رئيس حكومة تصريف الأعمال يائير لبيد أراد أن يجعل خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 أيلول/ سبتمبر 2022 لحظة مجيدة في مسيرته السياسية التي بدأت قبل عقد فقط، وهو القادم إلى الحياة السياسية من باب الإعلام والتلفزيون والكتابة الأدبية والفنية. كما أراد لبيد أن يكون ظهوره على منبر الأمم المتحدة مناسبة لإظهار براعته الخطابية وقدراته الشخصية على التأثير أمام زعماء العالم، كممثل لجيل مختلف من الزعماء الإسرائيليين الذين يريدون تقديم صورة عن إسرائيل "المستقبل"، وليس إسرائيل "الماضي"، بحسب زعمه.
وفي الوقت عينه، أراد تلميع صورته أمام ناخبيه والجمهور الإسرائيلي قبيل المعركة الانتخابية القريبة للكنيست. لم يتصرف لبيد كما فعل سلفه بنيامين نتنياهو الذي كان يذهب إلى الأمم المتحدة، حاملاً الوثائق والبيانات، لبثّ روح الرعب في العالم من القنبلة النووية الإيرانية الوشيكة التي لا تشكل فقط خطراً وجودياً على إسرائيل، بل على دول العالم بأكمله، بحسب قوله، لكن لبيد حاول تسويق الوجه الآخر لإسرائيل، الدولة التي اختارت "الشراكة على العزلة والانغلاق"، و"السلام على الحرب". فإذا به يقدم على منبر الأمم المتحدة عرضاً ترويجياً يليق برئيس شركة تجارية أكثر مما يليق برئيس حكومة. فحتى حديثه عن حل الدولتين لشعبين وتأييد أغلبية الإسرائيليين له، والذي جاء تقريباً في الدقيقة الـ12 من خطابه، الذي دام قرابة 23 دقيقة واعتبره بعض الإسرائيليين خطوة "شجاعة" خرج فيها عن موقف سلفه، فجاء سريعاً وعاماً، وأقرب إلى شعار انتخابي منه إلى إعلان موقف سياسي رصين وواضح، ولا سيما حديثه عن وجود أغلبية يهودية تؤيد هذا الحل، بينما تشير استطلاعات الرأي في داخل إسرائيل إلى تقدُّم معسكر اليمين بزعامة نتنياهو، الرافض لحل الدولتين، واحتمال حصوله على 61 مقعداً في الانتخابات المقبلة، والانحياز الواضح، أكثر فأكثر، إلى الجمهور اليهودي في إسرائيل نحو اليمين عموماً، الرافض لفكرة دولة فلسطينية مستقلة.
خطاب الكذب والتجاهل والتعامي عن الحقائق
حفل خطاب لبيد بالكذب وأنصاف الحقائق وتجاهُل التاريخ، ليس فقط من منظور فلسطيني وعربي، بل أيضاً في نظر عدد من المعلّقين الإسرائيليين المحسوبين على اليسار في إسرائيل. فكتبت مراسلة الضفة الغربية في صحيفة "هآرتس" عميرة هاس أن "رئيس الحكومة ليس الأول، ولا الوحيد في تاريخ الأمم المتحدة الذي يلقي خطاباً ممتلئاً بالشعارات والكذب وأنصاف الحقائق والدعاية والتشويهات التاريخية والأوهام... المشكلة أن هناك العديد من رؤساء الدول في الأمم المتحدة المستعدين لتصديق الدعاية الإسرائيلية بأن إسرائيل دولة ديمقراطية تسعى للسلام، وأنها ضحية بريئة للإرهاب." وتُعدد الكاتبة 11 كذبة وردت في الخطاب، وتتوقف عند كذبة دولتين لشعبين، فكتبت أن "التكرار الببغائي