مرت الحركة الصهيونية بثلاثة مفاصل تاريخية شارفت على الانكسار خلالها، إلّا إنها استطاعت حل أزماتها عبر توجيهها نحو الهدف الأساس الذي بُنيت عليه. وهذه المفاصل هي: النزاع بشأن "الهستدروت" (1933)، وإغراق سفينة ألتالينا (1948)، واتفاق أوسلو (1993)، وهي تسلط الضوء على ملامح الأزمة الراهنة في الداخل الصهيوني.
لقد شهدت الحركة الصهيونية ثلاثة نزاعات شكلت خطراً عليها، هي: النزاع على المؤسسة النقابية وقيادة المشروع في فترة "الييشوف"، والذي حُسم لمصلحة ما يُطلَق عليه "اليسار العمالي" باغتيال حاييم آرلوزوروف؛ النزاع الدامي في أثناء محاولة تثبيت المؤسسة العسكرية عند إنشائها في سنة 1948، والذي حقق "اليسار الصهيوني" انتصاراً واضحاً فيه، وخصوصاً بعد إغراق سفينة ألتالينا؛ اغتيال أحد رموز "اليسار العمالي" الأوائل يتسحاق رابين، والذي كان بمثابة الحسم الأخير قبل انحدار هذا التيار.
الاغتيال والعنف والمشروع
كل الأحزاب تعلن لأعضائها أن جميع اعمال الإرهاب والعنف بأي صورة كانت ممنوعة على الإطلاق، وفي كل الظروف داخل الييشوف اليهودي والدياسبورا.
(اتفاقية لندن 1934؛ الاتفاقية أ: ميثاق نبذ العنف)[1]
تقف الدولة الصهيونية هذه الأيام عند عتبة الفوضى، وقد ظهر ذلك بصورة خاصة منذ سنة 2019 عندما أعلن المستشار القضائي تقديم لائحة اتهام رسمية ضد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وهو القرار الذي اعتُبر بمثابة حرب، أو إشعال لأزمة داخلية للصهيونية وتياراتها ومنظوماتها في إسرائيل، وأيضاً خارجها. فنتنياهو ليس رئيساً عابراً، بل إنه ركن أساسي في التكوين اليميني الأيديولوجي للإسرائيليين، ويطلق عليه العديد من أتباعه لقب "ملك إسرائيل". وهكذا، بدأنا نرى استقطاباً وبناء معسكرات بارزة تتميز أساساً بأنها أيديولوجية سياسية تتخللها ملامح إثنية / اقتصادية / اجتماعية بتفاوت.
عتبة الفوضى التي أشرنا إليها، عاشتها الحركة الصهيونية عبر تاريخها أكثر من مرة، وانطلاقاً من ذلك، تسعى هذه المقالة لتحليل الراهن وربطه بالتاريخ، واجتراح إطار مفاهيمي عبر التناصّ بين الحدث والزمن وبُنية التشكيلات الصهيونية.
شهدت فترة "الييشوف" في إبّان الانتداب البريطاني حالة من الفوضى، وتحديداً بعد قيام مجموعة تنتمي إلى "اليمين التصحيحي" باغتيال حاييم آرلوزوروف، أحد قادة "الصهيونية العمالية" السياسيين، في سنة 1933، الأمر الذي جسّد قمة تصاعد الخلاف الداخلي الصهيوني في أثناء الكفاح على الوجود والديموغرافيا في ظل الانتداب البريطاني، وكاد يتحول إلى صراع دموي وانكسار للصهيونية ومنظماتها، وخصوصاً "الهستدروت". غير أن مفاوضات سرية بين قائدَي التيارين الصهيونيين، دافيد بن - غوريون وزئيف جابوتنسكي، وتوقيع "اتفاقيات لندن" (1934)، حالا دون ذلك.
اغتيال آخر قاد إلى حالة فوضى هو اغتيال يتسحاق رابين (1995) في إثر توقيع اتفاق أوسلو (1993) الذي روّج اليمين المتطرف أنه يحيل ضمناً إلى إمكان قيام دولة فلسطينية سيادية على الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وعاصمتها القدس.
