عاش أبو علي مصطفى طفولته ويفاعته ومرحلة الفتوة في عالم من الخضرة ولون التراب وأصوات السواقي الجارية في بلدته عرّابة. وكان سهل عرّابة المشهور بالبطيخ يمتد أمام عينيه كسوارٍ لا ينتهي من اللون الأخضر، بينما تلال البلدة تعلن للقادم من بعيد، من الشام أو من يافا، أن ثمة فلاحين ورعاة في هذا المكان الباهر. ورجال عرّابة شجعان وكرماء؛ هكذا وصفتهم كتب المؤرخين وسِيَر العارفين بأحوال الناس، واشتُهر منهم المناضل العمالي سامي طه الذي اغتيل في سنة 1947، وتيسير الزبري، شقيق أبو علي، أحد قادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والأمين الأول لحزب الشعب الديمقراطي في الأردن (حشد) منذ تأسيسه في سنة 1993.
أبو علي مصطفى
وعرّابة بلدة كبيرة امتازت بمنازلها الفسيحة والرحبة ذات الطراز الدمشقي (الحرملك والسلملك)، ويقع في قلب البلدة قصر الشيخ حسين عبد الهادي زعيم البلدة وجوارها، علاوة على عدد من القصور التي امتلكها شيوخ تلك الحمولة أمثال صالح عبد الهادي وعبد القادر عبد الهادي. وقد وسمت تلك القصور بلدة عرّابة بميسم العراقة، وساهمت الحكايات الشعبية في صوغ هوية مميزة لأهالي البلدة منذ زمن الدولة العثمانية، إذ قاتل آل عبد الهادي ظاهر العمر الزيداني لمصلحة الدولة العلية، الأمر الذي ساهم لاحقاً في ترسيخ حكم مشايخ عائلات الأرياف بعد انسحاب إبراهيم باشا من بلاد الشام.
أبو علي مصطفى صاحب الابتسامة اللطيفة ليس من نسل الأعيان الأثرياء هؤلاء، بل من الفلاحين المستوري الحال، وربما لهذا عُرف بالبساطة والتواضع والابتعاد عن الأضواء والإعلام إلّا فيما ندر. هو من الجيل الثاني في حركة القوميين العرب بعد جيل المؤسسين الأوائل، لكنه، في النضال الوطني، يُعتبر من الأوائل، ولا سيما في الميدان الفدائي.
لم يتخرج أبو علي مصطفى في أي جامعة، مع أنه كان جامعاً لرفاق دربه في محطات كثيرة. وظل منحازاً إلى الخط القومي التاريخي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واتخذ مواقف مناوئة للمجموعة اليسارية بقيادة نايف حواتمة وعبد الكريم حمد قيس وياسر عبد ربه وقيس السامرائي (أبو ليلى) الذين انشقوا عن الجبهة في سنة 1969، واتخذوا لأنفسهم اسم "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين". وكان دائماً، طوال مسيرته النضالية والسياسية، يقف إلى جانب جورج حبش والقيادة الأولى لحركة القوميين العرب (وديع حداد وهاني الهندي وجورج حبش وأحمد الخطيب وحامد الجبوري وصالح شبل)، وإلى جانب القادة الجدد أمثال أحمد اليماني (أبو ماهر) وغسان كنفاني وتيسير قبعة. وبهذا المعنى لم يكترث كثيراً بالماركسية – اللينينية التي التزمتها الجبهة الشعبية في مؤتمرها الثالث في سنة 1972.
سألتُ المناضلَ التاريخي أبو ماهر اليماني مرة: هل فعلاً تحولتم إلى الماركسية – اللينينية ونفضتم عنكم، أنتم قدامى حركة القوميين العرب، الفكر القومي العربي مثلما قرأتموه في كتابات علي ناصر الدين وقسطنطين زريق؟ فأجابني: "كبّر عقلك. لقد بقينا قوميين عرب، غير أننا اضطررنا إلى قراءة الأدبيات الشيوعية الماوية والفييتنامية والسوفياتية كي نُماشي جيل الشبان الجدد. وكان جورج حبش أكثرنا قراءة، بينما كان وديع حداد يضيق بها، ولم يقرأ غير بضعة كُتيبات ثم انصرف عنها... وكذلك أنا، وهذا كل ما في الأمر. لقد تركنا المجادلات الفكرية والنظرية إلى الكوادر النشطة في الإعلام والطلاب والعلاقات الخارجية."
