The Palestinian Living Cemetery 1: Conceptual History
Full text: 

يدرس مشروع "المقبرة الفلسطينية الحية" التاريخ المفاهيمي والسياسي والاجتماعي والثقافي لفلسطين من خلال المقبرة. وتنشر "مجلة الدراسات الفلسطينية" تباعاً، خلال سنة 2023، خلاصات مستلّة من الأجزاء الأربعة لمخطوطة الكتاب.[1] يتناول الجزء الأول التاريخ المفاهيمي عبر ثلاثة مداخل: يعرض الأول، إثنوغرافياً، ولادة المقبرة الفلسطينية الحية كمشروع تراكمي في خمس مراحل تراوحت بين الاستكشاف والاستشراف والاحتراف والاستكمال والضبط. ويوضح الثاني، منهجياً، كيفية قراءة منطق المقبرة خلال العمل الميداني والتصنيفي والتحليلي؛ وبُنية الدراسة التي استندت إلى أربعة أسئلة تكوينية؛ والمفاهيم المؤسِّسة لافتراضات الدراسة، وهي: التغايرية والحدودية والبينية والشاهدية. ويقارب الثالث، نظرياً، الموت في المرايا المعرفية، البيضاء والسوداء، لقراءة موقع فلسطين فيها، وذلك في مساجلة لنتاجات ميشيل فوكو وجورجيو أغامبين وجوديث بتلر وأشيل مبيمبي. وفي المحصلة، تقترح الدراسة مقولة فلسفية مشتقة من الواقع الفلسطيني، فحواها: "أنا أموت، إذاً، أنا موجود"، تؤسس لصور الوجود الفلسطيني في الحياة والموت، مثلما تعكسها المقولة المنقوشة على ضريح الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود: "فإمّا حياة تسرّ الصديق، وإمّا ممات يغيظ العدا".

 

ضريح الشهيد عبد الرحيم محمود، المقبرة التحتا، الناصرة المحتلة، 11 / 9 / 2015

 

ولادة المقبرة الفلسطينية الحية

يقوم مشروع "المقبرة الفلسطينية الحية" على دراسة المقبرة، لكتابة قصة حياتها، بصفتها إحدى الجغرافيات المهمَّشة والأقل استخداماً في أبحاث الذاكرة والتاريخ في ميدان الدراسات الفلسطينية، إلى جانب كل من المخيم والسجن. ويدشّن المشروع تواريخ موازية، أكثر من كونها تواريخ بديلة، للرواية الفلسطينية الرسمية، على المستويات المفاهيمية والسياسية والاجتماعية والثقافية، منذ سنة 1905 التي شهدت بداية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين حتى اللحظة. فالتواريخ التي تختزنها المقبرة، لا تتقمص أقوال مَن فقدوا حقّهم في الكلام إلى الواجهة المرئية من الذاكرة، بل تعين أطياف وجوههم الغائبة على معاودة الظهور بالتدريج في مدوّنة التاريخ الخفية.

ومع أن المشروع يستند إلى التمثيل الجغرافي أكثر من المسح الشامل، إلّا إنه جرى تصوير عيّنة بحثية من شواهد القبور في قرابة 250 موقعاً للدفن في فلسطين التاريخية، و"دول الطوق" العربية في الأردن ولبنان وسورية، والتجمعات في مصر وتونس وليبيا، وأماكن الشتات الأُخرى في العالم. وتشمل مواد الأرشيف الحي لهذا المشروع نحو 35,000 مادة تتوزع على: الصور الفوتوغرافية، والمقابلات المصورة، والخرائط الهيكلية، والوثائق التاريخية، والمدوّنات القانونية، والتقارير الرّصدية، التي جُمعت من مخيمات اللاجئين، والتجمعات، والمعازل القروية والبلدية، والمراكز المدينية، في فلسطين التاريخية والشتات. وقد أُنجز المشروع على خمس مراحل امتدت خلال الفترة 2010 - 2023، فولدت "المقبرة الفلسطينية الحية" على دفعات.

المرحلة الأولى (2010 - 2012)، وهي ذات طبيعة استكشافية قادت إليها مصادفة بحثية خلال العمل الميداني في مشروع آخر، هو: "متلازمة كولومبوس وتسمية فلسطين" الذي يبحث في تسمية المواقع الفلسطينية على المستويات التاريخية والقانونية والثقافية، ويتوسل طيفاً واسعاً من المرئيات والمحكيات والمدوّنات في الفضاءات العامة والخاصة والسيبرانية. فخلال استراحة من التصوير في ظل الأشجار المعمرة المحيطة بالمقبرة الإسلامية القديمة في مدينة البيرة، لفتتني بعض شواهد القبور التي تحمل أسماء قرى فلسطينية. وخلال جولة أولى في المقبرة، تبيّن أن اللاجئين من قرى القدس واللد والرملة ويافا، الذين انتهى بهم المقام في البيرة، يحرصون على كتابة أسماء بلداتهم التي هُجّروا منها خلال نكبة 1948 أو نكسة 1967 على شواهد القبور. وفي اليوم ذاته، زرت المقبرة المسيحية القديمة في حي المصيون في رام الله، وتكررت الملاحظة ذاتها. وامتد التصوير إلى مقابر نابلس وجنين، وجمعتُ العديد من الكتابات الشاهدية لاستخدامها في الفصل الخاص بـ "سيميولوجيا المقبرة الحية" الذي يعلن المقبرة كأحد مواقع الذاكرة الفلسطينية، ويعلن الشواهد مدوّنات يتعامل معها الفلسطينيون كجزء من الفضاء العام الذي ينجزون فيه الهندسة اللغوية المضادة للمحو الاستعماري، ذلك بأن شاهدة القبر تُفصح عن هوية الحي أكثر ممّا تفصح عن هوية الميت: إنساناً، ومكاناً، وحكاية.

المرحلة الثانية (2013 - 2014)، وهي ذات طبيعة استشرافية حفّزت عليها النصوص الشاهدية للقبور في مدن شمال الضفة الغربية، وهي نابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية، والتي تجاوزت تدوين مسقط رأس الوليد إلى مكان سقوط الشهيد. كما لاحظت أن شواهد قبور الشهداء، وخصوصاً في انتفاضة الحجارة (1987) وانتفاضة الأقصى (2000)، تشكل مدوّنات تاريخية تختزن تفصيلات واقعة الاستشهاد، والانتماء السياسي، والإطار التنظيمي، والمجموعة العسكرية... وما سوى ذلك من المرئيات التي تشمل الصورة والشعار والأيقونة، وغيرها. عندها، تولّدت القناعة بأن "المقبرة الفلسطينية الحية" يجب ألا تظل عنواناً فرعياً لبحث الجوانب السيميولوجية، بل عليها أن تتحول إلى مشروع بحثي منفرد برسم المجموع. وامتد العمل الميداني، غير النظامي، إلى وسط الضفة الغربية، وشمل المدن والبلدات والقرى والمخيمات في أريحا وبيت لحم والخليل. وفي هذه المرحلة تبيّن لي أن المقبرة ليست موقعاً مفرداً ومنعزلاً للذاكرة، بل تتقاطع مع المخيم والسجن في كونها جغرافيات مهمَّشة في الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي، وفي كونها حقلاً خصباً لا بد من توسيع رقعة البحث فيه. ونتيجة تقاطع عملي الفكري والبحثي والأكاديمي في جامعة بيرزيت، بدأتُ التنظير للفكرة الخديجة في المحاضرات العامة والدروس الصفّية، وخصوصاً في مساق "فلسطين: الهوية والقضية"، وثلاثية: "دفاتر السجن: الحركة الفلسطينية الأسيرة"، و"دفاتر العودة: الحركة الفلسطينية اللاجئة"، و"دفاتر الفداء: الحركة الفلسطينية الشهيدة".[2] وأفردتُ مساحة واسعة في المساق الأخير لدراسة المقبرة.

المرحلة الثالثة (2015 - 2016)، وهي ذات طبيعة احترافية وقد اتسعت فيها رقعة البحث، على نحو نظامي، إلى القدس وفلسطين المحتلة منذ سنة 1948 وقطاع غزة. آنئذٍ، تبدّى لي التنوع الهائل في المقابر من حيث التعدد السياسي والديني والطائفي، والتراتب الاجتماعي، والتنوع اللغوي. ثم انتقلت إلى التصوير في المثلث والجليل، وبتركيز خاص على المقابر في المراكز المدينية القديمة، وهي: اللد والرملة ويافا وأم الفحم والناصرة وبيسان وصفد وحيفا وعكا، وفي البلدات والقرى، الآهلة منها والمطهّرة عرقياً. وبالتزامن، عمل أصدقاء على تصوير محدود في مقابر قطاع غزة التي لم أتمكن من الوصول إليها. وقادت جولات العمل الميداني في مواقع الدفن هذه إلى قناعة راسخة بأن المقبرة الفلسطينية تمتلك عناداً وثائقياً يمكن من خلاله تدشين تواريخ من شأنها إعلان كشف نكبة فلسطينية تحت أرضية (Subterranean Nakba). وعزز هذه القناعة التفاوت الهائل بين واقع المقابر ومدوّنة الأرشيف في المؤسسات الفلسطينية ذات العلاقة، وخصوصاً: مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية في القدس؛ مؤسسة الأقصى في أم الفحم؛ مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى الفلسطينيين في رام الله (ولاحقاً في صيدا)؛ الأرشيفات المتوفرة في البلديات والمجالس المحلية ولجان المخيمات. وفي منتصف سنة 2015، بدا واضحاً أن العمل الجزئي في البحث في ظل التراكم المتدرج للأرشيف الهائل لن ينجز المشروع، فاستثمرت إجازة التفرغ العلمي من جامعة بيرزيت (2015 - 2016) للعمل على المشروع في مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة كولومبيا في نيويورك. وعلاوة على الجهد التصنيفي لمواد الأرشيف، تقاطع اشتغالي مع اشتغال زملاء لي في جغرافيات عالمية شبيهة، وقاد إلى تنظيم مؤتمر بعنوان: "سياسات الحياة والموت في فلسطين وكشمير وتاميل إيلام".[3]

المرحلة الرابعة (2017 - 2019)، وهي ذات طبيعة استكمالية بعد العودة إلى فلسطين، إذ بدأتُ بعرض المشروع، واستئناف التصوير في الشتات، واستكمال معالجة الأدبيات والأرشيف. على المستوى الأول، قدمت خلاصات البحث في عدة منابر كان أهمها ورشة "الكولونيالية الاستيطانية والصهيونية" التي نظمها مدى الكرمل / المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية في حيفا،[4] ومشروع "أراضٍ منقلبة" الذي نُظم في إطار "بينالي الشارقة 13" في رام الله.[5] أمّا على المستوى الثاني، فقد مكّنت مِنحتان بحثيتان من جامعة بيرزيت[6] والمجلس العربي للعلوم الاجتماعية[7] من تحقيق تقدّم في المشروع شمل: أولاً، تصوير المقابر في الأردن، سواء في المخيمات أو في المراكز المدينية (بما فيها مقابر الجيوش العربية) في: الأغوار، وعمان، والزرقاء، وإربد، وجرش، والمفرق، في نيسان / أبريل 2018. ثانياً، تصوير مقابر لبنان في المخيمات والتجمعات والمراكز المدينية في كل من بيروت، والمتن، والشوف، وصيدا، وصور، والنبطية، وطرابلس، والبقاع، في حزيران / يونيو 2018. وفي المستوى الثالث، تم تصوير المقابر في كل من تونس وليبيا في تموز / يوليو 2019. وفي المستوى الرابع، أنجزتُ عملية مسح شامل للوثائق والأدبيات ذات العلاقة بسياسات الموت والحياة، علاوة على كتابات متفرقة عن أضرحة بعض القادة الفلسطينيين.[8]

المرحلة الخامسة (2020 - 2023)، وهي ذات طبيعة ضبطية، استُكمل فيها التصوير في مناطق فلسطين المحتلة منذ سنة 1948، وشملت مدن طبرية، وبيسان، وصفد، وعكا، ويافا، وجنوبي الرملة، وغربي القدس وبيت لحم والخليل، وشرقي غزة، وبير السبع والنقب، وذلك بين صيفَي سنتَي 2020 و2021. كما طوّرتُ الإطار النظري للمشروع بجهد بحثي شمل ترجمات وكتابات مقارنة تتعلق، بصورة أساسية، بالمنهج.[9] وبفضل إجازة التفرغ العلمي من جامعة بيرزيت (2022 - 2023)، ومنحة زمالة في مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، تواصل الجهد البحثي على ثلاثة مستويات: الأول، إعداد الأجزاء الأولى الناجزة من المشروع لغرض النشر، بالتزامن مع تطوير الإطار القانوني للمشروع.[10] والثاني، استكمال المقابلات في: بيروت، وطرابلس، والبقاع الغربي، وصيدا، وصور؛ وإنجاز التصوير في سورية. والثالث، إتمام تنضيد أرشيف المشروع رقمياً تمهيداً لتدشين مدوّنة إلكترونية - تفاعلية، بعنوان: "المقبرة الفلسطينية الحية"، بالشراكة بين جامعة بيرزيت ومؤسسة الدراسات الفلسطينية. 

منطق المقبرة: المنهج والبُنية والمفهوم

ضمن هذا المسار التراكمي للمشروع، واستناداً إلى المقولة المتفائلة إن "الطريق تصنعها الخطى"، تحرّزتُ من بعض الأخطاء القاتلة في "تصميم" المناهج البحثية في سياق استعماري من حيث قدِّها على قدِّ المنهجية لا العكس، وهو ما نحذّر منه في الأكاديميا الفلسطينية على المستويات الأخلاقية والسياسية والمعرفية. ولذا، لم يتبنّ هذا المشروع منهجية نفّاثة تقول بلاغتها الخاصة أكثر ممّا تضيء بلاغة موضوعها البحثي، كأنه فريسة على مشرحة التدريب، بل منح موضوع البحث حرية فرض منطقه الخاص، وهو "منطق المقبرة" الذي هو، على ثقل فكرة الموت وحدثه ومادته ووسيطة، منطقٌ أصيل وأصلاني وحي قادر على تحرير الحواس في رصد الموضوع بعيداً عن استعمارية المناهج الدراجة. ولذا، كانت المنهجية تشتيتية، وغائية، وشعرية. تشتيتية، لأنها تقرأ طوبوغرافيا الموت الفلسطيني المتذرر، إنساناً وزماناً ومكاناً، بصفتها مرآة أصيلة وأصلانية لطبوغرافيا الحياة. وغائية، لأنها لا تنفصل أخلاقياً عن موضوع البحث، بل تتغيّا جَعْل الميّت فاعلاً كلامياً في المقبرة الصامتة، وفاعلاً ثورياً خارجها، وذلك عبر "القصّ النقدي" (critical fabulation) لحكايات حياة المغلوبين.[11] وشعرية، لأنها تحرر الموت الفلسطيني من المرايا الاستعمارية البيضاء التي تجعل الحياة وجهة نظر في موت ينقصه كثير من ملامح الموت، ليصير الموت وجهة نظر في حياة ينقصها كثير من علامات الحياة.

