China in the Gulf: A Comprehensive Partnership with the Arabs
Full text: 

فاصل زمني دراماتيكي بين محطتين في بلاد العرب: الأولى للرئيس الأميركي جو بايدن، والثانية للرئيس الصيني شي جين بينغ. قمّة واحدة للأول في الرياض، وثلاث قمم للثاني تجمع قادة خليجيين وعرب.[1]

إذا اخترنا الوقوف عند التاريخ الأول، نكون قد ذهبنا إلى التركيز على انكماش الإمبراطورية الأميركية وانكفاء شمسها في دنيا العرب؛ وإذا وقع اختيارنا على التاريخ الثاني، نكون قد لاحظنا التموضع الحاسم للقوة الصينية الصاعدة في منطقة الخليج والجزيرة العربية المتخففة من أعباء تحالفها التاريخي مع الولايات المتحدة الأميركية؛ ويبقى أن الأمر اللافت في طيات التدافع الأميركي - الصيني هو التناغم بين استياء واشنطن المشوب بالقلق إزاء "الاختراق الصيني"، والاحتجاج الإيراني المندد بالتموضع الصيني في النزاع العربي - الإيراني بشأن الجزر الثلاث والتباين بشأن ملف البرنامج النووي.

بناء على هذه الصورة، تقترح هذه المقالة مقاربة جيواقتصادية وجيوسياسية للعلاقات الأميركية - الخليجية من جهة، والصينية - الخليجية من جهة أُخرى، ولا سيما الشراكة السعودية - الصينية. كما تقترح فَهْم اتجاهات التقارب العربي - الصيني في إطار التحولات في منظومة العلاقات الدولية، نتيجة المكانة المحورية للطاقة في الاقتصاد العالمي، وتعاظم القوة الجيواستراتيجية الصينية في عالم مضطرب ينزاح فيه مركز القوة من الغرب إلى آسيا؛ على أن نحاول الاقتراب بحذر من نموذج جديد للاستقطاب الثنائي، من خلال التحليل المقارن لموضوعات البيانات المشتركة. 

1 - الطاقة بين أميركا والصين

تفيد الوقائع الموثّقة لمحادثات القمة العربية - الصينية في الرياض أن توقيع الرئيس الصيني اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة[2] مع السعودية، والتي تتضمن عقوداً قيمتها الإجمالية نحو 50 مليار دولار، يندرج في سياق جيوسياسي تتسارع فيه تحولات موازين القوى، ويخترق خلاله التأثير الصيني مناطق النفود الأميركي "الحصري"، ومنها العلاقات الاقتصادية والتجارية العربية. فقد تجاوز حجم المبادلات التجارية بين المجموعة العربية وبكين في سنة 2021 ما قيمته 300 مليار دولار بحسب الرئيس الصيني في كلمته في قمة الرياض العربية - الصينية (بما في ذلك المشتريات الصينية من النفط والغاز من دول الخليج العربيه)؛ أي أن هذه المبادلات تضاعفت نحو 10 مرات خلال أقل من عقدين من الزمن.

وللمجموعة العربية مكانة بارزة في استراتيجيا "الحزام والطريق" التي تستثمر الصين فيها أكثر من ترليون دولار في حقل إنشاء الموانىء والطرق السريعة والسكك الحديدية للربط التجاري عبر العالم. وقد انضمت 20 دولة عربية إلى مبادرة الحزام والطريق أو طريق الحرير الجديدة، وسجّل حجم الاستثمارات الصينية فيها أكثر من 200 مليار دولار استحوذت السعودية على 21% منها، وحلّت بعدها دولة الإمارات العربية مع 16%، ثم العراق 14%، والجزائر ومصر12% لكل منهما. وصارت الصين في سنة 2019 الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون الخليجي، متجاوزة الاتحاد الأوروبي بإجمالي مبادلات تجارية زادت على 180 مليار دولار استأثرت بنحو نصفها المبادلات السعودية، علماً بأن الصين تستحوذ على 40% من حقول النفط العراقية التي تُعتبر الاحتياط النفطي الثاني في المنطقة بعد السعودية.

