قد تكون الانتخابات الأخيرة للكنيست الإسرائيلي التي جرت مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر هي الأهم والأخطر منذ أعوام. وهذا التقدير لا يعود إلى فوز الليكود مجدداً وتمكّن زعيمه بنيامين نتنياهو من حسم الانتخابات وحصوله أخيراً على أغلبية برلمانية مريحة تسمح له بتشكيل الحكومة المقبلة، بل لأن التيار اليميني الديني القومي المتطرف الذي كان قبل تلك الانتخابات على هامش الخريطة السياسية في إسرائيل، قد أصبح بعدها الحزب الثالث حجماً في الكنيست الجديد بعد تمكّن حزب "الصهيونية الدينية" بزعامة بتسلئيل سموتريتش بالتحالف مع زعيم "قوة يهودية" إيتمار بن غفير من الحصول على 14 مقعداً، الأمر الذي يؤهل هذا التكتل للحصول على حقائب وزارية أساسية في الحكومة الجديدة، والتحكم في عملية اتخاذ القرارات، وتشكيل صورة إسرائيل الجديدة وفقاً لأجندته السياسية.
وضعتنا نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة أمام يمين جديد (راجع مقالة أنطون شلحت في هذا العدد) إلى جانب اليمين التقليدي المتمثل في حزب الليكود وحزب "إسرائيل بيتنا" وأحزاب الوسط. فهذا اليمين الجديد يتألف من زعامات استيطانية متشددة تتحكم اليوم في الوضع على الأرض في مستعمرات الضفة الغربية، وتدافع عن البؤر الاستيطانية غير الشرعية، كما أنه يتكون من زعامات يمينية تمزج التدين المتطرف بالعنف بجميع أشكاله وتسعى لإدخال تغييرات جوهرية على الوضع القائم في الحرم القدسي الشريف من خلال إعطاء اليهود الحقّ في الصلاة فيه، وإعادة بناء الهيكل الثالث، وبسط السيادة الإسرائيلية على أراضي الضفة الغربية كافة.
تحاول هذه المقالة أن تلقي الضوء على دلالات فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات الأخيرة، وتتبّع مسار تشكيل الائتلاف الحكومي، وتداعيات ذلك على موازين القوى السياسية في إسرائيل، وعلى الوضع الأمني المتفجر في الضفة والهدوء الهشّ في غزة.
لكن قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى ثلاثة أمور أساسية راهنة رافقت الانتخابات الأخيرة وساهمت في عودة نتنياهو، وفي صعود اليمين المتطرف:
1 - حالة عدم الاستقرار السياسي والمعارك الانتخابية المتلاحقة (خمس دورات انتخابية خلال أقل من 4 أعوام) التي أرهقت الجمهور الإسرائيلي الذي بدأ يفضل الاستقرار السياسي والحسم في الانتخابات التشريعية على حالة التعادل بين المعسكرين الخصمين؛
2 - ضعف أداء رئيس الحكومة يائير لبيد خلال المعركة الانتخابية، وغرق معسكر أحزاب الوسط - اليسار في معارك داخلية وطغيان الأنا، الأمر الذي زعزع تماسكه الداخلي، بينما خاض معسكر اليمين معركته بتحالفات متينة ومتماسكة على الرغم من عدم وجود توافق كامل بين مكوناته كافة؛
3 - تصاعد الصراع على الهويات داخل المجتمع الإسرائيلي في ظل حملة التخويف التي شنّها اليمين القومي المتطرف من التهديد الذي تتعرض له هوية المجتمع الإسرائيلي اليهودية من جانب أحزاب اليسار الإسرائيلي المتهمة بالاستعداد للتنازل عن أجزاء من أرض إسرائيل، وكذلك التهديد الذي يمثله الفلسطينيون سواء داخل الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، أو في الضفة الغربية وقطاع غزة.