لكن تراجيديا المنهج، على الرغم من التحرز، هي قصوره عن المعاينة الموحدة للمقبرة بصفتها برزخاً بين حياة ينقصها كثير من الحياة، وموت ينقصه كثير من الموت. فتباين الاقتصاد السياسي للموت – المتذرر، وانتشار المقبرة - المتغايرة داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات، يحتّمان انتقائية جراحية في قراءة توزيع الموت والمقبرة، وإغفالاً رزيناً لما يمكن أن يشي بالتشابه من خلال: العمل الإثنوغرافي في الميدان؛ التاريخ الشفوي في التصنيف؛ السيميولوجيا الاجتماعية في التحليل. ولذا، استند العمل الميداني الذي اكتنفته صعوبات عديدة جرّاء الواقع الاستعماري في فلسطين والشتاتي في خارجها، على خرائط مسارية قصدية، لكنها غير نهائية وقابلة للتغيير، لرصد أمكنة الدفن (بالتصوير الفوتوغرافي، والفيديو، والتصوير الجوي أنّى أمكن ذلك)، اشتملت على: المدن، والبلدات، والقرى الباقية والمهجّرة، والمخيمات. وقد راعت هذه القصدية تمثيل التنوع الديني، والاجتماعي، واللغوي سواء ظهر هذا التنوع في المقبرة الواحدة، أو في أكثر من مقبرة في الموقع الواحد.[12] أمّا العمل التصنيفي للمواد (التي تجاوزت 35,000 مادة توزعت على الصور، والخرائط، والوثائق التاريخية، والتقارير القانونية)، فترافق مع تفريغ المقابلات المسجلة مع الشهود، وسدنة المقابر، والعاملين فيها، وزوارها، ورؤساء لجان المخيمات، ولجان الأوقاف، وذوي العلاقة في مؤسسات السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، والمؤسسات الأهلية. وتوزّع العمل التحليلي على قراءة المدوّنات السياسية والاجتماعية والثقافية مثلما تعكسها المقبرة، واشتمل على ثلاثة مستويات متداخلة، هي: تحليل السياسات المتعلقة بالتوزيع الفراغي للمقبرة نفسها ولجوارها الحضري؛ تحليل المحتوى الكتابي للنصوص المنقوشة على شواهد القبور، والنصب التذكارية، والأحياز الأُخرى في المقبرة وملحقاتها (التي اشتملت على لغات متعددة، غير العربية، منها: العبرية والأرمنية والسريانية والسامرية والروسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية)؛ تحليل سيميائي للمحتوى الصوري للشواهد، والبُنى المعمارية للقبور، وهيئتها الهندسية.

ولأن هذا المشروع يقترح سردية مفاهيمية وسياسية واجتماعية وثقافية نقطة انطلاقها هي المقبرة، فقد بحث في أربعة أسئلة كبرى، تمت مقاربتها عبر أربعة مفاتيح منهجية. وجاءت بُنية المشروع، في أجزائه الأربعة، تجسيداً للتفاعل بين الأسئلة ومفاتيحها. أمّا الأسئلة، فهي: كيف يمكن قراءة الموت الفلسطيني (في المقبرة وخارجها)، نظرياً وقانونياً، في مختلف العتبات المعرفية العالمية التي واكبت القضية الفلسطينية؟ وكيف يمكن للمقبرة أن تدشّن تاريخاً سياسياً موازياً لفلسطين يتجاوز، ميدانياً، التقسيمات الاستعمارية والشتاتية، ويتغلب، منهجياً، على أوَّلانية النص الصهيوني في الكتابة التاريخية؟ وكيف يمكن جعل المقبرة مصدراً لقراءة التاريخ الاجتماعي الفلسطيني على نحو يتجاوز الانحيازات التي كرّستها سياسات إنتاج المعرفة إلى تراتب المجتمع الفلسطيني المذرَّر في جغرافياته المتعددة؟ وكيف يمكن للمقبرة أن تلهم كتابة جديدة للتاريخ الثقافي الفلسطيني، نصياً وطقوسياً وفنياً ومعمارياً، على نحو لا تمليه النتاجات الثقافية السائدة في الخريطة والأرشيف ومركز الإحصاء بصفتها ذاكرات رسمية؟ أمّا المفاتيح، فهي أربعة حدود مفاهيمة متداخلة لمادية المقبرة والمعرفة الناتجة منها، وهي: التغايرية، والحدودية، والبينية، والشاهدية. ومن خلال هذه المفاتيح، تمت قراءة المقبرة الفلسطينية الحية على نحو يعمل على إعادة إنتاج كل من المجال السياسي النظري والسياسي والاجتماعي والثقافي. 

التغايرية: المقبرة الهتروتوبيا

برزت المقبرة، بصفتها "مكاناً متغايراً" (heterotopia)،[13] في سياق المراجعات الفكرية للتحولات التي شهدها الفكر الغربي حيال الزمان والمكان بصفتهما أحيازاً لممارسة السلطة. فبينما كُرّس القرن الثامن عشر للتعامل مع تراكم أزمنة الماضي، والقرن العشرين لإدارة تغاير أمكنة الحاضر، كان القرن التاسع عشر هو العتبة لفهم أنماط سلطة المستقبل. أمّا نحن، في الجنوب العالمي الذي أخذه الشمال العالمي مستعمَرة وتركه مقبرة، فيبدو أن القرن الحادي والعشرين هو فرصتنا لتفكيك ما علق في حقلنا المعرفي من ألغام نظرية، من دون أن تقتلنا. وميشيل فوكو، من دون شك، هو أحد كبار زارعي الألغام في حقل النظرية، وليست الهتروتوبيا إلّا بعض ألغامه المغوية التي تبدو كنكتة نظرية لم يكتمل دوزانها.[14] ونظراً إلى مركزية هذا المفهوم في دراسات المكان والحيز، وإلى كون المقبرة هي أحد "المبادىء" التمثيلية الستة لها، فإنه لا بد من تفكيكه، وإردافه بثلاثة مفاهيم تفسيرية مشتقة منه.

صحيح أن السياق الغربي شهد تحولات جذرية في تصورات الحيّز كان باعثها استشراء نزعات التقديس والعلمية والعلمنة، إلّا إن فضيلة فوكو تكمن في تجاوز مفهومَي الثبوت والامتداد في وصف الحيز، وتوظيفهما لبلورة مفهوم "الحيز العلائقي"، على طريق وصف الحيز كعلاقة دائمة التغاير. وعلى الرغم من النجاح الذي حالف نزعة العلمنة، فإن أداءات الحياة الجماعية لا تزال تكرّس وظيفة الحيّز، السياسية والاجتماعية والثقافية، على نحو يُخِلّ بتعريفه التقليدي كـ "مكان لممارسة السلطة." فـ "الأمكنة الأُخرى" (des espaces autres) التي أعلن فوكو ولادتها نظرياً، تمتاز بالتغاير مع "الأمكنة العادية"، وهو تغاير تُحدثه ديناميات سياسية واجتماعية وثقافية تعمل على تغيير وظيفة هذه الأمكنة: بالتعليق، أو التحييد، أو المعاكسة. وهنا، تثبت وظيفة "الأمكنة العادية" بإرادة دينية مقدسة أو دنيوية معلمنة، فتصير أحيازاً لممارسة السلطة وأمكنة امتثالية بالنبذ (كالمصحة، والسجن، والمدرسة، والمعسكر...)؛ بينما تتبدل وظيفة "الأمكنة المتغايرة" بإرادة وإدارة يفرضها منطق الحياة اليومية، فتصير أحيازاً لتعليق ممارسة السلطة وأمكنة عصيانية بالانتباذ (كالمتنزه، والمقبرة، والسفينة، والمرآة...).

ولِحَدِّ هذه "الأمكنة المتغاير" تعريفياً، أوجز فوكو عملها عبر ستة "مبادىء" عامة أطلق عليها "علم الهتروتوبيا" (hétérotopologie)، وهي تصنيف لأمثلة متنوعة من الهتروتوبيا، أكثر ممّا هي توصيف لطبيعة اشتغالها. تقول هذه المبادىء الستة: بكون الهتروتوبيا عابرة للثقافات في أزماتها (بيت العجزة) وانحرافاتها (مدرسة الأحداث)؛ بقابليتها للتغير والتطور تبعاً لتغيّر المجتمعات التي تظهر فيها (المقبرة والميدان)؛ بقدرتها على الجمع بين تغاير الأزمنة والأمكنة وقيمهما في الواقع والخيال (المسرح والحديقة)؛ باستعدادها لاحتواء تغايرات الزمن الدائري وتراصفاته (heterochronia)، في مكان واحد (المكتبة والمتحف)؛ بجمعها للنقيضين من حيث كونها عصماء ومستباحة، في آن معاً (الفندق والمقهى)؛ بأهليتها للقيام بعدة وظائف إلى حدّ التناقض: بين أمكنة الوهم (المباغي)، وأمكنة التعويض (المستعمرات) التي يعتبرها فوكو المكان المتغاير بامتياز (heterotopia par excellence).

ومع أن فوكو أفرد المبدأ الثاني للمقبرة كمكان متغاير، إلّا إنها تشترك في بعض السمات مع أمثلة الهتروتوبيا في المبادىء الخمسة الأُخرى. ولذا، يمكن الاستنتاج: (1) إن الموت أزمة بيولوجية وأنطولوجية يتم حلها عبر المقبرة وبطريقة غير تقليدية. فمَن لم يعودوا أحياء، أو مَن صاروا عبئاً على الحياة وخطراً، يتم إقصاؤهم بالدفن، ولا يوصف ذلك كعقوبة، بل كتكريم؛ (2) بعد أن تحوّل الموت من "فشل إلهي" في العصور القديمة، إلى "فشل طبي" في العصور الحديثة، لم يقم البشر بإقصاء الموتى بالدفن، بل أقصوا المقبرة نفسها عن المراكز الحضرية إلى أطرافها ليعفوا أنفسهم من عبء التحديق في الفشل، وليتمكنوا من تغيير ماهية المقبرة ووظيفتها على نحو يمكّنهم من إدارة أزمة الفشل الوجودي في صيغتَيه الدينية والدنيوية؛ (3) لأن الموت هو الأداء الأخير في حياة الإنسان، فإنه يصير رابطاً ينوس بين الواقع والمثال، بين قيم ممرّ مملكة الأرض (الغبراء) ومستقرّ مملكة السماء (الخضراء). وهنا، تصير المقبرة بصفتها هتروتوبيا (heterotopia) موقعاً محايداً (topia) للدفن، بينما يصير القبر "روضة من رياض الجنة" (utopia) أو "حفرة من حفر النار" (dystopia)؛ (4) إذا كان لدى القسم السفلي من المقبرة الاستعداد لاحتواء تغايرات الزمن "فوق العادي" وتراصفاته المتخلية، فإن لدى القسم العلوي المتثمل في البُنية المادية للقبور وتوزيعها الطوبوغرافي قابلية كسر رتابة "الزمن العادي" و"المكان العادي" وانتظامه الدائري، وذلك في مكان واحد يختزل وظائف الخريطة والمتحف والأرشيف ومركز الإحصاء في تخليد ذكرى حيوات "قاطني" المقبرة الموتى مثلما انتهى الأمر، مثلاً، بشهداء غارة معسكر حمام الشط في تونس (1985) الذين دُفنوا في عمّان. كما أن لديه قابلية التحول إلى فضاء أدائي للطقوس ضمن تغايرات زمانية ومكانية تتآلف فيها ذاكرات الماضي والحاضر والمستقبل كالمعرض والمهرجان والكرنفال التي يشارك فيها الأحياء أمواتهم في أنظمة المعاني التي تنوس بين الفناء والبقاء، وتناغي قلق الوجود بوهم الخلود. (5) بانتحالها سمات النقيضين، الحادث والسرمدي، تجمع المقبرة بين سِمتَي الإباحة والاستباحة. فإدارة الدخول إليها والخروج منها، لقاطنيها الأموات وزائريها الأحياء، عبر مدوّنة قوانين وأعراف إدارة شؤون الموت تنظيمياً وأدائياً وطقوسياً، تنفي عن المقبرة سمة المكانية والزمانية، فهي اللامكان واللازمان، أي أنها حيز لممارسة السلطة وحيز لعصيان السلطة في آن معاً؛ (6) المقبرة مكان متغاير بامتياز من حيث الوظيفة، فهي مكان للموت، ومكان لحياة قصة الموت، ومكان للاجئين إليها من أجل السكن أو الاختفاء من عسف المستعمِر وجور السلطة.

 

مثوى شهداء غارة معسكر حمام الشطّ في تونس، مقبرة سحاب، عمّان، الأردن، 12 / 4 / 2018

 

الحدودية: المقبرة البرزخ

ولأن المقبرة مكان متغاير، فهي بالضرورة مكان برزخي سياسياً، يفصل في السياق الفلسطيني بين نكبتين: نكبة فوق أرضية (Terranean Nakba) تفصح عن حياة ينقصها كثير من الحياة التي قطع سيرورتها الطبيعية عنف الحروب والمجازر والقتل اليومي، ونكبة تحت أرضية (Subterranean Nakba) تفصح عن موت ينقصه كثير من الموت، وقطع صيرورته الطبيعية عنف المقابر الجماعية، وقصف المقابر، وتعليق الموت باحتجاز جثامين الشهداء في الثلاجات ومقابر الأرقام، وعدم الكشف عن مصير المختطَفين الذين أُعلن قتلهم من دون إبراز ما يثبت استشهادهم. وفي هذا المقام، يصلح ما تبقَّى من بيوت قرية لفتا ومقبرتها، مثالاً للنكبتين. وعلى الرغم من ذلك، وربما بسببه، فإن إمكان كتابة تاريخ سياسي فلسطيني من خلال المقبرة بدأ يتخلّق، وفيه ينقلب سحر فاعل سياسات الموت والحياة على ساحره، حين يصير في إمكان شواهد القبور، وعلى غفلة من جبروت الغالب وضعف المغلوب، أن تكون الصوت الأعلى في كتابة تاريخ آخر لا تحكمه علاقات القوة السائدة. وحين يحول المشروع الصهيوني دون ظهور دولة فلسطينية ديمقراطية ميثاقية، وتنفي طبيعته العنصرية تحوُّله إلى "دولة كل مواطنيها"، في فلسطين التاريخية، فإن ديمقراطية الموت تؤمّن "مقبرة كل مواطنيها"، حيث يكتسب كلٌّ جغرافيا قبره بجدارة الموت، ويكتب كلٌّ تاريخ ما قبل القبر بجدارة الحياة. وبذا، تصير المقبرة موقعاً لإعادة إنتاج المجال السياسي.