طبعاً صارت الطاقة تحتل موقعاً محورياً في المبادلات العربية - الصينية عامة، والخليجية - الصينية خاصة، وذلك عقب التغير الذي طرأ على أنماط الإنتاج والاستهلاك في أسواق الطاقة العالمية، وتحول الصين إلى أكبر مستورد للطاقة نتيجة نموها الصناعي والاقتصادي الهائل خلال الأعوام التالية لانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في سنة 2001. وفي المقابل شهد العقد الأخير تقلّص اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة العربية نتيجة تطوير تقنيات النفط والغاز الصخري،[3] الأمر الذي أدى إلى متغيرين على الصعيد الاقتصادي العالمي: الأول تقلّص أهمية منطقة الخليج العربية بصفتها مصدراً طاقوياً للاقتصاد الأميركي (وإن زادت أهميتها بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي)، والثاني تحول أسواق الطاقة التابعة لدول الخليج العربية من الغرب إلى الشرق، إذ بات الجزء الأكبر من النفط والغاز العربيين يذهب إلى آسيا، وخصوصاً الصين التي صارت المستورد الأول للطاقة في العالم اعتباراً من سنة 2020.[4] ومنذ سنة 2019 أصبحت السعودية أكبر مصدر للنفط إلى الصين بطاقة إجمالية بلغت نحو 1,8 مليون برميل يومياً، كما أضحت الصين أحد أكبر مستوردي الغاز المسال القطري. فقد وقّعت قطر في تشرين الثاني / نوفمبر 2022 أطول عقد في تاريخ صناعة الغاز المسال لتزويد الصين بـ 4 ملايين طن لـ 27 عاماً اعتباراً من سنة 2026. 

2 - المتغير التفسيري الأميركي

ويبدو تنامي الشراكة السعودية - الصينية موازياً لاهتزاز العلاقات السعودية - الأميركية[5] والصعوبات التي اختبرتها خلال الأعوام الأخيرة. ويعود بعض هذه الصعوبات إلى تبدّل المصالح الأميركية في المنطقة، بينما يُحيل بعضها الآخر إلى تلاشي أهمية الصيغة التي حكمت العلاقة التقليدية بين واشنطن والرياض، وهي علاقة قامت منذ سنة 1945 على معادلة "الأمن في مقابل النفط"، إلى أن ظهرت حالة عدم الثقة نتيجة توقيع واشنطن خطة العمل المشتركة الشاملة، أو الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015، وإن كانت العلاقة السعودية - الأميركية عرفت تحسناً طارئاً في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بعدما ارتأى الانسحاب من الاتفاق النووي.

وجاء فشل الإدارة الأميركية في الرد على الهجمات الحوثية التي اتُّهمت إيران بشنّها على المملكة العربية السعودية، وخصوصاً العمليات التي استهدفت منشآت أرامكو في أيلول / سبتمبر 2019 وأسفرت عن تعطيل نصف الإنتاج النفطي السعودي، ليثير شكوكاً جدية لدى حكومة الرياض في شأن مدى التزام الحليف الأميركي بأمنها في ظل الاستدارة الأميركية الاستراتيجية نحو آسيا - الباسيفيك وتحديداً نحو الصين.