عودة نتنياهو القديم / الجديد كزعيم أوحد
مثّل فوز حزب الليكود في الانتخابات الأخيرة، إلى حد بعيد، فوزاً شخصياً لنتنياهو الذي أثبت أنه الزعيم الأوحد القادر على تحريك قاعدة انتخابية واسعة للتصويت له شخصياً قبل التصويت للحزب بصورة عامة، على الرغم من الحملات التي تعرّض لها، ومحاولات نزع الشرعية عنه جرّاء إحالته على المحاكمة في جرائم رشى وسوء أمانة وفساد.
إن الأعوام الطويلة التي أمضاها نتنياهو في الحكم غيرت صورة زعامته. فهو لم يعد يمثل صورة الزعيم التحديثي الذي يجمع بين التوجه القومي الصهيوني العلماني وبين الليبرالية والاقتصاد الحر، وإنما أصبح أقرب إلى الزعيم اليميني القومي المتشدد، أولاً بسبب الأعوام الطويلة لتحالفه مع الأحزاب الدينية الحريدية وحالياً مع حزب "الصهيونية الدينية" القومي المسياني المتطرف، وثانياً بسبب انخراطه أكثر فأكثر في السياسات التحريضية ضد العرب واليسار الإسرائيلي وهجومه على القضاء وسلطات تطبيق القانون وصدامه مع المنظومة القضائية.
لقد خاض نتنياهو حملته الانتخابية تحت شعارَين: استعادة الأمن الشخصي للمواطنين الإسرائيليين، والدفاع عن الهوية اليهودية. ولهذه الغاية استخدم سلاحه القديم بالتحريض ضد حكومة بينت - لبيد التي اتهمها بالفشل في فرض هيبة الدولة، وبانتهاجها سياسة متهاونة حيال "حماس"، وبأنها لا تستطيع حسم موجة الهجمات الأخيرة في الضفة الغربية. كما استخدم التحريض ضد العرب في دفاعه عن الهوية اليهودية، وزرع الشكوك في أحزاب الوسط - اليسار والأحزاب العربية.
غير أن السمة الأبرز للحملة الانتخابية الأخيرة كانت الدفاع عن الهوية اليهودية. وبحسب المستشرق دورون متسا فإن هذه الظاهرة ليست محصورة في الانتخابات الإسرائيلية، بل هي تشكل جزءاً من الصراع على الهويات الذي بات مألوفاً في المشهد الإقليمي والدولي، مثل الحرب الروسية – الأوكرانية، وفوز اليمين مؤخراً في إيطاليا، وصعود اليمين في الانتخابات الفرنسية.
يرى متسا أن الصراع على الهوية في إسرائيل في العقود الأخيرة اتخذ صورة صدام بين منطقين: "الأول المنطق ما بعد الحداثي للسياسة النفعية التي تقدس الاقتصاد وتُعتبر تجسيداً للفرادنية؛ الثاني هو منطق سياسات الهوية في العصر الحديث، والذي يعطي الأولوية للجماعة القومية والانتماء الوطني"، مشيراً إلى أن إسرائيل شهدت "في العقد الأخير تطبيق السياسة النفعية لكن بصورة مختلفة مقارنة بالعالم. فالليكود وزعيمه نتنياهو انتهجا في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، خلال فترة حكم هذا الأخير، نهجاً وسطياً أُعطيت فيه الأولوية للفائدة النفعية، إلّا إن هذه السياسة النفعية طُبقت تحت غطاء الأفكار التصحيحية التي تتماهى مع سياسة الهويات. وهكذا ناور نتنياهو بين المنطقَين، فحمل من جهة كرة السياسة النفعية، ومن جهة ثانية كرة الهويات." ويتوصل الكاتب إلى الخلاصة التالية: "لقد اكتشفت أوساط واسعة من المجتمع الإسرائيلي أن السياسة النفعية أدت إلى تآكل هويتهم اليهودية وطمست شخصيتهم، وجاءت ردة فعل المجتمع اليهودي على هذه السياسة من خلال صعود ظاهرة إيتمار بن غفير."[1]