بين هذين الاغتيالين سُجل حدث مفصلي في سنة 1948، تمثل في قصف سفينة "ألتالينا" وإغراقها. وسنرى كيف تحولت عملية "إغراق السفينة" إلى علامة فارقة في تشكيل "جيش الشعب" كمؤسسة تصنع الأمة الكولونيالية، وتشفّر أزماتها.
تسمح القراءات المتعددة بتحليل معاني النزاعات والصراعات والتحولات الداخلية للصهيونية، وتجعلنا أكثر قدرة على تعيين موقعنا كفلسطينيين في داخلها، وعلى رؤية كيف تؤثر فينا. كما تسمح لنا بتحدي "الرأي البديهي" الذي ينظر إلى "اليسار الصهيوني" على أنه حليف الفلسطيني، أو أقرب إلى مصالحنا، وهو رأي أقرب إلى وهم سياسي منه إلى "بديهي".
نلاحظ أن الاغتيال استُخدم مرتين: الأولى قبل قيام الدولة، والثانية في نهاية القرن بعد قيام الدولة. والاغتيال اصطلاحاً هو محاولة لتغيير مسارات سياسية واجتماعية واقتصادية وقيمية تؤثر في المجموعة بمجملها، فحين يتم اغتيال شخصية بارزة، تتوقف مسارات أو تتعرقل، أو تصبّ في مناحٍ وأهداف سياسية مغايرة لتلك التي أُنشئت من أجله.[2]
إن الاغتيال كعملية سياسية، جرى في هذه السياقات، وفي ظل احتكاك متصاعد بين قوتين صلبتين في تاريخ الصهيونية، حاز كل منهما شرعية متماسكة بناء على مساهمات متنوعة في عمليات توسيع الاستيطان، والصناعة الحربية، والدراسة والعلوم، والاقتصاد، والمشاريع التحتية، وذلك منذ إعلان الانتداب البريطاني في سنة 1917، باعتبارها البداية الحقيقية لتنظيم القوى الصهيونية بهدف إنشاء الدولة اليهودية. وعلى الرغم من الخلاف، فإن هاتين القوتين تتفقان على خطوط عريضة واسعة بشأن قضايا الاستيطان والحرب والدولة. وفي هذا السياق يُطرح سؤال: كيف نعرّف الخلاف بينهما، وعلى ماذا تتصاعد وتحتدم وتفعَّل وسائل الاغتيال والصراع؟ سؤال يتفرع منه سؤال كيف يمكن فهم ديناميات صناعة الأولويات داخل الجماعة الاستيطانية الصهيونية، ومتى يأتي الاغتيال كوسيلة لإنهاء الخلاف؟
من المهم قبل الحديث عن الأمثلة والأحداث الملموسة، أن نضع ناظماً لهذا النص هو أن الصهيونية بمختلف تياراتها لا تجعل أبداً من "الأصلانيين الفلسطينيين" موضوعاً رئيسياً للنقاش، بمعنى أن نقاشها لا يدرجهم إلّا في موقع المحو والإزاحة والتحييد. فهم في حسابات صُنع القرار، ليسوا أصحاب حقوق سياسية، وإنما يقعون على أطراف النقاش. وهذا يعني أن الموقف الصهيوني هو ضمن شبكة كاملة من العداء والمشاريع التي تسعى لمحو الوجود الفلسطيني.
يتأسس على ذلك أن هذه المعارك الداخلية عند الحركة الصهيونية لا تعني الفلسطينيين إلى درجة اتخاذ موقف منها، أو تفضيل جهة على أُخرى. فالهيمنة التي أنشأتها بشكل شامل منذ ثلاثينيات القرن الماضي الأحزاب "العمالية" والمنظمات "اليسارية" أضحت نتيجتها في العقد التالي، تطهيراً عرقياً للشعب الفلسطيني في معظم الأراضي الفلسطينية، بخلاف الوهم لدى بعض الفلسطينيين بأن الخطاب الصهيوني "اليساري" أكثر قرباً وتماهياً واعترافاً بحقوق الفلسطينيين على أرضهم.
