تشهد الضفة الغربية تطورات متسارعة تختلط فيها القضايا الفلسطينية الداخلية مع ملفات الاحتلال الذي يُعتبر عاملاً خارجياً وداخلياً في آنٍ واحد، ويمكن تتبّع أربع معارك تدور في الضفة حالياً:
الأولى، معركة سياسية على خلافة الرئيس محمود عباس بين النخب الحاكمة: الرأسمالية والأمنية والسياسة. وهذا لا يعني عدم وجود صراعات نخبوية الطابع بين روافد بقايا الحركة الوطنية الفلسطينية وبين القيادة الفلسطينية المتوارية خلف أسوار المقاطعة في مدينة البيرة، غير أن هذه الصراعات تبقى هامشية إذا ما قورنت بما يحدث على مستوى الطبقات الاجتماعية الأكثر التصاقاً بالكفاح المسلح وأنماطه المتعددة، أي ما يمكن تسميته الصراعات من "تحت".
الثانية، هي تلك التي تحدث في عمق القاعدة الاجتماعية لحركة "فتح"، وتتضمن عملية انفكاك بطيء ومتصاعد بين القاعدة الاجتماعية المشكّلة من طبقات اجتماعية تتمركز في فضاء المخيمات والبلدات القديمة، وبين النخب الحاكمة والمشكّلة من رأسماليين وأمنيين وسياسيين.
الثالثة، تدور بين البؤر والفضاءات المقاوِمة وبين قوات الاحتلال وامتداداتها في داخل المجتمع الفلسطيني، وتتخذ شكلاً عسكرياً تكتيكياً، بحيث ترتطم قوة فضاءات الدفاع الذاتي مع قوة قوات الاحتلال ضمن ما هو متوافر من أدوات وتقنيات الفعل.
الرابعة، هي ما أطلق عليه الشهيدان وديع الحَوَحْ أحد قادة عرين الأسود في نابلس، وفاروق سلامة أحد قادة كتيبة جنين، خلال مكالمة هاتفية مسجلة بينهما، معركة "الحاضنة الاجتماعية للفعل المقاوم"، أي القتال على المجتمع الفلسطيني. وترد في مكالمتهما عبارة "بدنا نخلي الناس تصحصح"،[1] بمعنى أن المعركة لا تدور على مستوى المواجهة العسكرية فحسب، بل ما تحمله تلك المواجهة أيضاً من أبعاد سياسية تسعى تلك البؤر المقاتلة لإقناع الفضاء الفلسطيني الأوسع بها.
تقلص المؤسسة الرسمية وتآكلها
تجسد هذه المعارك عوارض التآكل المتصاعد في جسد المؤسسة الرسمية الفلسطينية بعد أعوام طويلة من هندسة قيادات المجتمع الفلسطيني على يد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، بما يتيح استمرار التوغل والتوسع الاستعماري في الضفة الغربية والقدس في مقابل الهدوء والسكون ومكافحة إمكانات التمرد الفلسطيني الفاعل في الزمن الحالي. أي أن المعركة الداخلية المتصاعدة تأتي نتيجة ضعف النخب الحاكمة التي فقدت أهم ما امتلكته سابقاً، وهي القدرة على ادعاء امتلاك مشروع وطني، وفي الوقت ذاته مواصلة القيام بمهمات التنسيق الأمني مع الاحتلال من أجل "مكافحة" ما يصفونه بـ "التمرد".
رويداً رويداً، وفي هذه اللحظة السياسية، تنكفئ السلطة الفلسطينية على نفسها، وتحصر نفسها بمجموعة محدودة من الأشخاص، فأكثر ما يخيفها هو المنافس من داخل البيت السياسي نفسه، وليس القتال الدائر بشكل متصاعد خارج هذا البيت.