ومع أنه لا يمكن التقليل من أهمية عامل الثقة في علاقة دول الخليج العربية بواشنطن، فإن الحاجة إلى تنويع الشراكات الدولية، وخصوصاً مع الدول التي باتت تعتمد على منطقة الخليج مصدراً رئيسياً للطاقه، تسلّط الضوء على عوامل جيوسياسية وأُخرى جيواقتصادية تلقي بثقلها على مسار العلاقات العربية – الصينية، وأبرزها انتقال الصين إلى موقع الصدارة الاقتصادية في العالم، وتحول مركز الحضارة العالمية من الغرب المتعدد إلى آسيا. ولذلك رأينا أن زيارة الرئيس جو بايدن للسعودية في تموز / يوليو الماضي، وقد تخلّلتها محادثات على مستوى القمة جمعته بقادة مجلس التعاون الخليجي (زائد مصر والأردن والعراق)، ومحاولته رأب الصدع مع الأمير محمد بن سلمان "الرجل القوي" في المملكة عقب تجربة فاشلة لعزله وإزاحته من السلطة، لم تنفع كثيراً في تغيير الاتجاه المتنامي للتقارب السعودي - الصيني والعربي - الصيني، وخصوصاً في المجالَين العسكري والأمني وتصاعد صادرات الأسلحة الصينية إلى السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة؛ علماً بأن بكين أقنعت الرياض في سنة 2021 بأن تصبح شريكاً في الحوار في منظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة أمنية اقتصادية إقليمية تضم كلاً من الهند وروسيا وباكستان وإيران وأوزبكستان وطاجكستان وكازاخستان وقرغيزيا. 

3 - رؤى متوازية ومتقاطعة

كانت الموضوعات التي تطرقت إليها محادثات شي جين بينغ موازية إجمالاً لتلك التي تناولها بايدن قبله في الرياض. فالطاقة مثلت موضوعاً رئيسياً بحسب البيان المشترك السعودي - الأميركي الذي جاء فيه أن الجانبين اتفقا على "التشاور بانتظام في شأن أسواق الطاقة العالمية"، وعلى التعاون بصفتهما شريكين استراتيجيين في مشاريع إمدادات الطاقة على الرغم من أن السعودية امتنعت من الاستجابة للطلب الأميركي برفع إنتاج النفط، وأحالته إلى مجموعة أوبك+ التي تضمها إلى روسيا، الأمر الذي أثار غضب واشنطن التي اعتبرت أن الرياض تنحاز إلى روسيا في المواجهة الدائرة في أوكرانيا. غير أن ذلك لم يحُل دون تأكيد البيان التزام الجانبين استقرار أسواق النفط العالمية، وأن الولايات المتحدة رحّبت بالتزام المملكة العربية السعودية دعم توازن أسواق النفط العالمية من أجل تحقيق النمو الاقتصادي المستدام. وشدد الجانبان على ضرورة ردع التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول، والوقوف في وجه دعمها الإرهاب من خلال المجموعات المسلحة التابعة لطهران وجهودها الرامية إلى زعزعة أمن المنطقة واستقرارها، وأكدا أهمية منع إيران من الحصول على السلاح النووي.

وإذا كان الموضوع الأمني احتل مكاناً بارزاً في محادثات القمة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي (زائد مصر والأردن والعراق)، إذ شدد البيان المشترك على التزام الولايات المتحدة الأميركية الدفاع عن أمن السعودية والتعهد بمواصلة تسهيل جهود المملكة من أجل الحصول على القدرات اللازمة لتحقيق هذه الغاية، فإن الخطاب الافتتاحي للرئيس الصيني في الرياض ركّز على أولوية العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية، مشدداً على أن حكومته تدعم الجانب العربي في بناء "هيكلية أمنية مشتركة وشاملة وتعاونية ومستدامة في الشرق الأوسط." ودعا شي جين بينغ الدول العربية إلى المشاركة في "مبادرة الأمن العالمي" الصينية، وهي رؤية أُطلقت حديثاً للعلاقات الأمنية الدولية تتعارض مع سياسة التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة عبر العالم.

ويبدو أن جدلية التوازن فرضت على البيان المشترك السعودي - الصيني تأكيد "عزم البلدين على تطوير التعاون والتنسيق في المجالات الدفاعية"، وتبادل الخبرات "في مجالات الإنذار الاستخباراتي المبكر" من المخاطر. واستعاد البيان المشترك الصيني - الخليجي هذه النقاط لاحقاً، كما تعهّد بالتعاون من أجل "منع تمويل وتسليح وتجنيد" الجماعات الإرهابية في المنطقة.