 

ما تبقّى من قرية لفتا ومقبرتها، القدس المحتلة، 26 / 6 / 2015

 

إن رؤية المقبرة بصفتها برزخاً يؤمّن للباحث عن موضوعه وعن تاريخه في آنٍ معاً، إمكانات تبدو مستحيلة خارج المقبرة، لكتابة تاريخ سياسي فلسطيني، من شأنه: (1) تجاوز التقسيمات الاستعمارية والشتاتية، وبالتالي التحرر من أطر التحقيب والجَغْرَفَة المكرّسة، خلال قراءة التجربة الجمعية الفلسطينية؛ (2) الاستعصاء على سياسات الذاكرة والنسيان الرسمية، فلسطينياً، وسياسات المحو والإبادة الصهيونية، من خلال قراءة المدوّنة السياسية في المقبرة؛ (3) التغلب منهجياً على أوَّلانية النص الصهيوني واستعلائيته في الكتابة التاريخية بصفته معطى معرفياً ناجزاً (epistemic default)، وبالتالي منح آخر سطر في حياة الفلسطيني الملتبسة وأول سطر من موته الواضح فرصة للعصيان المعرفي (epistemic disobedience) من أجل كتابة قصة الحقيقة بعد زوال جسدها؛ (4) اختزان سياسات الصداقة والعداء بعيداً عن عسف المؤسسة المعرفية الفلسطينية أو غيرها التي تنتج معرفة عن فلسطين مثلما هي بادية في المقبرة؛ (5) تثبيت إمكان تحقيق العودة بالموت سواء في حالات الدفن الفردية في مسقط الرأس، أو الحالات القانونية الخاصة لقرى الحاضرين الغائبين، أو لشهداء صفقات التبادل؛ (6) تكريس ديمقراطية الموت الفلسطيني، لا في تجاوز المقبرة الفلسطينية للتقسيمات الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية والقومية لقاطنيها فحسب، بل أيضاً في مراتب موتهم العادي أو الذي صار عادياً، بوصف القاطن: "مرحوماً" (ميّتاً عادياً)، أو "شهيداً" (ضحية، أو شهيداً، أو استشهادياً)،[15] أو "مغدوراً" (متعاوناً مع العدو الصهيوني)، أو "ساقطاً" ("في المعركة" أو "خلال أدائه لواجبه" العسكري في صفوف الجيش الصهيوني)، أو مستوطناً (قادماً جديداً كيهودي، ميتاً كمسيحي أو مسلم يرغب في الدفن في المقابر الفلسطينية)، وغير ذلك.[16] 

البينية: المقبرة المَحْيَا

بناء على ما سبق، يساهم اتسام المقبرة بالتغاير والحدودية، على المستويين المفهومي والسياسي، في جعلها بينية على المستوى الاجتماعي. فالمقبرة الفلسطينية ترفدنا بوثائقها الوفيرة التي تكشف التراتب الاجتماعي بما يضمه من آخَريّات متعددة: دينية واجتماعية وثقافية وسياسية، تجعل من المقبرة مجتمعاً آخر. فالمقابر (أمكنة الموتى) في محايثتها للمَحَايي (أمكنة الأحياء) تتيح مقارنة بين هذه الأنماط الآخرية عبر النص الشاهدي البيني. ولذا، فإن دراسة طبقات المقبرة بمعنى layers، لا طبقاتها بمعنى classes فقط، تجعلها موقعاً لإعادة إنتاج المجال الاجتماعي. فالمقبرة الفلسطينية لا تجسّد الآخرية الكبرى (البرّانية) بين المستعمِر الصهيوني والمستعمَر الفلسطيني فحسب، بل تُبرز أيضاً طبقات مركبة من الآخَريّات الصغرى (الجوانية) ضمن ثنائيات الموت والحياة من حيث: الذكورة - والأنوثة (النوع الاجتماعي)، والصغر - والكبر (العمر)، والموت - والاستشهاد (صورة الموت)، والفقر - والغنى (الوضع الاقتصادي)، والولاء والخيانة (الانتماء السياسي)، والإقامة واللجوء (الوضع القانوني)، والمهنة (المكانة الاجتماعية)… وما إلى ذلك.

ومن ناحية أُخرى، ثمة مجموعة من التغيرات التاريخية العالمية التي طرأت على المقبرة، وعززت سمتها البينية. ففضلاً عن التراتبية الاجتماعية الماثلة في مشهدية المقبرة، يعمل الموت على تغيير العلاقات الاجتماعية والسياسية والدينية، وتصورات البشر لأنفسهم وللمكان، ولما بعد الحياة والموت. وتتمثل هذه التغيرات، بشكل أساسي: بوظيفة القبر، ووظيفة المقبرة، وتطبيع الموت، التي تؤثر في إحداث إرباك في أنماط الفاعلية والمفعولية لكل من الأحياء والموتى.

لقد تغيرت وظيفة المقبرة نتيجة التخطيط الحضري الحداثي، وما بعده في المركز الاستعماري الغربي، متضافراً مع السياسات الحيوية وسياسات الموت التي ساهمت في إبعاد المقابر عن مراكز التجمعات السكانية وتحديداً عن الفضاء المديني. وكان للتغيرات المعرفية في البُنى الاجتماعية والتربوية والثقافية دور في إحداث انقلاب في الاقتصاد السياسي للموت كان من نتائجه تغيير الوظيفة التقليدية للمقبرة، من مجرد مكان لدفن الموتى، إلى مكان للحياة، حيث تتحول المقبرة إلى منتزه وممشى ومعرض ومتحف حي للتاريخ ومكان لإقامة الطقوس والاحتفالات...[17] ولعل ذلك هو المعنى العميق لما أشار إليه فوكو من انقطاعات زمنية ومكانية (decoupages du temps/decoupages de l’espace) تجعل من مكان ما، كالمقبرة، مكاناً متغايراً قادراً على مراكمة عدة أمكنة وأزمنة، دينية ودنيوية.

وعلى الرغم من حدوث ذلك في المراكز الاستعمارية الغربية، فإن الموت في فلسطين جرى تطبيعه ليصير أحد مظاهر الحياة. فقد عملت سياسات التخطيط الحضري الصهيونية على حصر الفلسطينيين ومحاصرتهم على نحو يلوذون فيه بالمقبرة بيتاً مثلما هي الحال في قرية العراقيب التي هدمها الاحتلال أكثر من 212 مرة ولم يجد أهلها إلّا المقبرة ملجأ، فضلاً عن سياسات التخطيط الحضري في الشتات التي جعلت من الصعب التمييز بين المخيم والمقبرة. وأدت هذه السياسات إلى ملاشاة المسافة بين فضاءات الحياة وفضاءات الموت، وهو ما ساهم في تطبيع الموت وجعله أحد مظاهر الحياة. فنتيجة موقع المقبرة في قلب التجمعات الحضرية الفلسطينية، لا خارجها، تم إغراق المقبرة بنشاطات الحياة اليومية من دفن، وزيارة، وإحياء للطقوس في الأعياد والمناسبات الوطنية، وحتى بلا مناسبة.[18] وبذا، جرى تطبيع الموت عبر إدامة حضور مشهدية الموت في مشهدية الحياة.

 

الشيخ صيّاح الطوري إلى جانب نصب الشهداء، مقبرة العراقيب، النقب المحتل، 5 / 3 / 2021

 

وجرّاء تغيّر وظيفة المقبرة، وتطبيع الموت، لم يعد القبر مجرد مَعْلَم تذكاري للموت يؤدي وظيفة تنبيهية للحي أنْ "تذكَّر الموت" (memento mori)، أو "كل شيء فانٍ إلّا وجهه" من باب "ذكر هادم اللذات"... بل صار للقبر - عبر نصه الشاهدي، كتابياً وسيميائياً، ونمطه المعماري، وموقعه في التوزيع الطوبوغرافي للمقبرة - وظائف جديدة بصفته مدوّنة سياسية واجتماعية وثقافية. فالقبر مدوّنة سياسية لأن شاهده ومعماره وموقعه من المقبرة، يفصح عن الشرط التاريخي الذي عاش فيه قاطنه، ويحتفظ بالمكانة السياسية التي احتلها ولا يزال؛ والقبر مدوّنة اجتماعية لأنه يحتفظ بمكانة صاحبه من حيث الوظيفة ورأس المال الاجتماعي والرمزي، وبالتالي فإن "ساكنه" لا يزال يمارس على الأحياء بعض الفاعلية، حتى في موته؛ والقبر مدوّنة ثقافية لأنه أرشيف سرمدي، وبرزخي بين الحياة والموت، يحتفظ بعناصر المخيال الفردي والجمعي العابرة للزمنية والمكانية، الأمر الذي حدا بفوكو إلى أن يصف المقبرة بأنها "الخزان الأكبر للمخيال الجمعي" (la plus grande réserve d’imagination)،[19] كونها مكاناً مدنَّساً انتحل صفات المقدس. 

الشاهدية: المقبرة الأرشيف

باتخاذها مجمَّعاً لـ "الشواهد"، فإن السيميولوجيا تتيح لنا أن نقرأ في المقبرة الفلسطينية "وثائق" ناجية تتضمن سِيَر البقاء والفناء، ودلالات المعمار، وإشارات الفن، ومعاني الرموز الكتابية والصورية، وتاريخ الأفكار والمعتقدات والطقوس... لا لمجتمع آخر من البشر هم الآن تحت التراب، بل كتجريد ثقافي مكثف لحيواتهم قبل الموت، ولحدث الموت الذي لم يكن سوى فاصل غامض بين فاعليتين: بيولوجية موجبة للحي، وأنطولوجية سالبة للميت. لكن الفاعلية المزدوجة لقاطن القبر، بصفته مَعْلَماً وشاهداً تذكيرياً، وقد نُقشت على شكل مدوّنة ثقافية مشفّرة في عمارة القبر، تمثّل وجوداً أرشيفياً من نوع خاص. صحيح أن الأرشيف هو مقبرة للوثائق والناس والمؤسسات والبُنى المادية التي كانت يوماً قائمة وانتهت إلى صيغة محفوظات في جوارير وصناديق لا يزورها إلّا مَن يتوقون إلى الماضي، أو مَن لا يزالون يقيمون فيه، وهذا أبسط نقد يمكن توجيهه إلى الأرشيف، إلّا إنه إذا كان الأرشيف هو مقبرة الأوراق، فإن المقبرة تمنح أملاً متجدداً بأرشيف حجري، حيّ ومفتوح وتخريبي، موجود في كل مدينة وبلدة وقرية ومخيم في حدود فلسطين التاريخية، وفي الشتات. وهنا، يمكن القول: في البدء كانت المقبرة، ثم جاء الأرشيف وانتحل بعض سماتها. أمّا المقبرة، فلا تنتحل صفات الأرشيف بل تَكُونُه حين تعمل، خارج ساعات عملها "الاعتيادي"، كمقبرة للأرشيف التقليدي. وبذا، تصير المقبرة موقعاً لإعادة إنتاج المجال الثقافي.

ولعل مراجعة فقه لغوية مقارنة لجذر "ق. ب. ر" ومرادفاته واستعاراته، تصلح مقدمة للسمات الثلاث التي تتصف بها المقبرة - الأرشيف. فمشتقات ومرادفات واستعارات الـ "قبر" في العربية، تتضمن ومن دون استثناء، فعل الإخفاء بالدفن لما هو سرّ أو ما سيكون سرّاً عمّا قريب، ويجب أن يظل كذلك في استقرار وسكون إلى حين "النشور" و"بعثرة القبور" و"كشف ما في الصدور". ولذا، فالقبر، في جزئه الأسفل المخفي، هو لا مكان، إذ لا سلطة فيه لأحد، ومعرفته لا أرضية ولا سماوية، وإنما هي معرفة برزخية ينبغي لها أن تظل مدفونة، ومخفية عن الآخرين الأحياء. غير أن تعبير "شاهد"، بصفته الجزء الأعلى المرئي من القبر، يحيلنا إلى الإظهار بالكشف.[20] لكن، إظهار ماذا؟ والكشف عن ماذا؟ فالشاهد شاهد على غياب الحضور للذي كان حياً ومات. لكن، هل مات الميت فعلاً؟ الجواب، بالقطع، لا. فالميت لم يكن فاعل الموت بصفته حدثاً بيولوجياً وأنطولوجياً، بل مفعوله الذي لا يزال الشاهد يمنحه بعض الفاعلية. ولذا، فالشاهد مَعْلَم ذاكراتي وظيفته حراسة البرزخ بين الحياة والموت، كأنه إبرة ميزان الوجود التي تنبّه العابرين إلى ضرورة عدم تجاوز "حدودهم" حتى قيام الساعة.

ومع أن القبر في جزئه العلوي (الدنيوي) هو مقولة نقيضة للقبر في جزئه السفلي (الآخروي)، الذي لا نصل إليه إلّا لماماً (لدفن جديد، أو للاستقصاء الجنائي، وهما شأنان دنيويان على أي حال)، إلّا إن شاهد القبر يخدم كعلامة (sema) لتذكير الأحياء الأموات حين كانوا أحياء. فالشاهد، على الرغم من زمنيته، هو انتفاء للزمن لأنه يقع في الحاضر ولا يفضي سوى إلى الماضي. وهذه تماماً هي وظيفة البُنى الشاهدية مثلما تتواطأ عليها اللغات: "شاهد" بالعربية، و"شاهد تذكير" بالعبرية אנדרטה (מצבת זיכרון)، و"تذكير" باللاتينية monère، و"نَصْب تذكاري" monument بالإنجليزية، و"تذكار" mémorial بالفرنسية، و"علامة تذكُّر" denkmal بالألمانية، وهكذا دواليك... ولذا:

فالمقبرة أرشيف حي (living archive) لأنها نجت من الموت الاستعماري أو كادت، وظلت شاهدَ حياةٍ بلاغياً - ذا صيغة مادية - على موت الشاهد الإنساني، وهو الأصلاني الفلسطيني. ومع أن الأصلاني هو الأرشيف، مثلما تقول حكمة قديمة،[21] ومع أن المستعمِر يسعى لقتله... إلّا إن قتل الأصلاني بصفته جسداً لا يعني بالضرورة قتله بصفته أرشيفاً، إذ تنتقل فاعليته الأرشيفية إلى المقبرة، بصفتها أرشيف الأرشيف. ففي حين تشكّل المقبرة مقبرة للأرشيف التقليدي الميت، تنهض المقبرة بصفتها أرشيفاً للأرشيف الحي - وهو الأصلاني الذي مات جسده وبقيت قصته شاهداً على جسد الحقيقة المادي. بعبارة أُخرى، وبعيداً عن المجازفة البلاغية، يمكن القول إن المقبرة هي إماتة لموت الأرشيف. فالأرشيف مقبرة وثائق ميتة عن الأحياء، أمّا المقبرة فأرشيف وثائق حية عن الأموات، أو مَن نظنهم كذلك.

والمقبرة أرشيف مفتوح (archiveopened ) على ثلاثة مستويات تؤمّنها سمات التغاير والحدودية والبينية، وهي معايير: الإدخال، والوصول، والاستخدام. فالمقبرة مفتوحة من حيث إمكان إدخال مواد جديدة إليها، على الرغم من قوانين الموت والمقبرة وقيودها، ومَن يُدفن فيها يصير، على الفور، إحدى وثائق الأرشيف عبر مدوّنة الشاهد ومعمارية القبر وموقعه في طوبوغرافيا المقبرة. والمقبرة مفتوحة من حيث إمكان وصول الزوار إليها، ولا يوجد فيها "وثائق سرية" (classified) تصنّفها الرقابة عسكرية كذلك، حتى إن كانت مقبرة عسكرية. فالمقبرة مفتوحة من حيث إمكان الاستخدام، إذ هي مكان عام ومفتوح للعامة. ولأن المقبرة أرشيف مفتوح، فإنها أرشيف يعيش في "حالة الطبيعية"، أي أنه أرشيف فوضوي بفعل ما يُحدثه الموت من إرباك في النظام، نظام الحياة ونظام الأشياء.

