بينما كان أحمد الحجاج ينتظر تحرُّر شقيقه اعتراف في الأول من آذار/مارس 2023 ليلتئم شمل أسرتهما لأول مرة منذ عشرين عاماً، ويعيشان حياة طبيعية، أسوةً ببقية البشر، قطع المستعمرون الصهاينة حلمه الصغير، حين أعادوه مجدداً إلى السجن، لكن هذه المرة إلى الاعتقال الإداري التعسفي لمدة ستة أشهر، وبالتالي تأجيل تحقيق أحلامه الصغيرة، وانتظار فرح بحُرية نسبية، تاريخها غير معروف بالنسبة إليه، فمن يحدّد عدد مرات تجديد اعتقاله وتاريخ تحرُّره هم، حصراً، ضباط جهاز الأمن العام الاستعماري الصهيوني "الشاباك" الذين أتقنوا فن الانتقام الحاضر دوماً في خلفية تنفيذهم سياسة الاعتقال الإداري التعسفي.
كان أحمد قد تحرّر من قيود السجن الصغير في منتصف سنة 2020 إلى سجن الضفة الغربية الكبير المقيّد بجدران الفصل العنصري والحواجز والمستوطنات، بما فيها المحيطة ببلدته بيت ريما، بعد سبعة عشر عاماً لم تنقص يوماً واحداً من الألم والمعاناة والحرمان، لكن أيضاً الأمل بمستقبل مضيء في وطن حرّ خالٍ من الاستعمار والمستعمرين. أحلام صغيرة انتظر تحقُّقها طوال سنوات اعتقاله، ومن ضمنها زواجه من رفيقة عمره أماني الراعي، وبناء أسرة وترميم ما انقطع طويلاً من حياته، وكذلك التجول في مدن الضفة وقراها، والتمتع بأجواء بلدته الريفية، بهوائها النقي وجبالها الجميلة.
واحدٌ من أحلامه الصغيرة التي لم يتمكن من تحقيقها بسبب تغييبه مجدداً في الأسر الصهيوني واستمرار تغييب شقيقه اعتراف كان تنفيذ والده لوعده لأبنائه وبناته بأن يقسّم ما يملكه من أرض في البلدة بين أفراد الأسرة حين يلتئم شمل جميع أفرادها. حلم أحمد طويلاً بتحقيق تطلُّعه الصغير هذا، وبناء شقة صغيرة بعيدة عن العمران في البلدة، تحيط بها أشجار الزيتون والفواكه، يزرعها أيضاً بما يستطيع من الخضروات. حلمٌ صغير مؤجل، فالحجاج يكرر ما كان يقوله دائماً الشاعر والمناضل التركي ناظم حكمت "أجمل الأيام تلك التي لم نعِشها بعد." فبالنسبة إليه وإلى زوجته أماني، حين عُقد قرانهما في كانون الأول/ديسمبر 2020، أن هنالك في العمر متسعاً للحب والفرح والسعادة. فالأيام الجميلة بدأت فعلاً بولادة طفلتهما ناي التي بلغ عمرها عاماً واحداً بعد شهر من اعتقال والدها. ناي صاحبة الابتسامة الساحرة التي تشيع التفاؤل بمستقبل أكثر إشراقاً بصورها الجميلة المعلقة أمام أعين والدها وزملائه في غرفة احتجازهم في سجن عوفر.
لقد كان الحجاج خلال إضراب الثلاثين معتقلاً إدارياً ضد سياسة الاعتقال الإداري اللاإنسانية واللاأخلاقية في الفترة بين 25/9 و 13/10/2022، ينادي طفلته في أحلام يقظته وفي مناماته، متغلباً بذلك على آلام الأمعاء الخاوية، وكانت الصغيرة ناي تحتضن صورته وتقبّلها باستمرار.
أماني زوجة الأسير أحمد حجاج وطفلتهما ناي
ابتسامة ناي الساحرة تعيد إلى الذاكرة مذكرات المناضل في الجيش الإيرلندي السري بوبي ساندز، الذي رحل عن عالمنا مع عدد من رفاقه في سنة 1981 نتيجة إضرابهم المفتوح عن الطعام في مواجهة تعسُّف السلطات البريطانية ورفضها الاعتراف بهم كأسرى حرب. كان ساندز يقول "انتقامنا يكمن في ابتسامات أطفالنا."
