The Memories of a Photographic Lens
Full text: 

المشهد الأول: وثائقي 2001 ("زيتونات")

في مطلع سنة 2000 ذهبتُ مع طاقم التصوير، مصطحبين معنا إيمان، وهي فلاحة أصلاً صارت عاملة نظافة في وزارة الثقافة، إلى مدخل رام الله الشمالي من جهة قرية بَيتِين، كي نقوم بتصويرها مع زيتوناتها في أرضها.

ذلك كان المشهد الأول من فيلم "زيتونات"، وكان عبد السلام مدير التصوير البارع قد حضر من غزة إلى رام الله مع مساعده، مصطحباً أجهزته في سيارة تحمل تصريحاً بالحركة.

 

عائلة في المغيّر – فيلم "زيتونات"

 

نقف مستعدين قبالة أرض إيمان الفلاحة التي صودرت أملاكها بفعل الأمر الواقع منذ أعوام الاحتلال الأولى من دون إعلامها، غير أن مدير التصوير لا يقبل الشروع في العمل والدخول معنا إلى هناك. أرجوه أن يتحرك، فيخبرني أنه متأكد من أن الجنود سيخرجون من البناية الضخمة المجاورة التي كانت مستشفى للجيش الأردني سابقاً، والتي حوّلها الاحتلال إلى مركز لقيادته العسكرية للضفة الغربية، وأنه متأكد تماماً من جهوزيتهم لكسر كاميرته الوحيدة. أرجوه بشدة كي يبدأ التصوير، فيخبرني بحزم أنه لن يتحرك خطوة واحدة إلى الأمام مهما يحدث. شكّل هذا الإصرار افتتاحاً قاسياً وكئيباً للفيلم؛ أُطالبه بأن يصورني معها فقط عندما ندخل إلى الأرض وعندما نخرج منها على الأقل، فيختار أن يكمن في موقع منخفض بعيد عن المشهد، لا يتيح له التقاط علاقتنا بالمكان.

لم أكن على تمرّس بالعنف الإسرائيلي تجاه الإعلام وقتها، وظننت أن الأمور ستسير بصورة منطقية، إذ كنا نعيش في ظل وعود وارفة بالسلام، فلماذا يستهدفوننا ويكسرون كاميرا المصور حين يقوم بتصوير امرأتين تمشيان وسط الشجر؟ قد يحاولون احتجازنا، لكن كسر الكاميرا الوحيدة دفعة واحدة؟!

كان ذلك قبل نشوب الانتفاضة الثانية، وفي ظل احتقان فلسطيني واسع بسبب الاستمرار في الاستيطان وسرقة الأراضي. وكان المصور يذكّرني بعلاقات القوة والتنمر التي كانت سائدة بين الاحتلال وبين الإعلاميين الفلسطينيين. طالبته بأن يأتي معنا فقط ليلتقط دخولنا إلى قطعة الأرض الواسعة ثم ينسحب بسرعة، ويتركني أتدبر أمري معهم إذا باغتونا في البستان؛ قلت له أنني سأشاغلهم كي أعطيه وقتاً كافياً للهرب، لكنه امتنع من الحركة أيضاً.

 

تصوير مع عبد السلام شحادة

 

غضبت إيمان الفلاحة الكهلة التي أجبرها الفقر على العمل في وزارة الثقافة الفلسطينية، وأشعرتني بسخطها علينا، فقد كانت تأمل بالدخول إلى أرضها، مثلما فعلنا معاً أنا وهي اختلاساً عدة مرات قبلها عندما كنا نتسلل وأساعدها في جمع بعض ثمار التين والبرقوق واللوز، وخصوصاً حبات الزيتون الأكبر حجماً، والأكثر جودة ونضجاً التي رأيتها في حياتي.

اعتبرت إيمان أنني أهنتها لأنني أحضرتها من دون أن أُصورها في أرضها مثلما أخبرتها؛ عدنا ودخلنا معاً من دون المصور، وتفقّدنا الأشجار في الأرض الواسعة التي تزيد على 4 دونمات، وخرجنا، لكن لقطات الدخول إلى الأرض والخروج منها لم تُفدنا، بناء على رأي المونتاج فيما بعد، لأن المادة ظلت ناقصة وغير كافية. لقد ظلت الصورة ناقصة ولا يمكن أن يتعرف إليها أحد، وربما لن يظهر مصدرها مستقبلاً، علماً بأن الأرض لم تكن قد تمت مصادرتها رسمياً وقتها.

