"سنقاتل حتى آخر مقاتل، وآخر طلقة، وآخر قطرة دم"، بهذه الكلمة اختتمت مجموعة "عرين الأسود" بيانها الصادر في 20 تشرين الثاني / نوفمبر 2022، والذي جاء فيه أن المجموعة "استدرجت قوة إسرائيلية خاصة إلى داخل البلدة القديمة في مدينة نابلس، واشتبكت معها وقامت بتفجير عبوات ناسفة فيها على ثلاثة محاور."
في هذا البيان أعلنت "العرين" أنها لا تزال موجودة وقادرة على التجدد، وأن الضربة الموجعة التي تلقتها بعد استشهاد أحد قادتها وديع الحَوَحْ، لم تنجح في إنهاء وجود هذه المجموعة المقاتلة في نابلس.
لقد عكست مسيرة تشييع الشهيد الحَوَحْ وأربعة شبان آخرين مقدار الألم والخسارة، فهو شخصية قيادية ومؤثرة، وبحسب ما ردد أحد المقاتلين: "كل يوم نجد مقاتلاً، لكننا لا نجد كل يوم قائداً." وفي يوم تشييع الحَوَحْ، قال أحد الناشطين القريبين من المجموعة ومن سكان البلدة القديمة إن "نابلس تيتمت"، ليكون السؤال: "هل انتهت المجموعة المسلحة التي كانت ولادتها إعلاناً أن المقاومة مستمرة؟"
لقد تسارعت التطورات بعد 25 تشرين الأول / أكتوبر 2022، حين قام بعض أعضاء المجموعة بتسليم أنفسهم إلى أجهزة الأمن الفلسطينية في مقابل شراء السلطة لأسلحتهم وتفريغهم في أجهزة أمنية، وهو العرض الذي رفضته سابقاً المجموعة كلها، وكان الحَوَحْ سداً منيعاً في مواجهة العرض. وبالتالي: هل انتهت المجموعة بعد مزاعم وأنباء إسرائيلية عن تسليم مزيد من المقاتلين أنفسهم إلى الأجهزة الأمنية؟
الجواب ليس سهلاً، فمنطق نشأة هذه المجموعة وغيرها من الظواهر النضالية الفلسطينية الجديدة، يشي بأن تقديم الإجابات الكاملة، والتعامل مع مجموعة "عرين الأسود" التي تحولت إلى فكرة وحالة إبداعية فلسطينية، مسألة صعبة. فالواقع الميداني المتحرك أكثر تعقيداً ممّا نظن، ودليلنا هو عملية القدس المزدوجة (23 تشرين الثاني / نوفمبر 2022)، فنحن اليوم أمام ضرورة فهم ما يجود به الميدان، ويقدمه جيل جديد من الشعب الفلسطيني.
بعد العملية الأمنية الصعبة التي استشهد خلالها القيادي الحَوَحْ دخلت وسائل الإعلام المتنوعة كي تعاين المنزل المدمر، وبحسب تقارير صحافية ومحلية وشهود عيان فإن القذائف التي دمرت المنزل أُطلقت من طائرات مسيرة.
لقد طُرح كثير من الأسئلة بشأن مجموعة "عرين الأسود"، بعد إعلان تأسيسها، وخصوصاً عقب استهداف قادتها. وأحد تلك الأسئلة كان عن كيفية تنفيذ العملية، مثل هل استخدم الاحتلال غازاً ساماً في استهداف المقاتلين؟
لكن السؤال الأكثر أهمية ليس عن محاولات إنهاء المجموعة، وإنما ظروف نشأتها وخلفيات مقاوميها. وفي سياق هذا السؤال، يفيد الرجوع إلى بعض التفصيلات، فجيران الحَوَحْ يحكون أنه حوّل بيته إلى متنزه صغير وخلاب، وأنه كان يعمل ليلاً ونهاراً من أجل تجديد المكان في الحوش الشهير من أجل الزواج، فما الذي حوّل مسار أحلام شاب من الزواج والعيش الهادئ إلى الاشتباك مع جنود جيش الاحتلال؟
الجواب عن هذا السؤال يفتح الباب أمام فهم بدايات تشكيل "العرين" التي نالت لاحقاً مشروعية نضالية تركت أثرها في الضفة الغربية كافة. فما هي أسباب هذا الانعطاف في مسيرة هؤلاء الشباب؟
ظروف نشأة "عرين الأسود"
وفق مصدر مقرب من المجموعة ويعيش في إحدى حارات نابلس القديمة، فإنه لفهم تجربة "العرين"، علينا العودة إلى الدور الذي أدته حارتا الياسمينة والقريون في أحداث الانتفاضة الثانية، فهما كانتا مسرحاً لعمليات المقاومة والاقتحامات الإسرائيلية، الأمر الذي ترك أثراً كبيراً في رؤية سكان الحارتين المتجاورتين إلى ذواتهم من حيث صفات "الشهامة" و"الجدعنة" اللصيقة بهم، إلى جانب تصورهم النضالي لأنفسهم.