اغتيال آرلوزوروف نزاع مبكر على قيادة المشروع
مع تصاعد العنف والنزاعات الداخلية بين طرفَي الحركة الصهيونية (التيار العمالي "اليساري"، والتيار التصحيحي اليميني)، إلى حدّ اغتيال الزعيم "اليساري" حاييم آرلوزوروف، ازداد الانقسام داخل "الييشوف"، وأمست الصهيونية على عتبة الانكسار، وباتت قيادتها أمام خيار تصعيد العنف والانقسام، مع شعور التيار العمالي "اليساري" بنشوة الانتصار والهيمنة على المؤسسات الصهيونية، وتراجع نسبة تمثيل اليمين في المؤتمر الصهيوني الثامن عشر بشكل ملحوظ متـأثراً بتداعيات الاغتيال. لكن هدفاً واحداً جمع الطرفين ووضعهما في إطار جبهة واحدة هدفها توسيع الاستيطان وتكثيف عدد المستوطنين بشتى الطرق، وقاد إلى تحقيق انتصار بارز في سنة 1948.
تسعى هذه المقالة، قبل الخوض في كيفية التوصل إلى التفاهمات والاتفاقيات، للإجابة عن سؤال: كيف تفاقم الصراع، وأين هي نقطة البداية العينية التي أدت إلى الصراع في ثلاثينيات القرن الماضي؟
بدأت مرحلة جديدة تتشكل بين سنتَي 1932 و1935، وسُجلت سلسلة من الأحداث في إثر الهيمنة التي فرضها التيار العمالي "اليساري" على منظمة الهستدروت التي اعتبرها التيار التصحيحي أداة بيد "اليسار" تعزز دور الطبقة العاملة على حساب الطبقة المتوسطة والتجار وغيرهما، وتقف عائقاً أمام تعزيز الاستيطان وازدهار الاقتصاد.
وفي المقابل، رفض جابوتنسكي جميع الأفكار "اليسارية" عن "الصراع الطبقي"، مبدياً اعتقاده أن على الجميع أن يكونوا صفاً واحداً، وأن "الإضرابات" مرفوضة تماماً، لأنها تعوق تماسك "الييشوف"، وتعزّز مصالح طبقة على أُخرى. واقترح بدلاً من ذلك "لجنة مهنية قومية" هي الحد الفاصل بين العمال وأصحاب العمل (البرجوازية)، فعندما يبرز نزاع بشأن الأجر مثلاً، تقدّم اللجنة تقريراً عن إمكان أو عدم إمكان تغيير الأجر وتحديد الكمية، وعلى هذا الأساس تُحلّ النزاعات.
تحولت النقاشات من المستوى الفكري / السياسي إلى نقاشات حادة ونزاعات وعراكات في المصانع والشوارع واللجان بين أتباع التيارين.[3] فعندما يعلن "الهستدروت" إضراباً في مستعمرة أو مصنع، يبادر "التيار التصحيحي" إلى تشكيل "مجموعات عمالية" هدفها إفشال الإضراب، من خلال الاتفاق مع صاحب العمل، واستبدال العمال المُضربين.
هذه التناقضات قادت إلى اشتباكات بين الطرفين، وفي هذا السياق، اعتُبرت أحداث تشرين الأول / أكتوبر 1932، بمثابة "حرب أهلية" مصغرة داخل المستعمرات. ففي البداية أُعلنت إضرابات في مصنع "فرومين للبسكويت" في القدس في إثر رفض العمال القبول بتوظيف عمال غير منضمين إلى "الهستدروت"، فلجأ صاحب العمل إلى "مجموعات العمال" اليمينية لاستبدال العمال المُضربين، وهكذا كان، غير أن الأمر تطور إلى وقوع عراكات وتضارب ووقوع إصابات.[4]
أدرك التيار العمالي "اليساري" أن تصرفات اليمين تهدف أساساً إلى إضعافه وتحطيم مؤسساته، فواجه التيار اليميني بالمثل، إذ إنه خلال مسيرة للتيار التصحيحي في تل أبيب، نظّم "مجلس عمال تل أبيب" الهجوم على المسيرة، أولاً كلامياً عبر إطلاق مؤيديه أوصافاً مثل "حثالة" و"أبناء هتلر الملاعين" و"كاسري الإضرابات" و"ناهبي خبز إخوانهم"، ثم جسدياً من خلال إلقاء حجارة بشكل مكثف على مسيرة التيار التصحيحي، فأصيب أكثر من 20 من المشاركين بجروح.