والآن حين يرى العابرون من حاجز الـ "دي. سي. أو." (DCO) أرضاً واسعة على يمينهم لدى الدخول إلى رام الله من الجهة الشمالية، مكتظة بالعديد من الجنود والآليات والدبابات التي تحتل المكان، فمَن سيعرف أنها أرض إيمان؟

كان ذلك إخفاقاً للصورة في ترسيخ حدود المكان الأصلي، وإذعاناً لقوانين فرضها الاحتلال بالقوة. ومع هذا تحايلنا على الصمت في الفيلم عبر المونتاج الذي قام به المخرج قيس الزبيدي الذي رأى أننا سنصور إيمان في حزنها وحردها وغضبها المكبوت وهي تطل على أرضها من بعيد. وهكذا كان، فقد أخذنا اللقطات الخلفية التي تصور أرضها البعيدة – القريبة، وصورنا الصمت والاحتقان.

القرار نفسه كان لقيس الزبيدي في فيلم "زيتونات" حين التقط مدير التصور صوراً لي في القدس أمام قصر "الشهابي"، وهو الاسم الرسمي لبيت جدتي زليخة الشهابي، والذي أورثها إياه زوجها وقريبها يونس الشهابي، قبل أن تتزوج بعد وفاته من ابن عمها كمال بدر، جدي الذي كنت أطلق عليه اسم "سيدي".

كنّا قد حصلنا قبلها على صور "فوتاج" (footage) للمنزل المغلق قبل الهدم من شرائط صورها محمد بكري لفيلمه "1948"، حين أجرينا حواراً تحت ظلال أشجار صنوبراته عن تجريد عائلتنا من حقوق ملكية المكان، وهو حوار ظهر في الفيلم. وبعد فترة من عرض الفيلم هُدم المنزل بأكمله، وحُوّلت الأرض التي أقيم عليها إلى أرض تابعة لبلدية القدس الإسرائيلية باسم "حديقة توراتية".

بدوتُ في الصور الفوتوغرافية خلال ظهوري في فيلم "زيتونات" مغتاظة وحزينة أحمل بيدي غصناً أخضر تُفَتِّته أصابعي وأنا جالسة على رصيف من العشب الذي يزين المكان بعد أن هدموا البيت. لكن مسؤول المونتاج أصر على أن تكون الصور موجزة ومقتصدة كي لا تظهر أي مشاعر نرجسية لمخرجة الفيلم. لقد أراد صانع المونتاج الصورة / الفن وحدها، أو ربما مخلفات الصورة التي أظهر فيها خلال زيارتي لمكان تتراكم فيه الحجارة وتلال مخلفات البناء القديم بحثاً عن حقل الزيتون الذي تم القضاء عليه. أصر الصديق الزبيدي على الأمر، وهو ما ندمت عليه فيما بعد، فقد شعرت بأني لم أنل حقي الكامل في الظهور والكلام كي أعبّر عن قضيتي وأجعلها واضحة في عين المشاهد. كان التواضع غير مفيد حين نزلت على الشاشة كلمات متراكمة على صفحة واحدة لتشرح قصة بيت جدتي. هكذا بقيت الكلمات حبيسة في مكانها الأصلي من دون أن تصل إلى مشاركة كاملة مع المتلقي. 

المشهد الثاني: روائي 2002 ("زواج رنا")

عندما كتبت قصة وسيناريو فيلم "زواج رنا"، وددت أن يكون الموضوع الطاغي في قصة الحب هو مفعول الحدود وتأثيرها في حياتنا العاطفية. فأنا التي وُلدت في القدس مُنعت من السكن فيها، وصرت مقيدة بالحصول على تصريح لزيارتها بعد عودتي إلى فلسطين بعد غياب 27 عاماً، مع أنها مسقط رأسي ومقر عائلتي.

كيف ستظهر في الفيلم صورة الحب في المدينة المقدسة التي كانت مسالمة وكوزموبولوتية طوال التاريخ، في الوقت الذي تحاول إسرائيل فرض الهوية اليهودية عليها بعنف واضح أو خفي؟ وكيف ستكون؟

لقطات كثيرة كنت سأُدخلها إلى السيناريو: الكاميرات الكثيرة المثبتة في البلدة القديمة والتي تلاحق أهلها الفلسطينيين في سكناتهم وحركاتهم؛ بيوت الأطفال الشهداء وسط الأزقة وهي تحمل صور ملصقاتهم (بوستراتهم) المحملة بالبراءة والطفولة المشرقة التي ذوت مرة وإلى الأبد؛ الجنود الذين يحتلون السور فوقه وتحته، ويراقبون ثغراته كلها؛ الوجود الكثيف للكنائس والمساجد في المدينة المتعددة في اندماجها مع الحجر والبشر.