لقد ساهم العديد من الأحداث في تسريع تفكك السلطة، ومن ضمن تلك الأحداث الهبّات الكبرى في الأعوام الستة الأخيرة، والتي اختبرت وابتكرت أشكالاً جديد من الفعل المقاوم، مثل العمليات الفردية، وهبّة باب الأسباط، وكان آخرها وأهمها معركة "سيف القدس" في شهر رمضان سنة 2021. ونحن نشهد عدة مسارات توصل إلى هذا التفكك:
الأول وربما الأهم، هو تحويل النخب الحاكمة الحديث عن المستقبل إلى تحذيرات من الدمار القادم، والفلتان الأمني، والاقتتال الداخلي، والحرب الأهلية، أي تحويل المستقبل إلى ديستوبيا (Dystopia) مخيفة، بهدف ربط الفلسطيني بمؤسسة أمنية تساهم في قتل إمكان "فلسطين" المستقبل. وهنا نحن نتحدث عن موت المستقبل، وعن الخوف كمقولة وحيدة ممكنة تساهم في الحفاظ على ما هو قائم.
الثاني هو تقلص السلطة نحو مركزَي قوتها، أي الأموال والأمن. والجدير بالملاحظة هو الابتعاد المطّرد والمتزايد للتيارات الثقافية والفنية والسياسية الأُخرى التي تؤدي دوراً مهماً كوسيط بين النخب والمجتمع الأوسع، الأمر الذي يوسع الفجوة بين المجتمع المدني والتيارات الثقافية والسياسية وبين النخب الحاكمة، ويفاقم الصراعات وحرب المواقع على المؤسسات. وقد تجسد ذلك في العديد من المعارك النقابية التي كان آخرها ما جرى بشأن نقابة الأطباء، وقبلها نقابة المحامين، وأيضاً ما جرى ويجري في عدة قضايا، مثل تعيين الرئيسِ نفسَه رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، ومثل المعارك الدائرة في الجامعات على خلفية الانتخابات الطالبية، وانتخابات البلديات وغيرها من المؤسسات الحيوية، وصولاً إلى رفض إجراء الانتخابات العامة.
الثالث يتمثل في ظاهرة متسارعة داخل الأجهزة الأمنية نفسها، ومن بعض أبنائها ممّن يخرجون عن إطار قرار النخب الحاكمة، ويلتحقون أو يساهمون في العمل المقاوم، وخصوصاً في شمال الضفة الغربية حيث تتصاعد ظاهرة فقدان النخب الحاكمة السيطرة على قاعدتها المباشرة، وإن كان ذلك بشكل محدود حتى الآن. فليس من المستغرب مثلاً أن العديد من العمليات نفّذه أفراد سابقون في الأجهزة الأمنية، أو من فضاء مرتبط فيها. فعلى سبيل المثال، والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن خازم هو عقيد سابق في جهاز الأمن الوطني، كما أن والد الشهيد إبراهيم النابلسي هو عقيد سابق في الجهاز نفسه. وهذا التطور يظهر جلياً من خلال نشر وسائل الإعلام الأنباء عن اعتقال السلطة لأبنائها بسبب ارتباطهم أو مساعدتهم للمقاومين، والذي أصبح أمراً متكرراً.[2] أمّا فيما يتعلق بالإجراءات الإسرائيلية في السياق نفسه، فقد تحدثت هيئة شؤون الأسرى عن ارتفاع عدد المعتقلين من الأجهزة الأمنية في السجون الإسرائيلية إلى نحو 355 أسيراً.[3]
نحن إذاً أمام مصفوفة من الصراعات المتعددة التي تصوغ شكل اللحظة السياسية الراهنة في فلسطين، وتمنحها احتمالات مستقبلية متعددة، بما فيها احتمال أن يُحسم بعض هذه المعارك، وبالتالي أن تؤثر في مسارات المعارك الأُخرى. لكن المهم هنا هو أن عمليتَي التقلص والتفكك أتاحتا، ضمن مجموعة أُخرى من العوامل، نشأة فسحة لبناء فضاءات مقاتلة خارج سيطرة الاحتلال والسلطة الفلسطينية، وبدعم من قوى المقاومة (البؤر المقاتلة) التي يتمركز أبرزها في جنين ونابلس. وفعلاً، أصبحت الضفة الغربية تمتلك مقاومة شبه منظمة قادرة على بناء ثقة مع فئات واسعة من المجتمع الفلسطيني، وأن تفرض نفسها كفاعل سياسي مهم في تحديد المسارات المستقبلية.