ولم تقتصر الحوادث على هذين الصدامين المذكورين أعلاه، بل وقع كذلك العديد من الأحداث الأُخرى التي تخللتها عراكات في بعض المستعمرات، وأُخرى أيضاً في المؤسسات الصهيونية خارج فلسطين.[5]
إغراق ألتالينا: الصهيونية على المحك
في أواخر سنة 1947، اشترى الفرع الأميركي من ميليشيا "إيتسل" سفينة "ألتالينا" بهدف نقل مستوطنين مدربين وأسلحة وعتاد، لمؤزارة المستعمرات في حرب التطهير العرقي التي تشنّها ضد الفلسطينيين (تُعتبر ميليشيا "إيتسل" الذراع العسكرية لليمين الصهيوني، قبل تأسيس إسرائيل). وكان من المقرر وصول السفينة في حزيران / يونيو 1948، أي بعد أن عُقد اتفاق تشكيل "جيش الدفاع" الذي شمل جميع الميليشيات العسكرية الصهيونية، الأمر الذي مثّل خروجاً على الاتفاق، فجرت مفاوضات بين قائد "إيتسل" مناحم بيغن وممثلي الحكومة لتوزيع الأسلحة بين "جيش الدفاع" وتلك الميليشيا التي تتمركز في القدس، وسط مخاوف وشكوك بين الطرفين، إذ لم يكن "الجيش الموحد" آنذاك متماسكاً وصلباً، فميليشيا "إيتسل" كان لا يزال لديها مصالح خاصة تود الحفاظ عليها.
حاول بيغن الالتفاف على قرار الحكومة الموقتة لمنع مصادرة السفينة ومحتوياتها، وبالتالي تهريبها إلى شواطىء تل أبيب من شاطىء كفار فيتكين (Vitkin)، ظناً منه أنه يمتلك رصيداً شعبياً هناك، الأمر الذي يجعل موقفه أكثر قوة خلال نقاشه مع الحكومة الموقتة. إلّا إن هذه الالتفافات وُوجهت بموقف حازم من تلك الحكومة التي يرأسها بن – غوريون الذي رفض بحزم الخضوع أو التفاوض على شروط بيغن. وانطلاقاً من هذا الموقف اتُّخذ قرار الهجوم على السفينة وقصفها وإغراقها بمَن فيها من سلاح وعناصر "إيتسل"، بعدما تمّ إنزال المستوطنين.
وسبق هذا المشهد بقليل الأحداث الكبرى (استقلال المستعمرة / الييشوف؛ الحرب التطهيرية؛ طرد الفلسطينيين)، ولذا لم يكن ذا أهمية مقارنة بالحرب والمعارك العديدة التي جرت. غير أن تداعيات النزاع ساهمت في بناء النواة الصلبة الأيديولوجية والتنظيمية المادية لفكرة "تساهل" (جيش الدفاع الإسرائيلي)، ذلك بأن إصدار أوامر بالهجوم على يهود مسلحين، لم يكن خياراً عادياً في تلك الظروف الأكثر حساسية تجاه مصير المستعمرات، إنما كان خياراً بُنيوياً من أجل بناء "المؤسسة العسكرية" وتجسيد معنى "تسلسل الأوامر" بالدمّ والرصاص، فإخضاع بيغن للمؤسسة يقود إلى إخضاع الجميع لوحدة المؤسسات.