وكان اللافت للانتباه التقاطع بين المواقف الأميركية والصينية بشأن إيران وبرنامجها النووي ونشاطاتها الإقليمية. فقد أكدت تصريحات بايدن خلال قمة مجلس التعاون الخليجي (زائد مصر والأردن والعراق)، أن حكومته ستعمل مع الشركاء الإقليميين "لمواجهة التهديدات... التي تطرحها إيران في المنطقة"، وشددت على التزام أميركا "ضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي." وفي المقابل اتّسم البيان المشترك بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي بلهجة حازمة في هذا المضمار داعياً الجمهورية الإسلامية إلى "التعاون الكامل" مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مشيراً إلى اتفاق القادة على العمل لـ "منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة الخليج، وضمان الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني" حفاظاً على الأمن والاستقرار إقليمياً ودولياً. وذهب البيان المشترك إياه إلى "ضرورة أن تقوم العلاقات بين دول الخليج العربية وإيران على اتّباع مبدأ حُسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام استقلال الدول وسيادتها وسلامة أراضيها"، داعياً إلى إطلاق حوار إقليمي "بمشاركة دول المنطقة لمعالجة الملف النووي الإيراني والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية." وأعلن البيان أيضاً تأييد مبادرة دولة الإمارات العربية المتحدة ومساعيها للتوصل إلى حلّ سلمي لقضية الجزر الثلاث: طمب الكبرى، وطمب الصغرى، وأبو موسى، وذلك من خلال المفاوضات الثنائية وفقاً لقواعد القانون الدولي، ولحلّ هذه القضية وفقاً للشرعية الدولية. ولم يتخلّف أخيراً عن المطالبة بحلّ عادل للقضية الفلسطينية على أساس صيغة الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية ووقف الاستيطان الإسرائيلي.

ولم يسبق أن اتخذت حكومة الصين مواقف علنية حاسمة في قضايا خلافية حساسة بين العرب وإيران مثل قضية الجزر الثلاث وطُرق تسويتها التي تصطدم بالخطاب القومي الإيراني الذي يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية، علماً بأنها تعرضت للاحتلال العسكري في عهد النظام الملكي الذي أطاحته الثورة الإسلامية، فضلاً عن ملف البرنامج النووي الإيراني والشكوك في تجاوز العتَبَة السلمية، واستبعاد إشراك الجوار المعني الإقليمي بالمسألة أمنياً وبيئياً في مفاوضات تشارك فيها الدول الكبرى الغربية وروسيا والصين. وقد ردّت إيران على الفور على هذه المواقف، معلنة إدانتها، ومؤكدة أنها "لم تغادر" الاتفاق النووي. واستدعت الخارجية الإيرانية السفير الصيني في طهران في اليوم التالي للقمة العربية - الصينية للتعبير عن "انزعاجها الشديد"،[6] وتم إرسال مسؤول صيني رفيع المستوى هو نائب رئيس الحكومة هوشون هو إلى إيران لاستيعاب الأزمة عبر تأكيد مفهوم الحياد الإيجابي للصين المفارق للنزعة العدائية تجاه إيران، والتي ينضح بها الخطاب الأميركي. ويجب أن يسجَّل أيضاً التمايز الصيني في المسألة الفلسطينية، إذ أصر شي جين بينغ في تصريحاته على إعلان رفضه "استمرار" الظلم التاريخي الذي يعانيه الشعب الفلسطيني، والمساومة على حقوقه المشروعة، مطالباً بضرورة منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة.