ومع هذه التطورات تتسع مساحة الاحتمالات المستقبلية، وتولّد انفتاحاً على تعددية لم تكن ممكنة لولا هذه المقاومة؛ إنها لحظة تاريخية لتقديم بديل من احتمال لموت المستقبل وموت فلسطين معها.
اقتصاد مكافحة التمرد
لا يمكن التقليل من أهمية المعركة السياسية بين استراتيجيات التعاون مع الاستعمار التي تُبنى بشكل وثيق على العلاقة بين طبقة اجتماعية صغيرة تدير بيروقراطية السلطة الفلسطينية، أو تشكل امتداداً اقتصادياً لها، وبين استراتيجيات المقاومة التي تقاتل على بناء معادلات ردع، وتسعى لحماية قدرة الفلسطيني على البقاء والاستمرار على أرض فلسطين، ضمن مستقبل يحمل قابلية تحويل تلك الاستراتيجيا الدفاعية إلى شكل من أشكال المشروع الوطني والتحرري.
إن التعاون الذي يتخذ شكلاً أقرب إلى "القدسية"، هو بمثابة استراتيجيا للنخب الحاكمة في الضفة الغربية، وهو أيضاً استراتيجيا طبقية بحتة. فتلك الطبقة تسعى للسيطرة على فضاء اقتصادي اتكالي ومحدود، حجمه يتجاوز 17 مليار دولار، ولمراكمة رأس مال ضمن دورة إنتاج يكون المنتج السياسي فيها هو أيضاً الوسيط الذي يمنحها القدرة على مراكمة فائض القيمة. وفي هذا السياق يمكن القول إن المنتج السياسي هو ما يحرك دورة الإنتاج نفسها.
بتعبير آخر، إن استخراج فائض القيمة ليس قائماً على بُنية السوق والتنافس والصراع الطبقي داخل المجتمع الفلسطيني، أو في كون الفضاء الفلسطيني احتياط عمالة يصبّ في السوق الإسرائيلية فقط، بل إنه يخضع لوسيط سياسي أيضاً.
وإذا كان هذا الفضاء الاقتصادي يعوّل على مخرج ووسيط سياسي، فإنه يمكن إذاً تسميته اقتصاد مكافحة التمرد، بحيث يكون المنتج النهائي عجزاً سياسياً شبه كلي، ومكافحة دائمة لإمكان الفعل المقاوم بما في ذلك إمكان التنظيم السياسي المقاوم.
لهذا، لا يمكن أيضاً إغفال جزئية مهمة في هذا التحليل، وهي أن فقدان القيادة السيطرة على القاعدة، وتمحور النخب حول نفسها، يؤديان بالضرورة إلى فقدان قوتها أمام مموليها وداعميها.
بمعنى آخر، إن هذه الحركة الدائرية الراجعة تفضي رويداً إلى ضعف متزايد عبر الزمن، بحيث تحاكي هذه العملية أيضاً عملية فقدان القوة الجسدية للفرد مع مرور الوقت. وهذا التفكك كله يعني أن تلك النخب باتت تفقد بالتدريج القدرة على تقديم نفسها أمام حلفائها كقوة ذات صلة في المجتمع الفلسطيني.
لذا، من غير المستغرب أو العجيب أن نرى الرئيس الفلسطيني يصدر قرارات يعين فيها نفسه رئيساً لهيئة القضاء، أو يحل نقابة الأطباء، أو يشنّ حرب مواقع تساهم في تمهيد الطريق أمام الفريق الذي يسعى للحلول مكانه في اليوم التالي لغيابه. وحرب المواقع هذه تشكل مادة مهمة في الصراع السياسي يسعى فيها بعض النخب، أو إحدى الجهات التي تقاتل من أجل إدارتها للبيروقراطية، لإخراج جميع اللاعبين الآخرين من اللعبة.