والمقبرة أرشيف تخريبي (subversive archive)، بمعنى التحريض على النظام الذي قمع الثورة في أمكنة الحياة، لكنه لم ينتصر عليها تماماً في أمكنة الموت، حتى إن مات الثوار، مثلما تعكس ذلك الجداريات المرسومة على أسوار المقابر في مخيم عين الحلوة. فالمقبرة تحتفظ بقصة الحقيقة بعد غياب مادتها، ذلك بأن الحقيقة، في المقبرة، تقف سافرة، بارزة الأعضاء، منقوشة على الحجر، بحروف ثلاثية الأبعاد، ويمكننا الإمساك بها، حرفياً، أي الإمساك بالحقيقة عبر الإمساك بحروفها. فشاهد القبر المغلق يعمل سياسياً بصفته "تابوتاً مفتوحاً" يروي حكاية المغلوبين الذين فاتهم الانتصار. والأرشيف يدشّن الصمت ويحرسه، أمّا المقبرة، وعلى الرغم من بلاهة المجاز عن "صمت القبور"، فلا تصمت. صمت الأرشيف قاتل، وصمت المقبرة مقاتل، ولا يحتاج الواحد منا إلّا إلى الإصغاء إليه، بصرياً، لتلطم نظرَه الأصم موجةُ الكلام التي يكوّنها "منطق المقبرة"، ثم تتدحرج إلى شواطىء معارفنا الفقيرة.

 

مثوى شهداء الثورة الفلسطينية، مخيم عين الحلوة، صيدا، لبنان، 18 / 6 / 2018

 

التمثيل بفلسطين: الموت في المرآة البيضاء

إن منطق المقبرة لم ينشأ في سديم معرفي بمحض ذاته، ذلك بأن سياسات الموت والحياة نشأت في السياق الغربي حصرياً، من حيث الانبثاق، والتشكل، والانتشار. غير أن الاشتباك معها يتجاوز كونه تمريناً في النقد المنهجي الذي يكرّس منطق المقبرة، إلى كونه واجباً في النقد الأخلاقي لهيمنة هذه السياسات في المركز المستعمِر (الشمال العالمي)، وبالتالي يصبح ضرورة منطقية لنقد ارتحال هذه النظريات إلى الهامش المستعمَر (الجنوب العالمي). وفي هذا السياق، ربما لا يتوجب الدفاع عن شرعية تحويل المقبرة إلى موضوع بحثي، وتحوّل الموضوع البحثي إلى حقل، بعيداً عن موضة "المشتغلين بالموت" أو هوس "المنشغلين به" من الهواة. فمع أن الموت قديم قدم الحضارة الإنسانية، وهو أحد شقّيها المتلازمين في الديانات التي تقول بخلق الله للموت والحياة، إلّا إن ثمة تلازماً بين ثالوث: السلطة والحياة والموت. وبتجاوز السياسات المعرفية التي نجمت عنها سلسلة من الميتات في تاريخ الأفكار العالمي، كموت الله والتاريخ والمؤلف وغيرها من انشغالات الفكر الغربي، فإن بحث سياسات الموت والحياة في سياق استعماري، وإدخال سياسات الهوية إلى موضع السجال، بات أمراً ملحّاً.

لكن قبل السجال، لا بد من التذكير بأن ارتباط فلسطين كقضية تحرر وطني بأبرز حركات التحرر العالمية مر بلحظتين تاريخيتين مفصليتين: الأولى انطلاقة منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1964 حين ألهمت فلسطين النضال العالمي للاستقلال والحرية والعدالة؛ والأُخرى بروز حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) في سنة 2005. وفي هاتين اللحظتين، شكّلت فلسطين مصدر إلهام نظري للمعرفة.[22] غير أن هذا الإلهام استعصى على مفكرين بارزين في السياق الأوروبي تحديداً، وخصوصاً الفرنكوفوني، الذي أدار كثيرون فيه ظهورهم للمظلومية الفلسطينية وانحازوا إلى الصهيونية و"إسرائيل".[23] أمّا على مستوى سياسات الحياة والموت، موضع الدرس هنا، فقد تم تغييب المعاناة الفلسطينية أكثر من نصف قرن لمصلحة المعاناة اليهودية (في السياق الأوروبي) التي استغلتها "إسرائيل". وقد راوح المفكرون المشتغلون في هذا المجال، والذين تساجِل الدراسة الأربعة الأكثر ريادية منهم، بين: الإغفال التام، والتلعثم، والتحرّز، والمناصرة في التمثيل بفلسطين أو اتخاذها مثالاً.

هنا، تستعيد دراسة "المقبرة الفلسطينية الحية" أربع عتبات معرفية في مفهمة الموت، وتفحص موقع فلسطين منها. وتنقسم هذه العتبات إلى قسمين: واحد انبثق من تاريخ الأفكار في المركز الاستعماري الغربي واهتم بسياسات الموت والحياة في الشمال العالمي؛ وآخر انبثق من تاريخ الأفكار في الهامش المستعمَري واشتغل على سياسات الموت والحياة في الجنوب العالمي. ولذا، يسعى هذا السجال الاستقصائي، مع كتابات فوكو وأغامبين وبتلر ومبيمبي، لإعادة الاعتبار إلى سياسات الهوية ضمن التاريخ الحافل لسياسات الموت والحياة في فلسطين. ففلسطين موقع بيني، من حيث كونها في الجنوب العالمي، لكنها لا تزال خاضعة لسياسات الموت والحياة المحمولة على أيديولوجيا عنصرية صهيونية تؤمن بإمكان إعمال سياسات الموت والحياة لدى نموذجها الاستعماري الغربي الأبيض في الشمال العالمي على الفلسطينيين. 

عتبة الحداثة: مدينة فوكو

لا شك في أن مفهمة ميشيل فوكو للسلطة والسياسات الحيوية، تُعتبر "اسم العائلة" لكل ما جاء بعده من تنظيرات، لا لأن فوكو هو الأب الشرعي لنظريات السلطة فحسب، بل لأن ما صار يُعرف، لاحقاً، بـ "سياسات الحياة والموت" لا يزال واقفاً على عتبة فوكو أيضاً. وفي هذا السياق، تفيد كتابات فوكو - عن "السلطة الطب - نفسية" و"حقّ الموت والسلطة على الحياة" و"سلطة السيادة على الحياة" و"مولد السياسات الحيوية" - بأن "عتبة الحداثة البيولوجية" لمجتمع ما تتعين في اللحظة التي يدخل فيها النوع كرهان أساسي في استراتيجياته السياسية.[24] ومع أن قراءة متأنية لنتاجات فوكو بشأن ثنائية الحياة والسياسة تفيد بأن هذه العتبة تمتد من القرن السادس عشر حتى اللحظة، إلّا إن إرهاصاتها تعود إلى لحظة بدئية أُخرى. فإنسان أرسطو، القديم، حيوان حي، لكنه قادر كذلك على وجود سياسي. أمّا إنسان فوكو، الحديث، فهو الحيوان الذي "في سياسته توضع حياته ككائن حي موضع التساؤل." وبين الإنسان القديم والإنسان الحديث، ساهمت تحولات "بيو - تاريخية" باستحداث آليات "بيو - سياسية" شكلت ما نطلق عليه اليوم "السياسات الحيوية". وعلى الرغم من صعوبة ترتيب هذه التحولات والآليات في إرث فوكو المركّب، فإنه يمكن توضيحها، وإن على نحو مدرسي متعمد، من خلال تداخلات السياسة مع القانون والاقتصاد.

لقد تحوّل حقّ السلطة على الحياة إلى حقّ السلطة على الموت، بصفته أعلى امتيازات السلطة، من الحقّ بالنسب (الأبناء) إلى الحقّ بالمُلك (الرعايا). ويفسّر فوكو طبيعة امتلاك هذا الحقّ في الأزمنة القديمة باستخدام المثال البدئي لسلطة الأب الروماني التي تعطيه حقّ "التصرف" في حياة أطفاله كما في حياة عبيده، فهو الذي "منحها" لهم، وهو الذي يمكنه "انتزاعها" منهم. وعليه، فقد استمد الملك، صورياً، نوعين من حقّ الموت والسلطة على الحياة لدرء الأخطار الداخلية والخارجية: سلطة عقابية ضد مَن يخرق القوانين ويستحق القتل، وسلطة دفاعية بإعلان الحرب التي تتسبب من دون قصد مباشر بموت المدافعين عن الدولة بأمر الملك. ومع ذلك، لا يدافع ملك فوكو عن حياته بموت الآخرين، إذ الملك كائن قانوني جديد يمارس الحقّ على الحياة بتشغيل حقّه على الموت، فيحيي ويميت. ولعل دلالة كلمة "مَلِك" في العربية، وما تحيل إليه من مملكة ومملوكين ومُلك، تيسّر فهم التحولات التي قادت إلى "عتبة الحداثة البيولوجية". فالسلطة – بصفتها حقّ امتلاك الزمان والمكان والسكان - تبلغ ذروتها حين تستولي على الحياة إلى حدّ إلغائها كلياً بالموت. غير أن السياسة لا تحدث في الفراغ، بل تحتاج إلى سلطة على هيئة دولة، قوامها: السيادة، والقانون، والمؤسسة.

أمّا السيادة، فيمكن التعميم بالقول إن مفهمة فوكو لها تشير إلى تحوّل السلطة من استهداف الجسد الحي (فردياً) بالعقاب، إلى استهداف حياة الجسد (جماعياً) بالدفاع. لكن، ببعض التكميم، يتبيّن أن هذا التحول له سيرورة بيو - تاريخية لا بد من استخلاص أهم ثلاث من سماتها من أجل فهم أثرها في تشكّل القانون والمؤسسة، وهي: الحصرية، والخيرية، والديمومة. أمّا الحصرية، فلأن حقّ "الإحياء" و"الإماتة"، أكان عقابياً أم دفاعياً، يختص به الملك، إذ هو المتحكم الأوحد في تحقيق "مبدأ القتل من أجل الحياة"؛ وليس أدلّ على ذلك من معاقبة مَن يقدم على الانتحار (إن نجا من المحاولة)، لأنه اجترأ على صلاحية الملك. وأمّا الخيرية، فلأن حقّ الإماتة - وهو أعلى الامتيازات السلطوية على الإطلاق، سواء نُفّذ بآلية عقابية (دفاعاً عن الملك) أو بآلية حربية (دفاعاً عن المملكة) - هو دفاع عن المجتمع، لأنه يعمل على حمايته من الأخطار الداخلية والخارجية. غير أن هذا التطبيق لمفهوم السيادة باسم السلطة سيصير، لاحقاً، دفاعاً عن "الجماعة" حين تفعل العنصرية فعلها. وأمّا الديمومة، فلأن استثمار السلطة للمعرفة، بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، مهّد لتحوّل السلطة الحيوية (biopower) إلى السياسة الحيوية (biopolitics). أي من استهداف الجسد (كصيرورة بيولوجية) في سياق فردي لترويضه ورفع كفاءته وضبطه ومراقبته واستخدامه من طرف السلطة، إلى استهداف الجسد (كسيرورة بيولوجية) في سياق جماعي من حيث الولادة والصحة والمرض والعمر والموت التي تشكّل مجتمعة "البيولوجيا - السياسية للسكان".

أمّا القانون، ومع تحوّل تقنيات السلطة إلى الاستيلاء على الجسد وإدارته في القرن التاسع عشر، فصار "معياراً" أكثر ممّا هو "آلية" للموت، سواء بتطبيقه كعقوبة، أو بالتسبب به كنتيجة لإعلان الحرب "الدفاعية". ولعل المفارقة في عبارة فوكو الصادمة "القانون لا يمكنه إلّا أن يكون مسلحاً، وسلاحه بامتياز، هو الموت،" تفسّر تحوّل "النموذج القانوني للسيادة" (السلطة الحيوية المتسببة بالموت دفاعاً عن الحياة) إلى ما يمكن وصفه بـ "النموذج الحيوي للقانون" (أي السياسة الحيوية التي يفترض أن تحسّن الحياة وتحصّنها من الموت، وإن كان الموت جزءاً من التحسين والتحصين). عند هذه النقطة، يصبح القانون معياراً لعمليات التنظيم، والتحسين، والتصنيف للسكان، بصفتهم جسماً حيوياً واحداً، من حيث قيمتهم ومنفعتهم وفاعليتهم الإنتاجية، وبالتالي يهيىء الأرضية لما سيُعرف، لاحقاً، بـ "الاستثناء". وقد كان الفلسطينيون، على سبيل المثال، استثناءً كانت "الثلاثاء الحمراء" بعد ثورة البراق (1929) واحدة من أبرز محطاته. وعندها، أيضاً، تتجلى "عتبة الحداثة البيولوجية"، بجهوزيتها (dispositifs) وأجهزتها (apparati)، كالقوانين واللوائح والقرارات والإجراءات والآليات التي تتداخل، تنظيماً، بين مؤسسات الدولة الإدارية، والقضائية، والطبية، التي لن تنحصر مهمتها، كما في الماضي، في تحديد مَن يوالون السلطة ومَن يعادونها.

 

أضرحة شهداء "الثلاثاء الحمراء" محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، مقبرة النبي صالح، عكا المحتلة، 19 / 9 / 2015

 

أمّا المؤسسة، فتضيئها إشارات فوكو إلى وجود علاقة بين استشراء السياسات الحيوية وكل من الرأسمالية والليبرالية والعنصرية. فمن ناحية، ارتبطت السلطة الحيوية بالرأسمالية، منذ القرن الثامن عشر، جرّاء تطوير آليات المراقبة والضبط والمعاقبة للأجساد، وبالتالي العناية الفائقة بتقنيات السلطة في مؤسسات المدرسة والسجن والمستشفى والجيش؛ وسيادة "الأخلاق الزهدية" في التكون الأول للرأسمالية، والتي فُهمت كأنها تحتقر الجسد، وتحتكره. ومن ناحية أُخرى، رأى فوكو في الليبرالية - لا كنظرية ولا كأيديولوجيا ولا كطريقة لتصوير المجتمع التعاقدي لنفسه على نحو يرادف الديمقراطية - "طريقة تصرّف"، أي ممارسة لعقلنة ممارسة الحكم لسياساته الحيوية تجاه السكان، بدءاً من القرن التاسع عشر فصاعداً. غير أن اشتراط فوكو أن تحقق الليبرالية شرطَي المشروعية والإمكان، لا يعني أن تكون الليبرالية قانونية أو ديمقراطية بالضرورة، بل يعني، حصرياً، فاعليتها في عقنلة الممارسات النقدية لنظام الحكم في إجراءاته تجاه السكان في إطار اقتصاد سياسي أتاح للعنصرية أن تطل برأسها أنّى اقتضت الضرورة لـ "تحسين الحياة". وفي هذا السياق، لا تعمل العنصرية سافرة بفجاجة مقولة "البقاء للأصلح"، بل تتسلل مُضْمَرة في إهاب السياسة الحيوية، وتضمن وظيفة الموت في اقتصاد السلطة الحيوية، حين تخلق فضاءات يجري فيها التمييز، احتواء أو إقصاء، بين الأفراد من "الأعراق المتفوقة" و"الأعراق الدونية" عبر متوالية متقنة من سياسات الولاء والعداء للسلطة السيادية في دولة المؤسسات والقانون! 