أمّا القلق الأميركي إزاء التقارب الصيني - العربي، فإن أحد مصادره الرئيسية هو مبادرة "الحزام والطريق" في مجال التجارة والاستثمار، لأن هذه المبادرة التي يقابلها من الجانب الأميركي "مشروع الشراكة للبُنية التحتية العالمية والاستثمار"، تلاقي استجابة قوية لدى المسؤولين العرب الذين أعلنوا موافقتهم على مقترحات بكين في شأن التعاون من خلال البُنية التحتية والتصنيع وقطاعات اقتصادية أُخرى. أضف إلى ذلك تكاثر المشاريع العربية مع شركات الاتصالات الصينية، ومنها توقيع مذكرة سعودية تقضي بالموافقة على تعميق التعاون مع شركة هواوي الصينية في حقل الحوسبة الإلكترونية، وبناء مجمعات للتقنيات المتطورة انسجاماً مع "رؤية 2030"، واعتماد المجموعة العربية الخليجية بصورة كبيرة على شركات الاتصالات الصينية في بناء وتطوير البُنية التحتية لشبكاتها على الرغم من التحذيرات الأميركية من المخاطر الأمنية المترتبة على هذا التوجه.[7]

وهكذا يقودنا تفكيك الخطاب الدبلوماسي إلى الاستنتاج أن هناك تفاعلاً وجودياً بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية، وهما ثنائي خطر واستثنائي بين دول العالم قد يندفع في ظروف معينة إلى الوقوع في صراع فتاك. وإذا كان صحيحاً أن عدم التجاور الجغرافي بين أميركا والصين والتشابك الاقتصادي والمالي يقلّلان من خطر نشوب نزاع عسكري، فإن تصاعد التوتر بين قوتين كبيرتين لهما مصالح هائلة وقدرات عالية على إرسال قواتهما العسكرية بعيداً، من شأنه أن يزيد مخاطر الصراع. ونظراً إلى النمو السريع جداً لاقتصاد الصين مقارنة بنمو الاقتصاد الأميركي، فإن نسبة القوة تغيرت بمقدار كبير لتصبح متساوية تقريباً، كما يجب أن نأخذ في الاعتبار أن هاتين القوتين تشتركان فيما بينهما بعضويتهما في العديد من المنظمات الدولية، فضلاً عن كون الصين عضواً في جميع المنظمات الدولية، وفي العديد من المنظمات الإقليمية الخاصة بشمال المحيط الباسيفيكي، والتي تنتمي إليها الولايات المتحدة أيضاً. ومن هذا المنظور يمكن أن نعيد النظر في حساب عوامل الخطر والردع، مع أن وضع تايوان يمثل مصدر تهديد رئيسياً، الأمر الذي يستدعي حنكة سياسية من جانب الصين وأميركا، لأن أي حرب كبيرة بين أكبر قوتين في العالم ستكون مأساة أكبر من الحرب في أوكرانيا. 

4 - مستقبل الشراكة مع الصين

من الصعب تصور آفاق للشراكة الخليجية العربية - الصينية بمعزل عن السياقات الجيواستراتيجية الملازمة للتحولات في العلاقات الدولية، وهي ظواهر حاضنة لديناميات التعاون والتبادل بين الصين وبلاد العرب، وتبرز فيها إشكالية الهيمنة العالمية، ومفهوم الاستقلال الذاتي للدول في إدارة مصالحها، واحتدام التنافس الإقليمي.

ويكشف الاتجاه السائد في التحولات العالمية، سيولة في الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية وانزياحها نحو الصين القوة العظمى الجديدة، وذلك في السياق الحاضن لفقدان الولايات المتحدة مقومات الهيمنة الأحادية، فضلاً عن تعاظم القوة الجيواستراتيجية لـ "إمبراطورية الوسط" في المدار العالمي، وتمكّن شبكة علاقاتها التجارية من السيطرة على معظم الأسواق بين الشرق والغرب.

أمّا المحرك الثاني للشراكة العربية - الصينية، فهو إدراك اللاعبين الإقليميين أنهم يواجهون مجموعة من الخيارات الاستراتيجية تمنحهم حيزاً واسعاً من حرية الحركة، وأن التفاعلات العالمية باتت تجري في فضاءات إقليمية - دولية تفسح المجال أمام الدول للعمل على استخدام إمكاناتها من أجل التعاون وبناء الشراكات مع الدول الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في آنٍ معاً. وللمثال، الهند التي توازن علاقاتها مع القوى الكبرى الثلاث: أميركا وروسيا والصين؛ فيتنام التي بَنَت علاقات واسعة مع واشنطن والعرب وإسرائيل؛ كذلك، البرازيل وتركيا وأوزبكستان وكازاخستان.