البعد الثاني يرتبط بوجود مجموعة أو "ثُلّة" من الشبان الذين تربوا ودرسوا معاً، وتجمعهم علاقات صداقة قوية بحكم الجيرة والانتماء إلى البلدة القديمة. وخلال "جائحة كورونا" تفاعلوا مع معاناة السكان في فترة الوباء، ونشطوا في تقديم مساعدات إغاثية، وهو ما تشهد عليه صور كثيرة جمعت شهداء المجموعة وجرحاها خلال تلك الفترة.
ويقول المصدر المقرب إنه فضلاً عن جهدهم الإغاثي والاجتماعي، كان هناك ما يشير إلى أنهم "يُعدّون العُدّة" أو يتحضرون لفعل ما. فهؤلاء الشبان الذين يوصَفون شعبياً بأن "دمهم فاير" (أي حماستهم كبيرة)، تبادل بعضهم مع بعض "القطع" (الأسلحة)، وشاركوا في المناسبات الوطنية وخدموا المواطنين بعطاء كبير، وهم، في معظمهم، ينتمون إلى حركة "فتح" على الرغم من ملاحظاتهم السلبية على مسارها، وعلى الخط السياسي الذي تتبنّاه السلطة الفلسطينية. وهذا الانتماء هو الذي ربما جعل الأجهزة الأمنية تحجم عن ملاحقة كثيرين منهم والبحث عن أسلحتهم التي غالبا ما كانوا يشترونها من مالهم الخاص. كما أن "فتح" التي ينتمون إليها، ليس لديها سيطرة مباشرة عليهم، أو قدرة على التأثير في خياراتهم، الأمر الذي يفسر عدم القدرة على تحجيم دورهم مع بدايات الانطلاق وتحريض الاحتلال السلطة الفلسطينية عليهم.
بعض شبان الحارتَين (الذين أصبحوا شهداء أو جرحى) عاش تجربة السجن أيضاً، وكانوا يقولون لبعضهم البعض: "تحلموش نرجع على السجن"، من دون أن يعني ذلك أي تخطيط لأي فعل مقاوم، لكن لأن ثمة روحاً وطنية وجماعية كانت تنبعث في المجموعة التي لم تكن تتجاوز 10 شبان في البداية. ويؤكد المصدر المقرب أن أحد المحرَّرين من سجون الاحتلال كان يعيش اكتئاباً بعد أن أُفرج عنه، والسبب أنه كان يردد دوماً: "كيف أنا حر خارج السجن بينما أصدقاء لي ما زالوا في السجن؟"
خلال سنة 2021، ومثلما هو الأمر في الأعوام السابقة، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم أحياء المدينة كلها، منفِّذة اعتقالات يومية من دون أدنى مقاومة، باستثناء سؤال طرحه "الشهيد العزيزي" على نفسه ورفاقه، والذي سنتحدث عنه لاحقاً.
عند البحث في بدايات المجموعة، يجد المتابع أن جميع المؤشرات إلى بداية انطلاقتها تعيدنا إلى حادثة إعدام قاسية قامت بها قوات الاحتلال الإسرائيلي في عملية خاصة في مدينة نابلس لثلاثة شبان بتاريخ 8 شباط / فبراير 2022.
ففي تلك العملية استشهد ثلاثة فدائيين من مجموعة مسلحة أطلقت على نفسها اسم "كتيبة نابلس" بعدما قام جنود الاحتلال بإطلاق مئات الرصاصات باستعراض وحشي، على السيارة التي كان يستقلّها هؤلاء الشبان، على الرغم من توفر إمكان اعتقالهم.
وقد أحدثت عملية الاغتيال صدمة كبيرة في مدينة نابلس أسوة بالمدن الفلسطينية كلها، فالجريمة كانت قاسية ومروعة، والشهداء الثلاثة: أشرف مبسلط، وأدهم مبروك، ومحمد الدخيل، ينتمون إلى كتائب "شهداء الأقصى"، الجناح العسكري لحركة "فتح".
ويرى محللون أن الاحتلال هدف من وراء تنفيذ جريمة التصفية المروعة للشبان، إرسال رسالة ردع إلى المقاومة الفلسطينية، لكنه لم يكن يدرك أن هذه العملية ستقود إلى نشوء حالة مقاومة جديدة.