للشعارات أمر مطلوب في المنتديات الدولية. لكن لا يقع اللوم هنا على لبيد ومستشاريه، بل أيضاً على الدول الأوروبية والعربية التي سمحت لإسرائيل طوال الثلاثين عاماً الأخيرة بتفكيك الأراضي الفلسطينية التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية وتحويلها إلى جيوب صغيرة معزولة ومحاطة بكتل المستوطنات الآخذة في الاتساع. لبيد مثل أسلافه، عندما يتحدث عن حل الدولتين، فهو يتحدث عن إسرائيل الكبرى، وعن ستة أو سبعة (وربما أكثر) كيانات فلسطينية."[1]
وصف لبيد حل الدولتين بأنه "الأفضل بالنسبة إلى أمن الإسرائيليين." ومن دون أن يتحدث عن الخيار الآخر البديل، أي دولة ثنائية القومية، الأمر الذي دفع بأكثر من معلّق إسرائيلي إلى البحث عن دوافعه الفعلية؟ ففي رأي آلون بينكاس الذي كتبه في مقال في صحيفة "هآرتس"، "هناك مَن رأى أن وراء الحديث اعتبارات انتخابية، هدفها جذب اهتمام ناخبي حزب العمل وحركة ميرتس، أو ناخبي يوجد مستقبل من ذوي التوجهات اليسارية. ويمكن الافتراض أيضاً أنه أراد أن يبعث برسالة إلى السلطة الفلسطينية، وإلى السعودية والأردن، في ضوء الوضع الأمني الحساس وضعف السلطة الفلسطينية." [2]
وفي الواقع، لا يمكن فصل كلام لبيد عن السياقات السياسية التي طبعت عمله في الائتلاف الحكومي الحالي، وحتى قبل ذلك، في أثناء وجوده في صفوف المعارضة. يائير لبيد الذي يقول في خطابه أنه يطمح إلى السلام مع العالم العربي كله، ومع "جيراننا الأقرب – الفلسطينيين"، هو نفسه الذي رفض لقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. والمرة الوحيدة التي تحدث فيها معه كانت في تموز/يوليو الماضي، بعد تولّيه رئاسة الحكومة، يومها هنّأه بالعيد، وكانت تلك المرة الأولى التي تحدث فيها رئيس حكومة إسرائيلية مع عباس منذ سنة 2017. إلّا إن لبيد عاد وعبّر في مقابلة أجرتها معه "هآرتس" في 25/9/2022 عن ندمه لأنه تحدث مع أبو مازن، بعد خطاب هذا الأخير في ألمانيا، الذي تحدث فيه عن "50 محرقة عاشها الشعب الفلسطيني."
في هذه المقابلة يبرر لبيد عدم لقائه رئيس السلطة الفلسطينية، قائلاً "هناك نظريتان بشأن أبو مازن، الأولى أنه آخر شخص يمكن أن نتوصل معه إلى تسوية؛ أمّا الثانية فتقول إنه آخر شخص يمكن التوصل معه إلى اتفاق. والخيارات التي سمعناها تساوي عدد التقديرات الاستخباراتية."[3] فكيف يمكن أن يصدق العالم لبيد عندما يتحدث عن اليد الممدودة للسلام مع الفلسطينيين، وهو الذي يقاطع زعيمهم منذ أعوام، وصرّح أكثر من مرة بأن الوقت الآن غير ملائم لاستئناف عملية المفاوضات مع الفلسطينيين؟
