في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 1949، وبموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، تم إعلان تأسيس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) كوكالة متخصصة وموقتة لغاية إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، يستند إلى قرار الجمعية العامة الرقم 194 الذي يقضي بعودة اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم. وباشرت الوكالة أعمالها في سنة 1950، وشملت ولايتها خمسة أقاليم لجأ إليها أكثر من 600 ألف لاجئ فلسطيني، في سورية ولبنان والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة، أُسكِن الكثيرون منهم في مخيمات (موقتة) في الأقاليم المذكورة.
أرشيف ملصق فلسطين، 1980
وصل عدد المخيمات بعد سنة 1967 إلى 58 مخيماً تعترف بها الأونروا، توزعت بواقع 19 في الضفة الغربية، 8 في قطاع غزة، 10 في الأردن، 12 في لبنان، 9 في سورية، كما سجلت قوائم الوكالة 5.9 مليون لاجئ في سنة 2016. ويُعتقد أن هذا العدد أقل من العدد الحقيقي للاجئين الذين تناسلوا من الجيل الأول.
قدمت الأونروا منذ تأسيسها خدمات مختلفة للاجئين الفلسطينيين شملت التعليم والصحة والنظافة البيئية وبرامج الإغاثة الطارئة في التشغيل، واعتمدت في موازناتها على تبرعات طوعية من العديد من دول العالم، وكانت الولايات المتحدة الأميركية من أكبر المتبرعين، إذ بلغت مساهمتها 360 مليون دولار سنوياً، منها 120 مليون دولار كمساهمة منتظمة، والباقي عبارة عن برامج طوارئ متغيرة لم تخفف من معاناة اللاجئين في أثناء الكوارث والحروب بقدر ما استُخدمت لتغيير العقيدة الوطنية الفلسطينية وكيّ الوعي المقاوم للاحتلال، بالتركيز على مفاهيم التسامح وحقوق الإنسان. فاستحدثت وظائف موقته لمدة ثلاثة أشهر، بهدف التخفيف من البطالة ونزع فتيل العنف ضد الاحتلال المتسبب بتردّي الأوضاع الاقتصادية بسبب العدوان والحصار، كما في قطاع غزة، حيث نسبة اللاجئين من السكان تزيد عن 65%.
مع ازدياد عدد اللاجئين الفلسطينيين وازدياد حاجتهم إلى الإغاثة، عانت وكالة الغوث جرّاء نقص وعجز في موازناتها وصلت في الأعوام الأخيرة إلى 1 مليار و400 ألف دولار، ينفَق أقل من نصفها على مرتبات العاملين في الدول المضيفة، الذين بلغ عددهم 28 ألفاً، وينفَق الباقي على الخدمات وبرامج الإغاثة الطارئة للاجئين المسجلين في قوائم الوكالة. وقد شهدت هذه الخدمات تقليصات مستمرة مع السنين إلى الحد الأدنى، وطالت مرافق التعليم والصحة وبرامج الإغاثة المباشرة، ومن الأمثلة على ذلك تقليص عدد العائلات المستفيدة من برنامج الشؤون الاجتماعية من 36 ألف حالة سنة 2012 إلى 8 آلاف حالة اليوم. كما تقلص عدد أصناف الأدوية المقدمة في عيادات الوكالة الصحية في الفترة نفسها من 130 صنفاً إلى 56 صنفاً فقط، بينها أدوية الأمراض المزمنة. كما تغيّر منشأ الأدوية، من أدوية ذات منشأ أوروبي ومحلي إلى أدوية مصنوعة في الهند تقدَّم كتبرعات، ويرفض معظم المرضى تناولها نظراً إلى رداءتها. كما خفّضت الوكالة أيضاً تغطيتها للتحويلات الطبية للاجئين المرضى في المستشفيات الفلسطينية إلى الحد الأدنى، بواقع لا يزيد عن 800 دولار للمريض، مهما بلغت تكاليف العلاج، واشترطت إرسال جميع المرضى إلى مستشفى قلقيلية فقط للحصول على التغطية. كما اعتمدت إدارة الوكالة نظام العقود في الوظائف الجديدة المستحدثة، والتي تحرم الموظفين حقوق نهاية الخدمة والأمن الوظيفي. أما في المدارس، فقد حددت سقف عدد الطلاب في الصف الواحد بـ 51 طالباً قبل فصل الصف إلى صفين، الأمر الذي قلّص استحداث وظائف جديدة للمعلمين، وتعارض مع العدد المتعارف عليه عالمياً لسقف عدد الطلاب في الصف الواحد، وهو 32 طالباً.
هذه الأمثلة وغيرها من التقليصات في الخدمات تسببت باحتجاجات متكررة في أوساط اللاجئين في المخيمات، بصورة اعتصامات وإضرابات، كان آخرها الإضراب الذي أعلنه اتحاد العاملين في الضفة الغربية بتاريخ 25 كانون الثاني/يناير هذا العام. وقد عُلّق الإضراب موقتاً لإتاحة الفرصة لعملية تفاوُض بين رئاسة الاتحاد ومفوضية الوكالة بشأن عدد من المطالب قدمها الاتحاد، وتتعلق بتطبيق مخرجات المسح المقارن على الرواتب ودفع علاوات للعاملين، وغيرها من المطالب التي تخص العاملين أنفسهم. وعلى الرغم من أن الإضراب مطلبي في طبيعته، لكنه مؤشر آخر إلى نقص الخدمات وتردّيها. وقد كشفت رسالة اتحاد العاملين الأخيرة فشل المفاوضات، وهدد الاتحاد باستئناف الإضراب قريباً.