وفي الواقع شكل الدفاع عن الهوية اليهودية العامل المشترك الموحد بين مكونات معسكر نتنياهو، مانحاً هذا المعسكر عمقاً تاريخياً وأساساً أيديولوجياً صلباً. ومع ذلك، فإن الهوية اليهودية التي صوّت من أجلها ناخبو الليكود ربما تختلف عن الهوية اليهودية التي صوّت لها ناخبو شركاء نتنياهو من الأحزاب الدينية الحريدية أو من حزب "الصهيونية الدينية". وفي رأي موتي كاربيل، فإن هذه الهوية "ليست بالضرورة هوية دينية. ذلك بأن الذين صوّتوا للتكتل الفائز في الانتخابات لا يؤدون، في أغلبيتهم، الفرائض الدينية، بل هم يهود يتمسكون بهويتهم القومية والثقافية. وإذا أراد اليسار أن يسترجع أهميته بالنسبة إلى أغلبية الجمهور اليهودي، فإن عليه أن يعود إلى الهوية اليهودية."[2]
لكن على الرغم من هذا القاسم المشترك الذي يجمع نتنياهو بزعيمَي اليمين القومي المتطرف بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، فإن ذلك على الأرجح لن يحول دون دخول نتنياهو في مواجهة معهما لعدة أسباب بعضها له علاقة بشهية هؤلاء الكبيرة للسلطة، وبعدم وجود كيمياء شخصية مثلاً مع سموتريتش الذي وصف نتنياهو في أحاديث مسرّبة بأنه "كذاب ابن كذاب".
ويتوقع مراقبون إسرائيليون أن يحاول نتنياهو في الائتلاف الجديد أن يؤدي دور المنقذ والحامي للديمقراطية وحقوق المواطن، والكابح لمبادرات شركائه من اليمين المتشدد الخطرة من جهة، كما سيحاول استمالة معسكر أحزاب اليمين المعتدل والوسط من أجل تخويف أحزاب اليمين القومي من جهة أُخرى. ففي رأي ألوف بن، فإن: "نتنياهو سيعود إلى المناورة التي هي أحب شيء إليه في السياسة، أي تفكيك المعسكرات والأحزاب."[3] ومثلما نجح في تفكيك معسكر التغيير عندما لم يقترح زعيم المعسكر الرسمي بني غانتس وزعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، يائير لبيد لتشكيل الحكومة، فإنه قادر على تفكيك أحزاب اليمين الصهيوني، من خلال التلويح بإمكان الاستعانة بأحزاب الوسط للمشاركة في ائتلافه الحكومي.
المهم أن "الساحر" نتنياهو عاد مجدداً إلى الساحة بألاعيبه السياسية كلها، وهو هذه المرة يأتي مزوداً بشرعية شعبية وبكتلة صلبة وحاسمة داخل الكنيست، وسيكون لديه القدرة على المناورة واستخدام جميع الحيل التي تضمن له رئاسة حكومية لأربعة أعوام على الأقل.
المخاض العسير لولادة الائتلاف الحكومي
عندما كلّف الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هيرتسوغ في 13 تشرين الثاني / نوفمبر بنيامين نتنياهو بمهمة تشكيل الحكومة الجديدة، صرّح الأخير أنه سيفعل ذلك خلال أسبوع. لكن مع بدء المفاوضات الائتلافية مع شركائه بدأت تظهر الصعوبات التي تعترض طريقه، وعلى رأس هذه العقبات المطالب التي قدمتها كتلة الصهيونية الدينية. فقد أصرّ زعيم التكتل بتسلئيل سموتريتش على تولّي حقيبة وزارة الدفاع، الأمر الذي حذرت منه الإدارة الأميركية بشدة، أو وزارة المال التي وعد بها نتنياهو زعيم حزب شاس آرييه درعي.