أمّا أبو علي مصطفى فظل قومياً عربياً في أعماقه، مع أنه انكبّ، في إحدى المراحل، على قراءة بعض المصادر الماركسية. وكثيراً ما اتهم نايف حواتمة ومحسن إبراهيم ومحمد كشلي بـ "الثلاثي الذي مزّق حركة القوميين العرب"، فوقف بقوة ضد انشقاق الجبهة الديمقراطية، وترصّد بعض أفراد تلك المجموعة اليسارية، واعتقل بعضهم في الأردن في 28 / 1 / 1969، أي قُبيل الانشقاق، الأمر الذي سرّع في وصول التناقض إلى ذروته، ثم وقوع الانشقاق في إثر ذلك.
وفي جميع التحولات التي شهدتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ظل أبو علي مصطفى ثابتاً على مبادئه الأصلية. فقد تخلت الجبهة عن الخط القومي التقليدي وتبنّت الاشتراكية العلمية في المؤتمر الثاني (شباط / فبراير 1969)، والتزمت الماركسية – اللينينة في المؤتمر الثالث (آذار / مارس 1972). وكانت الماركسية التي تبنّتها الجبهة الشعبية خلطة ماوية وفييتنامية وكوبية مع مقادير من فكرة "البؤرة الثورية" التي نادى بها غيفارا، وهي، في الأساس، جاءت كردة فعل على أفكار المجموعة اليسارية بقيادة نايف حواتمة.
وتخلت الجبهة الشعبية عن العلاقات المميزة بالرئيس جمال عبد الناصر بعد قبوله مشروع روجرز في سنة 1970.
وتخلت الجبهة عن استراتيجيا خطف الطائرات في سنة 1972.
وتخلت عن موقفها الرافض لفكرة المرحلية في النضال الوطني، والذي كانت اتخذته في سنة 1974 غداة إقرار برنامج النقاط العشر، وعادت لتقبله بعد سنة 1979.
وتخلت عن موقفها الراديكالي من "الأنظمة الرجعية العربية" بعد سنة 1982، ثم قبلت كوادرها العليا العودة إلى فلسطين بموجب اتفاق أوسلو الذي رفضته الجبهة في سنة 1993، وكان أبو علي مصطفى أحد أبرز العائدين.
السيرة النقية
ولد أبو علي مصطفى (مصطفى علي الزبري) في14 / 5 / 1938 في عرّابة جنين، أي قبل عشرة أعوام بالتمام على إعلان دولة إسرائيل ووقوع النكبة الفلسطينية. وانتقل مع عائلته إلى مدينة عمّان في سنة 1950، وكان في بدايات مرحلة الفتوة. وفي عمّان، بعد أن استقرت العائلة، راح يتردد على مقر "المنتدى العربي" الذي كانت حركة القوميين العرب تشرف عليه. ولم يلبث أن انضم إلى الحركة في سنة 1955، وانخرط في النضال اليومي في سبيل تعريب الجيش الأردني وطرد الضباط البريطانيين منه، وفي مقدمهم غلوب باشا (أبو حنيك)، ومن أجل إلغاء المعاهدة البريطانية – الأردنية، فاعتُقل في نيسان / أبريل 1957 غداة إقالة حكومة سليمان النابلسي الوطنية، وأمضى خمسة أعوام في سجن الجفر الصحراوي، وكان رفيقه في السجن وديع حداد، ثم أُطلق في أواخر سنة 1961.
