79 لوحة تفاوتت ما بين الزيتي والمائي، تزينت بها جدران دار النمر للفن والثقافة/بيروت، بتوقيع الرسام الراحل مارون طنب (1912-1981) المولود في مدينة حيفا، والمهجّر قسراً منها على أيدي العصابات الصهيونية التي نفّذت المجازر بحق الشعب الفلسطيني واحتلت أرضه، وهجّرت قسماً كبيراً منه إلى الشتات والمخيمات.
مارون طنب، ابن مدينة حيفا خلّد مبانيها، وبيوتها وطبيعتها الجميلة على لوحات من قماش، مستخدماً الألوان الزيتية والمائية والحبر الصيني. لرسوماته المائية حضور فني مميز بألوانها المميزة، وحيوية خطوطها، وألق موضوعاتها، ولا سيما المناظر الطبيعية.
تتابع عناوين أعمال رسوماته ذاكرة فلسطين، مثلاً: مبنى جمعية الشبان المسيحية في القدس، برج داود، بستان زيتون، مسجد عكا، جدار عكا، وغيرها من الأعمال التي تؤكد أن مشاهد فلسطين لم تبرح ذاكرته بعد أن هُجِّر منها. فلطالما حضرت المناظر الطبيعية التي رسمها في لبنان أو العراق، وأتت مماثلة لتلك التي عاشها تحت سماء فلسطين، وجمال طبيعتها وتنوّعها.
والمعرض المُستعاد لأعمال طنب، إنما يشكّل استعادة لحقبات من تاريخ المنطقة، والعلاقات المدينية الاجتماعية التي أحاطت تلك العلاقات، وحفظت تنوّعها، إلى أن حلّت النكبة بفلسطين، ووأدت الحركة الصهيونية ذلك. فمن بين متعلقات مارون طنب في المعرض رسالة بخط يده، بعنوان: "مشوار دروب فنان من فلسطين إلى لبنان"، وهي مترجمة من العبرية إلى العربية، وكان قد أرسلها إلى زميله الفنان اليهودي جاك، وكانا درسا وعملا وتصادقا في حيفا. والرسالة هذه مؤرخة بـ 6/1/1948، يتمنى فيها طنب لصديقه جاك التوفيق في مساره الفني، متمنياً عليه "الابتعاد عن فلسطين قدر المستطاع، لأن بات كل مكان ههنا غير آمن. الموت يتربص في كل زاوية،" مضيفاً "نشبت معركة بالقرب من منزلك مباشرة واستُعملت فيها كل أنواع الأسلحة الأوتوماتيكية. لقد أصبحنا أعداء يا جاك منذ إعلان يوم التقسيم. في ذاك اليوم بالذات دُشّن معرضي الذي طال انتظاره. جميع الأصدقاء من أهل الفن حضروا حفل الافتتاح، ولكن منذ ذاك اليوم وحتى الآن تعذّر على الناس أن يتلاقوا من جديد. انشطرت حيفا جبهتين: محيط جبل الكرمل من جهة، ووسط المدينة من جهة أُخرى. عبور خط التماس أمر مميت لكل مَن يجرؤ عليه. يمكنك الآن أن تتخيل مدى الانتكاسة التي أصابت معرضي، لكنني على الأقل استطعت استرداد ما دفعته من تكاليف. فلقد بعتُ 16 لوحة بقيمة تسعين جنيهاً، وهو تقريباً مبلغ ما صرفته على المعرض." ويكمل في رسالته الطلب من جاك بالاحتفاظ ببطاقة الدعوة كتذكار.