وفي ضوء المصاعب التي شهدتها المفاوضات الائتلافية برزت أصوات داخل إسرائيل طالبت بحكومة وحدة وطنية كبديل من حكومة "يمينية بالكامل". والحجة التي يطرحها أصحاب هذا الرأي أن "حكومة يتولى فيها بن غفير الدفاع، وسموتريتش الأمن، ستُستقبل بصورة سيئة في واشنطن والقاهرة وأبو ظبي والرياض والاتحاد الأوروبي، وستكون قصيرة العمر بسبب الفوارق والفجوات بين الموجود والمرغوب فيه."[4]
أمّا الحجة الثانية فهي أن حكومة وحدة هي التي ستعكس فعلاً "إرادة الشعب" الذي أعطى أيضاً تفويضاً لحزب الوسط "يوجد مستقبل" الذي حصل على 24 مقعداً إلى جانب حزب الليكود (32 مقعداً). ولذا يمكن القول إن "الشعب يريد حكومة يمين – وسط وليس حكومة يمين متطرف؛ حكومة يمكن أن ينضم إليها حزب المعسكر الرسمي مع 12 مقعداً، وحزب "إسرائيل بيتنا" مع 8 مقاعد، الأمر الذي يضمن لها أغلبية 74 عضواً في الكنيست من اليمين المعتدل، وإذا انضم إليهم الحريديم فإن الائتلاف يمكن أن يصل إلى أكثر من 90 نائباً."[5]
غير أن هناك أمرين أساسيين يمنعان حدوث مثل هذا الاحتمال: العداء المتراكم بين نتنياهو وزعماء معسكر الوسط جرّاء حملات نزع الشرعية عنه، فضلاً عن الصراعات على المكانة وحب الأنا؛ وأيضاً صعوبة الجمع في حكومة وحدة وطنية بين شركاء نتنياهو التقليديين الحريديم، وبين يائير لبيد وأفيغدور ليبرمان اللذين هما على عداء وخلاف كبيرين مع هؤلاء الأخيرين بشأن مسائل أساسية تتعلق بخدمة التلامذة الحريديم في الجيش، وبرامج التعليم الأساسي في المدارس الدينية، والمخصصات التي يحصل عليها الحريديم، وأمور أُخرى كثيرة لها علاقة بفرض الحريديم نمط حياتهم على العلمانيين في إسرائيل.
سياسة فرّق تَسُد
استخدم نتنياهو أسلوبه القديم في مواجهة مطالب كتلة الصهيونية الدينية من خلال العمل على استبعاد سموتريتش، والتقرب من بن غفير والتوصل معه إلى تفاهمات مسبقة قبل انضمامه إلى الحكومة الجديدة كوزير للأمن الداخلي مثلما طلب.
وكانت اللجنة المنظمة للكنيست قد صادقت على انقسام تحالف "الصهيونية الدينية" إلى ثلاث كتل برلمانية هي: حزب "الصهيونية الدينية" (7 مقاعد) برئاسة سموتريتش؛ "قوة يهودية" بزعامة بن غفير (6 مقاعد)؛ حزب "نوعام" الذي يتمثل في مقعد واحد يشغله رئيسه آفي عوز؛ الأمر الذي يسمح، بحسب القانون النرويجي، بدخول مرشحين آخرين من "الصهيونية الدينية" و"قوة يهودية" إلى الكنيست، بعد تعيين أعضاء منهما في الحكومة.[6]
ووقّع نتنياهو أول اتفاق ائتلافي مع زعيم حزب "قوة يهودية" إيتمار بن غفير الذي حصل على وزارة الأمن الداخلي التي أصبح اسمها من الآن فصاعداً وزارة الأمن القومي، مع صلاحيات واسعة. فكيف حدث ذلك وما هي دلالاته؟
استغل بن غفير في المعركة الانتخابية الأخيرة شعور الإسرائيليين بانعدام الأمن الشخصي وغياب سلطة الدولة في عدد من الأماكن في إسرائيل، ولا سيما في النقب، فضلاً عن دفاعه عن البؤر الاستيطانية غير الشرعية للحصول على دعم الناخبين.
