرسام الألماني، الذي اعتمدت أعماله على مقولات تاريخية تؤسس للخرائب كنقطة انطلاق للحداثة الأوروبية، متخطية إرثها النازي والهولوكوست، أو تفترض قطيعة زائفة (pseudo-detachment) معه. يرى كييفر أن كل شيء سينهار في النهاية وأن العشب سينمو فوق المدن[10] (انظر الصورتين رقم 2 و3).

 

الصورة رقم 2: فالهالا (Valhalla) 2006

 

الصورة رقم 3: تذكُّر الماضي لسنة 1986

 

السرد البصري الفني لكييفر عن الناظر هو نص تاريخي، غير أنه يستلب التاريخ لمصلحة الحداثة التي يستخدمها كإجراء تاريخي، وليس كمقولة فكرية فقط. وهنا نفهم تعابير نازية يطلقها كييفر (كالتحية العسكرية النازية) في معارضه، على الرغم من ادعاءاته أنه منفصل عنها، كما نفهم الخرائب النازية كعتبة لفهم الحداثة الأوروبية. ويروي كييفر لنا حداثياً موقف الحداثة من الخرائب، من خلال مادية بصرية، وعبر توظيف هذا السرد البصري كفنّ في المراكمة لخطاب الحداثة في شكله الدولاني (ألمانيا، وعلاقتها بخرائب الحرب العالمية الثانية في مدن مثل درسدن وهامبورغ، وغيرهما)، من خلال مشاهد الخرائب في مشهد قيامي تبدو في ظاهره ديمومة الخرائب، إلّا إنه يمرر من خلالها سطوة الحداثة على المساءلة التاريخية. وهنا نتذكر نماذج بارزة في برلين مثل: كنيسة القيصر ويلهلم [الثاني] في برلين (انظر الصورة رقم 4).

 

الصورة رقم 4: كنيسة القيصر ويلهلم (Wilhelm) في برلين

 

ولعل استحضار النموذج الأشهر في العصر الحديث، أي جدار برلين، يحقق شرطين أساسيين يتعلقان بمفهوم الخرائب كحدّ بين عالمين: العبور والخروج، الأول هو عبور تاريخي / زماني، والثاني خروج من الجغرافيا إلى حيّز العالم.

وهنا، يجب أن نتنبه إلى الجهة المقابلة للنظر، إلى الخرائب، ذلك بأن دخول الفلسطيني فيها هو انحباس له، وعلينا أن نفهم لماذا توحشت قوات الأمن الإسرائيلية في مواجهة المتظاهرين / المتظاهرات في حيّز البيوت القديمة في حيفا. وهكذا يتضح لنا أن النظرة الإسرائيلية إلى الخرائب هي نظرة عبور أيضاً، لأن أدبيات آباء الحركة الصهيونية، وصفت الخرائب والآثار في فلسطين بفراغها خلافاً للدعاية الرائجة التي تقول إن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" (انظر الصورة رقم 5).

 

الصورة رقم 5: رسم توضيحي[11] يبيّن تحليل سياسات النظر إلى الخرائب.

 

الخرائب هي صراع الطبيعي مع الثقافي، على محور الزمن، لكن موقع النظر يرتبط باللغة والسلطة و / أو منظومة الهيمنة من خلال السرد، و / أو الخطاب (كالمدرسة في نموذج فرويد). إن خضوع النظر للسلطة هو حادث في السرد من دون الزمن، لكن ما إن يبدأ النظر / التحديق بالتعامل الزمني مع الخرائب (من خلال التأريخ، مثلما هي الحال الفلسطينية)، حتى يبدأ تحليل الطبيعة والثقافة تاريخياً (نذكر هنا ارتباط الصبر في الثقافة الفلسطينية الشعبية والحكائية، بالدروب التي مرّ عليها اللاجئون والمهجرون الفلسطينيون، بينما ارتبطت نبتة الطيون بالخرائب المهجرة). ومن الجدير الإشارة إلى نماذج خطابية إسرائيلية تعاملت مع الخرائب: ففي يافا مثلاً أُقيمت قرية الفنانين في منطقة البيوت المهجرة؛ في طيرة الكرمل في حيفا، تعيد إسرائيل إنتاج المكان ضمن خطابها من خلال توظيف الحيز (reterritorialization)، واستخدام الطبيعي كجزء من الثقافي والفني، لتصبح السياسات العمرانية، بمقولاتها الفنية والجمالية، أدوات عنف واحتلال، الأمر الذي يحيلنا إلى ما حذّر منه والتر بنجامين عن جمالية الخرائب.