ومن جهة ثانية، فإن هذه النخب المتقاتلة والمرهقة لا تختلف على فحوى السياسة والاستراتيجيا العامة للسلطة الفلسطينية.
ما يهمنا هنا هو أن حركة المجتمع الفلسطيني في الضفة تتجه نحو استعادة المقاومة كخيار سياسي في هذه المرحلة، لكنها استعادة تحدث في ظل استمرار زمن "التعاون والهزيمة"، كأن شكل الاشتباك والتوازن بين قوى التعاون وقوى المقاومة المشتبكة يحدد شكل المقاومة ونوعها، علماً بأن قوى التعاون لا تزال تمتلك العديد من مراكز وعناصر القوة، وأهمها قدرتها على شراء "الصمت" من خلال إدارة توزيع الأموال. بتعبير آخر، نحن أمام مجموعات مقاتلة تسعى لإيقاظ الجمهور، ووفق تعبيرها باللهجة العامية تريد أن "تصحصح" الناس، وقوى أُخرى تريد صمتاً عاجزاً يعبّر عن تحييد طبقات اجتماعية واسعة عن القتال. وضمن هذا التوازن الذي يترنح في اتجاه استعادة المقاومة في الضفة الغربية، فإن إمكان نشأة انتفاضة كبرى لا يزال ضئيلاً.
البؤر المقاتلة وإشكالياتها
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن قدرة قوات الاحتلال الإسرائيلي مدعمة بالحرب النفسية الداخلية التي يقودها بعض الجهات الفلسطينية، على احتواء ظاهرة "عرين الأسود" في نابلس وخنقها، وقد ظهر ذلك من خلال استشهاد قيادات محورية من "العرين"، وتسليم البعض الآخر نفسه إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية.[4]
قبل أكثر من ٦٠ عاماً، كان تشي غيفارا يخُطّ في جبال سييرا مايسترا إحدى الاستراتيجيات السياسية والعسكرية الأهم في تلك الحقبة من نضالات حركات التحرر، فقد ارتكزت رؤيته إلى إمكان بناء فضاء ثوري متحرر من قبضة النظام السياسي، ومُتَحَدٍّ لهذا الفضاء في الوقت نفسه. وقد أطلق غيفارا على رؤيته نظرية "البؤرة الثورية" أو "التركيزية" (foquismo)، عبر شنّ عمليات فدائية بمجموعات صغيرة.[5]
وربما يكون أهم جوانب التجربة الكوبية التي خطّها تشي غيفارا وفيدل كاسترو، هو القدرة على بناء قاعدة ارتكاز، ومنطقة دفاع ذاتي، تشكلان بؤرة ثورية داخل فضاء سياسي أوسع يحاول أن يناهضها ويقتلها.
وقد ساهم العديد من العوامل في ذلك، بما في ذلك إصرار غيفارا على أن تكون البؤرة الثورية أكثر من مجرد قاعدة عسكرية. فقد كان غيفارا يحاول أن يجمع بين التموضع العسكري الدفاعي، والقدرة على نشر الدعاية السياسية، والالتحام مع تنظيمات سرية تعمل خارج البؤرة في المدن والريف، وبين أن يكون فضاء البؤرة موقعاً لتحقيق الثورة نفسها، أي أن يصبح الفضاء نفسه فضاء لممارسة الفكر الاجتماعي والسياسي الذي تنادي به الثورة، وخصوصاً على مستوى القانون والطبابة والعدالة الاجتماعية والعلاقة مع الفلاحين.
البؤرية لا تقوم فقط على تشييد جيش يشنّ حرب عصابات على الجيش النظامي، أو إنشاء قاعدة عسكرية والحفاظ عليها، بل كانت في المنظور الغيفاري بؤرة لتحقيق نوع التغيير المنشود وشكله؛ بؤرة تمتلك قابلية التوسع على حساب الفضاء المضاد للثورة.