وحاول بن غفير خلال الأشهر الماضية التخفيف من وطأة ماضيه العنصري والفوضوي والعنيف والادعاء بأنه أصبح أكثر اعتدالاً. لكن تقريراً نشره موقع "N12" في 21 / 11 / 2022، يقدم صورة أقرب إلى الواقع عن وزير الأمن الداخلي المفترض: "إيتمار بن غفير معروف في كل بيت إسرائيلي منذ عدة أعوام. فهذا اليميني المتطرف الذي صُوّر وهو يحمل لوحة سيارة رابين، والذي احتفل بإصابة أريئيل شارون بالجلطة الدماغية، وقلب بسطات تابعة للعرب، يبدو أنه سيصبح وزير الأمن الداخلي الجديد، وهو لن يدخل إلى الوزارة وحيداً، بل سيكون برفقته مجموعة أشخاص: حاخامون؛ شبان التلال؛ كهانيون آخرون سيدخلون إلى وزارات الدولة وسيراقبون الشرطة ويتحولون من شهود لدى الشاباك إلى متخذي القرارات. وبين هذه المجموعة زوجته إيلّا بن غفير التي انضمت إلى شبيبة كهانا عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها، وأنشأت مع رفاقها بؤرة استيطانية غير قانونية في عمر السادسة عشرة، واعتُقلت عدة مرات. كما أنها اعتُقلت وأُدينت بالقيام بأعمال شغب خلال الاحتجاجات ضد خطة الانفصال عن غزة في سنة 2005."[7]
وذكر التقرير أيضاً أن وزير الأمن الداخلي المقبل لن يعمل بصورة مستقلة، وإنما "سيكون خاضعاً لتوجيهات عدد من الحاخامين بينهم حاخامون حريديون – قوميون يرافقونه منذ أعوام، وهم أقرب إلى أن يكونوا آباءه الروحيين، ومن أهمهم الحاخام دوف ليؤر المؤيد للترحيل، والذي يعتبر باروخ غولدشتاين أكثر قداسة من ضحايا المحرقة كلهم، وأن الديمقراطية بدعة غربية. وهناك أيضاً الحاخام يهودا كرويزر قريب بن غفير والمقرب جداً منه، وهو الذي حل محل كهانا في رئاسة يشيفات هرعيون هيهوديت [الفكرة اليهودية]، والذي يدعو إلى بناء الهيكل الثالث."[8]
ومن أهم الأمور التي سيعمل بن غفير على تغييرها عندما يتولى منصبه هو العمل على سنّ قانون تطبيق عقوبة الإعدام ضد المقاومين الفلسطينيين، والتشدد في معاملة المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، والقسوة في عمليات القمع والاعتقالات في الضفة الغربية، ولا سيما أنه سيكون المسؤول مباشرة عن عمل جميع الأجهزة الأمنية من الشرطة إلى حرس الحدود وصولاً إلى الشاباك، فضلاً عن موافقته على صلاة اليهود في الحرم القدسي الشريف، إلى جانب دعمه شرعنة البؤر الاستيطانية غير القانونية.
ووفقاً للاتفاق الموقّع مؤخراً بين الليكود و"قوة يهودية" فإن بن غفير سيُعطى صلاحيات واسعة، من ضمنها المسؤولية عن عمل حرس الحدود في الضفة الغربية الذي كان تابعاً سابقاً لوزارة الدفاع. ومن المعلوم أن بين مهمات حرس الحدود الأساسية إخلاء بؤر استيطانية غير قانونية أقامها "شبان التلال"، ويوجد حالياً 18 سَرية، أي نحو 2000 مقاتل من حرس الحدود في الضفة الغربية. وهذا الحرس يضم بين عناصره وحدة المستعربين في الضفة الغربية، ويعمل كذراع تنفيذية للجيش الإسرائيلي هناك، وخصوصاً في مواجهة السكان المدنيين في البؤر الاستيطانية.[9] ومعنى ذلك أنه من اليوم فصاعداً لن يجرؤ أحد على التصدي للبؤر الاستيطانية العشوائية التي ستكون تحت حماية بن غفير.