ما نلاحظه هو أن النزاعات في ثلاثينيات القرن الماضي ارتبطت أيضاً بإدارة المستعمَرة لذاتها، أي مؤسساتها بشكل مختلف عمّا حدث في سنة 1948، الأمر الذي يحيلنا إلى الأحداث الراهنة (2023)، إذ إن حكومة أقصى اليمين تحاول إدخال تعديلات وإصلاحات على "المحكمة العليا"، علماً بأن قوى المعارضة تصف هذه الخطوات بأنها انقلاب قضائي، وقضاء على استقلالية المؤسسة القضائية، الأمر الذي يخلّ بتوازن "الديمقراطية الإسرائيلية".
وبالعودة إلى ما سبق، فإن الاشتباكات آنذاك شكلت رافداً لاغتيال آرلوزوروف، لأن الأجواء المشحونة حولت النقاش بشأن "اتفاقية هاعفرا" إلى انقسام بُنيوي شديد، علماً بأن الخلاف دار أيضاً حول محادثات القيادة الصهيونية (التي يوصف أعضاؤها بالتيار "اليساري") مع وزارة المالية الألمانية (الرايخ الثالث، تحت سلطة الحزب النازي)، بهدف نقل اليهود إلى فلسطين مع جزء كبير من أملاكهم. وغداة الاغتيال، ازدادت حدّة الاستقطاب، وبرزت عناوين مثل "خيانة الدم اليهودي"، و"التجارة بالمعاناة اليهودية" وغير ذلك، وساد موقف يتهم مَن هم في سدّة حكم المؤسسات الصهيونية بأنهم سلّموا "رقاب اليهود الألمان إلى سكّين العدو"، وساهموا في تثبيت "الشرعية" النازية عالمياً.
إن انتقال الخلافات بين طرفَي الصهيونية، من النقاش في داخل الصهيونية، إلى نزاع واتهام لطرف بـ "التعاون مع العدو"، يفتح لنا أفقاً في فهم الظروف التي يمكن أن تتحول فيه الخلافات داخل الصهيونية إلى صدام دموي.[6]
اغتيال رابين: فهم آفاق الصراعات الداخلية
نتج من لقاءات بن – غوريون / جابوتنسكي ثلاثة مواثيق تحت إطار اتفاق لندن الذي نبذ العنف، وحضّ على عدم اللجوء إليه ومعاقبة كل مَن يخل بذلك، الأمر الذي شكّل رادعاً منع ممارسة العنف بين مختلف التيارات مع وجود حالات استثنائية بقيت هامشية.[7]
باغتيال رابين في سنة 1995، تم خرق الاتفاق التاريخي (علماً بأن اتفاق لندن لم يعد صالحاً قانونياً بعدما صدرت قوانين الدولة، لكنه بقي يحتفظ بأهميته السياسية والمعنوية). وسبق الاغتيال استعادة اليمين خطاب "التعاون مع العدو" عبر نشر خطاب يتهم رابين بذلك، وبأنه وقّع اتفاقية مع "عدو إسرائيل" و"قاتل اليهود"، وأعطاه مفاتيح "إيريتس يسرائيل" (أرض إسرائيل)، والإشارة هنا إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، الرئيس الراحل ياسر عرفات.
السؤال الأساسي هنا هو: ما معنى التشابه في شروط الاغتيال الأول (آرلوزوروف) والاغتيال الثاني (رابين)، وهل يمكن استنتاج أن الخلافات بين أطراف الصهيونية ونزاعاتها الداخلية تدخل في سياق فعل الاغتيال، وما هي التداعيات أو ارتباطات فعل الاغتيال على الفلسطينيين؟ أي متى يصبح خلاف أطراف الصهيونية يعني الفلسطينيين؟
لنأخذ التجربة الجزائرية مثلاً؛ فمع تصاعد العنف الثوري الجزائري اشتدت قوة المعارضة الفرنسية الداخلية لمشروع فرنسا الاستعماري في الجزائر تحديداً، وأفريقياً عامة، وخصوصاً على المستوى الثقافي الفكري. وفي المقابل ازداد خطر المستوطنين الفرنسيين في الجزائر إزاء كل فرنسي ينشط ضد المشروع الاستعماري.