يقول لبيد في خطابه إن إسرائيل انسحبت من قطاع غزة في سنة 2005، ولم تترك جندياً واحداً، وفككت كل المستوطنات، فما كان جزاؤها؟ "خلال أقل من نصف عام صعد تنظيم إرهابي قاتل إلى السلطة، دمروا كل ما بنيناه هناك، وأقاموا مكانه قواعد ومراكز إطلاق للصواريخ. أكثر من 20 ألف صاروخ وقذيفة أُطلقت من غزة على إسرائيل، كلها ضد المدنيين." ولإثارة التعاطف معه، تحدث عن ابنته المصابة بمرض التوحد، والتي لا تتكلم، وعن صعوبة أن يشرح لها لماذا عليهم أن يهرعوا الى الملاجىء، ويتساءل ببراءة: لماذا يريدون قتلنا؟
المعلق في "هآرتس" جدعون ليفي ردّ على هذا الكلام الذي يحاول لبيد من خلاله إثارة التعاطف، مستغلاً ابنته من ذوي الحاجات الخاصة، فكتب: "ابنة لبيد عليها أن تهرع إلى الملجأ، لأن إسرائيل وضعت كل أطفال غزة، وبينهم ذوو الحاجات الخاصة، في سجن كبير مريع منذ أكثر من 15 عاماً. قد يكون من الصعب عليه الركض إلى الملجأ مع ابنة مصابة بالتوحد، لكن القصة هنا أنها ليست الضحية، ويوجد حولها ضحايا أكثر صعوبة بما لا يقاس، هم ليسوا ضحايا القدر مثلها، بل هم ضحايا البلد الذي يترأس والدها حكومته... عندما ركض بها أهلها إلى الملجأ، لم يكن لأولاد غزة مكان يلجأون إليه أو يحميهم. كانوا مكشوفين أمام القنابل التي تتساقط فوق رؤوسهم. فإسرائيل قتلت 69 طفلاً في عملية ‹حارس الأسوار› التي يتحمل لبيد مسؤوليتها مثل أسلافه، كما يتحمل مسؤولية العملية التي جرت تحت رئاسته... كيف يتحدث لبيد عن ابنته ويتجاهل عدي صالح ابن السابعة عشرة الذي قتله قناصو الجيش الإسرائيلي؟ كيف يتجرأ على التشكيك في نشر مقتل ملاك الطناني التي قيل أنها قُتلت بنيران الجيش، ليتبين أن هذا غير صحيح، بينما الجيش يكذب ويكذب ويتهرب من مسؤوليته عن مقتل خمسة أطفال في جباليا، بينهم طفل في الثالثة من العمر، في عملية ‹حارس الأسوار›، وعن مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة؟"[4]
يتحدث لبيد عن الصواريخ التي تُطلق من غزة على إسرائيل، ولا يأتي على ذكر الحصار المفروض عليها، والذي حوّل القطاع إلى سجن كبير. كما لم يتحدث عن العمليات العسكرية المتتالية التي شنتها إسرائيل ضد غزة وسكانها، بدءاً من عملية الرصاص المصبوب (2008-2009)، مروراً بـ"عمود سحاب" (2012)؛ والجرف الصامد (2014)؛ و"حارس الأسوار" (2021)، وانتهاءً بالعملية الأخيرة "مطلع الفجر". لم يتحدث عن مئات الشهداء من المدنيين الفلسطينيين من النساء والأولاد والشيوخ، ناهيك بالدمار الهائل الذي خلّفته عملية "حارس الأسوار"، والذي لم يتم ترميمه حتى اليوم.
تباهى لبيد بإسرائيل الدولة "الديمقراطية"، وبوجود وزير عربي مسلم في حكومته، واعتبر ذلك دليلاً آخر على "الديمقراطية والمساواة"، فخاطب الحاضرين قائلاً: "تعالوا لزيارتنا، تجدون مزيجاً من فسيفساء ثقافية رائعة." وهو بذلك يتجاهل ويتغاضى عن عدم المساواة في الحقوق بين اليهود والعرب، والذي تكرّس بـ "قانون القومية" الذي حوّل العرب في إسرائيل، قانونياً، إلى مواطنين من الدرجة الثانية، كونهم مواطنين من غير اليهود.