ويتعلق المحرك الثالث بظاهرة التنافس الإقليمي بين السعودية وإيران من جهة، والسعودية وتركيا من جهة أُخرى، فضلاً عن التنافس بين إيران وتركيا. وهذا الأمر يفسّر سعي التكتل الخليجي المصري لتجيير الثقل الصيني لمصلحة دبلوماسيته وخطابه الخاص فيما يتعلق بقضية الجزر الثلاث وسلمية البرنامج النووي الإيراني، مثلما أن الاستجابة الصينية قد تكون مدفوعة بحسابات التموضع الجيواستراتيجي في منطقة حيوية لتأمين إمدادات الطاقة وتعجّ بالقواعد العسكرية الأميركية التي لا تمنع روسيا والصين من القيام بمناورات عسكرية في بحر العرب بالتنسيق والتعاون مع إيران.

أخيراً إن الواقعية الهجومية الصينية التي تعطي الأولوية للمصالح الاقتصادية وحركة التجارة العالمية، بعيداً عن دوافع الاستقطاب الأيديولوجي، تساعد في تظهير حقيقة أن دول المجموعة العربية يمكن أن تتصرف بناء على أولوياتها هي نفسها، الأمر الذي ينفي الاعتقاد أن العالم العربي هو مجرد ساحة مفتوحة أمام تجاذبات القوى الدولية الكبرى، وبالتالي لا يمكن التغاضي عن دور القوى الإقليمية في تدافع الأحداث سواء داخل العالم العربي أو خارجه. ومن هنا، فإن نتائج زيارة شي جين بينغ للسعودية، وإعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن قمة الرياض الخليجية - الصينية "تؤسس لانطلاق تاريخي جديد للعلاقة بين الصين والسعودية، [و]تهدف لتعميق التعاون مع الصين في جميع المجالات وتنسيق وجهات النظر تجاه القضايا الإقليمية والدولية"، وإن دول مجلس التعاون الخليجي تعتبر الصين "شريكاً أساسياً مهماً لها، وتولي أهمية قصوى لرفع مستوى الشراكة الاستراتيجية معها"، إنما تعزّز فكرة أن القوى الإقليمية قادرة على التخطيط والعمل وفق ما تُمليه مصالحها الخاصة، وخصوصاً عندما تتعارض هذه المصالح مع أهداف السياسة الأميركية، وتنبّه في الوقت نفسه إلى تناقضات في بُنية النظام الإقليمي الخليجي الفرعي يجب التعامل معها بجدية كي تتوازن تطلعات "العملاق السعودي" مع طموحات المنافس الإماراتي وحاجات الفرقاء الخليجيين الآخرين، بحيث يسهُل استيعاب حالات تأزّم نافرة بسبب شكاوى من نزعة الهيمنة السعودية، مثل "القمة" التي عُقدت في أبو ظبي منتصف كانون الثاني / يناير 2023، وجمعت أربعة من قادة الخليج "إلى زعيمَي مصر والأردن"، وغاب عنها بصورة لافتة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي تضامن معه ولي عهد الكويت مشعل الأحمد الصباح. وهنا بدت الأجراس كأنها شرعت تُقرع من أجل إدارة حكيمة للمنافسة الشديدة بين السعودية ودولة الإمارات على موقع القطب المالي والاقتصادي والسياحي وسط تباعد متزايد بين الرياض وأبو ظبي، ومحاولات أميركية مستمرة لتهميش المجموعة التي تتحكم في القرار السعودي اليوم، أو أنها - أي هذه الأجراس - تريد أن تُسمع "الأمير الجديد" الشجاع إلى حدّ التهور، أن حلول ما يشبه قطبية ثنائية أميركية - صينية في الخليج، تقتضي إيجاد رافعة موازنة عبر العمل على تحديث آليات الإدارة والتخطيط لمجلس التعاون الخليجي، وعدم الاكتفاء بتطبيق مفهوم "توازن القوة" الذي ينطوي على مخاطر وتقلبات سياسية تعرفها باكستان جيداً في حقل التوازن بين الأميركيين والصينيين. غير أن الكلام على أولويات مختلفة لسياسة خارجية جديدة للمملكة، لا يستقيم من دون رؤية استراتيجية تُخرجها من المستنقع اليمني، وتُصلح في آنٍ معاً الخطأ التاريخي الذي أدى إلى استبعاد العراق واليمن من النظام الإقليمي الخليجي.

