Purim Day/ Massacres Day
Full text: 

كان من المقرر أن يقتصر تقديم هيئة التحرير لهذا العدد على الإشارة إلى مجموعة من التصورات والرؤى من أجل تطوير عمل "مجلة الدراسات الفلسطينية"، وعلى رأسها تشكيل مجلس جديد للتحرير. وكان المخطط أن نستقبل نص القائد الأسير مروان البرغوثي، كافتتاحية للعدد، على أمل إحداث نقلة نوعية في مفهوم الافتتاحية باعتبارها تحمل تحليلاً للواقع وترسم آفاق المستقبل.

وفعلاً، يسعدنا ويشرفنا أن يكون الأخ مروان البرغوثي هو كاتب افتتاحية هذا العدد.

غير أن الظروف المستجدة التي تتمثل في تنامي المقاومة، والوحشية التي يمارسها جيش الاحتلال والمستوطنون العنصريون، فرضت علينا تغيير تقديمنا للعدد، كي نساهم في قراءة المنعطف الخطر الذي تمر به فلسطين، وسط أزمة سياسية إسرائيلية عاصفة. 

*** 

احتفل الإسرائيليون في السادس من آذار / مارس بيوم بوريم، وهو عيد يهودي شبه ديني يُحيي ذكرى نجاح إستير في ردّ مؤامرة الوزير الفارسي هامان، وانتصار فتنتها على مؤامرة الوزير لقتل اليهود.

الحكاية مأخوذة من سفر إستير في "التناخ"، وهي حكاية خرافية تصلح كأدب للأطفال في أيامنا.

غير أن الصهيونية التي حولت الحكاية / الأسطورة إلى تاريخ في سياق مشروعها لتحويل التاريخ إلى مجزرة، أضفت على هذه الذكرى طابعاً دموياً لا بد من التوقف عنده من أجل فهم الجنوح القيامي للصهيونية الدينية واليمين المتطرف اللذين يقودا إسرائيل إلى هاوية الفاشية العارية.

في هذا العام اختلط عيد المساخر، وهو الاسم الشعبي للعيد، بعيد المجازر.

في عيد المساخر يلبس الأطفال الأقنعة، ويسكر المتدينون ويثيرون الضجيج والسخرية، ويأكل الإسرائيليون حلوى تحمل اسماً غريباً هو "أُذُن هامان".

من الواضح أن العيد قائم على بُنية لغوية مجازية. فالمجاز يصنع حقلاً دلالياً يُستدل به على الأشياء، أمّا حين يجري التعامل مع المجاز بصفته حقيقة، فهذا لا يقود إلّا إلى الهمجية.

لقد خلع المستوطنون الأقنعة ولبسوا المجاز ورقصوا على الخراب في حوّارة، بعدما اعتدوا عليها من جديد في 6 آذار / مارس. وقد شاركهم جنود الجيش الإسرائيلي في الرقص احتفالاً بعيد المساخر.

لم يأتِ التزامن بين المساخر والمجازر هذا العام عن طريق المصادفة، إذ سبق أن امتزج العيدان بشكل بربري منذ تسعة أعوام، ففي 25 شباط / فبراير 1994، أي في عيد المساخر في تلك السنة، نفّذ الطبيب الكاهاني باروخ غولدشتاين، المقيم في مستعمرة كريات أربع في الخليل، مجزرة مروعة في الحرم الإبراهيمي سقط فيها 29 شهيداً فلسطينياً وعشرات الجرحى. وارتفع عدد الشهداء إلى 50 بعد القمع الذي مارسه الجيش الإسرائيلي على المحتجين والمشيّعين الفلسطينيين.

قَبْر غولدشتاين في كريات أربع تحول إلى مزار، ويجري اليوم التعامل مع هذا السفاح بصفته قديساً!

حين نروي عن مجزرة نابلس أو عن حرائق حوارة، تقفز إلى الذاكرة مشاهد المجزرة الوحشية التي نفذها المستوطنون في قرية دوما. ففي فجر 31 تموز / يوليو 2015 تسلل مستوطنون إلى القرية النائمة حيث هاجموا منزل سعد دوابشة بالمواد المشتعلة، فاحترق البيت واستشهد الطفل الرضيع علي (18 شهراً)، ثم ما لبث أن قضى والده سعيد ووالدته رهام بالحريق، ولم يبقَ في قيد الحياة سوى أحمد (أربعة أعوام) الذي أصيب بحروق بالغة، وكان الناجي الوحيد من أفراد العائلة المنكوبة.

ليس من المنطقي أن يفاجئنا مشهد النار في حوارة و"البوغروم" الذي نفذه مئات المستوطنين بحماية الجيش الإسرائيلي في 26 شباط / فبراير 2023، وإحراق 52 منزلاً و130 سيارة، وإصابة 150 مواطناً، واستشهاد سامح أقطش.

كما أن المذبحة التي نفذها الجيش الإسرائيلي في نابلس في 22 شباط / فبراير 2023، وأدت إلى سقوط 11 شهيداً، وإصابة أكثر من 100 مواطن بالرصاص الحي، ليست سوى جزء من النكبة المستمرة التي تجددت في مجزرة مخيم جنين يوم الثلاثاء الموافق فيه 7 آذار / مارس 2023.

عيد المساخر مستمر على إيقاع المذابح والحرائق. وهذا ما لم يلاحظه الروائي الإسرائيلي أ. ب. يهوشع، في قصته "إزاء الغابات"، حين افترض أن الحريق الذي دُفع إليه الفلاح الفلسطيني المقطوع اللسان، كان وسيلة مراقب الغابة الإسرائيلي لتملّك المكان الفلسطيني والاستيلاء على خريطته التي احترقت أطرافها.