يروي بعض قدامى حركة القوميين العرب أنهم اتفقوا على عدم الزواج قبل تحرير فلسطين، وعلى عدم التبسم، وعلى الامتناع من ارتياد أماكن اللهو بما فيها المقاهي. وظل كثيرون حتى آخر يوم في حياتهم يرفضون تقبّل التهاني بالأعياد أمثال أبو ماهر اليماني ورفعت صدقي النمر، ويجيبون: "عيدنا يوم عودتنا". لكن، مع قيام الوحدة المصرية – السورية، ربما شعر بعض هؤلاء بأن التحرير يقترب، فبادروا إلى الزواج. وهكذا تزوج جورج حبش في دمشق في سنة 1961، الأمر الذي أحدث استياء كبيراً لدى كثير من الشبان،[1] ثم لحق وديع حداد برفيقه جورج حبش، فتزوج قريبته في دمشق أيضاً. أمّا أبو علي مصطفى فتزوج في 23 تموز / يوليو 1964، أي في الذكرى الثانية عشرة لثورة يوليو المصرية، وتلك من غرائب المصادفات، ثم عاد إلى جنين ليتفرغ للعمل السياسي. وافتتح مطعماً شعبياً (فول وحمص وفلافل) ليعتاش منه ويكون ساتراً لنشاطه السياسي.
البدايات العسكرية
في صيف سنة 1964، قررت حركة القوميين العرب تأسيس "إقليم فلسطين" كي ينضم إليه جميع الأعضاء الفلسطينيين في الحركة. ولهذه الغاية عقد إقليم الأردن الذي كان يضم الفلسطينيين والأردنيين معاً مؤتمراً في غور الجفتلك انتهى في 29 / 8 / 1964 إلى إعلان تأسيس "إقليم فلسطين". وهذا الإقليم انتخب قيادة قوامها وديع حداد وصبحي عودة وأحمد اليماني وتيسير قبعة وعبد الكريم حمد قيس وإبراهيم الراهب وصباح ثابت.[2] وعمدت قيادة هذا الإقليم إلى تأليف لجنة للإشراف على عمليات الاستطلاع وتنظيم الخلايا السرية والتدرب على السلاح وتخزينه تمهيداً للشروع في العمل العسكري. وكانت اللجنة مؤلفة من توفيق رمضان وأبو علي مصطفى وأحمد محمود إبراهيم (أبو عيسى) وكامل هادي وفايز جابر (من منظمة "أبطال العودة"). وفي هذا السياق التحق أبو علي مصطفى في سنة 1965 بدورة عسكرية في معسكر أنشاص التابع للجيش المصري مع بعض رفاقه أمثال سكران السكران ويحيى حداد وخالد دلول وإسحق مراغة. ونظم فيصل الحسيني في السياق نفسه معسكراً لتدريب كوادر حركة القوميين العرب في قرية كيفون اللبنانية تحت إشراف أحمد الشقيري وجيش التحرير الفلسطيني. وفيصل الحسيني نفسه من متخرجي الكلية العسكرية في حلب في سنة 1966، وقد اعتقلته الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في سنة 1968 بعد أن اتصل به ياسر عرفات في رام الله في أثناء وجوده السري في الضفة الغربية، واتفقا على العمل، وسلّمه بندقيتين من طراز كلاشينكوف وساموبال، الأمر الذي يشير إلى أن فيصل الحسيني التحق بحركة "فتح" آنذاك، بينما كانت الجبهة الشعبية تعاني الأمرّين من التضعضع جرّاء الانشقاقات والاعتقالات ومحدودية عدد الأعضاء.
جرت عملية الاستطلاع الأولى في 2 / 11 / 1964 التي استشهد فيها خالد الحاج أبو عيشة، وبعد نحو عامَين جرت عملية الاستطلاع الثانية (18 / 10 / 1966) التي سقط فيها محمد اليماني ورفيق عساف وسعيد العبد سعيد، وأُسر سكران السكران. وهاتان العمليتان كانتا على غرار عمليات الاستطلاع التي كانت تنفذها الكتيبة 68 في سورية، ولم تجرِ في سياق حرب الفدائيين والكفاح المسلح.