وبالتدقيق قليلاً في الرسم التوضيحي أعلاه، نجد أن النظر كموقع (positionality)، كلما خضع لخطاب السلطة في كونها مساهِمة في إنتاج السياق، نراه ينتج ثقافتها، حتى لو عارضها على مستوى الخطاب، مثلما هي الحال في "يوم الأرض" الذي قلما يُعتبر تهديداً لدولة الاحتلال وبُنيتها العنصرية، خلافاً لنموذج "باب الشمس" الذي أشرنا إليه سابقاً.

إن انحباس الفلسطيني في الخرائب، مثلما سيمر معنا لاحقاً، إنما يحدث من خلال سياسات خطابية تفصل بين موقع التحديق والسلطة والطبيعة والثقافة، أو أنها تخضع لأدواتها وزمنها الدولاني. ولعل هذا النموذج قادر على شرح عطب أنماط خطابية كتقنين "حق العودة" أو جعله شعيرة، وبذلك يمكننا فهم طقسية يوم الأرض وانعدام فاعليته، لأنه يملك خطاباً لا يتضادّ مع الخطاب المهيمن، بل يخضع له في بؤرة التقنين، وفي تحويل العودة إلى خطاب قانوني قابل للتداول والقياس غير الجسدي. وعليه لا نسمع كثيراً عن مواجهات مع الدولة في يوم الأرض.

ومن النماذج التي تكشف تداعيات سياسات النظر وموقع الناظر وتراكبيتهما، التاريخُ الاستعماري لألمانيا في ناميبيا في الفترة 1884 – 1915 (انظر الصور 6 و7 و8).

 

الصورة رقم 6: أطلال القلعة الاستعمارية الألمانية في هيوسيس (heusis) في ناميبيا

 

 

الصورة رقم 7: أطلال موقع مراقبة الجيش الاستعماري الألماني "إيروس"، (High Res) ناميبيا، 1997

 

الصورة رقم8: أطلال مركز الشرطة الاستعمارية الألمانية السابق في هوهنفيلز، (Hohenfels)، ناميبيا، في حالتها الراهنة

 

الأسئلة التي تُطرح أمام هذه النماذج، هي: هل يملك الألماني الأوروبي النظرة نفسها التي يحملها الألمان من أصول ناميبية نفسها، أو حتى الناميبيين؟ وأين تقع تلك الخرائب من الخطاب الألماني والناميبي الرسمي، وفي الذاكرتين الجمعيتين؟ وإلى ماذا ستنتهي سياسات بعض الناميبيين المرتبطين بالمنظومة الدولانية الاستعمارية في إسباغ الصفة الأفريقية على تلك الآثار، وتأريخها ضمن هذا السياق، وهل تحمل المعنى ذاته بالنسبة إلى كل مَن يتقاطعون معها؟

كثيراً ما كانت الخرائب ذات علاقة بخطاب السلطة (authority) والقوة (power) والهيمنة (hegemony)، وكذلك السلطة والقوة والهيمنة المضادة لها، وعلاقة ذلك كله بمفهوم التاريخ والطبيعة والثقافة. وهنا تظهر أهمية ما يمكن تسميته تفكيك تحويل الخرائب في الخطاب المهيمن إلى سردية (denarrativization).

في السياق الفلسطيني، نجد ستاراً سميكاً بين الذات الفلسطينية والخرائب، وهذا الستار لا يمكِّن تلك الذات من المرور من خلال الخرائب إلّا من خلال طقوس تعويضية في الزمن: أي أنها تفصل الثقافة عن الطبيعة أو تختزل إحداهما في الأُخرى، من دون حركة في الزمن، ومن دون مواجهة جسدية مباشرة مع السلطة (ثمة بعض المحاولات الشبابية لتحويل حق العودة إلى فعل جسدي). والأمر هنا أشبه بفرجة زمنية، ففي يوم الأرض مثلاً، تعود إليها الأجساد الفلسطينية بشكل طقوسي، لضبط الزمن الحداثي، مثلما يقول ديفيد هارفي (David Harvey). أي أن الحداثة تشترط على ذواتها (ليس شرطاً أن يكون الفلسطينيون في ذاتهم حداثيين بقدر ما يتعاملون مع أشكال وجودهم حداثياً) التعاملَ مع الخرائب إمّا بالانحباس فيها، وإما بالتعامل معها من خلال وسيط كالدولة أو الشعائر أو يوم الأرض.