الفرح المنتزَع من أنياب المستعمرين قادمٌ مجدداً إلى عائلة أحمد وأماني، فهما ينتظران طفلتهما الثانية سما، فرحٌ لم يقطعه تغييب الأب في الاعتقال الإداري، فقد اعتاد أبناء شعبنا التشبث بالحياة والحرية والإصرار على الفرح مهما أوغل المستعمرون في عدوانهم واستهدافهم لقضيتنا الوطنية وحقوقنا.
حكاية أحمد الحجاج وأسرته مع المستعمرين بدأت مبكراً، وتحديداً خلال تسعينيات القرن الماضي، حين حرموه طفولته سنة 1994 بحكمٍ عليه في السجن ستة أشهر ونقْله إلى سجن النقب الصحراوي، واستهداف شقيقه بالاعتقال الإداري المتكرر، وبإصابته خلال الاعتقال سنة 2003، وبهدم بيتهم في اليوم الثاني لاعتقاله الطويل.
إنها واحدة من مئات آلاف الحكايات الفلسطينية في مواجهة المستعمرين الذين يعتقدون أن استخدام المزيد من القوة والقمع والتنكيل والقتل والاعتقال ضد أبناء شعبنا، كفيل بضرب انتمائهم الوطني ودفعهم إلى حافة اليأس. لذلك يكرر قادتهم القول إن ما لا يتحقق بالقوة يتحقق بمزيد من القوة. وهذا من دون شك يتناقض مع حقائق الواقع الموضوعي، فالوطنية الفلسطينية راسخة كجذور شجر الزيتون، وهنالك يقين عميق لدى شعبنا أن المستقبل يدوم طويلاً، فهو حليفٌ دائم لمن يتشبث بحقوقه ويسعى لتحقيقها.
في هذا الإطار، دأبت السلطة الاستعمارية الصهيونية على استخدام سياسة الاعتقال الإداري المتناقضة مع المواثيق الدولية ضد عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين منذ نكبة 1948، وكثّفت استخدامها منذ هزيمة 1967، كواحدة من وسائلها الرئيسية في محاولة إخضاع شعبنا ودفعه إلى فقدان الأمل واليأس، وبصورة خاصة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، وخلال العام الجاري 2022، ودائماً بالاستناد إلى الأكذوبة المسماة "الملف السري" الذي يقدمه ممثل النيابة العسكرية إلى القاضي العسكري في المحاكم التي تُستخدم في الواقع لتبييض هذه السياسة التعسفية وتشريعها بما يخدم المنظومة الاستعمارية الصهيونية وأهدافها. يظهر ذلك واضحاً لدى مراجعة بعض القرارات التي يُصدرها القضاة العسكريون في المحكمة المسماة "رقابة قضائية"، وفي محكمة الاستئناف. ويقول القاضي العسكري نئور أفينحن في المحكمة المسماة رقابة قضائية على أمر قائد المنطقة الوسطى العسكري بتحويل أحمد الحجاج إلى الاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر، والتي عُقدت من دون حضور المعتقل ومحاميه، وقبل قرار 65 معتقلاً إدارياً مقاطعة المحاكم التي تنظر في الاعتقال الإداري مقاطعة استراتيجية نهائية، ومن ضمنهم الحجاج، في نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي: "لا يمكن الإفصاح عن تفاصيل المادة السرية، لعدم المس بأمن المنطقة، يجب إبقاء المادة سرية"، ويضيف "بعد فحص المادة الاستخباراتية التي قُدمت أمامي في موضوع المعتقل، وصلت إلى قناعة بأن إصدار قرار الاعتقال الإداري له أساس، والاعتبارات الأمنية ألزمت القرار."
ويتابع القاضي أفينحن، "قُدمت أمامي مادة سرية نوعية من مصادر متنوعة تشير إلى أنه يوجد خطر على أمن المنطقة في حال الإفراج عن المعتقل، ويتضح من المادة السرية أن المعتقل نشيط جبهة شعبية، وله علاقات مع نشطاء جبهة شعبية آخرين." يتضح من نصوص القرار بعض قضايا محاكم الاعتقال الإداري الشكلية والصورية، فقد اتُّهم الحجاج خلال اعتقاله الطويل بالانتماء إلى الجبهة الشعبية، وعاش مع معتقلي الجبهة طوال هذه الفترة، فمن الطبيعي جداً أن تربطه بهم علاقات اجتماعية.
أخيراً، لقد أمضى الحجاج 25 شهراً في الحرية النسبية، حقق خلالها بعض أحلامه، وبالتأكيد، سيحقق بقية أحلامه الصغيرة برفقة أماني وناي وسما، فكما يقال "الحالمون لا يمكن ترويضهم أبداً."