هنا أيضاً يبرز سؤال عن الأمر الذي دفع الأصدقاء الثلاثة إلى تشكيل ما يُعرف بـ "كتيبه نابلس" أسوة بـ "كتيبة جنين"، وتنفيذ عدة عمليات إطلاق نار على أبراج وحواجز عسكرية على أطراف نابلس.
يقول مقربون من "عرين الأسود" إن بدايات نشاط "كتيبة نابلس" (الشيشاني والدخيل ومبسلط والنابلسي) ضد قوات الاحتلال كانت بعد استشهاد صديقهم الشاب والأسير السابق جميل الكيال (31 عاماً) برصاصة في الرأس في 13 كانون الأول / ديسمبر 2021 خلال عملية اقتحام واعتقال عادية في منطقة رأس العين المحاذية من ناحية الغرب للبلدة القديمة في نابلس، حيث تُرك ينزف حتى الموت.
وتبريراً لجريمته، زعم الاحتلال أن الشهيد شارك سابقاً في تنفيذ عمليات إطلاق نار ضد أهداف إسرائيلية، إلّا إن تصفيته من دون أي اشتباكات في أثناء خروجه من منزله كانت السبب في بدايات التفكير في ممارسة نشاط مسلح يقوده شبان من الحارتين الجارتين (الياسمينة والقريون)، الأمر الذي قاد لاحقاً إلى تأسيس "عرين الأسود".
كتيبة جنين واختلاف النشأة عن "عرين الأسود"
تختلف تجربة المقاومة المسلحة في مدينة جنين ومخيمها عن تجربة "عرين الأسود"، ذلك بأن تجربة مقاومة جنين تشكل امتداداً لتاريخ نضالي طويل، وخصوصاً في مخيم جنين الذي أطلق عليه الاحتلال اسم "عش الدبابير"، والذي مثل رمزاً نضالياً خلال المواجهة البطولية لقوات الاحتلال في أثناء عدوان "السور الواقي" في سنة 2002 في المدينة، أسوة بجميع مدن الضفة وبلداتها وقراها ومخيماتها، ومحاصرة المخيم، ثم اقتحامه، وتصدي شبان المخيم البطولي لقوات الاحتلال وإيقاع خسائر فادحة في صفوفها.
ويؤرخ مقربون من مجموعة "كتيبة جنين" أن الشهيد جميل العموري (25 عاماً) هو مَن قاد بدايات مجموعة "كتيبة جنين" التي أدت دوراً ملهماً لكتائب مقاومة أُخرى بينها "عرين الأسود". ويُنسب إلى الشاب العموري أنه "مجدد الاشتباك" ومؤسس الكتيبة التي أُعلنت رسمياً عبر بيان صحافي في أيلول / سبتمبر 2021، وذلك في أعقاب عملية نفق الحرية ونجاح الأسرى الستة (محمود العارضة؛ محمد العارضة؛ مناضل انفيعات؛ زكريا زبيدي؛ يعقوب قادري؛ أيهم كممجي) في الهروب من سجن جلبوع. وبالعودة إلى البيان الأول للكتيبة، فإنه أشار إلى استعدادها للانضمام إلى معركة الأسرى الفارين، باحتضانهم في المخيم والدفاع عنهم، وقد ساد في المدينة ومخيمها نَفَس مقاوم ووحدوي، ترافق مع إحساس عالٍ بالذات والإيمان بالقدرة على مقاومة الاحتلال.
تمثلت بدايات الكتيبة في "فاعليات الإرباك" التي تجسدت في تنفيذ عمليات إطلاق نار على الحواجز المحيطة بمدينة جنين، والخروج في مسيرات عسكرية داخل المخيم، للاستعراض، مع تأكيد الاستعداد للدفاع عن الأسرى "الفارين" واحتضانهم.
ولادة كتيبة جنين كانت نتاج "تصعيد تراكمي في فعل المقاومة" في الضفة، الأمر الذي ظهر في الهبّة الشعبية في أيار / مايو 2021، وفي معركة "سيف القدس" التي تبعتها.
اغتالت قوات الاحتلال العموري في 10 حزيران / يوليو 2021 مع رفيقَيه الملازم أدهم عليوي (23 عاماً)، والنقيب تيسير عيسة (33 عاماً)، ونَعَتْه حركة الجهاد الإسلامي بصفته أحد كوادرها العسكرية في المخيم. والعموري هو ابن شقيق الأسير شادي العموري، المحكوم بالسجن المؤبد والمعتقل منذ 20 عاماً، وقد عمل سائقاً على مركبة خاصة من أجل شراء سلاحه، ثم كوّن خليه صغيرة العدد ما لبثت أن كبرت بفعل تصاعد الأحداث الميدانية في القدس وقطاع غزة.