فضلاً عن ذلك سيحصل الرقم الثاني في حزب "قوة يهودية"، يتسحاق فاسرلوف، على منصب وزير النقب والجليل. كما سيحصل على الحصانة الوطنية خلال عمله على إعادة الأمن إلى أولئك الذي يدينون بالولاء للدولة، وعلى تحقيق الأهداف الثلاثة التي خاض الانتخابات على أساسها: "الأمن الشخصي، والحرص على الضواحي وعلى النقب والجليل، والدفاع عن الهوية اليهودية."[10]
تقزيم سموتريتش
منذ بداية المفاوضات الائتلافية أعلن سموتريتش بوضوح رغبته في تولّي وزارة الدفاع، الأمر الذي لم يلقَ أي استجابة من جانب بنيامين نتنياهو. ومن أجل التعرف إلى بعض مواقف سموتريتش من النزاع مع الفلسطينيين، فإنه يمكن العودة إلى الخطة التي نشرها بعنوان: "خطة الحسم: مفتاح السلام موجود لدى اليمين".[11] فمن أهم ما تضمّنته الخطة: "إن دولة إسرائيل تستند في شرعيتها إلى الحقّ الإلهي، وإلى اتفاق شعوب العالم في لحظة تاريخية نادرة للمساعدة في تحقيق الرؤيا وإعادة شعب إسرائيل"؛ "أمام العرب 3 خيارات: 1 - مغادرة البلد؛ 2 - العيش كرعايا ولديهم مكانة أقل من اليهود؛ 3 - المقاومة"؛ "لا مكان لقوميتين غربي نهر الأردن، بل هناك مكان لقومية واحدة، ويجب فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية كلها"؛ "إذا كنّا غير قادرين على القضاء على الهوية القومية الفلسطينية، فإننا قادرون على القضاء على الطموح الفلسطيني لتحقيق هذه الهوية بين البحر والنهر"؛ "غزة كانت أفضل كثيراً أمنياً ومعيشياً وحياتياً عندما كانت تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي."
وفي سنة 2015، نشر سموتريتش تغريدة، وكان يومها عضواً في الكنيست عن حزب "البيت اليهودي"، كتب فيها أنه يجب الفصل بين الأمهات الفلسطينيات واليهوديات في أجنحة الولادة: "زوجتي لا ترغب في أن تكون إلى جانب امرأة فلسطينية ولدت طفلاً قد يرغب في قتل طفلها بعد عشرين عاماً." وصرحت زوجته أيضاً بأنها طردت طبيباً عربياً من غرفة الولادة لأنها لا تريد أن تلمس طفلها أيدٍ غير يهودية، كما رفضت أن يكون لديها قابلة عربية لأن الولادة هي "لحظة يهودية وطاهرة".[12]
فضلاً عن ذلك فإن انعدام الخبرة والتجربة الأمنية لدى سموتريتش يجعله مرفوضاً ليس لدى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية فحسب، بل من الليكود نفسه أيضاً. فقد ذكرت مصادر مطلعة على مسار المفاوضات الائتلافية أن سموتريتش لن يتولى وزارة الدفاع مطلقاً، حتى لو قاد ذلك إلى الدعوة إلى انتخابات جديدة.
وبعد مفاوضات شاقة وشائكة جرى الاتفاق على إعطاء سموتريتش وزارة المال، وإعطاء زعيم شاس آريية درعي وزارتَي الداخلية والصحة. لكن المشكلة الجديدة التي برزت مع سموتريتش، هي مطالبته بالمسؤولية على إدارات تابعة لوزارات أُخرى، مثل مطالبته بالحصول على المسؤولية عن الإدارة المدنية في الضفة الغربية فيما يتعلق بالمستوطنين هناك، والتابعة لوزارة الدفاع،[13] وعلى دائرة اعتناق الديانة اليهودية التي يشرف عليها مكتب رئيس الحكومة، وعلى التعليم الرسمي الديني التابع لوزارة التعليم.