إن الخلافات بين طرفَي الصهيونية تعني الفلسطينيين لأنها تدور حول إنهاء / استكمال المشروع، وليس حول طرق إدارته وكيفية تحييده.[8]
قد يبدو للبعض أن اغتيال رابين، وموجات العنف والاحتجاج والانقسام الداخلي في تلك الفترة، يعنيان الفلسطينيين باعتبار أن الاغتيال وتداعياته مسألة مفصلية في "عملية السلام" و"إنهاء الاحتلال"، علماً بأن تلك اللحظة كثّفت النزاع في الداخل الصهيوني: على الرموز، وعلى الحدود، وعلى الهوية، وأخيراً على المستقبل، وهي لحظة تاريخية امتدت من توقيع اتفاق أوسلو حتى اغتيال رابين، وتخلّلها شحن عنيف في الشارع ضد رابين خاصة، وما يُسمى "اليسار" عامة. غير أن فعل "الحسم / الاغتيال" شكّل بدوره رافعة لبنيامين نتنياهو، كقائد "وملك إسرائيل" القادم الذي سيعمل جاهداً على تغيير المؤسسات، وفتح آفاق لليمين داخل المؤسسة / المجتمع بعمق.
ومع ذلك، من المهم أن يعي الفلسطيني أن اغتيال رابين لم يكن موضوعاً رئيسياً في تلك الأزمة، فهذا الاغتيال جاء في ظل النقاش بشأن مستقبل المستعمرات، وما إذا كان من المجدي التوسع في هذه المرحلة، وكيف يمكن ضمان استيطان مستقر وثابت في الضفة الغربية، وما هي السياسة الواجب اتباعها في ظل التحولات العالمية الكبرى: سقوط الاتحاد السوفياتي، وهيمنة النيوليبرالية.
لم يهدف اتفاق أوسلو إلى إنهاء مشروع إسرائيل الاستعماري، وإنما وُضع بهدف انتقال المشروع إلى مراحل أُخرى من الهيمنة على المنطقة والتحول إلى إمبريالية إقليمية. وقد ناقش الخبير الاقتصادي علي قادري هذا الأمر مبكراً، مشيراً إلى أن إسرائيل لا يمكنها الانتقال إلى تلك المرحلة بسبب ضعفها الديموغرافي، ذلك بأن انفتاحها على المنطقة قد يجعل "أغلبيتها اليهودية" عرضة للخطر، وهي بالتالي لن تذهب بعيداً في هذا المسار مثلما صوّرت السلطة الفلسطينية.[9]
إن رؤية رابين إلى الحل كانت على أساس أنه انتقال إلى مرحلة مقبلة، لكن بالتدريج وبحذر، وضمن مفاوضات مستمرة هي أقرب إلى ما يجري اليوم في الضفة الغربية (أمّا ما حدث في غزة وتحييدها من المشروع الصهيوني، فهو نتيجة المقاومة الشديدة والمكثفة)، أي القبض على الديموغرافيا الفلسطينية، والسيطرة وفرض الرقابة التامة عليها، والتحكم في مصيرها، ووضعها تحت إدارة ذاتية محلية تملك مضامين سياسية وطنية. فإسرائيل تنازلت بذلك عن طرق قديمة مثل "روابط القرى" التي لم تملك أي ملامح سياسية، وأتاحت الفرصة أمام منظمة التحرير كي تكون بمثابة القيادة التقليدية للفلسطينيين في الضفة الغربية.[10]
بالعودة إلى الصراع / النزاع الصهيوني الداخلي، نرى أن النقاش في تلك الأعوام لم يكن يدور حول الإنسان الفلسطيني كموضوع مباشر، وإنما حول الأسئلة بشأن مستقبل المشروع الصهيوني في المنطقة، مثلما ذكرنا. ومن المهم أن نلاحظ أن هذا المسار هو ذاته الذي يجهد نتنياهو لبنائه، لكن بشكل مختلف، ووفقاً لتوقيع "اتفاقيات أبراهام" بما فيها من توسيع هيمنة إسرائيل الاقتصادية والأمنية والعسكرية على المنطقة.