في الوقت نفسه، دأبت الأونروا طوال الوقت على تبرير تقليصها للخدمات المباشرة بسبب نقص الموازنات وتخلُّف بعض المتبرعين عن الإيفاء بالتزاماتهم. وكان أخطر ما تعرضت له موازنة الأونروا إصدار الرئيس الأميركي دونالد ترامب في سنة 2018 قراراً بوقف التمويل، تزامناً مع اعتراف إدارته بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وتبعه في العام نفسه قرار بحجب 200 مليون دولار كانت تقدمها دول الخليج للأونروا. كما أوقفت هولندا مساهمتها البالغة 13 مليون دولار، وهو ما وضع الوكالة في مأزق وجودي هدد بإنهائها وتصفيتها بقرار كيدي من رأس الهرم في الإدارة الأميركية التي مارست الضغوط على العديد من الدول المانحة لوقف مساهماتها، تماشياً مع ضغوط اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة والحكومة الاسرائيلية.
على الرغم من ذلك، فإن الأونروا نجت وأنقذها فقط تغيّر الإدارة الأميركية وإعلان الرئيس الأميركي جو بايدن استعداده لاستئناف تمويلها، لكن لم يكن ليحدث ذلك من دون توقيع اتفاق الإطار السيئ الصيت بين الوكالة ووزارة الخارجية الأميركية في أيلول/سبتمبر 2021، وبناءً عليه، استأنفت الإدارة الأميركية مساهمتها في موازنة الوكالة بشروط قاسية جعلت الوكالة متعهداً أمنياً للاحتلال، بحسب وصف العديد من الفلسطينيين، وذلك باشتراط حجب خدماتها عن كل فلسطيني ينتمي إلى جيش التحرير الفلسطيني، أو أي منظمة وفصيل يشارك في أي عمل (إرهابي)، في إشارة إلى الفلسطينيين الذين يشاركون في أعمال مناهضة للاحتلال، من دون تحديد طبيعة المشاركة. كما اشترط اتفاق الإطار مراقبة المناهج الفلسطينية وحذف النصوص التحريضية والمشجعة على الكراهية والعنف، هذا بالإضافة إلى قبول الوكالة شرط مراقبة كافة مؤسساتها ونشاطاتها ورفع قوائم بمتلقّي الخدمات إلى وزارة الخارجية الأميركية. أما الأخطر أميركياً، فقد كان محاولات الكونغرس الأميركي المتكررة لإعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني. إذ يصرّ الجانب الأميركي على أن اللاجىء هو فقط الفلسطيني الذي وُلد قبل سنة 1948، وهو ما يعني أن العدد متناقص بعد 75 عاماً على النكبة، ولا يتجاوز الـ 40 ألفاً ممن بقوا في قيد الحياة حتى الآن.
استناداً إلى ما تقدم، يستطيع المتابع أن يفهم حجم المؤامرة التي تستهدف قضية اللاجئين الفلسطينيين التي لم تستطع 75 عاماً بعد النكبة تجاوُزها وطمسها. وعلى الرغم من انسداد الآفاق السياسية أمام أي حلول في المستقبل المنظور، فإن قضية اللاجئين ستظل جوهر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ويبقى الحفاظ على مؤسسة الأونروا إحدى مسؤوليات المجتمع الدولي للإيفاء بالتزامه الأخلاقي عند تأسيسه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى، والمشروط بإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. ومن هنا، تظل مهمة المحافظة على الأونروا والدفاع عن وجودها ودورها مهمة المجتمع الدولي، قبل أن تكون مهمة الدول المضيفة والسلطة الفلسطينية التي يجب أن تتصدى لكل المحاولات التي تهدف إلى إنهاء وتصفية الوكالة. كما يجب عدم التسليم بتجفيف الخدمات وتغيير طبيعتها وقبول شروط الخارجية الأميركية، أو أي شروط مستقبلية من الدول المانحة تفرّغ الوكالة من جوهر وجودها كشاهد وضامن لحقوق اللاجئين.
على الرغم من ذلك، فإن تجديد التفويض للوكالة للأعوام الثلاثة القادمة، والذي دعمته أكثر من 160 دولة، وعارضته إسرائيل والولايات المتحدة، في نهاية العام المنصرم، كان صفعة لمحاولات تصفية الوكالة على الرغم من حقيقة التغييرات الجوهرية في طبيعة مهمتها وخدماتها، والتي تبقى تهديداً جدياً لقضية اللاجئين. ويظل السؤال الأهم الذي يؤرق اللاجئين الفلسطينيين هو: هل ستصمد الأونروا أمام التغيرات السياسية المتسارعة في العالم والإقليم إذا تغيرت الإدارة الأميركية، بعودة ترامب ووصول اليمين المتطرف بمشاركة بن غفير وسموتريتش إلى سدة الحكم في إسرائيل؟