وكان لاستمرار البؤرة الثورية، على الرغم من جميع الظروف التي تحيط بها، دور مهم في إشعال مخيلة المجتمع الكوبي الأوسع، وفي توسع المشاركة السياسية الثورية، وصولاً إلى ثورة عارمة أطاحت بحكم الديكتاتور باتيستا.
من هذا المنظور، فإن أهمية البؤرة لا تكمن في فاعليتها العسكرية، أي قدرتها على المناورة العسكرية فقط، وإن كان للغة الحرب أهمية في استمراريتها، بل إن ما يجعل أي بؤرة ذات أهمية في العمل السياسي الثوري، هو قدرتها على إلهام وإشعال مخيلة مَن هم خارجها، أي قدرتها على تحويل جموع المتفرجين، إلى جموع من المشاركين الفاعلين أيضاً.
وتمتلك البؤرة الثورية ثلاثة خيارات في توسّعها: انضمام مَن هم خارجها إلى داخلها؛ توسعها كفكرة سياسية خارجها والاشتباك الشبكي مع هذا التوسع؛ أن تمتلك ما يكفي من النجاعة العسكرية بحيث تكون محاولة دخولها ذات أثمان لا تحتمل، وهو ما صاغته غزة مثلاً، إذ أصبحت فضاء يصعب دخوله، بل فضاء لا تريد الآلة العسكرية الإسرائيلية دفع أثمان دخوله واحتلاله.
وتُعتبر البؤر الثورية خطرة على القوى السياسية، لأنها لا تقتصر على عملياتها المباشرة، أو على مستوى فاعليتها العسكرية، بل تتجاوزهما أيضاً لما تتضمنه من بناء مستقبل جديد في وعي المجتمع الأوسع. ولهذا نجد أن أغلبية أدبيات مكافحة التمرد تتحدث عن أهمية قتل تلك البؤر في مهدها، وتدميرها وهي في حالة الولادة قبل أن تتحول إلى بؤر تمتلك قابلية التوسع والتمدد.
لكن في المقابل، فإن حالة الدفاع الذاتي المرتكزة على بؤر في وسط فضاءات حضرية كثيفة، تحمل مخاطر كثيرة، منها أنها في اللحظة التي لا تستطيع التحرك براحة خارج تلك البؤر، تصبح في تموضع أقرب إلى حالة انتظار العدو، مانحة إياه أفضلية المفاجأة العملانية.
وعلى هذا العنصر بالذات، ارتكزت الحملة الأمنية الإسرائيلية التي أُطلق عليها اسم "كاسر الأمواج"،[6] والتي اعتمدت: أولاً على إغلاق جميع نقاط التهريب التي تربط الضفة بالداخل المحتل؛ ثانياً، القيام بعمليات اغتيال تستهدف مراكز الثقل للمقاومة الفلسطينية الناشئة، مثلما جرى في عملية اغتيال شهداء نابلس أدهم مبروكة ومحمد العزيزي وأشرف مبسلط لدى خروجهم من منطقة البلدة القديمة، وكذلك في عمليات اغتيال تامر كيلاني وفاروق سلامة وداود الزبيدي وقائد العرين وديع الحَوَحْ.
وبيّنت عمليات الاغتيال طبيعة التكتيكات الإسرائيلية التي قُسّمت إلى مرحلتين: الأولى محاولة احتواء فضاء التحرك للمقاومة؛ الثانية تفكيك تلك الفضاءات نفسها من خلال عمليات تستهدف عمقها، وخصوصاً من خلال استهداف القيادة الميدانية الفاعلة التي تُمثل في العديد من الأحيان، صلة الوصل بين الأفراد والمجموعات التي تستند إليها الحالة البؤرية.