عتبة ما بعد الحداثة: معسكر أغامبين

تستعين بعض المقارنات بين ميشيل فوكو وجورجيو أغامبين - خلال تتبع مسار التحول من السلطة الحيوية (biopower)، مروراً بالسياسة الحيوية (biopolitics)، وانتهاء بالحياة العارية (bare life) - بتمارين فقه لغوية واشتقاقية لدعم مقولة إنها، بصورة عامة، تعني إخضاع الحياة للسياسة، وربما العكس. وتفترض هذه المقارنات، في أثناء قراءة أغامبين أو محاكاته، وتحديداً في قراءة كارل شميت وحنّه آرنت، أن مفهوم "السياسة" واضح ومتعلق أساساً بوجود كيان سياسي مديني (polis). أمّا مفهوم الحياة (life)، فيتنازعه مصطلحان يونانيان: الأول هو zoe، أو الحياة البيولوجية - الطبيعية (الجسد الفردي)، ويشير إلى الوجود المحض للكائن الحي الذي يعيش حياته لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، لكنه مجرد من التكليف القانوني اجتماعياً، وغير محمي بالقانون، أي أنه ذو حياة عارية (nuda vita)، وهذا التعريف يشمل غير العاقل من الكائنات. والآخر هو bios (الجسد الاجتماعي)، أو الحياة القانونية - السياسية، ويشير إلى الفرد المكلّف قانونياً ضمن جماعة وفي إطار سياسي (polis)، ومحمي بالقانون، وهذا التعريف يقتصر على الإنسان العاقل دون غيره. وعلى الرغم من اختلاف الغاية النهائية ("التحسين" عند فوكو، و"الموت" عند أغامبين)، فإن تحقيق السيادة في الحالتين هو الهدف، أي من استهداف الجسد الحي الفردي، إلى استهداف جسد الحياة الجماعي بصفتها نشاطاً حيوياً للجماعة.

ولتحديد عتبة الحياة العارية، عمل أغامبين على مركزة "المعسكر" كموقع أوروبي غربي للسياسات الحيوية في "حقبة" ما بعد الحداثة، وخصوصاً في أعقاب أحداث أيلول / سبتمبر 2001 وما تلاها من حروب "الإرهاب" والحروب عليه، والحرب على العراق وأفغانستان، ونشوء قضايا لاجئين جديدة، ومعسكرات اعتقال، وغيرها من مولِّدات الموت. غير أنه ذهب أبعد من فوكو في تحديد جذور هذه العتبة التي تدور وجوداً وعدماً، بوجود السيادة، بغضّ النظر عن شكلها وأدوات فرضها. فقد اتخذ أغامبين من مقولة كارل شميت بخصوص قدرة السلطة على إنشاء قانون من دون أن تحتاج إلى قانون أو تكون ملزمة به (legibus solutus) - ذلك بأن "صاحب السيادة هو مَن يقرر بشأن حالة الاستثناء" - دليلاً منهجياً لمفهمة حالة الاستثناء. وقد أنجز أغامبين "تحديد" عتبة ما بعد الحداثة، من دون أن يسمّيها، وذلك بخطوتين: عتبة دنيا - ما قبل حداثية في روما القديمة، وعتبة عليا - حداثية في أوروبا الجديدة، وذلك في كتابَيه الأكثر رواجاً: "الإنسان الحرام" و"حالة الاستثناء".[25] ولعل إضافة أغامبين الكبرى، في هذين الكتابين وما تلاهما، تكمن في كشف الشروط التاريخية التي اكتنفت عمل السلطة على فرض السيادة (بالقانون) واقتراف الإبادة (بالاستثناء) والمعسكر، عبر ثلاث مقولات:

تفيد المقولة الأولى بأنه على الرغم من تحولات مفهوم السيادة عبر الزمن – وخصوصاً في التعامل مع الوجود الحيوي المجرد للإنسان (ذي الحياة العارية غير المحمية بالقانون وغير الممثل سياسياً)، أو الوجود الحيوي الاجتماعي للإنسان (ذي الحياة المحمية بالقانون والممثل سياسياً) - فإن السيادة تقوم على فرض قاعدة الاستثناء (المشتملة على الاحتواء والإقصاء في آنٍ معاً) لمَن ينبغي للجماعة السياسية (التعاقدية أو غير التعاقدية) أن تبقيه، ومَن يتعين عليها أن تقصيه. ولذا، فإن تدشين هذين النوعين من السياسة الحيوية (الفردية والجماعية) ضروري لتحقيق السيادة. ولعل التفسيرات فقه اللغوية التي لفت إليها أغامبين للتمييز بين هذه الأنماط الحيوية في علاقتها بالقانون (مَن يحميهم القانون، ومَن يكرّس القانون لاستبعادهم من حماية القانون)، مهّدت الطريق إلى ظهور "الإنسان الحرام" (Homo Sacer) في القانون الروماني القديم. والإنسان الحرام، هو الإنسان مستباح الدم من دون أن يكون قرباناً، إذ يجب عدم ارتباط وجوده أو فنائه حتى بالتضحية، وذلك لأنه لم يُستثنَ من القانون فحسب، بل جرّده القانون أيضاً من القيمة جملة وتفصيلاً. فهو لا يصلح للحياة، ولا يصلح للتضحية، ولا يصلح حتى للموت العادي (أي الموت المقنون)، ولا يعاقَب قاتله، ولا يخرج من جور الدنيا إلى عدل الآخرة، بل هو خارج دائرة الحياة وإن كان حياً، وخارج دائرة الموت وإن كان ميتاً، فهو "ميّت حي"، ولا يتحقق وجوده، سياسياً ودينياً، إلّا بالخروج إلى المنفى الدائم أو الذهاب إلى أرض غريبة. ولعل "حظر" الإنسان الحرام بالقانون، من مجالَي السياسة والدين، هو بداية "تحديد" رقعة السيادة التي يحكمها مبدأ الاحتواء والإقصاء في الدولة الغربية الحديثة.

أمّا المقولة الثانية، وبالعودة إلى التنظيرات الأوروبية عن السياسة والسيادة والموت (لكارل شميت وحنه آرنت وفالتر بنيامين وميشيل فوكو وجاك دريدا وجورج بتاي)، فإن أغامبين يدشّن فيها "حالة الاستثناء" بصفتها قوننة للخروج على القانون عبر حالة الطوارىء التي تحتّمها الضرورة في أوقات الكوارث والحروب، حيث يُعتبر منحُ الشرعية المطلقة للسلطة لتعليق العمل بالنظام القانوني عتبةَ النظام وحدَّه اللذين تصير فيهما حالة الاستثناء هي القاعدة، أي تصير هي العتبة بين القانون والواقع. وجرّاء نظام انعدام النظام القانوني الذي لا يشير إلى غياب السلطة، بل إلى كونها كلّية الحضور، فإن سياسات الحياة تتحول إلى سياسات موت في هذا البرزخ القانوني الذي لا يشتمل على خط فاصل بين الحياة والموت، على الرغم من سيطرتها على كليهما في فضاء الدولة الحديثة الذي هو فضاء سيادة السلطة على الأحياء والموتى، فعلاً وحُكماً، عبر عنف القانون الذي يتضمن الاستثناء من القانون. وفي هذه اللحظة التاريخية، ما بعد الحداثية، يُبعث الإنسان الحرام والحياة العارية إلى الوجود، ويسجّلان حضوراً تاريخياً يتجاوز زمان ومكان نشأتهما في النظام الروماني الآسن.

أمّا المقولة الثالثة، فتفيد بأنه في حالة الاستثناء، تتمكن السلطة من ممارسة سيادتها على الأجساد على نحو مريح، فتنشىء أحياز السيطرة التي يُجرَّد فيها الإنسان من حقّه في القانون من دون تجريد القانون من حقّه في زجّ الإنسان في برزخ الحياة العارية. فهناك، حيث تقف الدولة داخل القانون وخارجه، مثلما يقترح شميت ويناغيه أغامبين، يتم تطبيع الموت، إذ يصير الإنسان الحرام، ما بعد الحداثي، هو قوام "الحياة العارية للمواطن بصفتها الجسد السياسي والحيوي الجديد للبشرية." أمّا المعسكر، فهو الحيّز المثال (archetype) لاشتغال قاعدة الاستثناء التي تعزل موضوعات المعسكر وتقصيها عن الواقع السياسي والقانوني للدولة خارجه، وذلك لغرض الاستباحة، مثلما يدخل مَن قضوا في المعسكر، أو مَن ساعدوا آخرين منهم على النجاة منه، حيّز الأيقنة كما كانت الحال مع أوسكار شيندلر، حتى في مقابر الفلسطينيين. وعلى الرغم من الأيقنة النظرية لمعسكر الاعتقال والإبادة النازي، فإن أغامبين رغب في تدشين خط فاصل - واصل بين المدينة (polis)، في الحقبة الرومانية ما قبل الحداثة، والمعسكر (camp)، في الحقبة الأوروبية ما بعد الحداثة. إنه خط واصل، بين الحياة العارية والإنسان الحرام في الحقبتين، وفاصل بين شكل النظام السياسي في الديكتاتوريات الإمبراطورية ما قبل الحداثية والديمقراطيات ما بعد الحداثية. ونظراً إلى فظائع المعسكر (التسليم غير القانوني للضحايا، والإقصاء، والتعذيب في السجون الحربية، والقتل في معسكرات الإبادة)، فإن أغامبين يشير إلى تواطؤ الأنظمة الديمقراطية مع الأنظمة النازية في تحقيق هذه التناقض. ويقدِّم أغامبين المعسكر بصفته "المنظومة الخفية للسياسة" التي تتعهّد تطبيع الحياة العارية كحدث تاريخي، وتضمن تلاشي الحدود بين الديمقراطيات الليبرالية والديكتاتوريات الشمولية، بل تظهر في ظلها حقوق الإنسان (غير العاري وغير الحرام) بطبيعة الحال. وحين يتحوّل المعسكر إلى حالة دائمة، تكمل السلطة السيادية قبضتها على الحياة (العارية) لتحيلها إلى موت. وهنا، تصير السياسات الحيوية (biopolitics)، في المعسكر صنو سياسات الموت (thanatopolitics)، ويذهب المعسكر إلى الجنوب العالمي، لكن ليس على بساط تنظيرات أغامبين.

 

بوابة المقبرة الكاثوليكية وعليها اسم أوسكار شينلدر

 

شاهدة قبره، القدس المحتلة، 7 / 9 / 2015

 

عتبة الاستعمار: قطاع بتلر

لم يكن "المعسكر" النازي نهاية المعاناة الإنسانية ومبررات الإبادة. فخلال معارك "إسرائيل" المتوالية في حربها على الفلسطينيين، يطل الناطق بلسان جيش الاحتلال الصهيوني على شبكة CNN، ويحاول تجاوز إحداث تكافؤ أخلاقي بين ضربات "إسرائيل" الاستعمارية لغزة المحاصرة، وردّ المقاومة، إلى تدشين تفوق أخلاقي لمصلحة "إسرائيل"، فيقول: "جيش الدفاع يحمي المدنيين الإسرائيليين بالصواريخ، بينما يحمي الإرهابيون الصواريخ بالمدنيين." وتنقل هذه المقولة الحديث عن سياسات الموت والحياة في فلسطين إلى كتابات جوديث بتلر عن "الحياة المستباحة" و"أطر الحرب" و"مفترق الطرق"، والتي دشّنت ما يمكن أن نطلق عليه عتبة الاستعمار.[26] وقد احتلت فلسطين موقع الصدارة في هذه العتبة التي تناولت: حرمان الفلسطيني من حقّه في الموت عبر زجّه في قلق الاستباحة، وتحويل الحرب ضده إلى حرب عادلة للدفاع عن النفس كونه لا يموت بل يتم تدميره بصفته سلاحاً، ووصم كل مَن ينتقد حصاره وإماتته بمعاداة السامية.

جاءت أعمال بتلر في أعقاب هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة الأميركية، والردّ عليها ضمن ما عُرف بـ "الحرب على الإرهاب"، وهو ما بدا استعماراً جديداً. وقد تضمن ذلك غزو أميركا للعراق وأفغانستان، وانتهاكات سجنَي غوانتانامو وأبو غريب الحربيين، وجرائم الحروب التي شنّتها حليفتها "إسرائيل" على كل من لبنان وغزة. ففي "الحياة المستباحة" تناولت بتلر ما رافق ذلك من توسيع آليات المراقبة، وتعليق حقوق دستورية، وتطوير أشكال، سافرة أو مضمرة، من الرقابة ضمن حالة الطوارىء التي مسّت بالحقوق المدنية والسياسية، الأمر الذي حفّز المثقفين على الرد حفاظاً على حقوق الإنسان واستقلالية العدالة والقيم الإنسانية. وقد كشف نجاح الهجمات الهشاشة التي تشترك فيها أميركا مع "غيرها"، وإمكان خرق سيادتها، وكشف للأميركيين أنه يمكن لهم أن يذوقوا الموت، وأن يتعرضوا للأذى والتأسّي (mourning) (بمعنى الحداد)، تماماً مثلما يفعل الآخرون. غير أن أميركا لم تكترث بجذور المشكلة التي حفّزت الهجمات، وإنما ردت بشكل ساهم في إدامة دائرة العنف، وتكريس التوزيع غير المتوازن للهشاشة وقلق الاستباحة (precarity) في العالم عبر ممارسة سياستَي التفعيل والتعطيل للقانون الدولي.

قاربت بتلر الاستخدام المفرط للعنف الإمبريالي الذي ظهر كردة فعل على الخسارة، من منظور نفسي يستلهم أعمال سيغموند فرويد وإيمانويل ليفناس وميشيل فوكو، لكن لم يكن لديها أي أوهام بأن الردّ الأميركي سيؤدي إلى عالم أفضل يغدو فيه الاعتراف المتبادل أساساً للمجتمع السياسي العالمي، ويُستبدل العنف الكائن بالعدالة الكونية. وقد دشّنت بتلر في نقدها لهذا الواقع أربع مقولات أساسية. تفيد الأولى بأن سيادة الرقابة المعادية لنقد السياسات الأميركية ساهمت في الموازاة بين الدعوة إلى تفسير المظالم التاريخية (لشعوب طالها العنف الإمبريالي) وتبرير الأفعال الإرهابية (التي نالت من الأميركيين على أرضهم)، وتحديد "ما يقال" و"ما لا يقال" في المجال العام. وتؤكد الثانية أن الميلانكوليا الوطنية، المنشغلة بتضخيم آلام الذات وتخليدها وإنكار آلام الآخرين ومحوها، مأسست الرد على الخسارة بالعدوانية المفرطة في محاولة للانتقام للسيادة الجريحة، وفولذت حاضنة إعلامية وثقافية عززت الحصرية المعيارية في تحديد مَن هو الإنسان الذي يجب أن يحظى بالحياة والنجاة، أو يظفر بالموت والتأسّي، ومَن هو دون ذلك. وتشدد الثالثة على أن هذه الحصرية أدت إلى إقصاء الشعوب التي طالها العنف الأميركي عن قابلية الحياة والموت والتأسّي. وقد رافق ذلك تعليق بعض مواد الدستور، ومراوغة القانون الدولي (المنحاز أصلاً)، ومنح "المسؤولين" في الجيش والأمن والاستخبارات صلاحيات سيادية تتعلق بقرارات الموت والحياة، سواء بقواعد الاشتباك في الميدان أو في السجون الحربية. أمّا الرابعة، فتشير إلى أنه بدلاً من أن تحول الأخلاق دون تغوُّل العدائية لإخماد حالة الخوف والقلق عبر التأسّي - وذلك بالاعتراف بـ "وجه" الآخر الذي تستهدفه العدائية - عملت التمثيلات الثقافية والإعلامية على طمس هذا الآخر، أو تشويهه وتقديمه كرمز للشر إذا ما أظهره. وكانت تلك هي المقدمة لنزع إنسانية الآخر، وتحييد المشاعر حيال حياته التي يجب إنهاؤها، وحرمانه من نصيبه في الضحوية، وإرجاء التأسّي عليها إلى أجل غير مسمّى، وإدامة الحرب حتى إخفائه من الوجود.

