يأتي جورج حبش من الحاضر وليس من الذاكرة.
القائد والفدائي الذي حمل في روحه جروح اللد، كان مترهبناً للنضال. فالكوكبة التي شاركته في تأسيس حركة القوميين العرب، وفي بناء الجبهة الشعبية كإطار لمقاومة الاحتلال، كانت تتألف من مجموعة من الحالمين الذين رسموا بالكلمة والبندقية طريق العبور من الهزيمة إلى المقاومة.
جورج حبش هو الابن البكر للحركة القومية التي تابعت تراث عصر النهضة، لكنه تميز بالقدرة على قيادة تحولات فكرية كبرى داخل التنظيم الذي أسسه. فالفكر كان بالنسبة إليه وإلى رفاقه أداة للوصول إلى الحق، ووسيلة لاكتشاف الأبعاد المتعددة للحقيقة.
كاريزما كبرى لم تخدش تواضع الرجل، ومحن لم تكسر إرادته. عرف السجون وعرف الخنادق، واستخدم مبضع الطبيب كي يشخّص أمراض المجتمع ويحاول معالجتها.
سر هذا الرجل كان سحره، وسحره يكمن في تفانيه، وتفانيه ممزوج بحكمته. فجورج حبش الذي تخرج طبيباً من الجامعة الأميركية في بيروت، لم يمارس الطب كي يصبح حكيم الثورة الفلسطينية.
من الصعوبة بمكان أن نحيط بمسيرة حافلة بالعطاء والتضحية والوفاء والنبل والإخلاص تمتد ستين عاماً: فهو طالب متّقد ومتفوق صار المعلّم والدرس في التجربة النضالية / الثورية التي خاضها من خلال تأسيس حركة القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
"الحكيم" جورج حبش
من اللد إلى المنفى
ولد جورج نقولا رزق الله حبش في مدينة اللد بتاريخ 1 / 8 / 1926، لعائلة مسيحية ميسورة، فوالده كان يعمل في التجارة، ووالدته ربّة بيت حرصت على توجيه أولادها إلى متابعة دراستهم الجامعية.
عاش طفولته في اللد ودرس الابتدائية في مدارسها، وأكمل دراسة الثانوية في مدارس يافا والقدس، ليلتحق بعدها بكلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت.
قطع جورج حبش دراسته الجامعية في سنة 1948، وسط اشتداد العدوان الصهيوني المدعوم من سلطة الانتداب البريطاني آنذاك، وعاد إلى مسقط رأسه، ليتطوع للعمل في الإسعاف في مستشفى اللد. وخلال مجزرة اللد أصيبت أخته الكبرى بحمّى وتوفيت وتم دفنها بجوار منزل العائلة. غادر مع أسرته وجموع شعبه مدينته لاجئاً إلى عمّان، وكان هذا الحدث مفصلياً في حياته ونضاله، فنكبة وطنه كانت دافعه إلى أن يسلك الطريق السياسية، زعيماً وقائداً وطنياً وقومياً، "متسائلاً: كيف يمكن لعصابات صهيونية قليلة أن تهزم أمة كبرى؟ عَرّفه صديقه معتوق الأسمر إلى قسطنطين زريق، فراح يتابع حلقاته الثقافية، تحت عنوان: 'القومية العربية وآليات نهوضها'."[1]
من رحاب الجامعة إلى رحاب الثورة
كان جل اهتمام جورج حبش قبل سنة 1948، منصبّاً على تميزه في دراسته، لكن في الجامعة الأميركية في بيروت، التي تخرج منها حاملاً شهادة البكالوريوس في الطب في سنة 1951، تشكل وعيه الوطني والقومي؛ فقرار تقسيم فلسطين في سنة 1947 كان بالنسبة إليه صدمة كبيرة، فرفع مع العديد من طلاب الجامعة شعار "قرار التقسيم يجب ألّا يمر"، وشارك مع زملائه في التظاهرات التي نددت بالقرار الجائر، فضلاً عن الأثر الكبير الذي تركته في نفسه المجازر والعمليات العسكرية التي كانت تدور في فلسطين قبل إعلان "دولة إسرائيل" في سنة 1948.