لقد كان مقتل جندي إسرائيلي في عملية إطلاق نار خاطفة غربي نابلس، بمثابة نقطة تحول في استراتيجيا الاحتواء، ثم السعي لتفكيك الحالة[7]. ولهذا مزجت الأجهزة الأمنية بين حصار شمل معظم منطقة نابلس، وبين عدم الدخول العسكري الشامل، أي من دون دخول كثيف لقوات الاحتلال بهدف تصفية الحالة بشكل كامل. وراهنت قوات الاحتلال على مزيج من عمليات الاغتيال الخفية، وعلى أن استخدام الوحدات الخاصة ممزوجة مع حالة دفاعية يجعل حرية الحركة في منطقة نابلس صعباً، وينتزع من المقاومة إمكان التحرك السهل في محيط المدينة وريفها. وهذا كله استناداً إلى تشخيص للحالة فحواه أن قتل قياداتها الأساسية قد يفضي إلى انهيارها، وهو ما جعل تلك الاستراتيجيا تبدو كأنها حققت بعضاً من مرادها بعد قرار عناصر في "عرين الأسود" تسليم أنفسهم إلى السلطة الفلسطينية.[8]
قد تنجح هذه الاستراتيجيا في إنهاء حالة ثورية ما، لكن نجاحها ربما يكون مرحلياً، إذ يمكن أن تُستبدل القيادات التي تم اغتيالها بقيادات أُخرى أكثر شراسة. غير أن ما يهمنا في هذا التحليل أن الاحتلال يتعامل بشكل حذر، ويراهن على إمكان قتل تلك البؤر المقاتلة من دون أن يتلقى خسائر كبيرة في عداد جنوده، مع احتمال العودة إلى ما قبل تشكل الحالة والبؤر المقاتلة. أي أن هذه الحالة هي عبارة عن أمواج يمكن كسرها، وبالتالي صوغ استراتيجيا تصل إلى نهاياتها لاحقاً من دون الوصول إلى انتفاضة.
بين نابلس وجنين: إرادة القتال
جاء التركيز على نابلس بسبب وجود بؤر مقاتلة تتوسع عدداً وعتاداً، وتزداد ثقة بفعلها المقاوم المباشر، بل تستطيع تشكيل نواة قيادة سياسية ميدانية توجّه نبض الشارع الفلسطيني، وتهدد المشروع الاستيطاني في محيط نابلس المباشر. فنابلس تشكل أحد حدود المشروع الاستيطاني في شمال الضفة الغربية حالياً، وخصوصاً بعد انسحاب المستوطنين من منطقة جنين في نهاية الانتفاضة الثانية.
فوفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن عدد المستوطنين في محافظة نابلس كان 20,000 في سنة 2019، في مقابل ما يزيد على 240,000 فلسطيني، أي بنسبة لا تتجاوز 5%. بتعبير آخر، هذا يمثل خللاً في التوازن الديموغرافي يسري أيضاً على بعض مناطق الضفة الغربية مثل الخليل وطولكرم وطوباس (حيث نسبة المستوطنين إلى الفلسطينيين لا تتجاوز أيضاً 5%). وبالتالي فإن نشأة حالة مسلحة في هذه المناطق لا يشكل فقط تهديداً على الحياة اليومية للمستوطن، بل يشكل أيضاً تهديداً على إمكان بقاء المستعمرات في المناطق التي تمتلك تفوقاً هائلاً في عدد الفلسطينيين في مقابل عدد المستوطنين.[9]
ويقطن في تلك المستعمرات متطرفون من الحركات الاستيطانية الدينية بصورة خاصة، وذلك ببساطة لأن أحداً آخر لا يريد العيش فيها، علاوة على أنها بعيدة عن المراكز الاقتصادية لدولة الاحتلال، وأغلبية المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش في منطقة "غوش دان"، لا تكترث لها. بل يمكن القول إن هذه المستعمرات تشكل نقاط توتر اجتماعي داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وخصوصاً بسبب تصاعد عمليات إطلاق النار ضد قوات الاحتلال وإحداث خسائر بشرية بينها.[10]
ومع وجود هذه المعادلة الاستيطانية، وفي مقابلها الفعل المقاوم، فإن ما ينقص الحالة الفلسطينية هو قيادة سياسية مشتبكة تعزز الحراك القتالي، ذلك بأن تحويل القوة الثورية العسكرية الفلسطينية إلى قوة سياسية يحتاج إلى الوصل بين الفعل المقاوم وبين ما هو ممكن سياسياً، وإلى فتح أفق واضح يمكن الالتفاف حوله، وجعل المعركة تتعدى الحفاظ على استمرارية المقاومة، إلى بناء أفق سياسي لما هو ممكن من دون أن تتخلى عمّا يريده الفلسطينيون، أي "المستحيل". باختصار، يمكن القول إن ولادة هذه البؤر وصمودها أكثر من عام في جنين، ونحو 6 أشهر في نابلس، هو أمر أقرب إلى أن يكون أعجوبة سياسية، إذ إنها نشأت في قلب جغرافيا السيطرة العسكرية الإسرائيلية، وبوجود التنسيق الأمني الحثيث، وخطّت تجربتها بالدماء ضمن خط تصاعدي وضعها في مواجهة قوة نووية من داخل تلك القوة.