خطاب أثار غضب اليمين واستياء اليسار في إسرائيل
المفارقة أن الردود الغاضبة التي أثارها خطاب لبيد في الأمم المتحدة لم تقتصر على اليمين في إسرائيل، بل تخطته إلى اليسار، لأسباب مختلفة. اليمين الإسرائيلي هاجم الخطاب لأنه تجرأ على ذكر حل الدولتين الذي بذل نتنياهو جهده للقضاء عليه. وصرّح زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو بأن لبيد يعرّض مستقبل إسرائيل للخطر، وأن خطابه هو خطاب "الضعف والهزيمة وإحناء الرأس"، وأنه "أعاد الفلسطينيين إلى مقدمة المنصة الدولية، وأدخل إسرائيل في الحفرة الفلسطينية"؛ بينما اعتبر عضو الكنيست، رئيس حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش أن حديث لبيد عن حل الدولتين هو السعي لتقسيم أرض إسرائيل."[5]
انتقادات اليسار كانت لأسباب مختلفة، أهمها تجاهُل لبيد الكبير لمشكلات أساسية، مثل مقاطعته رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وتجاهُله مأساة الفلسطينيين الإنسانية في غزة، الرازحين تحت الحصار، ولا يتحمل المسؤولية عن العنف الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، والذي يحصد يومياً الشهداء بين صفوف الفلسطينيين.
لكن على الرغم من هذا كله، فإن حديث لبيد عن حل الدولتين في خطابه أمام الأمم المتحدة فتح الباب أمام أصوات إسرائيلية أخذت تطالب هي أيضاً بطرح مسألة الحل السياسي للنزاع مع الفلسطينيين على جدول الأعمال الإسرائيلي من جديد، وطرْح حل الدولتين على الناخب الإسرائيلي الذي عليه الاختيار بين أمرين: إما حل الدولتين، وإما دولة ثنائية القومية ونظام الأبرتهايد. هذا ما دعا اليه نير أفشاي كوهين في "معاريف" في مقال بعنوان "انتخابات الكنيست استفتاء على حل الدولتين."[6]
هناك مَن رأى في إسرائيل أن كلام لبيد عن حل الدولتين محاولة منه لتقديم نفسه زعيماً، ليس فقط لمعسكر الوسط، بل أيضاً لمعسكر اليسار، ومحاولة لإيقاظ الجمهور العربي في إسرائيل وتشجيعه على المشاركة في الانتخابات المقبلة. هذا هو رأي آنا برسكي في "معاريف" (24/9/2022).[7]
بعد مرور أكثر من أسبوع على حديث لبيد عن حل الدولتين، وتوظيف اليمين الإسرائيلي هذا الكلام من أجل حشد قاعدته الانتخابية والتحريض ضد لبيد، لم تتضح بعد تداعيات هذا كله على شعبية لبيد في الانتخابات المقبلة، في ضوء استطلاعات الرأي التي لا تزال تتنبأ بعدم حصول أي كتلة على أغلبية 61 مقعداً.
قد يكون خطاب لبيد في الأمم المتحدة مجرد فصل من فصول مسيرته السياسية، لا أكثر ولا أقل. وعليه الآن أن يثبت فعلاً أنه صاحب رؤيا حقيقية، وليس مجرد شخصية استعراضية تستخدم شعارات كبيرة للفوز في الانتخابات. فهل سيقدر على حسم المعركة الانتخابية المحتدمة بينه وبين زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، ويتمكن من الحصول على أغلبية 61 عضو كنيست، وتشكيل الائتلاف الحكومي المقبل؟
[1]- عميرة هاس، "الفلسطينيون ليسوا جيراناً لإسرائيل: 11 تصحيحاً لكلام لابيد"، "هآرتس"، 23/9/2022.
[2]- آلون بينكاس، "رئيس الحكومة تحدث عن حل الدولتين في الأمم المتحدة والسماء لم تسقط"، "هآرتس"، 22/9/2022.
[3] "هآرتس" (25/9/2022).
[4] جدعون ليفي، "لقد كان صعباً الملجأ لابنتك؟ وماذا عن أولاد غزة؟"، "هآرتس"، 25/9/2022.
[5] "يديعوت أحرونوت" (23/9/2022).
مختارات من الصحف العبرية (palestine-studies.org)
[6] "يديعوت أحرونوت" (23/9/2022).
مختارات من الصحف العبرية (palestine-studies.org)
[7]- يمكن الاطلاع على ترجمة المقال على الرابط الالكتروني.