في 1 / 1 / 1965 سمع العالم كله باسم "قوات العاصفة" وهي تعلن بدء الكفاح الفلسطيني المسلح، ثم بدأ اسم "حركة فتح" يملأ أسماع الحركات السياسية في العالم العربي وفي دول الغرب أيضاً. وقد دُهش قادة حركة القوميين العرب لهذا الحدث غير المتوقع، والذي منح "فتح" الريادة في العمل المسلح. ومع ذلك راح الشهيد غسان كنفاني يشكك فيما قامت به "فتح" مستخدماً لفظة تاتاتا، أي التاءات الثلاث: توقيت خطأ؛ توريط للعرب؛ تفريط بالأمة. ولم يتورع حتى شفيق الحوت عن اتهام "فتح" بأنها تابعة لجماعة الإخوان المسلمين تارة، أو بعثية تارة أُخرى متأثراً بالدعاية المصرية.
أمّا أبو علي مصطفى فكان له مصير آخر؛ فقد اعتُقل في أواخر سنة 1966 في سياق آخر، أي بعد الهجوم الإسرائيلي على قرية السمّوع القريبة من مدينة الخليل في 13 / 11 / 1966، وأمضى في سجن الزرقاء ثلاثة أشهر.
بعد هزيمة 1967 اتخذت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كانت قد ظهرت إلى الوجود في 9 / 12 / 1967، قراراً يقضي بتأليف قيادة للداخل الفلسطيني (الضفة الغربية وقطاع غزة) مؤلفة من أبو علي مصطفى وعزمي الخواجة وأحمد خليفة وعادل سمارة وعبد الله العجرمي وتيسير قبعة وأسعد عبد الرحمن، وتولى أحمد زعرور مسؤولية اللجنة العسكرية التابعة لتلك القيادة. وقد تسلل عدد من أعضائها ممّن كانوا يقيمون في خارج فلسطين إلى الضفة الغربية غداة هزيمة 1967، لكن الاستخبارات الإسرائيلية تمكنت، خلال فترة قصيرة، من القبض عليهم وعلى نحو مئتي شاب من حركة القوميين العرب ومن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بينما تمكن أبو علي مصطفى من التخفي ثم الخروج إلى الأردن. وقد تضعضعت كثيراً الأحوال العسكرية والتنظيمية للجبهة جرّاء تلك الاعتقالات والانشقاقات التي تلاحقت في الهيكل التنظيمي للجبهة حديثة الولادة؛ فانشقت في سنة 1968 مجموعة أحمد جبريل (جبهة التحرير الفلسطينية) التي اتخذت لنفسها اسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة"، ثم تبعتها في الانشقاق في السنة نفسها مجموعة أحمد زعرور التي صارت تُعرف باسم "منظمة فلسطين العربية". ودبّ الخلاف في السنة نفسها، وتحديداً في المؤتمر العام الذي عُقد في آب / أغسطس 1968، بين المجموعة اليسارية بقيادة نايف حواتمة والقيادة التاريخية للجبهة، الأمر الذي أدى إلى انشقاق المجموعة اليسارية في شباط / فبراير 1969، والتي اتخذت لنفسها اسم "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين". ويضاف إلى تلك المصائب التي حلت بالجبهة آنذاك اعتقال جورج حبش في دمشق. ولهذا باتت فاعلية الجبهة في تلك الفترة محدودة، ولا سيما في ميدان العمل الفدائي ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
لكن صوت الجبهة كان عالياً جداً في النطاق الإعلامي بسبب عمليات اختطاف الطائرات التي كان ينفذها جهاز المجال الخارحي بقيادة وديع حداد تطبيقاً لشعار "مطاردة العدو في كل مكان".[3] وكان رفيق عساف هو قائد الجهاز العسكري لحركة القوميين العرب، وبعد استشهاده في 21 / 10 / 1966 انهار الجهاز، فتولى وديع حداد إعادة الفاعلية له، وراح يركز على المتفجرات، ويخطط للعمل في الميدان الدولي. وتولى حسين العمري، قائد مجموعة "15 أيار" لاحقاً، تدريب مجموعة وديع حداد على المتفجرات، بينما تولى أبو علي مصطفى المسؤولية العسكرية لقطاع الداخل في الجبهة الشعبية. وبهذه الصفة تابع أبو علي، على الرغم من الأوضاع القاهرة، تسيير الدوريات من الأردن إلى الضفة الغربية، ولأنه كان مسؤولاً عسكرياً فإنه شارك في معارك أيلول / سبتمبر 1970، وفي معارك جرش وعجلون في تموز / يوليو 1971.