يؤكد ذلك توفر الإرادة القتالية، وعدم خشية معظم المقاتلين من الذهاب إلى النهاية في هذه المواجهة. غير أن أغلبية التجارب المرتبطة بمنظومات الدفاع الذاتي المنحصرة في فضاء شبه ثابت، لا تمتلك العديد من عناصر البقاء، ولا سيما عندما يتم صوغ استراتيجيات حصار واسعة وتدخلات أمنية وعسكرية مباشرة تشير إلى احتمالات مستقبلية أُخرى، وتضع المقاومة كلاعب سياسي يملك لأول مرة منذ 16 عاماً القدرة على تصدير البيان السياسي الذي يرافق الفعل المقاوم؛ مقاومة يمكنها أيضاً أن تؤدي دوراً في الصراعات السياسية الداخلية، كونها تنطلق من قلب القاعدة الاجتماعية للسلطة الفلسطينية.
الحاضنة الشعبية
لا يمكننا إغفال أن ولادة بؤر ثورية مقاتلة يحتاج إلى ما هو أبعد من توافر السلاح وإرادة القتال، بل يمكن القول إنه في صلب هذه الولادات أيضاً علاقة مع حاضنة اجتماعية أوسع؛ علاقة لا تتخذ فقظ شكل تواؤم وترابط، بل علاقة صراع على هذه الحاضنة أيضاً.
ومن الملاحظ أنه منذ الانتفاضة الأولى أصبح نوع الفعل الفلسطيني وشكله وطبيعته في علاقة شائكة مع الحاضنة. فالحاضنة تتألف من شخصيات متعددة: المتفرج، والدعم الخفي من أغلبية صامتة، ومن قوى تقدم نفسها جزءاً من الحاضنة للمقاومة، لكنها تعمل على تفكيك المقاومة أيضاً. لهذا نجد أن خطاب المقاومة والبؤر المقاتلة يتحدث عن علاقة بين حالة وجمهور، بين رمزية السلاح وبين جمهور يوازن بين العديد من المدخلات الاجتماعية والاقتصادية في رؤيته إلى المقاومة وإمكاناتها. فمن جهة، يمكن القول إنه لولا وجود حواضن لما تشكلت المقاومة، لكن من جهة أُخرى، نحن أمام مجتمع متشظٍّ ويعاني صراعات داخلية: أيديولوجية واقتصادية واجتماعية، وبالتالي ثمة العديد من العقبات في وجه تشكل بحر تستطيع المقاومة السباحة في فضائه، مثلما هو الأمر في الصيغة الماوية.
بل نحن نلمس، حتى في خطاب المجموعات المقاتلة مثل "بدنا الناس تصحصح"، هذا التوتر الحاضر بين المجموعات المقاتلة والمجتمع الأوسع، الأمر الذي يشير إلى التحول الأهم في العقود الثلاث الاخيرة. أي أن صراع المقاومة أولاً هو على بيئة تمتلك عناصر انبعاثها ككتل مقاومة، لكن أيضاً في مواجهة أيديولوجيات ساخرة ومهزومة لا ترى في هذا الانبعاث سوى مادة جديدة للتفكيك أو الرفض، أو مثلما يقول الشهيد تامر كيلاني "موقف الحياد".