والسؤال الذي يبرز هنا هو: كيف للذات الفلسطينية أن تتعامل مع الخرائب بمنطقها الضابط لها في التاريخ؟ وكيف يمكنها أن تكون سرداً مكانياً مضاداً؟ 

ثانياً: الخرائب والخرائط وإنتاج المكان والزمان واختزالهما

يقول الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه (Mark Oger) عن إحدى زياراته لموقع تيكال (Tikal) في غواتيمالا:[12] "لقد تأكدت، كغيري، أن الهياكل وأماكن الأضاحي كانت تقع تماماً في الأماكن التي عيّنتها الخريطة، فقرأت بصعوبة، في أحد الكتب الكثيفة المعلومات، التعليمات والتعليقات التي استرعت انتباهي ومنعتني من الاستسلام تماماً لتأمل الأماكن، شأني شأن الزائر المتهوس الذي يقرأ كل الإرشادات المكتوبة تحت قطع الفخار والمنحوتات التي أتى ليراها، كي لا يخلط بين القرون والأساليب الفنية، ولكن في المحصلة تضعف رغبته فيروح بصره ينساب إليها ولا يتوقف إلّا عند سطح الأشياء."[13]

الخرائب إذاً، تمثل الحد الذي يمكن العبور منه إلى الحداثة والعقلنة، والخروج منهما، ولعل هذا كان هو الدور الرئيسي للتيار الرومانسي في القرنين الثامن والتاسع عشر في أوروبا، والذي مثّل مقدمة أو مدخلاً للحداثة العقلانية المادية، مثلما يقول عمير إيشيل (Amir Eshel): "نحن مفتونون بالبُنى التي تفككت أو تحطمت نتيجة فعل بشري - المباني والمواقع والأحياء التي سُويت بالأرض في حرب كارثية، أو دمرتها قوى نسميها سياسية بأوسع معانيها. ومع ذلك، فإن الخرائب التي تشير إلى الاضمحلال أو التدهور الطبيعي رائعة فقط في السياقات الرومانسية الأولية، وبالتالي التي عفا عليها الزمن."[14]

وبالعودة إلى المشهد الأول لقرية السلمة، في الأيام الأولى من كانون الأول / ديسمبر 1948، وبالإشارة إلى سياسات النظر (ثانية) إلى تطور الحيّز الإسرائيلي (المديني والاستيطاني على حد سواء) كحركة، انطلاقاً من لحظة المأساة (النكبة)، نجد أن تحول زوايا الشوارع وتقاطعات المدن والطرق في فلسطين في تلك اللحظة، إلى مناطق حدّيّة تقوم على فرز الجسد والمكان الفلسطينيين ومنع تداولهما (وذلك بالقتل أو التهجير والطرد أو الهدم)، بين القرى والمدن، هو مساهمة في توزيع وترسيم حدود الخرائب على حدود الحيز الإسرائيلي للسيطرة على فكرة العبور والخروج واتجاهاتهما، فكلاهما عناصر حركية تقوم على ترسيم وتحديد الحيّز الحداثي الجديد، أو "الحي الحضري اليهودي"، مثلما سمّاه بني موريس، خلال وصفه مواجهات عصابات الهاغاناه مع قوات المقاومة في القرية.[15]

عمدت إسرائيل بعد اعتداء المستوطنين إلى تحويل مسجد السلمة إلى نادٍ اجتماعي ورياضي للمستعمرة، من دون تغيير ماديته ومعماريته، وذلك في محاولة مكانية لتحوير (بالمعنى الرأسمالي السلعي) معناه، وإدماجه في السرد المديني - الاستيطاني، ونفي الفلسطينية عنه، وخصوصاً أن الذوات الاستيطانية الحداثية الدولانية لا مجال لها للانحباس فيه.

ما تحاول هذه الورقة اقتراحه هو: بما أن الخرائب هي مناطق ذاكرة، كيف يمكننا كفلسطينيين من خلال تلك المناطق إعادة إنتاج سرد مكاني مغاير، من دون الوقوع في شرك مناهج التأريخ الحداثية بإرثها الكولونيالي، والتي يعتمدها معظم مشاريع التأريخ والتوثيق الفلسطينية، ومن دون الوقوع فيما يمكننا تسميته ميلانخوليا الأرشفة؟

يبرز في هذا السياق نموذج قرية العراقيب الذي يستحق النظر والتأمل، لما له من موقع مضاد للخرائطية كأداة هيمنة استعمارية ذات نزوع حداثي. فالعراقيب قرية في النقب هُدمت أكثر من 200 مرة، ومع ذلك فإنها غائبة عن سياسات الأرشفة والتأريخ الحداثي الفلسطيني الذي يعيد إنتاج السرد السلطوي من خلال أدوات متحيزة ضده إبستمولوجياً.

