From Tawfiq Sayegh’s Hidden Gems: On Two Poets of Love: Catullus and Omar Ibn Abi Rabi’a
In Remembrance
Full text: 

ظُلم توفيق صايغ كثيراً؛ ظلمتْه أيامُه، وفتكتْ به مصادفاتُ حياته، ولوّعه الحب، وأورثه شكُّه القلقَ والاضطراب، ثم أنكر بعض النقاد دورَه الريادي في حركة التجديد الشعري. كان شاعر البراءة والخيبة والمرارة والتمرد، ومثالاً للروح المحطمة والجسد المعذب. والمعروف أن شعراء التجديد العرب ثم شعراء الحداثة، عادوا بوعي مُلهِم إلى أساطير الخلق القديمة مثل أسطورة غلغامش وأسطورة تموز وأسطورة أدونيس وأساطير الموت والانبعاث. ولعل المسيح كان آخر تجسيد لعقائد الخصب المقدسة وديانات الأسرار القديمة. غير أن توفيق صايغ غمرته حكايات التوراة التي هي، في نهاية المطاف، إعادة صوغ للأساطير التكوينية التي انتشرت في سورية القديمة والعراق، وبهذا الانغمار افترق، إلى حد كبير، عن مجايليه من شعراء قصيدة التفعيلة، وعن رفاقه من شعراء قصيدة النثر. لهذا، ربما، كان شعره نافراً، ولغته وحشية، وأسلوبه وَعِر فيه التواءات تبدو كأنها متكلفة.[1] وقد اهتم توفيق صايغ بالتوراة كنص أدبي، لا ككتاب إيماني، وربما ترك ذلك الاهتمام أثره في لغة الشاعر وأسلوبه.

يقول شقيقه أنيس صايغ عن شعره إنه "عويص ومبهم" (أنيس صايغ، مذكراته بعنوان: "أنيس صايغ عن أنيس صايغ"، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2006، ص57). ولا ريب في أن توفيق صايغ شُغف، في البداية والنهاية، بالمسيح، مع أنه كان دائماً متمرداً على إيمانه المسيحي. وفي هذا الميدان اكتشف تماثلاً بين المسيح والكركدن (وحيد القرن)، ثم أضاف إليهما مريم كي يكتمل ثالوثه الخاص. والكركدن لديه رمز للإنسان في سُموِّه؛ فهو يعيش وحيداً كالإله، أو كالشاعر في وحدته، ولا يمكن إخضاعه؛ فهو يفضل الموت على الخضوع. أمّا متعته الوحيدة فهي البحث عن أنثى ليضع رأسه في حضنها. ويُدرك هذا الحيوان النبيل أن حضن الأنثى المغوية يُخبىء الموت. وتعلم الأنثى أن الحياة كامنة في القرن الوحيد للكركدن، ولهذا جعلها الصيادون شركاً لاصطياده. ولأنه لا يستطيع أن يمنحها الحياة بالخضوع، فهي ستمنحه الموت وتُرسله إلى الصيادين. أمّا هو فكان يريد تلك الأنثى من دون جسد، لا ليدميها كما تشتهي، بل ليموت في أحضانها كما يشتهي. ويرى توفيق صايغ أن الفارق بين الكركدن والمسيح هو أن المسيح ذهب إلى الموت مختاراً كي يخلّص الناس، بينما ذهب الكركدن إلى الموت كي يخلّص نفسه. ولهذا كان موت المسيح مجداً وانتصاراً، فيما كان موت الكركدن فاجعة (راجع قصيدته "بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن" في ديوان "معلقة توفيق صايغ" – 1963). 