ففي كثير من خطابات التمرد الفلسطيني الآن، وفي خطاب المقاومين أنفسهم، هناك صورة مغايرة مستجدة لخرائط النضال. فهناك ترسيم يضع أقلية من المقاومين في مواجهة الاحتلال وأشكال مكافحة التمرد البوليسية، وبين المجتمع أو السكان بصورة عامة. لكن على الرغم من هذا الترسيم الثلاثي المشابه للعديد من حركات التحرر في أزمنة سابقة، ماو وغيفارا تحديداً، فإننا غالباً ما نستشعر في خطاب المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، أن المقاومين أنفسهم يرون أنهم أقلية محاصرة مع قليل من الاهتمام من الجماهير التي تمتلك أيضاً، في كثير من الأحيان، أيديولوجيات سلبية - حيادية أو معادية للمقاومة. ومن هنا نستطيع فهم بعض الخطابات التي تترنح في قتالها على مجتمع لأجل المجتمع، إيماناً بإمكان ولادة الانتفاضة الأوسع.
إن الصراع على فلسطين كلها، وخصوصاً على الضفة الغربية، لم ينتهِ. صحيح أن هناك العديد من الاحتمالات لشكل المستقبل، إلّا إن خطر استكمال النكبة بالحد الأدنى ممكن في القرن الحالي، وهو ممكن أكثر في ظل سلطة سياسية تختار بناء تعاون بنيوي مع مَن يهدد وجودنا، وبالتالي تقرّبنا من هذا الاحتمال المستقبلي.
بعد أكثر من مئة عام من المواجهة مع المشروع الاستيطاني، نحن لم نخسر فلسطين، ولم نسترجعها، لكن في ثنايا القتال في اللحظة الراهنة ما يحيل إلى إمكان استمراريتنا في فلسطين، بل إمكان استعادتها أيضاً. وبالتالي فإن أهم ما تطرحه علينا البؤر القتالية هو سؤال لنا جميعاً: "هل حان وقت 'إصدار الأصوات'، وهل أتى وقت 'الصحصحة؟'."
المصادر:
[1] المكالمة الهاتفية مرفوعة في موقع "تيك توك"، في الرابط الإلكتروني.
[2] انظر: "قناة عبرية تزعم: السلطة اعتقلت 10 من عناصر أجهزتها الامنية ونقلتهم إلى سجن أريحا"، "وكالة سما الإخبارية"، 24 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[3] "(هيئة الأسرى): 355 معتقلاً من أبناء الأجهزة الأمنية في سجون الاحتلال"، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية "وفا"، 12 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[4] "مقاومون من (عرين الأسود) يسلّمون أنفسهم للأمن الفلسطيني"، موقع "عرب 48"، 27 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[5] للتوسع، انظر كتاب: تشي غيفارا، "حرب العصابات"، المنشور في موقع "الحوار المتمدن"، في الرابط الإلكتروني.
[6] " 'كاسر الأمواج': اسم العملية الإسرائيلية في مواجهة الفلسطينيين قُبيل رمضان"، TRT عربي، في الرابط الإلكتروني.
[7] "مقتل جندي إسرائيلي بالضفة ومجموعة فلسطينية تتبنّى العملية وتعلن بدء 'أيام الغضب' "، "الجزيرة"، 11 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[8] "مقاومون من 'عرين الأسود'..." مصدر سبق ذكره.
[9] “Number of Settlers in the Israeli Settlements and Palestinian Population in the West Bank by Governorate, 2019”, Palestinian Central Bureau of Statistics,
[10] "مظاهرة احتجاجية للمستوطنين قرب نابلس"، موقع "عرب 48"، 2 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.