فتشتُ عن حدود المدينة من خلال رنا المهددة بفراقها عبر سفر لا تريده ويفرضه عليها خيار أبوي ظالم. إنها تبحث عن المكان وساكنيه، وتتمرد، وتبقى فيه تماماً مثل العائلة التي تبقى في بيتها، على الرغم من احتلال المستوطنين الطبقة العليا فيه وتعذيبهم المتواصل لأصحابه. إنها تحقق قربها من المكان - الحبيب حين تعقد عرسها على الحاجز، في ذلك المكان الذي يمكن للجميع الالتقاء في نطاقه. صُنع الحاجز من أجل القمع الاستعماري والتعاسة والويلات، لكن الفلسطينيين يجيدون فن الحياة، ويعقدون عرساً على الرغم من الموت والدمار وتهديدات المستعمرين وأوامر منعهم، ويرقصون الدبكة، ويزغردون. 

المشهد الثالث: وثائقي 2006 ("مفتوح: مُغلق")

 

بروشور (brochure) فيلم "مفتوح: مغلق"

 

أذهب مع المصور جوزيف، في سنة 2006، إلى قرية الجانية لنُصوّر ما يحدث قرب بوابات الجدار الإسرائيلي في فيلم "مفتوح: مغلق!". الوضع متأزم، ولا يمكنني اصطحاب أي مساعدين، فنحن جميعاً لا نمتلك التصاريح التي تسمح لنا بالتصوير، مع أن الجدار يقبع على أراضٍ فلسطينية مسروقة ومصادرة حديثاً. علينا، المصور وأنا، أن نكون وحدنا كلما تسللنا إلى الجدار، وها نحن نصور الختيار أبو علي في بيته وهو يروي، بحرقة عمره كيف صادروا أرضه الواسعة التي تحوي نبعاً يصب في بركة شُيّدت منذ عهد الرومان. تبكي زوجته المسنة ذات العينين الزرقاوين وهي تخبرني عن شجرات الليمون التي ذبلت وذوت، لأنهم ممنوعون من زيارة أرضهم وسقايتها إلّا عبر الحصول على تصريح رسمي في أوقات لا يمكن التكهن متى ستتاح لهم.

 

مع مدير التصوير جوزيف في بلعين

 

كان علينا أن نصوّر مدخل المستعمرة التي أُنشئت مؤخراً تحت اسم "تَلمون"، والتي تمنع أهل البلدة من الدخول إلى أراضيهم، حتى يحين موسم قطاف الزيتون مرة في العام، فيُسمح لهم بالدخول يوماً أو يومين بإذن غير مضمون، قد يصدر أو لا يصدر وفق مزاج أولي الأمر في أمن المستعمرة.

الشارع الذي يصل بين البلدة والمستعمرة، وهو تابع لقرية الجانية، كان شارعاً ممنوعاً التجوال فيه، بينما كنت والمصور مجبَرَين على دخوله لالتقاط صورة لبوابة المستعمرة لتوضيح المشهد، هذا إن لم نتمكن من تصويرها كاملة، ولذا تمشينا هناك كأننا زوار من الفضاء لا ندري شيئاً عمّا يحدث حولنا. كنت أتشاغل بالنظر إلى زهرات بريّة نبتت بين الصخور على جانب الطريق كلما مرت سيارة مسرعة وبعيدة متجهة إلى مدخل المستعمرة، كي أُقنع مَن يراقبنا بمناظير مقربة - إن كان هناك مَن يقوم بهذا العمل - بأن وضعنا طبيعي واعتيادي في مكان محظور وغير اعتيادي.

غير أن الكاميرا الضخمة الموجودة على كتف المصور الشاب كانت وثيقة إدانة دامغة لوجودنا هناك.

 

تصوير في بلعين

 

نساء في بلعين

 

استغرق الأمر منا نحو ساعتين ونحن نتدارى، ثم نُطل من طرف الشارع الممنوع في اتجاه المستعمرة، وبعد ذلك نركض عائدين إلى الخلف كلما عبرت سيارة مستوطنين أو سيارة أمن عائدة إليهم، إلى أن استطعنا التقاط صورة لمدخل المستعمرة من بعيد.