عملية في دمشق
في ربيع سنة 1968 تجمّع الناصريون في سورية بزعامة جمال الأتاسي، والاشتراكيون العرب بقيادة أكرم الحوراني، ومعهم بقايا القوميين العرب برئاسة هاني الهندي، وبعض البعثيين من جناح ميشال عفلق في جبهة ائتلافية معارضة، واتفقوا على إعلاء الصوت في المطالبة بالحريات العامة والمشاركة في الحكم ومحاسبة المسؤولين عن هزيمة 1967. وقوبلت هذه الجبهة بالقمع، وسُجن جمال الأتاسي وهو من الأعلام التاريخيين في حزب البعث ممّن تحولوا إلى الناصرية على غرار عبد الله الريماوي في فلسطين وغيره. وفي تلك الأثناء أوقفت الاستخبارات السورية شاحنة تابعة للجبهة الشعبية محملة بصنوف من الأسلحة، فاستقر في ذهن العقيد عبد الكريم الجندي (المسؤول الأول عن الاستخبارات آنذاك) أن تلك الأسلحة مرسلة إلى سورية لدعم المعارضة والقيام بانقلاب عسكري ضد حكم البعث. وكان من عقابيل ذلك اعتقال جورج حبش وزجّه في "كركون" الشيخ حسن.
توالت الاتصالات بالعقيد عبد الكريم الجندي لتفنيد التهمة وإطلاق جورج حبش، لكن تلك الاتصالات لم تؤدِّ إلى غايتها بسرعة. ولمّا طالت المفاوضات من دون جدوى قرر وديع حداد تنفيذ عملية جريئة في قلب مدينة دمشق، وفي وضح النهار، لاختطاف جورج حبش من سيارة الشرطة العسكرية في أثناء نقله من المكان المخصص للزيارة إلى كركون الشيخ حسن. وكان أبو علي مصطفى من المجموعة التي اتخذت قرار تنفيذ العملية في 5 / 11 / 1968 إلى جانب وديع حداد وحمدي مطر وأحمد محمد إبراهيم (أبو عيسى). وأوكلت المهمة العملانية إلى وديع حداد الذي نفذها مع مجموعة مؤلفة من أحمد الجنداوي ومحمد سعيد الخطيب (أبو أمل) وجبريل نوفل وزكي هلّو وفايز قدورة ووداد القمري التي رحلت عن هذه الدنيا في 30 / 6 / 2022. وتمكنت المجموعة من اعتراض سيارة الشرطة العسكرية وإنزال جورج حبش منها ونقله على وجه السرعة إلى الحدود السورية – اللبنانية ثم إلى بيروت فالقاهرة حيث التقى على الفور بالرئيس جمال عبد الناصر. ويروي بعض مَن عاصر تلك الحادثة أن العملية نجحت نجاحاً باهراً لأن طرفاً في السلطة السورية آنذاك تواطأ مع وديع حداد في إنجاح العملية للتخلص من الإحراج الذي أوقعه عبد الكريم الجندي بالحكم السوري، ولتوجيه صفعة لعبد الكريم نفسه لعناده وإصراره على عدم إطلاق جورج حبش في سياق تناقضات أجنحة حزب البعث في تلك الحقبة.