 

المصادر:

[1]  لمراجعة وقائع محادثات القمة العربية - الأميركية والقمة العربية - الصينية، والنصوص الكاملة للبيانات المشتركة، يمكن العودة إلى "وكالة الأنباء السعودية" (واس).

[2] الشراكة الاستراتيجية الشاملة هي علاقة متشابكة بين شريكَين تجاريين، أو مؤسستين تجاريتين، وتتجسد بعقود متعددة بين الشريكين. وتهدف الشراكة عندما تنتقل إلى الدول إلى الحصول على منافع متبادلة بعيدة المدى ومواجهة المخاطر في العمليات المشتركة والقيام بمساهمات في حقول استراتيجية. وفي الغالب يتم السعي للشراكة الاستراتيجية عندما ترى المؤسسات أو الدول أنها تحتاج إلى زيادة إمكاناتها.

[3] استناداً إلى وكالة الطاقة الأميركية، بلغ الإنتاج النفطي الأميركي في سنة 2021 نحو 18,9 مليون برميل يومياً تشمل النفط الخام وأنواع المشتقات النفطية الأُخرى، أي 20% من الإنتاج العالمي. وبلغ الإنتاج الأميركي من الغاز في سنة 2021 نحو 935 مليار متر مكعب متجاوزاً الإنتاج الروسي البالغ 700 مليار متر مكعب.

[4]  تستورد الصين حالياً نحو 11 مليون برميل من النفط يومياً، ويُتوقع بحلول سنة 2026 أن تستهلك 16 مليون برميل يومياً يأتي معظمها من منطقة الخليج، كما يُتوقع بحلول سنة 2040 أن تستهلك 620 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.

[5] لمزيد عن تحولات العلاقة الأميركية - السعودية، انظر:

Emile Hokayem, “Fraught Relations: Saudi Ambitions and American Anger”, “International Institute for Strategic Studies (IISS)”, 6 December 2022,

وانظر أيضاً: وليد شرارة، "الثابت والمتحول في العلاقات السعودية – الأميركية"، "الأخبار" (بيروت)، 17 تموز / يوليو 2021.

وانظر كذلك:

عبد الله بعبود، "زيارة شي جين بينغ إلى الرياض"، "كارنيغي". 

وأيضاً:

جون ميرشايمر، "دراسة حالة: هل تستطيع الصين الصعود بطريقة سلمية؟ نظريات العلاقات الدولية" (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 237 – 244؛ خلدون حسن النقيب، "المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)؛ عبد المنعم سعيد، "العرب ودول الجوار الجغرافي" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)؛ علي الدين هلال (محرر)، "العرب والعالم" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988)؛ "أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي: أوراق عمل ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991).

[6] عن انزعاج طهران، انظر: "رحلة الحج الصينية إلى الرياض وانزعاج طهران"، عن تقرير لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ترجمة منى فرح، "180 بوست".

[7] في سنة 2020 وحدها وقّعت جميع دول مجلس التعاون الخليجي عقود الجيل الخامس (5G) مع شركة هواوي الصينية.

Author biography: 

ميشال نوفل: كاتب وصحافي لبناني.