الهجران والانتحار

الهلع الوجودي الذي ألمّ به جعله متأرجحاً بين الشهوانية والروحانية، فكانت حياته تيهاً وراء تيه، وبحثاً مؤلماً عن الخلاص، وسعياً دؤوباً للتخلص من الشك. والشك لديه ليس شكّاً فلسفياً أو عقلياً، بل تجربة خلخلت كيانه وأورثته أسقاماً، فهو مثل شكوك العاشق في محبوبته، فلا يزيده الشك إلّا وجداً وهياماً واضطراماً. وفي معمعان هذا الاضطراب صار قانطاً، وإحساسه بالهجر عظيماً. والهجر لدى توفيق صايغ هو الهجر بالمعنى الصوفي، أي هجران الله له. وفي هذا البرزخ المضني عاش بين مريمَين: والدته، وهي مريم النعيم وهناؤه، وحبيبته "كاي"، وهي مريم الجحيم ونيرانه المستعِرة.[2] والدته هي مريم العطاء، وحبيبته هي مريم الامتلاك. وبين مريم القلب ومريم الجسد تناثرت أشعاره كغناء صاعد من الأعماق الحارقة، وكان يصرخ كمَن يتقلب على فراش من الشوك.

حاول الانتحار ثلاث مرات: في سنة 1950 بعد وفاة والدته، وفي سنة 1960 بعد انفصاله عن ملهمته كاي، وفي سنة 1967 بعد إغلاق مجلة "حوار"؛ وفاة والدته أقصته عن النعيم، وانفصاله عن كاي أنقذه من الجحيم موقتاً، وإغلاق مجلة "حوار" قطع ارتباطه بالمكان وببلاده (راجع مقابلة معه عن محاولات انتحاره عنوانها "أنا ... توفيق صايغ"، جريدة "النهار"، بيروت: 4 / 10 / 1960). وهكذا قادته خطواته إلى المنفى الأميركي بعدما عاش منفياً في عراء البراري.

كانت فلسطين وطنه المفقود، وكانت سورية وطنه المتخيل (وُلد في قرية خَرَبا التابعة لمحافظة السويداء في 14 / 12 / 1923)، ولم يجد في لبنان موئلاً لروحه التائهة، ولم يعثر على وطن قط؛ فظل الشعر وطنه، والمنفى ملاذه. هو، إذاً، سوري هاجر إلى فلسطين في سنة 1925، وفلسطيني هاجر إلى لبنان في سنة 1948، ولبناني هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية في سنة 1967 بعد فاجعة مجلة "حوار".[3]

أمضى أيام عمره غريباً، ومات في الغربة في 3 / 1 / 1971 ليُدفن في مقبرة الغروب في بيركلي المطلة على المحيط الهادىء، بين قبر لرجل صيني مهاجر، وقبر لرجل ياباني مهاجر. 

مخطوط كاتُلّوس وعمر بن أبي ربيعة

عثرتُ على هذا النص بخط يد توفيق صايغ بين أوراقه المتروكة التي حُفظت لدى الصديق محمود شريح بعدما استند إليها في تأليف سيرته الموسومة بعنوان "توفيق صايغ: سيرة شاعر ومنفى" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 1989). وبقي هذا النص مطموراً بين أوراقنا؛ لدى محمود شريح أولاً، ثم لديّ أنا ثانياً، إلى أن قُيّض له أن يخرج من الخِبا بمعونة الصديق العتيق والدائم الروائي الياس خوري، فعمدنا، ناهد جعفر وأنا، إلى تدقيقه وتحقيقه وضبط ألفاظه... وتحريره من العتمة التي قبع فيها طويلاً.

لم نتصرف في النص إلّا فيما تقتضيه أصول التحقيق، وأي تدخّل في المتن أدرجناه في الهامش. فعلى سبيل المثال لم نُعدّل حتى طريقة كتابة اسم كاتُلّوس (Gaius Valerius Catullus) الذي يجب أن يُرسم هكذا "كاتولّوس" بحسب لفظه وتصويته. كذلك لم نتدخل في طريقة كتابة اسم "لِزبيا" الذي جاء هكذا: "لِسبيا"، فتُركا الاسمان كما وردا في المخطوطة.