ويُنظر إلى العموري اليوم في مخيم جنين على أنه أب روحي، على الرغم من صغر سنه، فصوره تحتل شوارع المخيم والمدينة، كما أنها تحولت إلى ميداليات يرتديها الشباب في بلدات المحافظة كافة. ومن أبرز إشارات دور العموري المركزي في التأثير في المقاتلين في أماكن متعددة، تعليق صورة له ولرفيقيه اللذين استشهدا معه، توثق زيارتهم لشهداء نابلس الثلاثة: أشرف مبسلط، وأحمد الدخيل، وأدهم مبروكة، عند ضريح الشهيد العموري.
الصداقة والنضال
قبل استشهاد شهداء نابلس الثلاثة، لم يكن هناك ما يُعرف بـ "عرين الأسود، والثابت أن الشهيد محمد العزيزي (الذي يُنظر إليه بصفته مؤسساً للمجموعة) تأثر كثيراً بجريمة اغتيال الشبان الثلاثة، وتحديداً صديقه الدخيل، الشاب المرح والبشوش والقادر على القيادة، إذ علّق في إثر الجريمة، صور الشهداء في منزله في حارة الياسمينة.
ويقول أحد المقاتلين إن العزيزي كان يردد دائماً: "شو يعني يدخل الجيش الإسرائيلي على البلد ويخرج بسلام؟"
لقد مهّد هذا السؤال الاستنكاري لتأسيس "عرين الأسود"، ولا سيما أن المؤسسين كانوا أصدقاء مقربين. وطوال أشهر، استمر العزيزي ورفاقه في استقطاب للمقاتلين الذين كان جزء منهم يقيم في منزل عائلة العزيزي في البلدة القديمة.
وخلال الفترة التي تلت استشهاد المقاومين الثلاثة في نابلس، كانت صور الشهداء المعلقة على جدار غرفة العزيزي، تنتشر في جميع الأماكن، وتحديداً في مدينة جنين ومخيمها، كما أن فكرة "عرين الأسود" كانت تجذب مزيداً من الشبان.
وفي 24 تموز / يوليو 2022، نفذت قوات معززة من جيش الاحتلال اقتحاماً موسعاً للحي الذي يقع فيه منزل العزيزي في البلدة القديمة، ودار اشتباك عسكري عنيف استشهد خلاله العزيزي مع رفيقه عبد الرحمن صبح (28 عاماً). وبعد العملية العسكرية اتضحت معالم ما جرى، إذ تناقل المقاتلون أخباراً فحواها أن الشهيدين ضحّيا بنفسيهما من أجل توفير الحماية والتغطية لأعضاء المجموعة التي كانت موجودة في المنزل في لحظة الاقتحام، الأمر الذي ترك أثراً عظيماً في نفوس المقاتلين، وخصوصاً مَن تمكّن منهم من الانسحاب، وأبرزهم المطلوب الأول إبراهيم النابلسي (19 عاماً) الذي استشهد في 9 آب/ أغسطس مع رفيقه إسلام صبوح، خلال اشتباك مسلح مع قوة إسرائيلية خاصة في البلدة القديمة.
أحدث استشهاد النابلسي، وهو أحد أعضاء المجموعة المتجاوزة للحزبية والفصائلية، حالة نضالية مضاعفة. ويقول أحد الناشطين: "إذا كان استشهاد الثلاثة جعل الحالة النضالية تتعاظم في نابلس، فإن اغتيال النابلسي الذي أصبح رمزاً شعبياً ووطنياً، ضاعف الحالة النضالية، وعزز من انضمام الشبان إلى المجموعة الوليدة."
وأمام تنامي ظاهرة المجموعة في نابلس، ضاعف الاحتلال من تحريضه عليها، حتى إنه وصف الخطر القادم منها بأنه أضعاف القادم من مدينة جنين ومخيمها، وطالب السلطة الفلسطينية بأن تقوم بـ "واجبها" في "ضبط الحالة الأمنية"، مهدداً بإعادة اجتياح المدينة.
وأمام الضغط الإسرائيلي، اعتقل جهاز الأمن الوقائي في 19 أيلول / سبتمبر 2022، الأسير المحرر مصعب اشتيه من مدينة نابلس، وهو أحد أعضاء المجموعة، وينتمي إلى حركة "حماس"، مع رفيقه المنتمي إلى الجبهة الشعبية عميد طبيلة، الأمر الذي أثار غضباً شعبياً عارماً. وقد دعت المجموعة في إثر ذلك، إلى مسيرة احتجاج ضد اعتقال اشتيه استمرت أكثر من يومين متواصلين ضد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، حتى توصلت المجموعة إلى اتفاق مع السلطة الفلسطينية يضمن عدم مطاردة المقاومين في المدينة.