موقع الفلسطينيين في خلافات الصهيونية ونزاعاتها
يميل المجتمع الصهيوني حاضراً نحو اليمين المتطرف بوضوح، ويظهر ذلك من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة. فهذا اليمين يجهد لتجسيد النتائج عبر إجراء تغييرات كبرى على صعيد المؤسسات الصهيونية، وخصوصاً مؤسسة القضاء والمحكمة العليا، الأمر الذي يحفّز نزاعاً داخلياً جديداً يأتي ضمن النزاع بشأن "محاكمة نتنياهو" التي انطلقت منذ سنة 2019، والتي تتخذ اليوم شكلاً جديداً مع مكونات الحكومة الجديدة. وهذا الصراع يُعتبر جزءاً من الصراع التاريخي على إدارة المؤسسات الصهيونية.
بناء على ما سبق، اتخذ الصراع على منظمة "الهستدروت" بُعداً قيمياً، فالتيار العمالي بقيادة بن – غوريون، على سبيل المثال، كان مؤيداً لحقوق العمال، بينما مال التيار التصحيحي بقيادة جابوتنسكي نحو أصحاب العمل، وساهم في قمع العمال المطالبين بحقوقهم. غير أن المسألة لا تتعلق بحقوق العمال فقط، بل بكيف يمكن أيضاً إدارة المؤسسات الصهيونية بنجاعة تضمن استمرار "الييشوف" آنذاك، وتضمن استمرار "الدولة" حاضراً. وقد يبدو أن الخلاف على المحكمة العليا يهمّ المتابعين، باعتباره قضية "حقوق الإنسان" أو "مسألة تقدمية"، لكنه في الواقع جزء فاعل من بُنية اقتلاع الفلسطيني ومحوه، والمساهمة في طرده، أو على الأقل المساهمة في تشويش هذا الواقع.
هذه المعركة الصهيونية الداخلية لم تتحول إلى انقسام بشأن الصهيونية ذاتها، أو بشأن المشروع الاستعماري الاستيطاني في بُنيته، وإنما انحصرت الخلافات في الطرق والأدوات التي تعزز استمرارية القمع والاقتلاع والمحو. ويجب الإشارة إلى أن هذا الخلاف يعكس استحالة التحول داخل الصهيونية، فنطاق ومجال الخلافات والفوارق بين الأحزاب الصهيونية ضئيل جداً.
وهكذا يمكن الاستنتاج أن الانتقال من نزاع داخلي إلى اقتتال مسلح / اغتيال يحتاج إلى تكثيف لخطابات "التخوين" و"التعاون مع العدو"، وأن الفلسطيني لم يكن موضوعاً رئيسياً للنقاش، ذلك بأن الخطاب العام الإسرائيلي لم يكن منقسماً بشأن حقوق الفلسطينيين في تحقيق مصيرهم، وحقّهم السياسي على أرض فلسطين.
المصادر:
[1] انظر: سامي علي عبد القادر أبو جلهوم، "تاريخ الحركة الصهيونية التصحيحية (1925 – 1948م)"، رسالة ماجستير (غزة: كلية الآداب في الجامعة الإسلامية، قسم التاريخ والآثار، 2011)، ص 142.
[2] Ari Perlige, “The Rationale of Political Assassinations”, “Combating Terrorism Center At West Point”, 12 February 2015, pp. 15- 25,
[3] أبو جلهوم، مصدر سبق ذكره، ص 123 - 150.
[4] المصدر نفسه.
[5] المصدر نفسه.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه.
[8] Julian Go, “Decolonizing Bourdieu: Colonial and Postcolonial Theory in Pierre Bourdieu’s Early Work”, Sociological Theory, vol. 31, Issue 1 (29 March 2013), pp. 49–74.
[9] Ali Kadri & Malcolm MacMillen, “The Political Economy of Israel’s Demand for Palestinian Labour”, Third World Quarterly, vol. 19, no. 2 (June 1998), pp. 297-311.
[10] انظر: "التعاون مع المحتلين في فلسطين: روابط القرى نموذجاً"، ملف "روابط القرى"، موقع "باب الواد" في الرابط الإلكتروني.