وفي خطوة تالية، وبالاستناد إلى قراءة ألتوسير لسبينوزا، فحصت بتلر، في "أطر الحرب" الأبعاد غير الحربية للحرب (ما قبلها، وفي أثنائها، وما بعدها)، والتي تعمل على تأطير الحرب عبر مصفوفة من طبقات العنف الإعلامي والعسكري والقانوني، تجعل من المستحيل فصل البُنية المفهومية للحرب عن البُنية المادية.

فالعنف الإعلامي هو حرب على الحواس للحدّ من نطاق المفكَّر فيه حيال ماهية الحرب، وهو نوعان: الأول رقابي يكبت الوعي العام بالحرب لشرعنتها، والآخر مراقَبي ينظّم الوعي العام بالحرب لتبرير نتائجها. وهنا، تتحول الكاميرا إلى سلاح لتأطير الأهداف، سواء في ميدان القتال (كاميرا وحدة الاستطلاع أو الطائرة من دون طيار)، أو في ميدان الدعاية (كاميرا المراسل الحربي أو إذاعة الأخبار). وبذا، تتداخل مادية الصورة بمادية الحرب، وتسيل الفاعلية بين الكاميرا وحاملها، فتصير الكاميرا امتداداً للإنسان، ويصير الإنسان امتداداً للكاميرا، آلتان تتناوبان على أداء مهمات الحرب التي تشنّها الدولة. وفي هذا السياق، تصير الحواس أول أهداف الحرب لأنها ضرورية في عملية تجنيد الدعم المؤازر للحرب وتحييد النقد المناوىء لها، وفي الحرب النفسية ضد العدو المفترض. فالعدو البعيد، جغرافياً في حروب أميركا ومن وراء جدار في حروب "إسرائيل"، جرى تأطيره، ونزع إنسانيته، وتهيئة الرأي العام لقابلية اجتثاثه الذي لا بد منه. أمّا الصور التي قد تفلت من التأطير الرقابي – المراقَبي هذا، وتُظهر بعض فظائع الحرب، فتؤدي نتيجة إيجابية في التأليب على مناوئة الحرب. غير أن العشوائية في نشرها ربما تخدم أهدافاً مغايرة حين تساهم في تطبيع الدم وتحويل مشهدية القتل والدمار إلى جزء عادي ومتجذر ليس في وعي الحياة اليومية فحسب، بل في بُنية اللاوعي أيضاً، والتي ستضمن ذبول جذوة الرفض يوماً بعد آخر.

أمّا العنف العسكري، فيكمل عنف الإعلام بعنف مادي مفرط في محاولة لاستعادة السيادة الجريحة بزعم الدفاع عن النفس، ويُلاشي الفرق بين الإنسان والآلة، ويجعل كلاً منهما امتداداً للآخر. فإذا كانت الكاميرا سلاحاً يتبادل الفاعلية مع حامله، فيَستهدِف ويُستهدف، فإنها ليست الآلة الحربية الوحيدة التي تحظى بهذا الامتياز. فخلال الحرب تُمكنن الدولة جيشها، وتجعل جنودها امتداداً للآلات الحربية التي يستخدمونها، على نحو يتلبّس المجاز المبتذل في سلسلة الفيلم الأميركي "المدمّر: عصر الآلة"، كما تجعل جنود عدوها امتداداً للأسلحة التي يحملونها، وتسمّي كل ما تستهدفه "هدفاً" ضمن "بنك الأهداف"، أكان ذلك سلاحاً، أم منشأة، أم مبنى، أم حقلاً، أم بشراً. فقائد المقاتلة الحربية، أو مذخِّر المدفعية، أو سائق الجرافة، أو حتى القناص، لا يعرفون "هوية" عدوهم، ولا وجهه الإنساني، بل إحداثيات "الهدف" فقط، حتى إن كان الهدف هو الوجه نفسه... طلقة في الجبين.[27] ولذا، دأبت "إسرائيل" على تحويل مقاتلي المقاومة الفلسطينية في غزة إلى امتداد لأسلحتهم، وتحويل البيوت والمدارس والجوامع والجامعات والجمعيات والمستشفيات ومباني الأمم المتحدة والحقول... وحتى المقابر، إلى امتداد للسلاح أو دروع أو مخازن له، بحيث يجري استهدافها كلها كقطع حربية. هذا ما تشهده غزة في كل حرب، ولم تكن مجزرة حي الدرج (2002) خلال استهداف الشهيد صلاح شحادة إلّا مثالاً جليّاً لذلك.

 

ضريح الشهيد صلاح شحادة، مقبرة الشيخ رضوان، غزة، 10 / 1 / 2013

 

ويتجلى العنف القانوني في آليات التعطيل والتفعيل لمواد الدستور أو للقانون الدولي، وذلك لإكمال مهمة الإعلام في شيطنة العدو، والاستفراد بأسراه، ونزع الضحوية عن قتلاه الذين أحال العنف العسكري أجسادهم من لحم ودم إلى نثار، في ثلاث خطوات. في الخطوة الأولى، حين يتم تحويل الإنسان إلى سلاح، ومكانه الآهل إلى مخزن أو درع للسلاح، في لغة الإعلام وقادة الحرب، لا يجد السياسيون الصهيونيون واعتذاريوهم في العالم مشقة في شرعنة التخلص من العدو بصفته تهديداً، فيتحول الفلسطيني من إنسان مستباح إلى حديد مستباح. ولذا، لا يشار إلى مَن يقضي في الحرب بأنه "قُتل" أو "مات"، بل بأنه تم "تدميره"، أو "تحييده"، أو استئصاله"، بمعنى أنه لم يكن حياً ليموت (حتى ميتة الأغيار بالنسبة إلى اليهودي)، بل كان قائماً كقطعة حربية جرى التخلص منها بذريعة "دفاع إسرائيل عن النفس". أي أن الفلسطيني الحي هو فلسطيني ميّت قبل موته، ولا يصير الفلسطيني (بصفته عربياً) جيداً إلّا حين يكون في القبر، مثلما يقول مثل عبري: "العربي الجيد، هو العربي الميت" (ערבי טוב, ערבי מת). وفي الخطوة الثانية، وبما أن الفلسطيني لا يُعتبر حياً قبل القصف، فإنه لا يُعتبر ميتاً بعد القصف، إذ لا نَفْسَ لديه ليدافع عنها، ولذا تصير مقاومته إرهاباً، وتفقد الأعداد معناها. فـ "إسرائيل" تعتبر جسد الفلسطيني خطراً، سواء في تزايد جسد الجماعة الذي تدعوه "القنبلة الديموغرافية"، أو محض الجسد المقاوم الذي تدعوه "قنبلة موقوتة"، وبالتالي، يُعتبر تزايد التعداد السكاني للعدو الفلسطيني زيادة في عدد قطعه الحربية. أمّا الخطوة الثالثة، فهي نتيجة فحواها أن الفلسطيني المقتول، وإن كان طفلاً أو امرأة، يجب ألّا يُحتسب في أعداد "الضحايا"، ذلك بأنه سلاح أو امتداد لسلاح تم تدميره فقط. فجسد الفلسطيني، لا يبدو أكثر من معدن جرت عَسْكرته، لا حياة فيه، مَيْتٌ - مَيّتٌ مع وقف التنفيذ. وبالتالي، فإن صنافيات "مدني" "طفل" "امرأة" (قبالة العسكري الذي يقاتل في صفوف المقاومة الفلسطينية للدفاع عن هؤلاء) تفقد معناها في الحرب، لأن مفهوم "الحرب النظيفة" المشروعة هو وهم قانوني، فكيف هي حال "إسرائيل" التي يوازي قادتها العسكريون بين "طهارة السلاح" و"نظافة السلاح"؟ ففي غزة لا يُعتدّ بالأعداد ولا بالعدّ (counting that doesn’t count)، وإن شكّل التعداد قلقاً دائماً للعدو القلِق دائماً بشأن أمنه العاطفي. وعلى الرغم من قناعة بتلر بأن الهدف هو منع الخسائر (عبر منع الحرب وإيقاف الظلم)، لا تحقيق التوازن فيها، فإنها تشير إلى عدم إمكان المقارنة بين الخسائر لدى "الطرفين".

ولذا، فإن الحرب تعيد إنتاج اللاتوازن في قلق الاستباحة، وتكرّس توزيعه وفقاً لعلاقات القوة بين دولة المستوطنين "إسرائيل" والفلسطينيين الذين لا دولة لهم. فعلى الرغم من كونها دولة استعمارية محتلة (أي أنها بادئة بالعدوان حُكماً، ودوماً) ويحقّ للشعب الفلسطيني المستعمَر قتالها، فإن "إسرائيل" تستحوذ على الحقّ في ممارسة العنف، وتنفرد بحقّ الدفاع عن النفس، وتحتكر دور الضحية، ثم يغطي على جرائمها حلفاؤها الإمبرياليون الذين يقومون بأفعالها ذاتها في مناطق أُخرى في العالم، عبر تواطؤ معلن يمكّنها من تحويل الفلسطينيين إلى جماعة مستباحة يُعتبر التخلص من خطرها ضرورة حضارية، ولا تظفر حتى بلومها كـ "ضحية". ولعل الجانب الذي لا يقل خطورة عن الفعل الدموي لآلة الحرب العسكرية، هو الفعل الكارثي لآلة الحرب المفهومية التي تعمل على تأطير الفلسطينيين كجماعة مستباحة لم يعشْ أفرادها ليموتوا، فهم ليسوا أحياء ولا ضحايا ولا حتى قتلى، بل مقتولون مع وقف التنفيذ إلى أن تنهي وجودهم آلة عدوهم العسكرية. وبالتالي، فإن "حيواتهم" لا يؤسّى عليها، إذ لا يمكن خسرانها، بل يمكن فقط تدميرها، لأنها إنما تثوي في منطقة دُمّرت وخُسرت سلفاً في معركة "مفهمتها" قبل معركة "ماديتها"، قبالة حيوات "الإسرائيليين" التي تستحق الدفاع عنها بجميع الأثمان ما حَيِيَتْ، وتستحق التأسّي إن فُقدت.

وعلى الرغم من هذا الجهد التخصصي اللافت عن تبعات هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 الذي تمحور حوله كتابا بتلر "الحياة المستباحة" و"أطر الحرب"، فإنها عادت إلى قضية مسؤولية المثقف العام، وتحديداً المثقف اليهودي، في كتاب ثالث، هو "مفترق طرق" الذي كرّسته للانتصاف أخلاقياً لفلسطين والفلسطينيين (في حالة الحرب المفتوحة ضدهم من طرف "إسرائيل" وحلفائها)، استناداً إلى إرث الأخلاقيات اليهودية الممتد من مدرسة فرانكفورت حتى اللحظة.[28] وهنا، تقيم بتلر الحجة للمجموعات الإنسانية المستثناة عبر تدشينها مفهوم "الحياة العارية" جرّاء قلق الاستباحة. والمسؤولية، بهذا المعنى، تتضمن التأطير التاريخي وإعادة التعريف إلى مفهوم "الإنسان"، وإعادة تدشين عُرى التضامن مع مَن جرى استثناؤهم من الآخرين، وغير المعروفين، ومن مسلوبي الحقوق واللاجئين من ضحايا الحروب التي شنّتها القوى الاستعمارية الغربية، أو شركاؤها، أو وكلاؤها. ففي شرط تاريخي غير متوازن كهذا، يؤدي الرأي العام دوراً مركزياً في تحديد ما يمكن أن يعنيه التضامن مع الآخرين المجهولي الوجوه، والذين يُرجأ رثاؤهم والحزن عليهم إلى أجل غير مسمّى، وليس فقط الاعتراف بقلق - الاستباحة لديهم كمشترك إنساني. كما تدعو بتلر إلى إعادة مفهمة اليسار، مفهمةً تقاربُ التباين الثقافي، وتؤسس لمقاومة فاعلة ضد عنف الدولة، واعتباطيته، وتحولاته. غير أن تركيزها الأكبر هنا يتمحور حول تثبيت مقولة عدم انطباق تهمة اللاسامية في معاداة اليهود على النقد الذي يُكال ضد عنصرية الحركة الصهيونية وعلى استعمارية دولة "إسرائيل" وعنفها على الفلسطينيين، وخصوصاً في سياق حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS).

عتبة ما بعد الاستعمار: فلسطين مبيمبي

في خطوة متقدمة لدراسة سياسات الموت مثلما تحددها سياسات الحياة، جاء أشيل مبيمبي بمفهوم "السياسات النكرووية [الموتية / الإماتية]" كواحد من مداخل مرافعته الناقدة للمستعمرة وما بعدها، وجعل السياسات الصهيونية في فلسطين مثالاً بارزاً لتطبيق أطروحته النظرية.[29] فقد سعى مبيمبي، على امتداد مسيرته النقدية، لنقد المركز الاستعماري الغربي الذي أنتج اللامساواة والعسكرة والعداوة ضمن تجدد سافر لأنماط الحصريات العنصرية والفاشية والوطنية التي قادت إلى حروب الإقصاء والقتل والإبادة. غير أن اهتمامه الأكبر انصبّ على فضح التناقض الذي يكشف عُوار الأنظمة الغربية بين المجتمعات الديمقراطية والمجتمعات المحاربة، فيظهر منها الجسد النهاري (solar body) المشرق في المراكز الاستعمارية، والجسد الليلي (nocturnal body) المظلم في الهوامش المستعمَرية، وهي المزرعة ومستوطنة العقاب، أي أن الديمقراطية تشرق في الغرب، وتغرب في الشرق، حرفياً. وبطبيعة الحال، ليس مردّ ذلك هو الفرق بين المجتمعات المدجنة والمجتمعات المحاربة، بل السياسات الاستعمارية للدول الإمبريالية الغربية التي جعلت الحرب طقساً مقدساً لأزمنتنا المعاصرة، تفرض به سيادتها وتتخلص به من أعدائها (الفعليين أو المفترضين). وللخروج من مأساة التاريخ هذه، التي صنعها الغرب، يقرأ مبيمبي سجالات النظرية النقدية لبلورة مفهمة جديدة للإنسان تتجاوز رغبة التعاطف المكتوم في الإنسانونية الرومانسية، إلى التضامن المعلن في التحررية الثورية، وتحويل الآخر من عدو للإقصاء والقتل إلى صديق للشراكة والحياة يمكن معه بناء عالم أكثر عدالة.

يضيء مبيمبي مناطق العمى في المرايا البيضاء التي مثّلت بفلسطين، أو جَبُنت عن اتخاذها مثالاً، أو رغبت في تمثيلها وحالت دون ذلك حساسيات موقعية المثقف في سياق غربي - أميركي مكارثي، وذلك من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "وقفة حقّ" نظرية من أجل فلسطين (Theoretical “Kairos Palestine”). وفي هذه الوقفة، يدشّن مبيمبي نموذجاً بديلاً عنوانه المزرعة والمستعمرة، عائداً إلى الجنوب ولاجئاً إلى "صيدلية [فرانز] فانون" لاقتراح حلول إنسانية لم تصغها "أيد بيضاء".