وتكمن أهمية هذا النص وفرادته في أن معظم الشعراء العرب لا يعرفون إلّا القليل عن كاتلوس، ولا نكاد نعثر في الكتابات العربية الأدبية على إشارات إلى هذا الشاعر اللاتيني قبل سنة 1955 غير مقالة لتوفيق صايغ نفسه عن الحب الملتهب بين كاتلوس وكلوديا ("جرحٌ نكأهُ البلسم"، "صوت المرأة"، السنة 7، بيروت: آب / أغسطس 1951). لكن، قبيل سنة 1955 عكف أمين سلامة على جمع قصائد مترجمة لكاتلوس ونثرات من قصة غرامه ونشرها بعنوان "غراميات كاتولوس" (القاهرة: دار الفكر العربي، 1955). والفارق هنا أن أمين سلامة ترجم بعض المقطوعات الشعرية من الإنجليزية، بينما ترجم توفيق صايغ بمعونة عرفان شهيد (عرفان قعوار) النصوص الشعرية من اللاتينية مباشرة. وفي نهاية المطاف اكتملت لدى توفيق صايغ فصول كتابه فأصبحت دراسة مقارنة بين شاعرين فغر الزمن انهداماً كبيراً بينهما. 

*** 

حين كتب توفيق صايغ هذه الدراسة في سنة 1945 عن العشق اللاهب للشاعر كاتلوس وتولّهه بكلوديا، لم يكن يتخيل أن مثل هذا الحب سيدهمه بعد ثلاثة عشر عاماً، وسيصيبه من حبيبته كاي ما أصاب كاتلوس من معشوقته كلوديا التي تشترك، يا للمصادفة، مع كاي في الحرف الأول من اسمها.

 

المصادر:

[1] أصدر توفيق صايغ ثلاثة دواوين شعرية هي: "ثلاثون قصيدة" (1954)؛ "القصيدة ك" (1960)؛ "معلقة توفيق صايغ" (1963). وله: "أضواء جديدة على جبران" (بيروت: الدار الشرقية للطباعة والنشر، 1966)؛ "نازك الملائكة، طريدة المتاهة والصوت المزدوج: دراسة في ديوان شظايا ورماد" (بغداد؛ بيروت: منشورات الجمل، 2015)، وهو من مطموراته التي نُشرت متأخرة. كما ترجم: "خمسون قصيدة من الشعر الأميركي المعاصر" (دمشق: دار اليقظة العربية، 1963)؛ "ت. س. إليوت: رباعيات أربع" (لندن: مجلة "أصوات"، 1962). 

[2] فنّانة إنجليزية تعرّف إليها في سنة 1957، وأُولع بها، وكانت عذابه وإلهامه معاً. وقبيل افتراقهما كتب لها قصيدة "من الأعماق صرختُ إليك يا موت" (1960)، ثم أحرق رسائلها إليه، وغادر لندن عائداً إلى بيروت ليصدر مجلة "حوار" في سنة 1962.

[3] أصدر توفيق صايغ مجلة "حوار" في سنة 1962 بدعم مالي من "المنظمة العالمية لحرية الثقافة" التي أُسست في برلين في سنة 1950. وفي 27 / 4 / 1966 كشفت "نيويورك تايمز" أن المنظمة العالمية لحرية الثقافة تتلقى الدعم المالي من CIA. ونزل هذا الخبر عليه نزول الصاعقة، وعلم أنه خُدع حين اتفق مع سيمون جارجي السوري وجمال أحمد السوداني على إصدار مجلة "حوار" في بيروت، ولم يكن يدري أن لتلك المنظمة صلة خفية بالاستخبارات الأميركية، فأعلن في 21 / 5 / 1967 وقف إصدار المجلة، وغادر إلى المنفى في تشرين الأول / أكتوبر 1967 مجللاً بالحسرة. واللافت أن "حوار" لم تنشر طوال أربعة أعوام (27 عدداً) أي مقالة معادية للشيوعية أو للاتحاد السوفياتي، وإنما كتب فيها شيوعيون ويساريون أمثال يوسف إدريس وغالي شكري ونجيب سرور وراشد البراوي وصادق جلال العظم ولويس عوض والطيب صالح.

Author biography: 

صقر أبو فخر: كاتب عربي مقيم في بيروت.