المسألة واضحة المعالم، فالذي أشعل النار وأعلن الحرائق هو المحتل الإسرائيلي، وهذا ما تشهد به وقائع حرب نكبة 1948، حين كان جنود البالماخ يرسلون البراميل المشتعلة على القرى مثلما جرى في قرية عين الزيتون، أو حين يمازح القاتل ضحيته بلعبة كلامية قبل أن يقتله. فخلال اجتياح قرية سعسع في شباط / فبراير 1948، ونسف بيوتها على رؤوس السكان، يسأل فلاح فلسطيني الجندي الإسرائيلي "إيش هادا"، فيجيبه الإسرائيلي عبر مزج اللغتين العربية والعبرية "هادا إيش"، قبل أن يقتله برصاص بندقيته، وكلمة "إيش" بالعبرية تعني النار. "هادا نار"، أجاب الإسرائيلي وأطلق النار، وسط ذهول الفلاح الفلسطيني الذي لم يفهم سوى أن كلام الجندي المحتل يعني شيئاً واحداً هو الموت.

في حوّارة وقبلها في دوما تكلم المستوطنون العنصريون والجنود الإسرائيليون بلغة النار التي لا يتقنون سواها، وهذا ليس جديداً.

الجديد يتمثل في ثلاثة مستويات:

المستوى الأول هو القناع اللغوي الذي أسقطه أيتام الحاخام مئير كاهانا مؤسس حركة "كاخ" العنصرية التي تقمصت في حزبَي الصهيونية الدينية اللذين يقودان إسرائيل اليوم.

ليس مستغرباً أن يحتفل المحامي الشاب بن غفير بعيد المساخر في الخليل في سنة 1995، أي بعد عام على وقوع جريمة غولدشتاين، فلبس قناعاً يمثل وجه سفاح الحرم الإبراهيمي، ورقص مع الراقصين. لكن وزير الأمن القومي الإسرائيلي تنكّر هذا العام بلباس ضابط شرطة ورقص محتفلاً بالحرائق والموت في حوّارة ونابلس وجنين.

أظهر سقوط القناع اللغوي الوجه الحقيقي للثلاثي بن غفير، وسموتريتش، وليفين – وزير العدل - الذين يقودون الانقلاب الفاشي برعاية نتنياهو.

المستوى الثاني، هو أن هذا الانقلاب يكشف العلاقة بين الاحتلال المستمر وبين الانهيار على مستوى القيم في المجتمع الإسرائيلي، وهو ما لا يعيه، أو لا يريد الاعتراف به زعماء وسط اليمين الإسرائيلي الذين يخوضون معارضة داخلية شرسة ضد الانقلاب الفاشي. وهذا يعود إلى بُنية الدولة الصهيونية العميقة التي قامت على الاستيطان وسكرت بالاحتلال واستنبطت مركباً أيديولوجياً غريباً يمزج العلمانية بالدين. ومع التحولات الكبرى في العالم نحو اليمين الشعبوي والفاشية، كان من الطبيعي أن تبدأ الأصولية الدينية اليهودية بافتراس العلمانية الناقصة وتدمير دولتها.

ومهما تكن نتائج هذا الصراع، فإن المجتمع الإسرائيلي أصيب بشرخ عميق من الصعب أن يبرأ منه.

المستوى الثالث، وهو الأكثر أهمية، يتعلق بالتحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني أمام رقصة الموت والنار التي يفرضها الاحتلال.

التحدي الفلسطيني الأول هو تحدي الذات بعد أن تشظّت المؤسسة الوطنية الفلسطينية التي تمثلها منظمة التحرير التي أخرجت نفسها من معادلة الصراع.

وقد ترافق هذا الموت السريري مع نشاط غير مفهوم وغير مبرر يتمثل في التنسيق الأمني "المقدس" بحسب تعبير الرئيس محمود عباس. والآن تُطرح علامات استفهام كبرى بشأن دور هذا التنسيق في ملاحقة المقاومين وتسليمهم إلى الاحتلال.

غير أنه وفي مواجهة هذا الموت تولد مقاومة جديدة لا تزال تحبو، مقاومة يصنعها الفدائيون الجدد الذين اختاروا تجاوز الفصائلية والحزبية الضيقة، كي يشقوا بموتهم طريق الحياة والبقاء والصمود.

الإسرائيليون يرقصون على الدم الفلسطيني، والفلسطينيون يحولون دمهم ودموعهم إلى مقاومة متجددة تواجه الاحتلال وحيدة، وتبني حلماً عصياً على الموت.

المهمة الملحّة هي استعادة لغة الحرية من اللصوص والمقاولين الذين تاجروا بهذه اللغة طويلاً، والانطلاق من حقيقتَين: الأولى تقول إن التناقض الرئيسي هو مع الاحتلال، وإن التناقضات الأُخرى كلها يجب أن تجد حلولها في الحوار الديمقراطي. أما الثانية فأكثر بساطة ومباشرة لأنها تعلن "أن جميع البنادق نحو العدو"، وكل بندقية لا تصوّب ضد الاحتلال يجب أن تُنحّى جانباً.

لم يعد السكوت ممكناً، فالمقاومة بمختلف أشكالها، هي الطريق الذي أضاعه الذين سقطوا في وهم السلام ووهن السلطة، والتي يعبّدها اليوم الفدائيون بدمهم.