تشكّل أطروحة مبيمبي، أولاً، نقداً لمركزانية حداثية فوكو الأوروبية، وذلك لجهة عمى الألوان لدى فوكو المتمثل: في التجاهل التام لنقد السياسات الحيوية الاستعمارية التي مارسها الأوروبيون بذريعة السيادة، في الهوامش المستعمَرة التي نشأت فيها ديمقراطيات وكيلة لمصالح السادة البيض في المزرعة والمستعمرَة التي يقطنها السود والملونون؛ وفي الارتباط العضوي للسياسات الحيوية، حين تصير صنو السياسات النكرووية بامتياز، بِشَرَه الرأسمالية الغربية الاقتصادي وعنفها الحربي لناحية الحقّ الاستعماري في قتل الآخر تبعاً لصنافياتها هي بشأن الجدارة بالحياة أو بالموت؛ وفي حصرية فوكو لنقد الرأسمالية والليبرالية والعنصرية في التجلي الأبشع للسياسات الحيوية في "الحل النهائي" الذي صممته "الأعراق المتفوقة" كمصير أوحد لـ "الأعراق الدونية" (النازية نموذجاً) في السياق الأوروبي من دون قراءة تبعاته على خارج المركز الأوروبي (فلسطين نموذجاً). وهنا تحوّلت بشاعة الحقّ السيادي في القتل (droit de glaive) إلى ممارسة سيادية حصرية للأوروبيين ضد الآخر غيرهم، وللدقة ضد "أغيارهم".

وتشكّل أطروحة مبيمبي، ثانياً، نقداً لتمترس أغامبين في المعسكر الذي مثّل لديه المثال النموذجي لاشتغال حالة الطوارىء وحالة الاستثناء في ظل القانون الذي أُخرج، سيادياً، من القانون. وعلى الرغم من اشتراك مبيمبي مع أغامبين في التعاطف مع إنسان المعسكر، بصفته "أكثر الأماكن وحشية في العالم"، فإنه يسائل مرجعيات أغامبين الفكرية (ابتداءً من برود كارل شميت، ومروراً بحماسة حنه آرنت، وانتهاء بروحانية فالتر بنيامين) إذا ما كانت جاهزة للعمل خارج المركز الأوروبي المنشغل بالتداعيات الكارثية لفشل مشروع التنوير خاصته، وما قاد إليه من سُعار لسياسات الهوية التي أنتجت الكارثة. وفي هذا السياق يفحص مبيمبي كيف عملت السيادة الأوروبية في الأطراف المستعمَرية على تعميم حالة الاستثناء وتدشين علاقات العداء، القديمة والجديدة والفعلية والمتوهَّمة، والتي صارت القاعدة المعيارية لمنح الحقّ في قتل الآخر، وهو ما يسميه مبيمبي "السياسات النكرووية". ويراجع مبيمبي المقولات الاستعلائية البيضاء التي شرعنت، باسم أمن المركز الاستعماري السياسي والاقتصادي والثقافي، عنف حالة الاستثناء في المستعمرات القديمة - الجديدة ضد "ظلال البشر" الذين أتاحت العنصرية الغربية تملُّكهم على المستوي الاقتصادي، وضد "وجهات نظرهم البديلة" على المستوى الثقافي، وضد رغباتهم في التحرر والاستقلال على المستوى السياسي. وأخيراً، يتقفّى مبيمبي الوقائع الغريبة لانتشار السلطة الاستعمارية، السيادية والتأديبية والحيوية والحكمانية، سواء في جنوب أفريقيا أو فلسطين أو غيرهما، في ظل آليات الحداثة المتأخرة في السيطرة على الجماعات البشرية من خلال نمط جديد من المؤسسات غير السيادية.

كما تشكّل أطروحة مبيمبي، ثالثاً، تجاوزاً ضمنياً لافتاً لتلعثم بتلر (على الرغم من اصطفافها معه على الجانب الصحيح من المتراس الأخلاقي في معاداة الصهيونية ونقد سياسات "إسرائيل")، وذلك عبر إعلان فلسطين كلها، لا غزة وحدها، حالة استعمار استيطاني من دون الحاجة إلى سلة الأخلاقيات اليهودية في مفهمة العلاقة بين الصهيونية و"إسرائيل" واللاسامية ذوات شهادات المنشأ الغربي. وينتقد مبيمبي أيضاً أنماط عنف العنصرية الاستعمارية، "الهيدروليكية" و"النانوية"، التي تنظم أعمال القهر والإماتة عبر البُنى المؤسساتية والقانونية والإدارية لتخريب العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المستعمَرة، إذ تُعِدّ لها "جرعات الموت والمجازر الصغيرة" وتنفّذها. وأخيراً، يُمفهم مبيمبي جسد الفلسطيني، في حياته وموته (تضحية وشهادة واستشهاداً)، كجزء من مقاومته الوطنية المشروعة من أجل التحرر، بعيداً عن رومانسية بتلر في مجرد عدم الرغبة في "تحقيق التوازن في الخسائر"، بل بإنهاء العنف الاستعماري الصهيوني والعنف الثوري الفلسطيني المضاد، وبعيداً عن اختلاط قمح العنف الثوري بزوان الإرهاب.

وفي طرح بديل، يتخذ مبيمبي من المزرعة والمستعمرة نموذجين لدراسة سياسات الموت التي أنتجها العنف الاستعماري، بوصف كل منهما "معسكراً" حالت الحصرية الغربية، سياسياً ومعرفياً، من دون وصفه كذلك. ففي المزرعة يعيش الإنسان في نظام العبودية، على هيئة ظل - إنسان فاقد لحقّه في الجسد والبيت والسياسة، وفي المستعمرة يعيش الإنسان على هيئة حي - ميّت فاقد لحقّه في الحياة والوطن والتحرر. أمّا المستعمرون فيواصلون حربهم اللانهائية على وجوده (من دون حاجة إلى ذرائع من باب فرض السيادة أو تطبيق القانون أو تحقيق السلام... مثلما هي الحال في المركز الأوروبي)، بل لمحض القتل لدواعٍ استعمارية يمكن إلباسها، عند الحاجة، لبوساً حضارياً في بلاد استُثنيت من حقّها في أن تكون دولاً. يقرأ مبيمبي سياسات الموت في الاحتلال الاستعماري الحديث المتأخر، بعيون فانون، ويتخذ من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين نموذجاً، ويحلل تقنيات "القتل غير المرئي" وممارسات "القتل الصريح" اللذين تتيحهما سيادة المستعمِر الصهيوني على فضاءات الفلسطيني: براً، وبحراً، وجواً. وتتضافر في هذه التقنيات والممارسات، لإنتاج أنماط العنف التي تقترفها آلات الحرب (سواء التقليدية التي تنفذها الدولة، أو تلك الجديدة التي تنفذها المنظمات غير السيادية) في "المناطق" المحتلة على مستويات التحكم والمراقبة والفصل: العسكرة (التي تنفذ التطهير العرقي، والطرد، والحروب الدموية، وتأبيد حالة اللجوء في نموذج المخيم عبر الحرمان من حقّ العودة)؛ الفصل الكلي (بحصار القطاع، والمخيمات، وبلقنة المدن والقرى وتحويلها إلى جيوب، وبناء الجدران، والحواجز، والطرق الالتفافية)؛ الاحتلال الرقابي الشامل (من استيطان محمي بأبراج مراقبة، وكاميرات، واستخبارات، وأنظمة سجنية، وخنق اقتصادي بتفعيل قوانين "الإرهاب"، وسرقة الموارد). ومَن لا تعلن هذه السياسات موته على الملأ، يموت بصمت من دون أن يحظى بقبر ولا شاهدة.

إن مبيمبي بتدشينه قراءة مغايرة لسياسات الموت في فلسطين، يقدّم قراءة مغايرة، كذلك، لسياسات الحياة في إطار ما يمكن أن نشتقّ منه ما يمكن وصفه بسياسات الفناء والبقاء. فالفلسطيني الذي يعيش هذا الموت كله، لم يكن يوماً مفعولاً سالب الإرادة حيال فاعلية مستعمِره الصهيوني، وإنما عمل، عبر منطق الاستشهاد، إلى تجاوز منطق التضحية. وهنا، يشير مبيمبي إلى جانب بالغ الأهمية، جمالياً وأخلاقياً ووجودياً، في النزال بين حركة جسد الفلسطيني وجمود معدن الآلة العسكرية "الإسرائيلية"، ذلك بأن الفدائي الفلسطيني، حين يحوّل الإنسان - الجسد إلى أداة لمقاومة العدو، يتفوق على العدو - الآلة: فهو يسير بجسده الذي صار زيّاً لسلاح خفي هو الفدائي ذاته، نحو معدن الآلة السافر المنفصل عن صاحبه العاري من الجرأة والأخلاق؛ ويذهب بالبطولة خطوة إضافية حين لا يحرص على حرية الجسد الملموم (في الحياة) قبل الانفجار إلّا ليحرم العدو من القبض على جسده المتشلّي بعد الانفجار، محققاً بذلك حرية الجسد (في الموت)؛ ويلزم الموت بالاستقالة من مهمته الاعتيادية في إنهاء حياة مَن يموت عبر أخذ عدوه (الذي لم يكمل استئجار الأبدية بعد) معه إلى الموت... وهنا، يخلق الاستشهادي زمناً نادراً لتحقق الحرية في ميدان التحرر للجسد الميت - الحي، لا الزمن الفانتازي للخلود (الذي تستعين فيه بلاغة الموت ببلاغة الحياة)، وإنما الزمن الاجتماعي للوجود (الذي تستعين فيه بلاغة الحياة ببلاغة الموت)... هكذا فعلت آيات الأخرس، وكثيرون غيرها: حرية في الموت، وحرية بعد الموت.

 

ضريح الشهيدة آيات الأخرس (يمين)، مقبرة شهداء مخيم الدهيشة (ارطاس)، بيت لحم المحتلة، 29 / 8 / 2015

 

الكوغيتو الفلسطيني: أنا أموت، إذاً أنا موجود

لا حدّ لمديح السلاح، ولا حدّ لمديح النظرية، ولا حدّ لمديح سلاح النظرية، ولا حدّ لمديح فلسطين وهي تدشّن الحاضنة الأخلاقية المعيارية للممارسة. فسلاح النظرية الذي استعاره الفلسطينيون من تجارب عالمية زاملت ثورتهم لسدانة نظرية السلاح التي حفّزها الإصرار على البقاء في وجه الحركة الصهيونية ودولة مستوطنيها "إسرائيل"، لم يُتَح له نصيب من الرواج إلّا في العقدين الأخيرين.[30] فقد قدّم الفلسطينيون مرافعات السلاح في ميادين المواجهة مع العدو، ووحّدوها مع ممارسة ثورية فاعلة، إلّا إن مرافعة سلاح النظرية اقتصرت في الميادين العالمية، السياسية والمعرفية، على حقّ الفلسطينيين في الحياة، عبر إقرار "حقّ الفلسطينيين في الدولة والعودة وتقرير المصير." واشتمل هذا الحقّ، ضمناً، على ضرورة التحرر من الاحتلال، لكنه لم يتضمن "التخلص" من الاستعمار بكلّيته، ولم يشتمل على مرافعة نظرية بشأن حقّ الفلسطينيين في الموت. وهذا الحقّ ليس المقصود به حقّ الفلسطينيين في إدارة شؤون موتهم فحسب، فذلك جانب تتضمنه السيادة التي تتطلب دولة، بل حقّهم في الموت أيضاً، من أجل الدفاع عن حقّهم في الحياة، أي بصفة وجود الموت دليلاً وحيداً على البرهنة على وجود الحياة.

إن تكميم الموت، المشروع منه والممنوع، مثلما تبيّن في العتبات النظرية الأربع، لم يُتِح للفلسطينيين التنظير للحقّ في الموت إلّا لماماً، وإن مارسوه في ميادين المواجهة بتنظير واحد هو "منهجية النار":[31] فإن غاب جسد الفلسطيني، وقد اختطفه العدو (كداود زبيدي)، حضر سلاحه البطل في جنازة لاسم بلا شهيد، وإكليل ورد، وأغنية... تحرسه البنادق. فقد سادت في المرحلة التي تزامنت مع انتفاضة الأقصى التي اندلعت في سنة 2000، والتي تلتها، وخصوصاً بعد هجمات أيلول / سبتمبر 2001، مقولات عالمية وعربية، وحتى فلسطينية، ساوت بين المقاومة والإرهاب، وشيطنَت ما أطلقت عليه "ثقافة الموت". لكن فلسطين، وقد جرّد الاستعمار الصهيوني أهلها من جميع أسباب الحياة، بدت كمثال بدئي لاحتضان الموت، لا لـ "ثقافته"، بصفته "السبيل" الوحيد المؤدي إلى الحياة.

 

جنازة رمزية للشهيد داود زبيدي، مخيم جنين، جنين المحتلة، 15 / 5 / 2022

 

وفي هذه اللحظة من تاريخ الفلسطينيين، لم يعد في وسع أحد تأويل قصد محمود درويش، ولا قصيدته: "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً،" إن كان كتبها لوصف الفلسطينيين في مشهدية الحياة التي يفترض أن تكون القاعدة الدائمة، أم لوصفهم في مشهدية المقبرة التي يفترض أن تكون الاستثناء الموقت. فحياة الفلسطينيين، في القصد والقصيدة، مقتصدة أيضاً، إذ لا تعدو كونها: رقصة بين شهيدين، أو رفع مئذنة من البنفسج أو سعف النخيل بين شاهدَي قبريهما، أو سرقة خيط من دودة القز لبناء سماء موقتة فوقهما، وتسييج رحيلهما الدائم بالورود. يفتح الفلسطينيون باب الحديقة، حديقة حياتهم التي ملأها الموت، فيخرج الياسمين من "حارة الياسمينة" وحارات فلسطين نهاراً جميلاً بما جعلوه جميلاً بموتهم الدفاعي عن حقّهم في الحياة، أو دفاعاً عن زراعة قمح سريع النمو قبل أن يحرقه المستوطنون وقد تقمصوا شَعر شمشون الذي لم يكن يفقه الشِّعر، ولم يزل. وإن قصَّر حظهم: حصدوا قتيلاً، ونفخوا في ناي "العاشقين" لون البعيد، وممر الصهيل الحالم بكتابة الاسم. غير أن الاسم، في فلسطين، لا يُكتب إلّا بالحجر، وعلى الحجر... ليصير الموت هو "السبيل" لكتابة اسم الفلسطيني، واسم فلسطين. وهكذا، يوضح برق الموت طريق الحياة.

في الجزء الثاني من هذه الدراسة، نقرأ كيف كتب الفلسطينيون شهادة الحياة في شواهد الموت، وكيف صارت المقابر (بصفتها أمكنة الموتى) عتبة الانتقال من حدّ "الموت بالقوة" إلى حد "الموت بالفعل" للفلسطيني الذي تحت الأرض، حين تعجز المَحَايي (بصفتها أمكنة الأحياء) عن توفير عتبة الانتقال من حدّ "الوجود بالقوة" إلى حدّ "الوجود بالفعل" للفلسطيني الذي فوقها. فبعد 120 عاماً على استعمار فلسطين، لا يزال الفلسطيني يردد نشيد ممكنه الوحيد: "أنا أموت، إذاً أنا موجود".