بالعودة إلى قرية سلمة التي أعلنت بلدية تل أبيب في سنة 1963 خطة 460 (انظر الصورة رقم 9) لتطوير مستعمرة كفار شاليم المقامة على أنقاض القرية الفلسطينية، والتي تضمنت إقامة مساحة خضراء من دون المساس بالمسجد، نجد أن الخطة لم تنفَّذ بشكل كامل، غير أن سياسات التشجير أنتجت مساحة فارغة أصبحت جزءاً من سياسات الخرائب في البنية الاستعمارية الاستيطانية. وهنا يمكننا البحث في التداخل بين الخرائب والفراغ، كسياسات عمرانية قمعية (انظر الصورة رقم 10)، لكن الأهم كيف يمكن إنتاج ذاكرة مكانية لا تقع ضحية الخرائط كأداة حداثية للهيمنة على المكان، إذ يسهل إنتاج خريطة تقدم السطح الناعم للخرائب والركام والفراغ؟ لكن ما معنى أن نربط الخرائب والركام والفراغ بمنظومة الحداثة؟

 

الصورة رقم 9: خطة 460، لسنة 1963 لتطوير مستعمرة كفار شاليم، من أرشيف بلدية تل أبيب

 

الصورة رقم 10: صورة حديثة للأقمار الصناعية لمستعمرة كفار شاليم، والمنطقة الخضراء فيها توضح مشروع التشجير لسنة 1964 من خطة 460، وكذلك توسع حدود المستعمرة

 

ثالثاً: الخرائب والفراغ بين التأريخ والأرشفة، أو بين الميلانخوليا والموت

ثمة تماهٍ بين الميلانخوليا والخرائب، فكلاهما يشترط حزناً وأسى ما، ويتضمن فقداً ما، وموقعاً بين الحياة والموت، لا هو موات ولا هو حياة، ومن هنا تعددت مؤخراً الأبحاث التي تربط بين الخرائب والميلانخوليا، والتي تمكّننا من تأمّل وضع الذات الفلسطينية ارتباطاً بالمأساة باعتبارها ذاتاً مصابة بميلانخوليا ما. وإلّا ما الذي يفسر غياب المأساة في سياسات النظر الفلسطينية؟ ذلك بأن جميع تصاوير النكبة في الفن التشكيلي الفلسطيني (مثلاً) توثق ما بعد "المذبحة" (كما يسميها إسماعيل الناشف)، أو المأساة، وليس المأساة ذاتها. والأمر يختلف قليلاً بالنسبة إلى السرد ("باب الشمس" نموذج متقدم في توثيق المذبحة / المأساة). فالفراغ في شهادات الفلسطينيين والفلسطينيات الشفوية يمتد ليطال لحظة النكبة والمذبحة والمأساة، بحيث تصبح الخرائب والمأساة هما ميلانخوليا الفلسطيني بين الحياة والموت.

يدّعي بيتر فريتشه (Peter Fritzsche) في كتابه "هائم في الحاضر: العصر الحديث وميلانخوليا التاريخ"، أن الخرائب هي الدليل على وجود سابق، وعلى دورة الحياة والموت، فيما يشبه التاريخ الطبيعي، بينما باتت في العصر الحديث تُفهم على أنها أشياء للمراقبة والدراسة، أي أنها باختصار، هدف للتأريخ. لقد أصبح الماضي وسيلة للتفكير في قدرتنا على التصرف والتأثير في العالم في "ظروف الطوارىء"، ولم نعد فقط مواد / موضوعات سلبية غير فاعلة لدورة التاريخ، لأن ذلك منطق كولونيالي في التعامل معرفياً مع التاريخ، يضعنا موضع المنفعل به، لا الفاعل.

يطرح فريتشه الخرائب "أساساً لحاضر بديل"[16] فقدت فيه الخرائب جاذبيتها المتعلقة بالمجهول، أو الغرائبي، كمَعبَر للحداثة، ولم تعد بؤرة يبدأ منها فهم مغاير لأهوال التاريخ البشري باعتبارها نتيجة "كارثة تاريخية محددة"[17] تجعلنا نكوّن رؤى رسمية أو نمطية عن عمل العملية التاريخية وقابليتها للتحول، وعن إنتاج الأنقاض لتقديمها، كما يدّعي فريتشه، "دليلاً" على النهايات المفاجئة والبدايات الجديدة، وبالتالي تشجيع جهود المعاصرين على أطراف الحداثة لـ "صنع" التاريخ في الوقت الحاضر أو مقاومته. إن المقصود هنا ليس الخرائب بحد ذاتها، مثلما يخلص فريتشه، وإنما "خراب الخرائب الذي هو السمة المميزة للحداثة"، ويتعين علينا تفكيك تلك المقولة.