عندما انتصرنا وأخذنا لقطتين للبوابة تركنا البلدة وعدنا عبر الطريق الجبلي، لكن سيارة عسكرية ما لبثت أن لحقتنا وأوقفتنا. ربما أحد ما، أو سيارة مستوطنين لاحظتنا وقدمت إخباراً بنا. أوقفتنا الدورية، واندفع نحونا جندي من بين المجموعة وهو يوجه إلينا بندقيته الآلية في وضع الاستعداد. لحسن الحظ، كنا قبالتهم على حافة الرصيف والشارع يفصل بيننا، الأمر الذي أتاح لنا بعض الثواني كي نفكر في كيفية التصرف. سألَنا الجندي ماذا نفعل هنا، وكان مصوري الشاب هادئاً، وأنا كنت في مزاج اللجوء إلى الطبيعة، فأجبته بارتخاء وراحة وأنا أؤشر في اتجاه غابات الزيتون التي تمتد على الجبل: نصوّر فيلماً عن الطبيعة والشجر والزيتون.

 

منطقة محظورة

 

كان المصور مبتسماً وفي غاية الهدوء وميدالية كبيرة تتدلى على الـ "تي شيرت" الأسود الذي يلبسه مع علامة "القناة 2"، وربما هذا ما أقنع الجندي، فظن أننا نشتغل لقناة أجنبية واستجاب لما قلناه، وانصرف مع سيارته ومجموعته من دون أن يأخذنا إلى الاعتقال أو الاستجواب.

هذه الحادثة مرت على خير، لكن الحدود كانت خطرة في أثناء تصوير مشاهد أُخرى في "مفتوح: مغلق!".

فعلى بوابة الجدار في جَيّوس، وقفنا مع السيدة التي خرجت من بيتها الذي يقع داخل محيط الجدار منذ السابعة صباحاً، لأن البوابة تُفتح ثلاث مرات يومياً لحاملي التصاريح، ومنهم سكان ذلك البيت: السابعة صباحاً؛ الواحدة ظهراً؛ ثم السادسة مساء. وفي كل مرة يتعين على مَن يمر أن يختار الدخول أو الخروج.

كانت السيدة تحدثنا عن مأساة العيش من دون كهرباء وماء لأن أساسات حفر الجدار قطعت إمداداتهم من شبكة البلدة، بينما يزمجر قربنا، وبضجيج مجنون، محرك سيارة "همر" عسكرية تحمل جنوداً مدججين، وتدور حولنا على طول الجدار. هم من الداخل، ونحن واقفون في الخارج. كل واحد منا مسوَّر بالأسلاك المكهربة و"الزاعقات" والنوابض الإلكترونية التي تكوّن هذا الجدار الملعون. هكذا أزعجونا بأصواتهم ومايكروفاناتهم والتشفيط السريع بإطارات سيارتهم الكفيلة بتدمير أي محاولة للتسجيل أو التصوير، لكننا واصلنا العمل، ولم نهتم. وبعدما نالهم اليأس من تدمير ما نقوم به، علّقت المرأة الفلسطينية المتحدثة قائلة: سينالني العقاب بعد ذلك، لأنهم ينزعجون من كلامي مع الصحافيين.

بغتة، فتح أربعة من الجنود أبواب الجدران الثلاثة المكهربة بالتتالي، وقدموا في اتجاهنا. كنت قد أوصيت السائق ومساعد التصوير والمصور بالابتعاد في حال تقدّم أي من الجنود نحونا. سمعت صوت الجنود عالياً وهم ينادون: الفيلم، أعطونا الفيلم.

أدرت ظهري لهم، ونظرت صوب المصور وأنا أصرخ بأعلى صوتي عدة مرات، بينما كان هو واقفاً خلفي مصدوماً ومشدوهاً ومتجمداً بفعل عدم توقّع ذلك: اهرب، اهرب.