بعد هزيمة الجيوش العربية، رفض التسليم بالهزيمة، فسلك طريق العمل الثوري، من أجل العودة إلى وطنه، وخلالها تعرّض للملاحقة والاعتقال. "قال لي هاني الهندي إن في سورية أشخاصاً يفكرون مثلنا؛ وهكذا نشأت 'كتائب الفداء العربي'. اشتغلنا في 'كتائب الفداء العربي'، أنا وهاني وجهاد ضاحي وحسين توفيق من مصر وآخرون؛ كنّا نستهدف الخونة في الدرجة الأولى، ثم الإنجليز فإسرائيل. لكن عندما حدثت محاولة اغتيال أديب الشيشكلي الفاشلة، التي قام بها حسين توفيق ربما بإيعاز من قوى أُخرى، والتي لم نكن أنا وهاني وجهاد موافقين عليها، بدأت أفكر في أن من غير المعقول أن نحرر فلسطين من خلال هذه الأعمال، وإنما يجب التفكير في إطلاق حركة سياسية."[2]
بعد حل "كتائب الفداء العربي"، لم يستسلم الشاب اليافع الذي تشكّل وعيه على وقع نكبة شعبه، فاتجه مع بعض رفاقه العرب والفلسطينيين إلى النشاط في "جمعية العروة الوثقى" و"منظمة الشباب القومي العربي" التي رفعت شعار عدم الاعتراف "بإسرائيل"، ثم تأسست "هيئة مقاومة الصلح مع إسرائيل" التي أصدرت نشرة حملت اسم "الثأر".
في سنة 1951، أسس مع مجموعة من رفاقه "حركة القوميين العرب"، منهم: وديع حداد، وصالح شبل من فلسطين؛ أحمد الخطيب من الكويت؛ حامد الجبوري من العراق؛ هاني الهندي من سورية؛ حمد الفرحان من الأردن؛ محسن إبراهيم من لبنان؛ عمر فاضل، وهو ابن مغترب عربي من الكاميرون، وغيرهم. وكانت الحركة ذات تأثير قوي ونفوذ واسع في العديد من دول الوطن العربي. وفي تلك الفترة بقي جورج حبش يعمل من الأردن على نشر أفكاره الثورية، حتى سنة 1957 حين غادر الأردن إلى سورية.
كانت المرحلة الممتدة بين سنوات 1961 و1964، والتي أمضاها في سورية، من المراحل الصعبة والقاسية في نضاله، وتميزت بطابعها السري بسبب اشتداد حملات المطاردة والملاحقة، الأمر الذي اضطره أخيراً إلى مغادرة سورية سراً إلى لبنان ومواصلة نضاله من هناك.
أنشأ مع عدد من رفاقه، وأبرزهم وديع حداد، في سنة 1964، فرع فلسطين لحركة القوميين العرب الذي قرر منذ ذلك التاريخ تهيئة الأجواء لبدء الكفاح المسلح الفلسطيني ضد العدو الصهيوني، وتم تشكيل منظمتَي "شباب الثأر" و"أبطال العودة" لهذا الهدف.