مهما يكن الأمر، فإن أبو علي مصطفى أصبح عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني منذ سنة 1968 بعد التحولات التي طرأت على منظمة التحرير الفلسطينية، وصعود المنظمات الفدائية إلى قيادة المنظمة بعد استقالة أحمد الشقيري. كما انتُخب عضواً في اللجنة المركزية للجبهة في سنة 1969، وعضواً في القيادة اليومية في سنة 1970 إلى جانب وديع حداد وحمدي مطر وأبو عيسى وعزمي الخواجة وزكريا أبو سنينة.
في سنة 1976، بعد فصل وديع حداد من الجبهة على خلفية فشل عملية عنتيبي واستشهاد المناضل جايل العرجا، صعد نجم أبو علي مصطفى ليصبح نائباً للأمين العام، علماً بأنه لم يكن له أي صلة بالعمليات الخارجية قط. ثم انتدبته الجبهة الشعبية ليمثلها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بين سنتَي 1987 و1991، أي بين الانتفاضة الفلسطينية الأولى ومؤتمر مدريد لللسلام. وحين استقال جورج حبش من موقع الأمين العام للجبهة الشعبية في 1 / 5 / 2000، انتُخب أبو علي أميناً عاماً للجبهة في ختام مؤتمرها العام السادس في 8 / 7 / 2000. وهكذا خَلَف الفلاحُ الفقير الطبيبَ الميسور في الموقع الأول للجبهة الشعبية.
عَبَر النهر مراراً
عَبَر أبو علي مصطفى نهر الأردن مراراً كثيرة خلافاً لمقولة هيراقليطس: "لا تستطيع اجتياز مياه النهر مرتين"، في إشارة إلى قانون التغير الذي كان يحلو لكارل ماركس حين يتحدث عنه أن يردد مقولة هيراقليطس تلك. وقصارى الكلام في هذا المقام أن الشهيد أبو علي مصطفى لم يكن أيديولوجياً طوال مسيرته النضالية، وإنما كان مناضلاً عملانياً بالدرجة الأولى. ولهذا أصغى إلى المتغيرات المتتابعة التي عصفت بالمشرق العربي وبقضية فلسطين بعد الهجوم العراقي على الكويت في سنة 1990، وبعد مؤتمر مدريد للسلام في سنة 1990، والذي أفضى مساره إلى اتفاق أوسلو في سنة 1993، فقرر العودة إلى الضفة الغربية بموجب هذا الاتفاق الذي رفضته الجبهة الشعبية وعارضته بقوة. ونال أبو علي مصطفى الرقم الوطني كمواطن فلسطيني من بلدة عرّابة التابعة لمحافظة جنين، وسُمح له بالعودة في سنة 1996. لكن السلطات الأمنية الإسرائيلية دأبت على عرقلة عودته إلى أن تمكن من العودة الفعلية في 30 / 9 / 1999. وهناك عند "جسر العودة" أعلن: "عدنا لنقاوم لا لنساوم." وفعلاً، لم يهدأ أبو علي مصطفى ولم يستكن، فاتهمته إسرائيل بالمسؤولية عن عدد من عمليات التفجير في القدس وتل أبيب وبالقرب من مطار اللد خلال سنتَي 2000 و2001. وفي 27 / 8 / 2001 اغتالته الطائرات الحربية الإسرائيلية بقصف مكتبه في رام الله في عملية منحطة وغادرة، فخَلَفه في موقع الأمانة العامة أحمد سعدات (أبو غسان) الذي لم يتردد في الثأر له باغتيال الوزير الإسرائيلي العنصري رحبعام زئيفي في 17 / 10 / 2001. وهكذا يخلف اللاجىءُ الفقير، الذي سمى أولاده غسان وإباء وصمود ويسار، الفلاحَ الفقير في أكثر مسارات قضية فلسطين خطراً وتعرجاً.
المصادر:
[1] انظر: أحمد الخطيب، "الكويت من الإمارة إلى الدولة: ذكريات العمل الوطني" (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2007)، ص 74، 75.
[2] انظر: أحمد حسين اليماني، "تجربتي مع الأيام" (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021).
[3] انظر: جورج مالبرينو، "الثوريون لا يموتون أبداً: حوار مع جورج حبش" (بيروت: دار الساقي، 2009)، ص 67، 77.