عندما استوعب الموضوع وانسحب راكضاً مع الكاميرا والفيلم، صوّبوا السلاح في اتجاهي، وهرولوا نحوي في وضعية قتالية بدت منذرة، إلى حد أن جسدي استجاب للموقف برعب شديد لم أعرفه سابقاً في حياتي. عجزت عن الكلام، ولثوانٍ طويلة بدا أن الشيء الوحيد الذي أستطيع فعله هو الإصغاء لصوت طبول آتية من قلبي وهي تنبض بإيقاع مخيف. لم أستطع نطق كلمة واحدة، ولم أفهم ماذا يجري في داخلي ويصيبني بالبكم، لأنني لم أتوقع أن مجموعة جنود كاملة تتكون من أربعة أجساد تتحول إلى كتلة واحدة تريد أن تصبّ نيرانها عليّ، بينما كانت الحربتان المركّبتان على بندقيتين، مصوبتين في اتجاهي وتتحركان مقتربتين مني بنِيّة مجرمة واضحة، وأيدي الجنديين على الزناد. كانت حوادث إطلاق النار شائعة على كل مَن يخرق المسافة المقدسة لهذا الجدار التعسفي، أكان طفلاً نسي نفسه في اللعب، أم مراهقاً فضولياً، أم أي مدني آخر. كانوا ببساطة قد أعلنوا الجدار منطقة عسكرية لا يستطيع أحد الاقتراب منها، وأي شيطان منهم يستطيع أن يُطلق ما يريده من رصاص، بل أن يتصرف مثلما يودّ للقضاء على أي إنسان فلسطيني يقترب من هذه الأسلاك، بحجة تعرّضهم لمحاولة قتل من جانبنا.

بدأت أخاطب نفسي بأني لا أمتلك غير ثوانٍ قليلة لحل هذه المسألة قبل انطلاق رشاشاتهم، وهكذا رفعت يدَيّ إلى الجنبين فصار جسمي في وضعية الصليب، ومع حركة يدَيّ تحرك لساني أخيراً وأنا أصرخ بحزم وقوة: "توقف.. توقف، هذه أرض فلسطينية" (stop.. stop, this is a palestinian land).

كانت حركة رفع يدَيّ إلى الأعلى في وضع أُفقي، والتي لم يتوقعها هؤلاء المندفعون إلى الجريمة، قد عكست الحدود بيننا، كما أن صراخي عكس موضوع مركز القوى. كنت أمنعهم من التقدم، وأصرخ بأنني صاحبة المكان، وأنهم تركوا المكان المسوَّر الذي سطوا عليه وخرجوا منه، وبالتالي فهم على أرض لا تخصهم، لأنها لم تخضع لسطوهم الرسمي بعد. فوجئوا بما حدث لأنهم يعتقدون ويتصرفون على أن الأرض كلها لهم، غير أن صرختي كانت محملة بدفق من قوة التهديد والأمر بالانسحاب، الأمر الذي جعلهم يتجمدون في مكانهم حائرين من خطوتي الغريبة. توقفهم في مكانهم أفقدهم سر تفوقهم وهجومهم على الدائرة الوهمية التي تُحيطني، فصرخت بهم من جديد بأنهم يتحملون مسؤولية الخروج إلى أرض ليست لهم. نظروا إلى بعضهم وتشاوروا بهمس، ثم نكّسوا أسلحتهم، وأداروا ظهورهم، ورجعوا إلى خلف الأسلاك كي يغلقوا مفاتيح البوابات بصليل معدني مجلجل. وهكذا كانت حركة رفع اليدين التي أطلقت لساني المتيبس وحركت جسدي، هي التي صنعت حقلاً لحماية الذات عبر تخطيط الفضاء المحيط بحدود تحميني.

 المشهد الرابع أو الخامس أو..: وثائقي 2002 ("الطير الأخضر")

أحياناً يرسم تصرف الطرف المعادي الحدود بطريقة تناقض ما ترسمه أنت وما تفكر فيه.

ففي أثناء الاجتياح الإسرائيلي لرام الله والبيرة كنت أُصور فيلماً خلال الانتفاضة الثانية عن أحلام الأولاد والبنات في حارتنا وآمالهم وأُغنياتهم. لم تكن آلاف حوادث القتل للمدنيين قد سُجلت بعد، ولهذا لم أكن أخشى أن أحمل كاميرا الفيديو، وأن أقف وحيدة لأُصور صفاً طويلاً من رتل الدبابات المغلقة الفوهات، وقد امتلأت عن بكرة أبيها بالجنود عندما وقفَتْ في شارع الإرسال الذي يرسم حدود المقاطعة حيث كان عرفات محتجزاً. ربما تصرفت بوحي من محترفي التصوير الذين يعتقدون أن قذائف الحرب لن تؤثر في أشجارهم التي يصورونها وسط الطبيعة، لأن الحدود المستحيلة تتحول آنذاك إلى حاجز يمكن إذابته إذا ما تذرعنا ببعض الشجاعة المطلوبة. لكني أدين الآن نفسي كلما تذكرت وقوفي وحدي أمام رتل من الدبابات العدوة، فالشجاعة لا تصنع شيئاً أمام الإجرام المقصود الذي يستهدف شعباً معذباً بالاحتلال.

في الفيلم ذاته ركضتُ أمام الآليات في اتجاهات متعددة، كي أصل إلى أطفال أُتابعهم في التصوير، مخفية الخوف وراء إهاب سميك من الشجاعة الضرورية للاستمرار. وهنا أتذكر صديقاً سألني يوماً: هل تستحق الصور أن نعرّض أنفسنا لعنف نستطيع الاستغناء عنه لو نسيناها؟

كان إغراء الصورة قوياً يكسر حاجز الخوف حين أتحرك إلى حي انسحب منه الغزاة قبل دقائق، كي أصور وأعاين الأطفال المشاركين هناك داخل الحدث الساخن. وحتى حين أنذر شارون في سنة 2001 الفلسطينيين بأنه سيقصف 75 منشأة وشارعاً في رام الله، اكتفيت بأن أوقفت التصوير، وأعدت الأطفال إلى بيوتهم، غير عارفة أنني عندما سأذهب مع بعض هؤلاء الأطفال إلى مهرجان القاهرة لسينما الأطفال، سنخوض في طرق وعرة بين الجبال والهضاب والحفر، لأن إسرائيل أغلقت رام الله، ومنعت الخروج منها.

وهذا يعني أنك تجد في السينما آلة لكسر حدود القمع التي يفرضها المستعمر، وأن تغامر بما يمكنك كي تنقل إلى الآخرين لحظة من شجاعة الروح.

ومشهد آخر.. وآخر... 

وثائقي 2003 ("حصار: مذكرات كاتبة")

 

إعلان عن فيلم "حصار" في الناصرة

 

كيف يمكن للحدود أن تخرج إليك على غفلة منك، وتجعل من مساحة بيتك ذاتها أو غرفتك احتلالاً لا مثيل لهمجيته، حين يأتي جنود ليجعلوا العالم من حولك ساحة حرب؟

لقد احتل الجنود رام الله ثمانية أشهر، وأغلقوا علينا مفاتيح الدور تماماً، واحتفظوا بالأقفال التي لا تُفتح إلّا خلال رفع حظر التجول كل أربعة أيام لساعات قليلة. لم يكن سهلاً البحث عن الخبز والطعام في مدينة تجول فيها الدبابات بأعداد هائلة تفوق عدد سيارات سكانها التي يتم دهسها بين أشداقها بين حين وآخر.

في حالة مثل هذه ربما كان الفيلم الوثائقي هو الواسطة الوحيدة لعدم الإصابة بالجنون. أخذتُ الكاميرا، وصوّرت: الغرف المغلقة؛ النوافذ التي تتكسر وتهتز بفعل القصف؛ المجنزرات والآليات العسكرية وهي تحتل الشوارع وتهشّم السيارات؛ عيد ميلاد صغيراً أقمناه في حديقة الجيران ليلاً؛ ألعاب الأطفال وطياراتهم الورقية؛ البيوت الآيلة إلى السقوط بعد قصف عنيف؛ وزارة الثقافة التي احتُلت أكثر من عشر مرات خلال الحصار، وفي كل مرة كان بَوْل الجنود وفضلاتهم يتكاثران فيها، مخلّفين وراءهم زجاجات بيبسي، أو قِطعاً محطمة لأعمال خزفية فنية صنعها فنانون فلسطينيون كانوا مضطرين إلى الجلاء عن المبنى مرة تلو أُخرى.

 

"حصار" في زمن الاجتياح

 

لقد تحولت الكاميرا آنذاك إلى راصد للتغلب على ضيق المسافات، وإلى هراوة لكسر قيود السجن. وعلى الرغم من المخاطر، فإنني صوّرت دبابة تعطلت قرب باب البيت، لأن للحرية باباً واحداً هو أن نسجل ما يحدث وما يُرى على شاشة يمكنها تحطيم وهم القوة والاستقواء الأعمى على بني الإنسان.

ملاحظة: بكاميرا منزلية قمت وحدي بتصوير فيلم "حصار: مذكرات كاتبة"، على مدار عام كامل.

Author biography: 

ليانة بدر: روائية ومخرجة سينمائية وصانعة أفلام وثائقية.