لكن في السياق الفلسطيني، وتأكيداً لكون الفراغ والخرائب سياسات إنتاج اجتماعي حيزي صهيوني، فإنه يحقّ لنا أن نتساءل: كيف يمكن العمل على الوجود الفلسطيني من خلال الخرائب والفراغ، من دون أن يقعا ضحية خطاب تأريخي قائم على الموت والميلانخوليا، وذلك عبر الأرشفة ومناهج التأريخ القائمة على سياسات الذاكرة والنسيان الحداثية، ومن دون أن يعلقا على سطح الأشياء، والخطاب والصور الجمالية؟

 

* كُتبت هذه المادة على هامش بحث بالإنجليزية بعنوان مقترح:

«On Ruins and Emptiness: Melancholy of Colonial Spatial Politics in Palestine».

وستُنشر في خريف سنة 2023، في كتاب من إصدار Routledge الأكاديمية.

 

المصادر:

[1] من النماذج المهمة لتحيّز اللغة كمنظومة سياقية، ما حدث بشأن مفهوم الجندر (gender) الذي تُرجم إلى جنسانية وجنوسة ونوع اجتماعي وغيرها من المفردات، من دون توضيح منهجي وبحثي للمفهوم وتمظهراته اللغوية.

[2] للاستزادة، انظر أدبيات والتر مِغْنولو (Walter Mignolo)، مُنّظر دراسات تفكيك الكولونيالية.

[3] التحديق (the gaze) هو مفهوم مستوحى من أدبيات النظرية النسوية بشأن تحديق الذكر، وما يستبطنه هذا التحديق من قوة وسلطة لبناء المعنى والمشهد.

[4] Julia Hell and Andreas Schönle, eds, Ruins of Modernity (Durham: Duke University Press, 2010), p. 1.

[5] ورد ذلك في محاضرة للناشف بعنوان "حديث الركام"، في سنة 2014، ويمكن الوصول إليها في موقع يوتيوب، في الرابط الإلكتروني.

[6] لعل النظر هنا يدفعنا إلى رصد تمثلاته في الفن التشكيلي والسينما والسرد والعمارة والموسيقى، وكلها تنويعات عن النظر وإن اختلفت الحاسة.

[7] نجد في الثقافة العربية أمراً مشابهاً، ولا سيما ما يتعلق بالأطلال في الشعر العربي، والعلاقة مع القطع معه لتأسيس مخيال مرتبط بالتمدن والمدنية.

[8] Sigmund Freud, “Un trouble de mémoire sur l’Acrople: Lettre à Romain Rolland”, in: Sigmund Freud, Resultats, idees, problémes, II, 1921-1938” (Paris: PUF, 1985).

[9] Frantz Fanon, The Wretched of the Earth, preface by Jean-Paul Sartre,

translated by Constance Farrington (New York: Grove Press, 1963), p. 176.

[10] للمزيد عن الذاكرة والخرائب في أعمال كييفر انظر تقرير لـ "الغارديان" البريطانية:

Rachel Cooke, “Anselm Kiefer Review: Remembrance Amid the Ruins”, The Guardian, 28 September 2014.

وتقرير آخر في "الفاينانشال تايمز" البريطانية:

Jackie Wullschlager, “The Art of Anselm Kiefer Rises from the Ruins”, Financial Times, 4 July 2009.

وأيضاً في "النيويوركر" الأميركية:

Ian Parker, “Anselm Kiefer’s Beautiful Ruins”, The New Yorker, 26 June 2017.

[11] يرد هذا الرسم التوضيحي وبشكل أكثر تفصيلاً في البحث الأصلي باللغة الإنجليزية، والمخطط أن يُنشر أكاديمياً في شتاء سنة 2023، مثلما أوضحنا أعلاه.

[12] تيكال هو أحد أهم المواقع الأثرية لحضارة المايا في غواتيمالا، وقد أُدرج في سنة 1979 في سجل التراث العالمي لليونسكو.

[13] مارك أوجيه، "الزمن أطلالاً"، ترجمة جمال شحيّد (البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2016)، ص 33 - 34.

[14] Hell and Schonle, op. cit, p. 133.

[15] Benny Morris, 1948: The First Arab-Israeli War (New Haven, Connecticut: Yale University Press, 2008), p. 94.

[16] Peter Fritzsche, Stranded in the Present: Modern Time and the Melancholy of History (Cambridge: Harvard University Press, 2004), p. 5.

[17] Ibid.

Author biography: 

عبدالله بياري: كاتب وباحث من فلسطين.