كما جرى الاتفاق مع زعيم حزب "نوعام" آفي معوز، المناهض للمثليين الجنسيين، على تولّي رئاسة مديرية "الهوية القومية اليهودية" التابعة هي أيضاً لرئاسة الحكومة، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة المنتهية ولايته يائير لبيد إلى الكتابة على تويتر: "يبدو مع مرور كل يوم أنه بدلاً من اقامة حكومة يمينية كاملة، يجري هنا إقامة حكومة تهور كاملة، وحقيقة أن نتنياهو سيعين آفي معوز نائباً للوزير في مكتب رئيس الحكومة ليس أقل من الجنون."[14]
هذا كله يشير إلى سعي أحزاب اليمين القومي الديني المتشدد للقبض على مفاصل الدولة التي هي على تماسٍ مع المستوطنين من جهة، ومع جمهور المتدينين من جهة أُخرى، وعلى كل ما له علاقة بالدفاع عن الهوية اليهودية.
ومهما تَؤُلْ إليه الحال، فقد كشفت المفاوضات الائتلافية صورة قاتمة عن الائتلاف الحكومي المقبل الذي سيحكم إسرائيل، إذ إن اليمين التقليدي يتنافس مع اليمين الديني المتطرف الذي لا كوابح له، وبالتالي يغدو نتنياهو في هذه التركيبة الحكومية الشخص الأكثر تجربة وتعقلاً وقدرة على كبح مشعلي الحرائق من أمثال بن غفير وسموتريتش.
المعارضة خسرت معركة لكنها لم تخسر الأمل
خسارة المعسكر الذي يطلق عليه الوسط - اليسار كانت كبيرة وصادمة، ولا سيما أن هذه الانتخابات شهدت خروج الحزب اليساري الصهيوني الحقيقي ميرتس، و"حزب التجمع الوطني الديمقراطي" ("بلد") من البرلمان. كما أن زعماء هذا المعسكر المؤلف من "يوجد مستقبل" بزعامة لبيد (24 مقعداً)، والمعسكر الرسمي بزعامة غانتس (12 مقعداً)، وحزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور لبيرمان (6 مقاعد)، وحزب العمل بزعامة ميخائيلي (4 مقاعد)، بدوا مشرذمين متخاصمين، وهو ما برز في عدم تسمية غانتس وليبرمان شريكهما لبيد رئيساً للحكومة، وفي تصريحات زعيمة حزب العمل بأن لبيد لا يصلح رئيساً للحكومة. وقد مُنيت الأحزاب العربية هي أيضاً بهزيمة جرّاء عدم تمكّن حزب "بلد" من تجاوز نسبة الحسم، وخوض حزب "راعام" ("القائمة العربية الموحدة") الانتخابات منفرداً (5 مقاعد)، وتراجع نسبة المشاركة العربية في الانتخابات وانعكاس هذا كله على نسبة تمثيلهم في الكنيست (يمكن مراجعة مقالة الزميل رازي نابلسي في هذا الشأن).
لكن بعد مرور وقع الصدمة، ومع تعقّد المفاوضات الائتلافية التي يجريها نتنياهو، وبروز الوجه الحقيقي المخيف والمنفر لشركائه الجدد بالنسبة إلى الإسرائيليين اليهود قبل الآخرين، استرجعت المعارضة شيئاً من تفاؤلها، وبرز ذلك في تصريحات رئيس الحكومة المنتهية ولايته يائير لبيد في الجلسة الأخيرة التي عقدتها حكومته عندما قال: "سنعود إلى هذه الغرفة بصورة أسرع ممّا اعتقدتم."