يستطيع كل قارئ لهذه الرسالة أن يستنبط منها شيئاً ما عن فلسطين، فيحللها المتخصص بعلوم الاقتصاد بمنظار قيمة العملة النقدية الفلسطينية، وكانت من العملات القوية، وأيضاً سيتفقد الباحث في علم الاجتماع معنى التنوع الاجتماعي والديني والثقافي، وسيتنفس أهل الفن غبطة بهذا الحضور من المعجبين والمُشترين. وسيكلل الحزن شعور كل فلسطيني عانى التشرد واللجوء وآثار النكبة. مع الإشارة هنا إلى المعاهد الفنية المذكورة في الرسالة، والتي كانت منتشرة، كمعهد الفنان الألماني هيرمان شتروك، وقد شارك تحت لوائه في أول معرض يقام في فلسطين لفن النقش (من 10 إلى 23 تموز/يوليو 1941) والمعهد النمساوي (محترف الفنان النمساوي باول كونراد هونيج).
أما في سنة 1945، فكان معرض طنب الفردي الأول، في حين كان آخر معرض له في مقر جمعية الشبيبة المارونية الحيفاوي في يوم صدور قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الأول/أكتوبر1947، فتحولت المدينة (حيفا) إلى ساحة حرب. مع الإشارة إلى أنه عمل كمسؤول فني لدى الفرقة المسرحية التي أسّسها إسكندر أيوب بدران في حيفا.. حيفا التي درس طنب وزملاؤه فيها مادة الرسم، بما يعطي فكرة أوسع عن صورة المدينة المدينية المنفتحة، والمتابعة لفنون الثقافة في الغرب والشرق. ففي 7 تموز/يوليو 1933، شارك مارون طنب في "المعرض القومي العربي الأول" في فندق "بالاس أوتيل" في القدس، وهو أحد أهم المعارض الفنية على الإطلاق لترويج الفنون والحرفيات في الأوطان العربية، وأمّه نحو مئة ألف زائر على مدى أكثر من شهر، بحسب جريدة "فلسطين" المحلية، بحسب المعرض. كما أن مقتنيات طنب الشخصية من جواز سفر وبطاقات دعوات إلى معارض جماعية شارك فيها، وغيرها موجودة في معرضه الاستعادي والمستمر حتى آخر شهر آذار/مارس الحالي في دار النمر في بيروت.
يشير التعريف المكتوب عن تلك الحقبة في تدوين ابنه الرسام فؤاد طنب: "ففي أثناء الحقبة الفلسطينية من حياته شارك مارون طنب في معارض جماعية منذ العام 1933، وأتبعها بعدة معارض شخصية، وقد بيعت أعماله بكثافة في حيفا، لكن معظم لوحاته، مع الأسف، ذهب أدراج الرياح أو فريسة التلف بعد نزوحه القسري إلى لبنان عام 1948." كما شارك فؤاد طنب في المعرض بعدد من اللوحات، وكأنها حوار استكمالي بين الابن وأبيه بلغة الجمال العالمي. فؤاد وعائلته وأصدقاء عملوا على "لملمة" شمل لوحات مارون طنب وتقديمها في هذا المعرض، تكريماً لذكراه، وقد شاركهم في البحث والتنقيب الباحث المقدسي الفلسطيني مازن القبطي، فكان هذا المعرض لأعماله في الحقبة الفلسطينية الفنية المغمورة من حياته.
بعد تلك النكبة، يمّم مارون طنب وجهه إلى لبنان، فكان محط نزوله، وفيه توافرت له فرصة عمل في شركة نفط العراق سنة 1949 بصفة رئيس القسم الفني من مجلة "أهل النفط" التي كانت تصدر عن الشركة، فأغنى أوراقها بألوان أقلام الرسم وأدواته، وشهدت أغلفة المجلة إبداعات طنب، وبيع معظم الأغلفة في دور الفنون في بغداد وكركوك خاصة. وفي هذه الفترة، وإلى حين وفاته سنة 1981، أبدع في رسم الطبيعة والوجوه، وانخرط في العمل النقابي حين ترأس نقابة الفنانين التشكيليين اللبنانيين.
وكما في كثافة حضور الأصدقاء والمعجبين بلوحاته في المعارض التي أقامها، أو شارك فيها، في فلسطين، شهد افتتاح المعرض الاستعادي للوحاته كثافة حضور، وكثيراً من المحبة والتقدير، والافتتان بجمالياتها.