بعد 40 يوماً على استشهاد الشابين المقاومين محمد العزيزي (أبو صالح) وعبد الرحمن صبح (أبو آدم) من مدينة نابلس، ظهرت "عرين الأسود" بشكل رسمي، وبزيّ موحد، في أول عرض عسكري مسلح.
وتمنح مشاهدة العرض العسكري ومتابعة الكلمات التي أُلقيت خلاله، إطلالة على بعض جوانب الخلفية المقاومة التي جاءت المجموعة منها. ففي صدر المنصة التي اعتلاها المسلحون وأمهات الشهداء، وُضعت صور ضخمة ضمت إلى جانب العزيزي وصبح، صور الشهيد عنان صبح الذي اغتالته إسرائيل في سنة 2009، وباسم أبو سرية، قائد كتائب شهداء الأقصى في الضفة الغربية، وأحد مؤسسي مجموعات "فرسان الليل" في نابلس، والذي اغتاله الاحتلال في سنة 2007. وخلال الاحتفال التأبيني الذي نُظم داخل البلدة القديمة جرى التطرق إلى ظاهرة "فرسان الليل" التي كانت بمثابة جماعة مسلحة قادتها كتائب شهداء الأقصى في نابلس بعد الانتفاضة الثانية، الأمر الذي يدل على أن "عرين الأسود" هي امتداد لهذه المجموعة التي تم تفكيكها عبر تصفية قياداتها وانضمام القسم الآخر منهم إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد تسليم سلاحه، وهو المصير ذاته الذي أريد للمجموعة أن تصل إليه.
وخلال الحفل المهيب أُعلن تأسيس مجموعة "العرين" بصفتها ظاهرة مقاومة مستمرة تستمد وحدتها من وجودها على الأرض، ومن الماضي القريب (مقاومة ياسر عرفات، والثورة التي انطلقت من نابلس قديماً)، ومن "البندقية الشريفة المصوبة نحو الاحتلال." وكانت الكلمة بمثابة وثيقة تأسيسية عامة يمكن أن يُجمع عليها كل فلسطيني يريد أن يقاوم الاحتلال، الأمر الذي دفع البعض إلى تأكيد أن مجموعة "العرين" هي فكرة أكثر من كونها تنظيمياً أو مجموعة مسلحة، مع أن تداعيات الأحداث اللاحقة عززت الأمرين معاً، وتحديداً بعد أن أخذت نداءات المجموعة تجد لها صدى في الضفة الغربية كافة.
وفي أثناء الاحتفال قدم مقاومو "العرين" برنامجهم ورؤيتهم من خلال ثلاث نقاط أولها: تأكيد السير على خطى الشهداء، فالمجموعة لن تقف مكتوفة الأيدي ولن تترك البندقية وستقوم بسحق العملاء والخونة؛ البنادق لن تهدر رصاصة في الهواء، فالعدو هو الاحتلال الإسرائيلي؛ أعضاء الأجهزة الأمنية إخوة لنا، وسلاحنا لن يتوجه ضدهم.
وعلى الرغم من كثرة التحليلات بشأن الظواهر المقاومة الجديدة، فإن الأمر الجوهري هو أن "عرين الأسود" و"كتيبة جنين" أعادتا الحياة إلى جسد الشعب الفلسطيني المنهك. والذين قامت على نضالهم هذه الظاهرة الجديدة هم شباب كانوا صبية صغاراً في أشد لحظات الانتفاضة الثانية فخراً وألماً، ومع ذلك تحولوا إلى مقاتلين.
تخبرنا شقيقة أحد المقاتلين الجرحى من أعضاء "العرين"، أنها وخلال متابعتها حالة شقيقها، لاحظت طفلاً صغيراً كان يأخذ مصروفه اليومي من والدته، لا ليشتري حاجاته، بل ليطبع صور شقيقها الجريح ثم يلصقها على سريره. وتقول: "مَن هذا الطفل؟ ومن أين جاء؟" وتجيب: "سيكبر، لكن اللحظات التي عاشها والممارسة الرمزية التي قام بها دليل على أن تجربة العرين زُرعت في عمق وعيه."
* استندت المقالة إلى معلومات جُمعت من مصادر قريبة في البلدة القديمة في مدينة نابلس ومخيم جنين، ولأسباب لها علاقة بسلامة المصادر فإنه جرى إخفاؤها.