إن الائتلاف الحكومي المقبل لنتنياهو هو امتحان لقدرته على العمل مع شركائه من اليمين المتطرف الشعبوي الذين يفتقرون إلى التجربة والخبرة، والذين لديهم أجندتهم التي تخدم أولاً اليمين الديني الاستيطاني دون غيرهم من الإسرائيليين، الأمر الذي يشكل تحدّياً موجّهاً إلى المعارضة السياسية التي تدّعي أنها وسطية وعلمانية. لكن تولّي بن غفير وزارة الأمن الداخلي يمثل خطراً أكيداً وداهماً على الفلسطينيين، ويمكن أن يؤدي إلى تدهور الوضع في الضفة أو غزة، والتسبب بحريق كبير يهدد المنطقة بأكملها.
المصادر:
[1] انظر: درون متسا، "بنيامين نتنياهو: بين سياسات الهوية اليهودية والسياسة النفعية البراغماتية"، "يديعوت أحرونوت"، 4 / 11 / 2022، "مختارات من الصحف العبرية"، موقع "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، في الرابط الإلكتروني.
[2] موتي كاربيل، "حسابات اليسار على المستوى التاريخي: الهوية اليهودية تنتصر"، "مكور ريشون"، 7 / 11 / 2022، "مختارات من الصحف العبرية"، "موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، في الرابط الإلكتروني.
[3] ألوف بن، "المناورة نجحت، واليسار المتنكر فكك كتلة التغيير"، "هآرتس" (بالعبرية)، 11 / 11 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[4] أفرايم غانور، "حكومة يمينية بالكامل؟ نتنياهو يدرك "أنها ستكون ملأى بالمشكلات"، "معاريف"، 17 / 11 / 2022، "مختارات من الصحف العبرية"، موقع "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، في الرابط الإلكتروني.
[5] ميشكا بن دافيد، "الجمهور يريد حكومة وحدة"، "يديعوت أحرونوت"، 15 / 11 / 2022، "مختارات من الصحف العبرية"، موقع "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، في الرابط الإلكتروني.
[6] "اللجنة المنظمة للكنيست تصادق على انقسام قائمة تحالُف 'الصهيونية الدينية' إلى ثلاث كتل، ومساعي نتنياهو لتأليف حكومة إسرائيلية جديدة ما زالت تصطدم بعدة عقبات"، "يديعوت أحرونوت"، 21 / 11 / 2022، "مختارات من الصحف العبرية"، موقع "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، في الرابط الإلكتروني.
[7] "خلية نحل بن غفير: تعرّف إلى المتطرفين الذين يحيطون بالوزير المكلف"، موقع N12 (بالعبرية)، 21 / 11 / 2022، في الرابط الإلكتروني.
[8] المصدر نفسه.
[9] إليشاع بن كيمون، ومئير تورجمان، "18 سرية من حرس الحدود وأكثر من 2000 مقاتل: المسؤوليات التي حصل عليها بن غفير وحدودها"، "يديعوت أحرونوت"، 27 / 11 / 2022 (بالعبرية)، في الرابط الإلكتروني.
[10] الوزير الجديد للنقب والجليل: سأساعد المواطنين الموالين لإسرائيل"، "يديعوت أحرونوت"، 27/11/2022، في الرابط الإلكتروني.
[11] بتسلئيل سموتريتش، "خطة الحسم: مفتاح السلام موجود لدى اليمين"، "هاشيلوش" (بالعبرية)، في الرابط الإلكتروني.
[12] "عضو كنيستٍ يُعرب عن تأييده لفصل بين العرب واليهود في أجنحة الولادة في المستشفيات"، "تايمز أوف إسرائيل"، 5 / 4 / 2016، في الرابط الإلكتروني.
[13] لمزيد من التفصيلات في هذا الشأن يمكن العودة إلى افتتاحية "هآرتس" في 25 / 11 / 2022، والتي جاءت بعنوان: "لا تعطوا سموتريتش الإدارة المدنية"، في الرابط الإلكتروني.
[14] يائير لبيد على تويتر ضمن مقالة مايكل هاوزر طوف، "الليكود: توقيع اتفاق ائتلافي مع نعوم. سيتم إنشاء سلطة هوية قومية يهودية"، "هآرتس"، 27 / 11 / 2022، في الرابط الإلكتروني.