 

المصادر:

[1] نظراً إلى محدودية الحيّز المتاح في المجلة، أسقطتُ الإحالات المرجعية غير المباشرة الواردة في النص الأصلي لمخطوطة الكتاب، وأبقيتُ على الإحالات المباشرة فقط.

[2] انظر: عبد الرحيم الشيخ، "فلسطين الهوية والقضية: الجامعة وإعادة بناء السردية الوطنية الفلسطينية"، في "إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني: المؤتمر السنوي الخامس" (رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية / مسارات، 2017)، ص 157 – 174.

[3] نُظّم المؤتمر برعاية مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة كولومبيا - نيويورك، وبالاشتراك مع جامعة بيرزيت / فلسطين، وجامعة كاليفورنيا / بيركلي، وجامعة ويندسور / ويندسور كندا، وجامعة مدينة نيويورك. وقدّمتُ فيه الكلمة المفتاحية، بعنوان: "في البدء كان الانسجام"، وورقة بحثية بعنوان "ديمقراطية الموت في المقبرة الفلسطينية الحية". للمزيد، انظر:

“The Politics of Life and Death: (Post)/Decolonial Encounters in Palestine, Kashmir, and Tamil”, Columbia University, New York NY, USA, April 21, 2016,

[4] قدّمتُ في هذه الورشة محاضرة، بعنوان: "الآخرية البينية في المقبرة الفلسطينية: حول تقسيمات الموت في الفضاءات الاستعمارية بعد العام 1947"، بتاريخ 18 كانون الأول / ديسمبر 2016.

[5] قدّمتُ في هذا المشروع محاضرة، بعنوان: "أنا أموت، إذاً أنا موجود: المقبرة الفلسطينية الحية"، 12 آب / أغسطس 2017.

[6] منحة "المقبرة الفلسطينية الحية - المرحلة الثانية"، لجنة البحث العلمي في جامعة بيرزيت، 2018.

[7] منحة "المخيم / المقبرة: سياسات الموت والحياة في المخيمات الفلسطينية"، المجلس العربي للعلوم الاجتماعية في بيروت، 2019.

[8] عبد الرحيم الشيخ، "نبوءة الضريح"، مجلة "الآداب"، 30 / 1 / 2019.

[9] إدوارد سعيد، "جغرافيات محاصَرة، مشهديات متحارِبة" (تقديم وترجمة عبد الرحيم الشيخ)، "إضافات - المجلة العربية لعلم الاجتماع"، العددان 49 - 50 (شتاء / ربيع 2020)، ص 70 - 86؛ عبد الرحيم الشيخ (تقديم وترجمة)، "المقبرة الفلسطينية الحية وقبر فالتر بنيامين"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 132 (صيف 2022)، ص 130 - 167؛ سايدية هارتمان، "فينوس في أداءين"، ترجمة عبد الرحيم الشيخ، "أسطور / للدراسات التاريخية"، العدد 16 (تموز / يوليو 2022)، ص 123 – 138؛ عبد الرحيم الشيخ، "هنا، هونين، هناك"، مجلة "الآداب"، 5 / 1 / 2021، في الرابط الإلكتروني

[10] انظر: عبد الرحيم الشيخ، "الشهداء يعودون إلى رام الله"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 133 (شتاء 2023)، ص 128 - 155.

[11] تستأنس الدراسة، في مقولتها الأخلاقية، بمنهج "القصّ النقدي" لحكايات الغائبين والمغيَّبين، وذلك بغية تحويل الماضي إلى حاضر سرمدي بصفته "التابوت المفتوح" الذي يعمل ضمن إدامة فاعلية الميت المظلوم في الحياة والممات والأرشيف والتاريخ. وللمزيد انظر:

Saidiya Hartman, “Venus in Two Acts”, Small Axe, vol. 12, no. 2 (June 2008), pp. 1-14.

[12] تم تصوير المقابر المسيحية من مختلف الطوائف، والمقابر الإسلامية من مختلف المذاهب، بما في ذلك المقابر العسكرية للجنود الدروز والبدو الذي قُتلوا في أثناء خدمتهم في جيش الاحتلال، وبعض المقابر اليهودية الفلسطينية المقامة قبل نشوء دولة "إسرائيل".

[13] الترجمة الحرفية بالعربية لعنوان محاضرة فوكو التي صارت مقالة، وعنوانها بالفرنسية "Des espaces autres" يجب أن تكون "عن الأمكنة الأُخرى"، وهي ترجمة دقيقة إذا أخذنا بعين الاعتبار اشتقاق "الأُخرى" من "الآخرية" (otherness/alterity) التي تكون قائمة في حضور المكان الحالي وليست مجرد مكان آخر (other place). لكنني أميل إلى ترجمتها "الأمكنة المتغايرة" للإشارة إلى الفاعلية التي تشي بها الترسيمة المفهومية التي خص بها فوكو هذه الأمكنة، ذلك بأنها متغايرة فيما بينها، فهي تجمع بين "ذات مكانية" و"آخر مكاني" في الآن نفسه، وليست فقط الأمكنة الأُخرى المتغيرة عبر سيرورة الزمن. فالهترتوبيا تتغاير مع نفسها ومع غيرها في لحظة الحاضر، خلافاً للثبات النسبي لكل من مكان الواقع توبيا (topia)، ومكان المثال يوتوبيا (utopia).

[14] المقالة في الأصل محاضرة أُلقيت في سنة 1969 ولم تدوَّن في حياة فوكو، ونُشرت في سنة 1986، بعد وفاته. وعلى الرغم من جدِّيتها وغنى مقولتها النظرية، فإن السجال لا يزال قائماً بشأن ما إذا كانت مجرد تأملات معمقة لمشروع لم يعمل فوكو على تطويره، أم إنها كانت نكتة في محاضرة عابرة والسلام. للمزيد انظر:

Michel Foucault, “Of Other Spaces”, Diacritics, vol. 16, no. 1 (Spring 1986), pp. 22-27.

[15] عمل أشيل مبيمبي، ومن بعده إسماعيل ناشف، على مفهمة هذه الصنافيات تاريخياً ومؤسساتياً ومعرفياً. للمزيد، انظر: إسماعيل ناشف، "صور موت الفلسطيني" (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015). وانظر كذلك القسم المعنون "عتبة ما بعد الاستعمار: فلسطين مبيمبي" في هذه الدراسة أعلاه.

[16] في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى قضية قانونية / أخلاقية بشأن المقبرة، لا تتعلق بقوننة الموت والدفن اللذين يخصص لهما جزء من هذا المشروع، بل بالعمل الميداني في المقبرة بحد ذاته، وكذلك في الأرشيف المتعلق بالمقبرة، أي أرشيف المقبرة بصفتها أرشيفاً. فالموت ينهي الخصوصية ومقتضياتها القانونية، لكن بعض تفصيلات الموت المدرجة على الشاهد، أو المحتفَظ بها في سجل المقبرة، أو الظاهرة في شهادة الميلاد، أو تقرير الموت، أو شهادة الوفاة... يمكن أن تكون حساسة (في السياق الفلسطيني، مثلاً، تصنيف "مغدور" يعني قُتل للاشتباه في كونه جاسوساً، أو "سقط" أي قُتل في أثناء خدمته العسكرية في جيش الاحتلال الصهيوني).

[17] على النقيض من هذه المقولة، نجد أطروحة جان بودريار عن تعامل الحداثة وما بعدها مع الموت في ظل المجتمعات الإنتاجية إلى استهلاكية وتحولات الرأسمالية إلى نيوليبرالية. يتخذ بودريار من "التبادل الرمزي" إطاراً تحليلياً، مؤكداً أن الحداثة، وعبر إدارتها الطب / تقنية للموت، أقصت الموت عن الحياة، وبالتالي حالت دون التبادل الرمزي للحياة والموت. وعلى الرغم من ذلك، فإن الموت عاد إلى تقويض الحداثة ومهاجمتها في الموقع الذي أقصته عنه عبر ممارسات الانتحار، والفداء...، والتي خلخلت "عقلانية الحداثة" التي تخيلت، لوهلة، أنها أقصت الموت عنها فعلاً. للمزيد، انظر:

Jean Baudrillard, Symbolic exchange and death, translated by Lain Hamilton-Grant (London: Sage Publications, 1993).

[18] في بحث لافت، تحاول ياسمين قعدان تدشين مقولة تفيد بأن السلطة الفلسطينية عملت، في أعقاب انتفاضة الأقصى 2000 - 2004، على مواراة الموت في معمارية الفضاء الاجتماعي الفلسطيني عبر تخطيط حضري يهدف إلى إقصاء الحرب عن الذكرى والذاكرة في المعمار الفلسطيني والوعي الفلسطيني، وتسجيل الحدث من خلال ثقافة بصرية في الرموز المؤرخة له. لكنها تدرس ثلاث جغرافيات هي: المخيم والمقاطعات والبلدات القديمة، كأمكنة لحدث الموت الذي تمت مواراته، جزئياً، إلّا إنها لا تأخذ بعين الاعتبار شاهدية المقبرة كمثل نافٍ لمقولتها النظرية، على الرغم من مثولها في قلب هذه الأمكنة. للمزيد انظر: ياسمين قعدان، "مواراة الموت في معمارية الفضاء الاجتماعي الفلسطيني" (بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2015).

[19] Michel Foucault, “Des espaces autres (Conférence au Cercle d'études architecturales, 14 mars 1967)”, Architecture, Mouvement, Continuité, n°5 (Octobre 1984), pp. 46-49.

[20] من الألفاظ العربية للقبر: الهدم؛ الجدث؛ الضريح؛ الرمس؛ الثكنة؛ الجنن؛ الكَفَر؛ الجشوة؛ الصعيد؛ البت؛ الحفير؛ المنهال؛ الصهر؛ الحفرة؛ الغيب؛ اللحد؛ الشق؛ المدفن؛ التربة؛ المرقد؛ الفسقية؛ الطاقة (وبالعامية الخشخاشة]. أمّا الشاهد فيطلَق عليه: الشاهد؛ النصب؛ الحجر.

[21] لن يتم إيراد المقولات النقدية على الأرشيف التقليدي هنا إلّا بالحد الأدنى، لأن هناك مشروعاً آخر برسم النشر، ومكرّس لهذه الغاية. ففي ظل الهوس الفلسطيني المتأخر بالأرشيف، والامتثال الساذج لعناده الوثائقي، تشكّل السمات التي توفرها المقبرة / الأرشيف، جزءاً من النقد على "الوظيفة التدميرية" التي يمارسها الأرشيف التقليدي لكل من مفاعيل التاريخ والتأريخ في آنٍ معاً. كما تعمل هذه السمات على "أصلنة" كل من المعرفة الأرشيفية والتاريخ في سياقات استعمارية، وفلسطين واحدة منها، بصفتها معرفة تحررية.

[22] انظر، على سبيل المثال:

Abdul-Rahim Al-Shaikh, “In Solidarity with Birzeit: The Black, the White, the Gray”, Curriculum Inquiry, vol. 52, issue 3 (Summer 2022), pp. 351-372; Amilcar Cabral, Revolution in Guinea: An African People’s Struggle-Stage 1 (London: Love & Malcomson Limited, 1969); François Dosse, Gilles Deleuze and Félix Guattari: Intersecting Lives) New York: Columbia University Press, 2010(.

[23] عن النفاق السياسي والثقافي والنظري للمفكرين الفرنسيين حيال فلسطين، انظر:

Edward Said, “Les intellectuels français entre universalisme et repli identitaire”, in Karim Emile Bitar et Robert Fadel (eds.), Regards sur la France: Trente spécialistes internationaux dressent le bilan de santé de l’Hexagone (Paris: Editions Du Seuil, 2007), pp. 87-119.

[24] Michel Foucault, Psychiatric Power: Lectures at the Collège de France, 1973–1974, translated by Graham Burchell (New York: Picador, 2008); Michel Foucault, The History of Sexuality, Volume 1: An Introduction, translated by Robert Hurley (New York: Vintage Books, 1990); Michel Foucault, “Society Must Be Defended”: Lectures at the Collège de France, 1975–1976, translated by David Macey (New York: Picador, 2003); Michel Foucault, The Birth of Biopolitics: Lectures at the Collège de France, 1978–1979, translated by Graham Burchell (New York: Palgrave Macmillan, 2008); Michel Foucault, The Order of Things: An Archaeology of the Human Sciences, translated by Alan Sheridan (New York: Vintage Books, 1994).

[25] Giorgio Agamben, Homo Sacer: Sovereign Power and Bare Life, translated by Daniel Heller-Roazen (Stanford: Stanford University Press, 1998); Giorgio Agamben, State of Exception, translated by Kevin Attel (Chicago: University of Chicago Press, 2005).

[26] Judith Butler, Precarious life: The Power of Mourning and Violence) London: Verso Books, 2004); Judith Butler, Frames of War: When is Life Grievable (London: Verso Books, 2009); Judith Butler, Parting Ways: Jewishness and the Critique of Zionism (New York: Columbia University Press, 2012).

[27] للمزيد، انظر: عبد الرحيم الشيخ، "السائق الجرافة، السائق الطائرة"، "الحدث الفلسطيني" (رام الله)، 24 / 2 / 2020.

[28] تستند بتلر، بشكل أساسي، إلى كتابات: مارتن بوبر وإيمانويل ليفيناس في مفهوم الهوية (تتوسطهما قراءة إدوارد سعيد لفرويد)؛ سجالات فالتر بنيامين وحنة آرنت وغيرشوم شوليم وبريمو ليفي في العنف واللاسامية؛ محمود درويش وإدوارد سعيد في مفهمة التضامن لأجل مستقبل أفضل لفلسطين. لمزيد عن هذه الموضوعات، انظر: عبد الرحيم الشيخ، "المثقفة اليهودية الأخيرة: جوديث بتلر قارئة لسعيد ودرويش"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 87 (صيف 2011)، ص 93 - 119.

[29] Achille Mbembe, On the Postcolony, translated by A. M. Berrett, Janet Roitman and Murray Last, Steven Rendall (California: University of California Press, 2001); Achille Mbembe, “Necropolitics, translated by Libby Meintjes, Public Culture, vol. 15, no. 1 (Winter 2003), pp. 11-40; Achille Mbembe, Necropolitics, translated by Steven Corcoran (Durham: Duke University Press, 2019).

[30] جاءت اشتغالات الفلسطينيين النظرية بسياسات الموت والحياة، على صورتها الغربية، متأخرة بعض الشيء، وسنأتي عليها في "التاريخ السياسي" للمقبرة الفلسطينية الحية في جزء تالٍ من هذه الدراسة. لكن ذلك لم يحل دون ظهور مقولات مبكرة بشأن سلاح النظرية. للمزيد، انظر: الشيخ، "نبوءة الضريح"، مصد سبق ذكره.

[31] "منهجية النار" هي توصيف منهجي اقترحتُه على جمال حويل، أحد قادة معركة مخيم جنين (2002)، لاستعادة تجربة المعركة كتابياً، لا على شكل توثيق إثنوغرافي، إذ لم يكن المقاتل إثنوغرافياً تفصله الأداة عن الواقع، مثلما يفصل الملقط اليد عن النار، وإنما كان في مواجهة صفرية مع الموت حين كانت النار في مقابل النار. وكان الكتاب الذي أصله أطروحة في جامعة بيرزيت، هو البندقية وهي تكتب تاريخها. للمزيد، انظر: جمال حويل، "معركة مخيم جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2022).

Author biography: 

عبد الرحيم الشيخ: أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت.