الجسد لغة
يمكن النظر إلى اللغة من منظور (بارت 2000) بصفتها جسداً وهيكلاً من الأصوات الدالة التي ينهض عليها المعنى وتأويلاته وخطاباته.
إذا عكسنا "المفهوم البارتي" للغة، يصير حينها الجسد لغة، لكنها لغة ما بعد صوتية. وهذا التحول ينقل مركزية اللغة من الصوت إلى الحركة، لأن لغة الجسد تتأسس وتنهض على الحركات والإيماءات، إذا كنّا إزاء جسد ناطق وقادر على سرد حكايته.
كثيراً ما كانت جغرافيا الجسد في مختلف الثقافات موضعاً للخطابات وموضوعاً لها في آنٍ واحد، فهو أداة للعرض والفُرْجة والسرد الإيمائي مثلما هي الحال في الخطاب الإشهاري وفنون الأداء كالرقص والتشكيل. وفضلاً عن كونه مرآة للنشاط الفكري، فإن النشاط الجسدي يمتاز بالسهولة في التجلي خلافاً للنشاطات العقلية الغائرة خلف قشرة الدماغ، والتي لا تتجلى للمتلقي إلّا من خلال تبادل الأفكار. ويمتاز النشاط الجسدي بالبلاغة أيضاً، فالجسد قادر على التبليغ بلغة مكثفة واقتصادية تنهض على الإيماء والإيحاء.
في الثقافات الإنسانية كلها تقريباً يُغطى الجسد ويُكشف الرأس، لأن أفكار الرأس محتجبة لا يستطيع أحد كشفها ما لم يُعبّر عنها، أمّا الجسد فيُغطى، لأن عري الجسد هو لغة بحدّ ذاته، بصرف النظر عن دلالات هذه اللغة وإيحاءاتها، بل إن موضة التعري في الفضاءات العامة باتت في العصر الحديث وسيلة احتجاج جسدية للعديد من الحركات النسوية. ففي خطوة متقدمة يغدو الجسد مدوّنة، إذ يلجأ بعض الناشطات إلى كتابة الشعارات الاحتجاجية على أجساده العارية. إن التصور السابق لمفهوم العري كسياق لغوي لا يعني أن الجسد الكاسي صامت لا يقول شيئاً، ذلك بأن نوعية اللباس وتصميمه وسياق توظيفه في الفضاء السوسيولوجي، أمور تنطوي على خطابات من نوع ما، لكننا نرى أن تعرية الجسد يحوّل الخطاب من طابع التبليغ إلى طابع الاحتجاج.
لقد لجأ الإنسان إلى طقوس الرقص تعبيراً عن الفرح والامتنان للآلهة في مواسم الخصب أو في لحظات النصر، وحتى الآن يُعتبر الرقص نشاطاً جسدياً محايثاً لنشوة [متلازماً مع نشوة] الفرح والنصر، كما هي الحال عند الفوز في الانتخابات ومباريات كرة القدم على سبيل المثال. وفي بعض الأحيان، وهذا يعتمد على طبيعة السياق الاجتماعي – الثقافي، يتجاوز النشاط الجسدي البهجة كأسلوب في التعبير إلى التعذيب الذاتي كأسلوب في الاحتجاج. وقد يكون التعذيب إيذاء موقتاً مثلما يحدث في طقوس التعذيب عند الشيعة لإظهار الندم على ما يعتبرونه تقاعساً تاريخياً إزاء مذبحة آل البيت، وربما يكون متطرفاً كما هي الحال في الانتحار الفردي والجماعي.
من ضمن حالات الإيذاء الموقت للجسد تتموضع فكرة التجويع الذاتي كنشاط سياسي، وهذه الفكرة هي موضوع هذه المقالة.
لقد تعددت غايات التجويع الاختياري على مَرّ العصور: أولها وأقدمها الوظيفة الدينية، كالصيام في الديانات الإبراهيمية؛ ثانيها تخليد الجسد، مثل التحنيط الذاتي لدى الفراعنة قديماً والبوذيين حاضراً، من خلال الصوم المتقطع والتقشف في الطعام والشراب وتناول أنواع خفيفة من السموم لقتل بكتيريا التحلل في الأمعاء، لإماتة الجسد من دون أن يتحلل، وبالتالي يبقى مخلداً ومهيّأ لتلقّي الروح في العالم الآخر (Dahl 2020)؛ ثالثها الوظيفة السياسية للتجويع الذاتي مثلما هي الحال في الإضراب عن الطعام في السجون كأداة للمطالبة والتغيير.
الجسد في التوظيف الديني للصيام، قربانٌ يتذلل فيه المؤمن تزلفاً للإله تكفيراً عن خطيئته الأولى التي هي أساساً، خطيئة جسدية، فتجويع الجسد هنا هو قنطرة عبور لـ "أبناء الخطيئة" نحو الخلود الأبدي في الجنة بصفتها موطن الأب الأول للبشرية. وهذا الهدف هو ذاته الذي ينشده الرهبان البوذيون في رحلة الخلاص، لكنهم يخلّدون الجسد في الدنيا باعتباره وعاء للروح. وفي الحالتين السابقتين، المؤمن إنسان مطرود من ملحمة أسطورية، فهو خانع وذليل ونادم، ولا يطيق جسده ولا عالمه الأرضي؛ قلبه معلق في السماء، وثمة توق أبدي إلى الروح نحو العالم الآخر، لكن الجسد عبء في طريق الخلاص، فلا بأس من أن يذوي في سبيل نجاة الروح من بؤس هذا العالم الأرضي.
أمّا الجسد في التوظيف السياسي للإضراب عن الطعام فسلاح ثوري وأداة لتغيير واقع أسير يتوق إلى حريته في "عالم تخلت عنه الآلهة" على حد تعبير لوكاتش (لوكاتش 1987). والسجن من منظور درامي هو فضاء ملحمي / روائي تتشكل في أقبية زنزاناته صراع إرادات أبطاله القاهرين والمقهورين، ونتائج هذا الصراع تتحدد في ضوء ممكنات القوة والضعف والرهانات التي يتكىء عليها كل من القاهر والمقهور. فلا حيّز هنا لمفهوم الخلاص الصوفي مثلما تطرحه الميثولوجيا، ولا ثمة رهان على أخلاق القاهر، وإنما الكلمة الأكثر ملاءمة هي الانتزاع؛ انتزاع الحرية من بين فكّي الوحش. وهذا الانتزاع هو فعل درامي لبطل لوكاتش الذي يوظف إمكاناته وطاقته الكامنة في هذا الجسد.
الحرية أو الموت
الإضراب عن الطعام هو الامتناع الاختياري لفرد أو جماعة من تناول الطعام والشراب - ما عدا الماء - كأسلوب في الاحتجاج ضد سلطة ما، مدفوعين بأهداف من قبيل: الاحتجاج على ظروف الاعتقال، أو تحقيق تغيير سياسي، أو حتى لفت الأنظار إلى قضية ما.
ويتصف هذا النوع من الإضرابات في كونه احتجاجاً جسدياً لا يمتلك السجين بديلاً منه، فهو أسير أعزل. وبحسب جين شارب (Sharp 1973)، فإن هذا النوع من الاحتجاج يصنَّف ضمن 198 وسيلة أُخرى كاستراتيجيا مقاومة سلمية، مع أنه في جوهره أداة عنيفة، لكن عنفها موجه إلى تدمير الذات وليس الآخر، وذلك بهدف إخضاع الآخر لمطلب المُضرب عن الطعام.
إذاً، المعركة هي على جغرافيا الجسد الذي هو هنا محل صراع بين مَن يحتجزه وهو السجان، ومَن يقرر مصيره وهو السجين، وبناء عليه، فإن التجويع الذاتي رحلة خطرة محفوفة باحتمالَين: الموت أو الحرية. فنقيض الموت في عقيدة المُضرب هي الحرية، وليس العبودية التي تعني الحياة بأي ثمن، مثلما جاء في شعار إيميلين بانكهورست "الحرية أو الموت" (Freedom or death)، (Pankhurst 2007)، والذي صار لاحقاً عنواناً لأهم روايات كازانتزاكيس.
إلى ذلك، يُعتبر الإضراب فعلاً تعبيرياً. فالجسد المُجوَّع صامت وساكن، لكنه تعبير "ما بعد صوتي"، يقول الجسد عبره كلمته بلا صوت ولا ضجيج إلّا ضجيج المعنى الكامن في الضمور المتدرج للجسد. والجسد هنا وسيط اتصال ورسالة في آنٍ واحد، طرفاهما غالباً المسجون والسجان. نقول غالباً لأن معظم الإضرابات عن الطعام يتأسس ويتطور في السجون، مع أن العديد من الإضرابات في العصر الحديث حدث في الفضاءات العامة كالشوارع والساحات المدينية مثلما هي الحال في الإضراب الشهير الذي نفذه الطلاب الصينيون في سنة 1989 في ساحة "تيانانمن" في العاصمة الصينية بكين، وكذا إضراب الشباب التونسيين في أثناء الثورة التونسية بين سنتَي 2010 و2012، في خيام الاعتصام في القصبة وشارع بورقيبة (حاجبي 2012).
إذاً، يمكن مقاربة مفهوم الإضراب عن الطعام بصفته معركة بين طرفين: أحدهما مضطهَد هو الأسير، والآخر مضطهِد وهو السجان، وعنوانها الحرية: فالأول ينشد حريته والثاني يرفضها، ولكل منهما مصادر قوته وضعفه ورهاناته. الأسير لا يمتلك جسده، لكنه يمتلك وعيه وإرادته التي تحسم المصير النهائي لهذا الجسد الذي هو هنا فضاء للمعركة وسلاح ثوري في آنٍ يُشهره المُضرب في وجه السجّان. أمّا فيما يتعلق بالرهانات، فإن البعض يعتقد أن في الإضراب مراهنة على أخلاق المضطهِد واستنهاضاً لضميره الإنساني، وفي الواقع، فإن الرهان يتكىء على القوة الأخلاقية للإضراب في تعرية مَن يدّعون الأخلاق ولا يمتلكونها. فالاعتقال الاحترازي أصلاً يتناقض جوهرياً مع فكرة الأخلاق والضمير.
الإضراب في السياق العالمي
تُعتبر إسرائيل أحد الكيانات الاستعمارية الحديثة التي انبثقت من سجونها أكثر حالات الإضراب عن الطعام قسوة، لكن الأدبيات والأبحاث في هذا الحقل غالباً ما تتجنب الإشارة إلى الإضرابات التي نفّذها وينفذها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية منذ أكثر من نصف قرن، لتجنّب الوقوع في إشكالية معاداة السامية كتهمة جاهزة تطارد الباحثين والأكاديميين حين تكون إسرائيل وقضاياها موضعاً للدراسة والبحث. وباستثناء تقارير منظمة "بيتسيلم" (B'Tselem)، فإن معظم الكتابات التي تناولت تجارب الإضراب عن الطعام في مواجهة سلطات السجون الإسرائيلية، كُتب بأقلام فلسطينية عانت الحصار ومحدودية الانتشار على الصعيد العالمي، وذلك لأسباب عديدة ليس محلها هنا، وهذا خلافاً للدراسات التي تناولت الإضرابات عن الطعام في عدة دول، وهي أكثر من أن تحصى.
غالباً ما يتم تأطير التجارب العالمية ضمن ست تجارب كبرى هي على التوالي:
- تجربة المدافعين عن حقّ المرأة في الاقتراع في بريطانيا وأميركا في أوائل القرن العشرين؛
- المهاتما غاندي والتجربة الهندية "الساتياغراها" (Satyagraha) في الثلاثينيات؛
- الجمهوريون الإيرلنديون في مطلع الثمانينيات؛
- مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي في الستينيات؛
- حزب العمال الكردستاني في الثمانينيات؛
- سجناء غوانتانامو في التسعينيات.
ويبدو أن الروس هم أول مَن قدموا تجربة لافتة وتأسيسية في حقل الإضراب عن الطعام كنشاط سياسي، وفي هذا السياق يروي غرانت (Grant 2011)، أنه في ربيع سنة 1878 بدأ ثوار روس في سجن "قلعة بطرس وبولس" في سانت بطرسبرغ إضراباً عن الطعام احتجاجاً على الظروف الوحشية في سجون النظام القيصري. وبعد ثلاثة أيام من بدء الإضراب وصلت الأنباء إلى أهالي الأسرى، فناشدوا مدير الشرطة العسكرية الجنرال ميزينتسيف (Nikolai Mezentsov) لإغاثتهم، لكنه مدفوعاً بأنفة عسكرية وغرور أصحاب الرتب العالية، رفض مناشداتهم قائلاً: "دعوهم يموتوا، لقد أوصيتُ لهم بتوابيت"، فشعر ضابط المدفعية المتقاعد سيرجيو كرافشينسكي (Sergey Kravchinsky) المتعاطف مع الحركة الثورية بالإهانة من الرد، وترصد للجنرال ميزينتسيف وقتله طعناً بخنجر مسموم في أحد شوارع بطرسبورغ.
في الحقبة نفسها تقريباً، أعلنت سجينات روسيات في سجن كارا (Kara) القيصري شرقي سيبيريا، سلسلة إضرابات عن الطعام بلغت ذروتها بعد جلد السجينة ناديجدا كونستانتينوفنا (Nadezhda Konstantinovna) حتى الموت بحجة عدم إظهار الاحترام لضابط عسكري زار السجن. وعندما تناهى خبر وفاتها لرفاقها ورفيقاتها الأسرى، أنهوا إضرابهم بشربهم السم في عملية انتحار جماعي، احتجاجاً على موت رفيقتهم، فمات بعض منهم فيما عُرف آنذاك بـ: "مأساة كارا".
كذلك سجلت بريطانيا ومستعمراتها أكثر حالات الإضراب عن الطعام في العصر الحديث. ففي سنة 1909 أعلنت الفنانة والكاتبة ماريون والاس دونلوب (Marion Wallace Dunlop)، وهي سليلة الثائر الإسكتلندي ويليام والاس، الإضراب عن الطعام في السجون البريطانية تحت شعار المطالبة بحق النساء في الاقتراع (Lennon 2007). أمّا جارتها القريبة إيرلندا التي خاضت أكثر حروب الانفصال عن بريطانيا العظمى عناداً، فبدأ ثوار جيشها الجمهوري سلسلة إضرابات متتالية بدأت في سنة 1923 وانتهت في سنة 1981 في الإضراب الشهير في سجن ميز (Maze) السيىء الصيت في مدينة بلفاست، وهو الإضراب الذي قاده بوبي ساندز (Bobby Sands) الذي انتُخب من سجنه عضواً في البرلمان الإيرلندي. وتوفي ساندز في هذا الإضراب بعد 66 يوماً، ورفيقه كيران دوهيرتي (Kieran Doherty) بعد 73 يوماً، فضلاً عن 8 آخرين من شهداء الجوع (Yuill 2007).
بعيداً عن أوروبا، وهذه المرة في الهند إحدى أهم وأكبر مستعمرات بريطانيا التي خاضت حربها التحريرية، أعلن المهاتما غاندي ورفيق دربه الاشتراكي الثوري بهجت سينج (Bhagat Singh) في 16 أيلول / سبتمبر 1932 الإضراب عن الطعام حتى الموت في سجن يروادا (Yerwada) احتجاجاً على قرار الحكومة البريطانية تكريس التمييز الطبقي والطائفي في الانتخابات وتهميش المنبوذين. وقد جرب غاندي الإضراب عن الطعام في مشواره السياسي 17 مرة، واستمر أطول إضراباته 21 يوماً. وتحرر غاندي من سجنه مع آلاف من أفراد جماعة "الساتياغراها". أمّا بهجت سينج المعروف بعنفه الثوري فاستمر إضرابه 64 يوماً، وفي نهاية المطاف حُكم عليه بالإعدام شنقاً باعتباره مجرماً، فقدم التماساً طالب فيه بأن يعامل كأسير حرب وأن يُعدَم بالرصاص بدلاً من الشنق. وفي هذه الأثناء قامت منظمات هندية بتقديم التماس إلى الحاكم البريطاني بالعفو عن سينج، لكن سينج رفض توقيعه، وفي نهاية المطاف أُعدم شنقاً (Shah 2022).
أمّا الزعيم الأفريقي نلسون مانديلا، فخاض في سنة 1966 إضراباً عن الطعام مع رفاقه في المؤتمر الوطني الأفريقي، في سجن روبين أيلاند (Robben Island) قبالة مدينة كيب تاون، للمطالبة بتحسين ظروف العيش في هذا السجن الأكثر وحشية في جنوب أفريقيا (Shah 2022, p. 158).
على الطرف الآخر من العالم، شهدت كوبا الشيوعية، في 3 نيسان / أبريل 1972 إضراب الشاعر والمعارض بيدرو لويس بواتيل (Pedro Luis Boitel) عن الطعام احتجاجاً على سياسات الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وبعد 53 يوماً من الإضراب وتلقّيه السوائل فقط، توفي في 25 أيار / مايو 1972 (Cuba Archive 2020)، ودُفن في قبر من دون شاهد في مقبرة مهملة في هافانا. وقد روى صديقه المقرب الشاعر أرماندو فالاداريس (Armando Valladares) عن أيام بيدرو الأخيرة عبر مجموعة من القصائد الرثائية.
الإضراب الفلسطيني
في أواخر ستينيات القرن الماضي اتخذت التجربة الفلسطينية منحى خاصاً وفريداً في منهجية الإضراب عن الطعام في السجون الإسرائيلية، مكتسبة اسماً خاصاً بها في السياق الفلسطيني بصفتها "معركة الأمعاء الخاوية"، واستشهد على هذا الدرب العديد من الفلسطينيين بدءاً بالأسير عبد القادر أبو الفحم في 11 / 7 / 1970، خلال إضراب سجن عسقلان، مروراً بالشهيدين راسم حلاوة وعلي الجعفري في 24 / 7 / 1980 خلال إضراب سجن نفحة، وصولاً إلى استشهاد الأسير محمود فريتخ في سنة 1984 في إثر إضراب سجن جنيد، واستشهاد حسين نمر عبيدات في 14 / 10 / 1992 خلال إضراب سجن عسقلان.
وقد استلهمت التجربة الفلسطينية استراتيجياتها من حركات التحرر السابقة والمعاصرة لها، كما أنها ألهمت الأجيال اللاحقة وامتد تأثيرها إلى حركات التحرر العالمية، كأسرى الجيش الجمهوري الإيرلندي، وأسرى النظام العسكري التركي في ثمانينيات القرن الماضي.
وقدم الأسرى الفلسطينيون في صراعهم الطويل مع سجانيهم الإسرائيليين تجربة عظيمة في مجال توظيف الإضراب عن الطعام كاستراتيجيا لتحقيق أهداف سياسية أو إنسانية أو خدماتية. ومنحت عدة عوامل التجربة الفلسطينية فرادتها كتجربة عريقة اكتسبت خبرة وتميزت بالاستمرارية، إذ منذ ابتداء الإضراب عن الطعام في كل من سجن الرملة وسجن كفار يونا في إسرائيل بتاريخ 18 / 2 / 1969 حتى الآن، ها هي الإضرابات تتوالى من حين إلى آخر.
تجلى العامل الأول بتبنّي الأسرى الفلسطينيين الاستراتيجيا الأقسى في الإضراب، بالامتناع التام من تناول الطعام والشراب والمدعمات الغذائية باستثناء الماء، وهذا الشكل المتطرف في قسوته استُخدم أول مرة في سجنَي الرملة وكفار يونا، واستمر 11 يوماً، للمطالبة بتحسين كمية الطعام وزيادتها، وإدخال القرطاسية، وإلغاء تعبير "حاضر سيدي" من قاموس السجن، والسماح بالتجمع لأكثر من أسيرَين في الساحة، وزيادة وقت الفورة / الاستراحة خارج الزنزانات. وقد انتهى هذا الإضراب بقمع الأسرى وعزلهم وتعريضهم للإهانة. ومنذ مطلع سنة 1969 حتى اللحظة، لم تتوقف الإضرابات عن الطعام في السجون الإسرائيلية (مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – "وفا").
ويمكن القول إن الإضرابات التأسيسية في القرن الفائت حسّنت، وبأثر تراكمي، ظروف الأسر ونمط الحياة ونوعية الخدمات، إلى درجة أن الأسير السابق محمد شاكر طميزي، وهو أحد الأسرى الطلائعيين ممّن سُجنوا في السبعينيات وأعيد اعتقاله حديثاً، وصف السجن بكلمات رمزية معبّرة عمّا أنجزه الأسرى الفلسطينيون عبر إضراباتهم المتتالية: "سجون اليوم هي فنادق بالنسبة إلى سلخانات السبعينيات."[1]
ويتمثل العامل الثاني في تنوع الإضراب ما بين الجمعي والفردي والفصائلي، وقابليته للتطور في ضوء التطورات التي لحقت بالحركة الأسيرة. فالإضرابات منذ السبعينيات حتى العقد الأول من الألفية الثالثة كانت إضرابات جمعية ينفذها الأسرى كلهم في جميع السجون بغضّ النظر عن خلفياتهم التنظيمية، بينما لوحظ في العقد الأخير تطور نمط الإضراب من سلاح جماعي يخوض غماره آلاف السجناء في عدة سجون، إلى سلاح يوظفه سجناء فصيل سياسي واحد في السجون كلها، أو يكون فقط نمطاً فردياً يشرع فيه سجين واحد لتحقيق هدف شخصي.
وفي مقابل تزايد النمط الفردي، تناقصت الإضرابات الجمعية بشكل حادّ في العقد الأخير، ويعود ذلك إلى عدة عوامل منها ما هو موضوعي مثل تحسن ظروف حياة الأسرى، ومنها ما هو ذاتي متمثل في انقسام الحركة الأسيرة داخل السجون الإسرائيلية إلى تيارَين "وطني" و"إسلامي"، كتعبير عن الانقسام السياسي الفلسطيني العام.
لكن بعض الأسرى الذين اختبروا الأسر الاحترازي والإضراب عن الطعام أكثر من مرة، لديه رأي آخر في أسباب خصخصة الإضراب. فها هو محمد القيق يطرح[2] ثلاثة أسباب لخصخصة الإضراب: أولاً، فشل أغلبية الإضرابات الجماعية التي حدثت في العقدين الأخيرين في تحقيق أهدافها؛ ثانياً، صعوبة الوصول إلى إجماع في السجون في ظل حالة الفشل والإحباط من التجارب السابقة؛ ثالثاً، أن الاعتقال الإداري هو ملف خاص بشريحة صغيرة من الأسرى المعتقلين احترازياً، وهو يتعلق أحياناً بالأسير نفسه أكثر من كونه قضية عامة تجمع الأسرى الفلسطينيين كافة.
هكذا، انطبع العقد الأخير بـ "متلازمة الإضراب الفردي" التي تجسدت بكونها إضرابات فردية ينفذها أسرى إداريون، خلفياتهم غالباً يسارية أو إسلامية، وتتمثل مطالبهم في الخلاص من السجن الاحترازي.
العامل الثالث والأخير الذي يميز النموذج الفلسطيني، هو طول مدة الإضراب التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الاعتقال العالمي. فالنموذج الإيرلندي ظل يسجل تفوقه في هذا السياق، إلى أن كسره لأول مرة الأسير الفلسطيني خليل عواودة من بلدة إذنا / الخليل، والذي على قدر ما نعرف، يخوض الإضراب الجافّ الأطول، ليس في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية فقط، بل على مستوى العالم أيضاً، إذ استمر إضرابه 111 يوماً من دون مدعمات غذائية، معتمداً فقط على الماء كمصدر وحيد لإبقائه في قيد الحياة والأمل، بينما المدة المسجلة للمناضلين الإيرلنديين ساندز ودهورتي هي 66 يوماً و77 يوماً، في سنة 1980.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أنماط الإضراب عن الطعام، والتي تندرج في مجملها تحت نمطين، بغضّ النظر عن التكتيكات المتبعة: الإضراب الجافّ ويتمثل في رفض أنواع الطعام والشراب كلها، باستثناء الماء، وهذا هو الشكل الأكثر تطرفاً؛ الإضراب الرطب، وهو الأكثر شيوعاً، إذ يرفض المُضرب أشكال الطعام والشراب كلها، لكنه يتلقى بعض المدعمات مثل الملح، وأحياناً السكر والفيتامينات. وبحسب نوفل (نوفل 2022)، فإن الأسرى الفلسطينيين نفذوا 400 إضراب فردي منذ سنة 2011. وقدّم سامر العيساوي مثلاً قياسياً على الأقل ضمن الحالة الفلسطينية، وذلك باستمراره في الإضراب 227 يوماً، وهو أحد أطول الإضرابات عن الطعام في العالم (الجزيرة مباشر 2016).
شاعرية المحنة
الجوع من أقسى المحن التي يمكن أن يختبرها البشر لارتباطه بأشد الغرائز عنفاً، وهي غريزة البقاء، وهذه محنة لا يستطيع معظم الناس اختبارها، فالإنسان الذي يهدد الجوع كينونته يتوحش وينحدر من مستوى الوعي إلى مستوى الغريزة، ذلك بأن ما يجمع البشر مع الحيوانات هو الغرائز، وما يفرقهما هو الوعي والإرادة.
علاوة على ذلك، يواجه المُضرب في محنته وحش الجوع الرابض في جسده، كما يواجه وحش المضطهِد الذي ينتظر انكسار إرادته. والذين يصمدون في إضراباتهم عن الطعام يمتازون بصفات ترفع قدراتهم النفسية والجسدية عن مستوى البشر العاديين.
وعلى الرغم من قهر الجوع، فإن هذه التجربة تنطوي على شاعرية فذّة. فكل تجربة مهما يكن نوعها أو مجالها لا تخلو من شاعرية ما، وهذه الشاعرية تكمن في الشغف الذي يظلل الغايات، وفي جماليات الفعل، والسعادة المتخيلة للنتائج المرجوة وأفق التوقع، والإصرار العنيد على الاستمرار والمواجهة، وهي جمالية شعرية نراها في عيون مَن أُفرج عنهم من الأسرى الفلسطينيين لحظة إطلاق سراحهم وهم يرفعون شارات النصر. ولعل الذاكرة الجمعية خلّدت مثل هذه اللحظات الفارقة في حياة أسرى وثّقت كاميرات الصحافيين لحظات انبعاثهم من ركام الموت: سامر العيساوي خرج على عربة المقعدين هيكلاً عظمياً يرفل في شبح ابتسامته الظافرة؛ هشام أبو هواش الذي ضَمَر حتى كاد يتلاشى في ثيابه الفضفاضة، وحين سمع نبأ الإفراج عنه تفتحت عيناه كزهرتين، وافترّ ثغره عن ابتسامة ساحرة؛ محمد القيق بدا في سريره في المستشفى قوياً وثابتاً بوجه يطفح بالعزيمة. هكذا تنبثق اللحظات الشاعرية المبهجة من بين ركام الآلام في كل مرة يتحرر فيها أسير من بين فكّي الوحش.
والإضراب عن الطعام سلاح يوظفه الأسير الفلسطيني في صراعه مع مضطهِديه، لأنه لا يمتلك غيره، فهو أسير أعزل ووحيد، ومسجون بلا سقف زمني، فيما يسمى الاعتقال الاحترازي الذي هو إحدى أسوأ سياسات الاعتقال في تاريخ الأسر العالمي. فالأسير لا يعرف سبب اعتقاله ولا لائحة الاتهام، ولا مدة اعتقاله التي قد تطول عدة أعوام، الأمر الذي يتركه في حالة من الإحباط واليأس. ولذلك، يفضل المعتقلون الإداريون الأحكام العالية على نمط الاعتقال الاحترازي، لأنهم في الحالة الأولى على الأقل يعرفون موعدهم مع الحرية.
يتساءل كثيرون ما الذي يدفع الأسير إلى المقامرة بحياته؟ وهل يستحق الأمر هذه المخاطرة؟ وهل إن الإفراج عن الأسير هو تحرر حقيقي؟ وأين الحرية خارج السجن ما دام البلد كله سجناً كبيراً؟
تساؤلات مشروعة، لكنها تبقى تساؤلات لمَن هم خارج السجن، أمّا مَن يكتوون بجمر الاعتقال الاحترازي فلهم حسابات مغايرة. تقول إيميلين بانكهيرست (Emmeline Pankhurst): "فقط الأشخاص الذين يحسون بشعور لا يُحتمل من القمع هم مَن يتعين عليهم تبنّي مثل هذا التكتيك المتطرف" (Pankhurst 2007). ويؤكد كثيرون ممّن اختبروا الاعتقال الاحترازي أن أي مآلات ونتائج للإضراب عن الطعام، بما فيها الموت، هو أفضل وأجدى من التسليم بالاعتقال اللامحدود بسقف زمني. يقول الأسير السابق إسماعيل النطاح: "الاعتقال الاحترازي موت بطيء يقتل الأمل، والمُضرب لا يخشى الموت جوعاً لأنه يسرّع الموت، أو الحرية."[3] وفي السياق ذاته يرى محمد القيق أن الاعتقال الاحترازي كان من الممكن أن يصل في حالته إلى ستة أعوام، إذ تتّبع إسرائيل استراتيجيا التمديد لثلاثة أعوام، ثم تفرج عن المعتقل لمدة شهر أو أقل، لكنها بعد ذلك تعيد اعتقاله من جديد احترازياً للمدة ذاتها. وهكذا تستمر حال الأسير في جو نفسي رهيب من الإذلال بلا أفق ولا أمل، الأمر الذي يدفعه إلى خوض غمار هذا التكتيك الخطر.
التجويع معركة على الجسد
يتموضع الإضراب في تطوره بين نهايتين هما الحرية أو الموت، فبينما يراهن الأسير على نيل حريته، يراهن السجان على الانكسار الذاتي للمُضرب، وكل منهما له استراتيجياته وتكتيكاته في إدارة هذه المعركة. وهناك أيضاً عاملان يحددان سلفاً متى تنتهي هذه المعركة، هما الطاقة والزمن.
يُعتبر الزمن عاملاً حاسماً في إنهاء هذه المعركة، إذ يسعى السجان الذي يشنّ حرباً نفسية تقوم على التجاهل، لإطالة أمد الإضراب، كي يصاب الأسير ميكانيكاً بالضمور والتلاشي الذي يعتري الجسد الهزيل، وبالتالي لا يرى إلّا موته الوشيك متجسداً في ذبول الجسد مصحوباً بتشوش الرؤية وفقدان السمع والتقيؤ وآلام شديدة في أنحاء الجسد كافة. وفي هذا السياق أشار القيق إلى جملة من التكتيكات التي يتّبعها خبراء السجون الإسرائيليون، "كأن يقولوا للمُضرب عن الطعام: 'هذه معركتك وحدك، أنت الخاسر الوحيد، لا أحد في الخارج يتذكرك، أهلك يتمنون أن تنهي إضرابك'، أو أن يأتي شيخ إلى المُضرب ويفتي له بأن الإضراب حرام ويقود إلى جهنم."[4]
ويعمل السجّان على استنزاف طاقة الأسير من خلال إبقائه في حالة من التوتر الشديد، وتعمُّد نقله من غرفة إلى غرفة، وأحياناً من سجن إلى آخر، أو من السجن إلى المحكمة. وفي المقابل يدرك الأسير أن إدارة مصادر الطاقة الداخلية للجسد بشكل حكيم تأخذه إلى حريته. ويوضح الأسير القيق في ضوء تجربته كيفية مواجهة الزمن، اعتماداً على مبدأ التقشف في استهلاك الطاقة "كالاختزال في الحركة والتنقل، وشرب الماء بكثافة، واستخدام أكياس البول بدلاً من الذهاب إلى الحمام."[5]
معركة الروح والجسد
أشرت في موضع سابق إلى أن الإضراب عن الطعام هو معركة على الجسد بين السجين والسجّان، لكن بمجرد أن يشرع الأسير في إضرابه يبدأ معركة أُخرى مع ذاته، هي معركة الروح والجسد. ولا نقصد بالروح هنا معناها الديني بما هي سر مغلق على العقل البشري، وإنما الطاقة المحركة للفكر والوعي والرغبات النابعة من العقل. فغاية الروح في هذه المعركة هي التحرر، أمّا الجسد فغايته البقاء؛ الجسد في هذه المعركة يتحول من ساحة إلى طرف غير محايد، فهو تحت ضغط الجوع يندفع باطراد وعنفوان للذود عن كينونته، غير آبه برمزية التحرر. إذاً نحن إزاء جسد ينشد البقاء بأي ثمن، وروح تنشد الحرية، وهاتان الرغبتان متعارضتان.
ما يهمنا في هذا المقام هو الصراع الملحمي بين جسد المُضرب عن الطعام وروحه، وهذا الصراع كعنصر درامي سواء في الحياة أو المسرح، ينبثق من تناقض الأهداف. أمّا التناقض هنا فليس إقصائياً، لأن لا طرف منهما يستغني عن الآخر، بل إن وجود أحدهما شرط لوجود الآخر. ولعل في ذلك تمثيلاً دقيقاً لجدلية هيغل "السيد والعبد": فالسيد لا يدرك سيادته من غير وجود العبد، والعبد لا يستطيع الانفصال - قبل ثورته - عن سيده الذي يمنحه أسباب البقاء. وهكذا الروح والجسد في حالة الإضراب عن الطعام، فهما في خلاف وائتلاف في آن: الجسد ثقيل وشهواني ومنصاع للجاذبية، ولأنه ابن الشهوة، فهو غريزي ينشد البقاء بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو العبودية. أمّا الروح فتقف سامقة، بخفّتها ورمزيتها، تعاند الجاذبية والثقل وتنشد الطيران والسمو. ومثلما يقال، فإن الروح عصفور، والجسد صخرة. وكي تستمر الدراما، يتواطأ الجسد والروح في لعبة درامية خطرة قد ينجوان منها معاً، وربما ينتهيان فيها. وفي هذه اللعبة الخطرة يحقق العقل سيادته المطلقة على الجسد الذي لا سبيل أمامه إلّا الطاعة، فهو يذوي في سبيل سمو الروح.
في هدنة الروح والجسد يبسط الدماغ سيطرته المطلقة على مصادر الطاقة في الجسد، ويتحكم في سبل توزيعها بحيث يعيد في كل لحظة إنتاج سلطته اللامحدودة. وفي هذا المقام يمكن أن نجمل مصادر الطاقة منذ اللحظة الأولى للإضراب بأربعة مصادر هي: السكر المتوفر في الدم والأمعاء في الأوضاع الطبيعية، أي قبل الشروع في الإضراب؛ الاحتياط الدهني المخزّن تحت الجلد وحول الأحشاء الداخلية، ويسمى المخزون الاحتياطي للطاقة؛ الاحتياط البروتيني المتمثل في الكتلة العضلية وهو مخزون استراتيجي يمنح المُضرب أسباب البقاء لأطول فترة ممكنة؛ النخاع العظمي، وهو آخر مصدر يمكن أن يلجأ إليه الدماغ لسدّ الحاجة إلى الطاقة.
منذ اليوم الأول للإضراب يستشعر الدماغ تدني منسوب الطاقة الوافدة من المصادر الخارجية، فيستحثّ عصارة المعدة، لكن الأمر يبدو بلا فائدة، إذ ثمة علّة ما تستدعي التهيؤ لخطة طوارىء، غير أن الدماغ ليس في عجلة من أمره. ومع مضي الوقت، ومن دون التزود بمصادر الطاقة، يدرك الدماغ أن هناك خطباً ما في دينامية انسياب الطاقة، وهنا ينتقل من مرحلة التهيؤ لبناء الخطة إلى البدء الفعلي في بنائها والشروع في تنفيذها.
ضمن الأسابيع الأولى للإضراب يتم توزيع الطاقة على جميع الأعضاء بطريقة شبه عادلة. لكن مع استمرار النقص في الإمدادات يلجأ الدماغ إلى الاحتياط الدهني الذي خزّنه الجسد في أيام الوفرة والخصب، فقد حان الآن أوانه، بحيث إن هرمونات البنكرياس تُحوِّله وفق آلية معقدة إلى سكر غلوكوز يوزَّع بدوره عبر الدورة الدموية إلى خلايا الجسد كلها، ليحترق منتجاً الطاقة التي تُبقي الجسد حياً.
وفي مواجهة ميكانيكا الضمور يتم توزيع الطاقة وفق خطة يتحكم فيها مبدأ الأولويات، من الأهم إلى الأقل أهمية: فالدماغ يتسيّد في قمة الهرم، ثم يليه القلب والرئتان، وفي الوسط أجهزة الحس الخمسة، وفي قاع الهرم تقع الأعضاء والأنسجة الأقل أهمية كالجلد والشعر والأظافر وهو ما يسمى السطح الخارجي للجسد.
وعندما ينفد احتياط الطاقة الدهني يذوي الجسد ضمن عملية يمكن أن نسميها ميكانيكا الضمور، إذ يقدم مخزونه البروتيني الكامن في البنية العضلية، فوفق عملية بيولوجية غاية في التعقيد تتفكك البروتينات إلى وحدات غذائية تُضخّ في الدم، وفي هذه المرحلة يخفّ ضخّ الطاقة إلى الشعر والأظافر والجلد، مع التركيز على الدماغ والقلب والرئتين. وهنا يبدأ تشوش الرؤية واضطرابات السمع وينكمش الجلد ويتجعد، ويتساقط الشعر، ويدخل الجسد كله في مرحلة الإذواء.[6]
تنقل دلال عواودة زوجة الأسير خليل عواودة على لسان المحامي الذي زار خليل بعد ثمانين يوماً من الإضراب عن الطعام، وصفه للوضع على النحو التالي: "الجسم يتراجع بشكل سريع، بقع سوداء تنتشر على الجلد، تساقط شعره كلياً، العضلات تتآكل، يوجد ضغط كبير جداً في منطقة الصدر، الدوخة مستمرة على مدار ٢٤ ساعة."[7] وهذه الأعراض الطبية تتفق في مجملها مع ما ورد عند باحثين آخرين ومنهم أيتشيسون (Aitchison 2021) الذي تشير دراسته إلى الأعراض نفسها التي عاناها خليل عووادة، أو قريبة منها.
وعندما تذوي الكتلة العضلية تحيط ظلال الموت بالجسد، فلا احتياط آخر يمكن أن يدفع عنه شبح الموت لعدة أيام، سوى ما يستلّه الجسد من نخاع عظامه.
ولا يقرر العامل البيولوجي وحده مدى صمود المُضرب عن الطعام في معركته مع ذاته ومع الآخر، فهو في النهاية عامل موضوعي ومحايد. وهناك بعد آخر يتمثل في العامل الثقافي - الاجتماعي (الوعي والمسؤولية)، فكلما زاد وعي الإنسان بنفسه وبمجتمعه وقضيته في سياق قضايا التحرر، جعل من الانكسار هزيمة كبرى وخسارة جسيمة يستحيل تعويضها، وبالتالي يستمد من وعيه هذه الطاقة على الصمود. كذلك فإن الحملات الشعبية المساندة والتغطية الصحافية تؤدي دوراً لا يستهان به في صمود المُضربين عن الطعام. ويشير القيق إلى تجربته الخاصة قائلاً: "في مرحلة ما من الإضراب يغدو قرار تعليق الإضراب هو قرار الشعب وليس قرار الأسير."[8]
خاتمة
إن أولى أولويات سياسات الاعتقال الإسرائيلية هي تفكيك وعي الأسير المُضرب عن الطعام بنفسه وبعالمه، وجعله يمر بخبرات وتجارب تعيد إنتاج وعيه مشوهاً وزائفاً، كي يشعر بأن طريقه بلا جدوى، وأنه عبء على نفسه وعلى مجتمعه، فهو جسد كسيح ومعزول عن العالم، بينما العالم الذي ضحى لأجله غارق في لهوه وحياته الخاصة غير آبه بالأسرى وعذاباتهم. لكن في الغالب، فإن ما يحدث هو خلاف هذا، ذلك بأن تجربة الإضراب عن الطعام تُصَلِّب عود الأسير وتصقل وعيه.
صحيح أن الحركة الأسيرة الفلسطينية عانت تصدعات في العقدين الأخيرين، غير أن السجن يبقى في الذاكرة الجمعية الفلسطينية مدرسة ثورية قادرة على إبداع وسائل كفاح مؤثرة، وما الإضراب عن الطعام إلّا أحد هذه الأساليب الكفاحية.
المراجع
بالعربية
بارت، رولان (2000). "شذرات من خطاب في العشق". ترجمة إلهام سليم حطيط وحبيب حطيط. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة إبداعات عالمية، الطبعة الأولى.
الجزيرة مباشر (15 / 8 / 2016). "أرقام قياسية للمضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية"، في الرابط الإلكتروني.
حاجبي، حسان (28 / 11 / 2012). "الإضراب عن الطعام في تونس: تراث راسخ ومستجدات مثيرة". موقع "السفير العربي"، في الرابط الإلكتروني.
لوكاتش، جورج (1987). "نظرية الرواية وتطورها". ترجمة وتقديم نزيه الشوفي. دمشق: د. م.، والحقوق محفوظة للمترجم.
مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – "وفا" (د. ت.). "أشهر الإضرابات عن الطعام"، في الرابط الإلكتروني.
نوفل، عزيزة (25 / 3 / 2022). "لماذا أجبر إعلان الأسرى خوض الإضراب الجماعي إدارة السجون على الاستجابة لمطالبهم؟". موقع "الجزيرة نت"، في الرابط الإلكتروني.
بالإنجليزية
Aitchison, Guy (2021). «Fragility as Strength:The Ethics and Politics of Hunger Strikes». Journal of Political Philosophy, seen on Wiely Online Library.
Cuba Archive (2020). “Cuban Political Prisoners Who Perished during Hunger Strikes: 1959 to Present”.
Dahl, Shayne A. P. (2020). “Buddhist Mummy or ‘Living Buddha’? The Politics of Immortality in Japanese Buddhism”. Anthropological Forum: A Journal of Social Anthropology and Comparative Sociology, vol. 30, issue 3, pp. 292-312.
Grant, Kevin (January 2011). “British Suffragettes and the Russian Method of Hunger Strike”. Comparative Studies in Society and History, vol. 53, no. 1, pp. 113-143.
Harris, Ruth, ed. (2017), Appetite and Food Intake: Central Control. New York: CRC Press, 2nd edition.
Lennon, Joseph (2007). “Fasting for the Public: Irish and Indian Sources of Marion Wallace Dunlop's 1909 Hunger Strike”.In: Enemies of Empire: New Perspectives on Imperialism, Literature and Historiography. Edited by Eóin Flannery and Angus Mitchell. Dublin: Four Courts Press.
Pankhurst, Emmeline (27 / 4 / 2007). “Great Speeches of the 20th Century: Emmeline Pankhurst's Freedom or Death”. The Guardian.
Shah, Nayan (2022) Refusal to Eat: A Century of Prison Hunger Strikes. California: University of California Press.
Sharp, Gene (1973). The Politics of Nonviolent Action (3 volumes). East Boston, Massachusetts: Albert Einstein Institution.
Yuill, Chris (2007). “The Body as Weapon: Bobby Sands and the Republican Hunger Strikes”. Sociological Research Online, vol. 12, issue 2.
المصادر:
[1] مقابلة مع الأسير السابق محمد شاكر طميزي، في إذنا / الخليل، بتاريخ 20 / 5 / 2022.
[2] مقابلة مع الصحافي والأسير السابق محمد القيق، تحدث فيها عن إضرابه عن الطعام 94 يوماً، وأُجريت في رام الله بتاريخ 2 / 7 / 2022.
[3] مقابلة مع المعلم والأسير السابق إسماعيل النطاح، في الخليل، بتاريخ 20 / 5 / 2022.
[4] مقابلة مع القيق، مصدر سبق ذكره.
[5] المصدر نفسه.
[6] اعتمدتُ في طرح هذا التصور على خبرتي بتدريس العلوم والكيمياء، علماً بأن هناك العديد من الإشارات المرجعية والدراسات التي قدمتها روث هاريس (Harris 2017)، والتي تشير إلى مركزية حصة الدماغ من الطاقة على حساب الأجهزة الأعضاء والأنسجة الأقل أهمية.
[7] مقابلة مع المعلمة دلال عواودة زوجة الأسير خليل عواودة، أُجريت في بيت الأسير في إذنا / الخليل، بتاريخ 20 / 6 / 2022.
[8] مقابلة مع القيق، مصدر سبق ذكره.