حزيران / يونيو الهزيمة والانبعاث
تركت هزيمة حزيران / يونيو 1967 واحتلال سائر الأراضي الفلسطينية وأراضٍ عربية أُخرى، أثراً قوياً في نفس الحكيم وتفكيره، فالهزيمة والوقوف على أسبابها الفكرية والتنظيمية والعسكرية، كانا دافعاً أساسياً إلى الاتجاه نحو تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من مجموعة منظمات فلسطينية، أبرزها: جبهة تحرير فلسطين، ومنظمتا "أبطال العودة" و"شباب الثأر"، وغيرها من منظمات العمل الفلسطيني آنذاك. وشكلت الجبهة الشعبية في حينها قوة مادية مؤثرة على الأرض، وعكست تفكير جورج حبش، وتفكير النواة المؤسسة معه، كما عكست إيمانه بالوحدة الوطنية الفلسطينية في مواجهة العدو الصهيوني وحلفائه، وطرحت نفسها في الساحة الفلسطينية، تنظيماً تقدمياً وقومياً يسارياً. وكان "الدرس الآخر الذي استخلصناه من تلك الهزيمة مفاده أن نضالنا المسلح لا بد أن يرتكز على الفلسطينيين أنفسهم، الذين يتوجب عليهم أن ينظموا معركتهم على أساس حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، بالاستناد إلى التجربة الجزائرية وتجربة اليمن الجنوبي، دون أن ننسى التجربة الفيتنامية بالطبع."[3]
فلسطين كلمة البدء
لا يمكن لأي قارىء حصيف لتجربة جورج حبش والتحولات الفكرية العميقة التي حدثت في مجرى تجربته النضالية / الثورية، إلّا أن يرى فلسطين أساساً فيها، فقد رأى "الحكيم" في القومية وسيلة نحو فلسطين، ولذلك حين "فشلت" القومية في تحقيق الهدف، جرى البحث عن أيديولوجيا تقود إلى الهدف، وغدت "الحركة" في خدمة "الجبهة".
في ضوء ذلك، يمكن الإشارة إلى مسألتين تشكلان الأساس الصالح لفهم تموجات "الحكيم" وتحولاته، وانتقاله بين مختلف المواقع الفكرية على تباعد المسافات فيما بينها: الأولى، هي أن "فلسطينية" حركة القوميين العرب وليس قوميتها كانت هي الثابت / الأساس؛ الثانية التي ليست أكثر من تجليات الأولى، هي أن حركة القوميين العرب، كانت مشروعاً سياسياً لا يرى في الأيديولوجيا إلّا وسيلة لتحقيق الهدف السياسي: تحرير فلسطين. وربما يكون قد توصّل لاحقاً إلى خطأ حل حركة القوميين العرب، من دون أن يتخلى عن الماركسية، ولهذا بقي مشدوداً إلى رؤية الخصوصية الفلسطينية في إطارها العربي، مؤكداً "ترابط البعد الوطني للقضية الفلسطينية ببعدها القومي كعامل أساسي في مجرى الصراع العربي الصهيوني."[4]
القائد المستنير
كان جورج حبش نموذجاً للقائد المستنير الذي لا يكلّ من القراءة، ولهذا لم يكن يكفّ عن طرح الأسئلة والأجوبة التي تُولّد بدورها أسئلة جديدة، وكان دائماً يسعى لتأمين جواب واحد، هو أن طريق فلسطين المغلقة بمتاريس الأعداء، لا يمكن أن تُفتح إلّا بجيل قادر على رأب صدع تلك الفجوة الحضارية الكبيرة التي بيننا وبين العدو، وهو الذي عرف جيداً أن المشروع الصهيوني هو مشروع استعماري إحلالي عنصري، يقوم على طرد السكان الأصليين وإحلال مستعمرين مكانهم، على غرار ما حدث في أميركا الشمالية وأستراليا، حيث أُبيد السكان الأصليون؛ لكنه عرف أيضاً أن الأمر، بما يتعلق بالحركة الصهيونية، أبعد من ذلك، وبأن دور هذه الحركة يتجاوز التهجير والتطهير للسكان الأصليين، إلى ضرب أو تصفية روايتهم / جذورهم التاريخية. ولهذا رأى أن الصراع على الجبهة الثقافية لا يقل أهمية عن الصراع على الجبهتين العسكرية والسياسية، بل يتقدم عليهما في مراحل الهزائم / التراجع التاريخية، وعليه "لا يجوز أن نخسر الجبهة الثقافية التي تتناول حقنا في الوجود والحرية والحياة، والتي تتناول حضارتنا وتاريخنا وتراثنا ومستقبل أجيالنا."[5]
لماذا هُزمنا؟!
كان هذا السؤال محورياً، بل تأسيسياً في تفكير "الحكيم"، ووُلد نتيجة تراكم النكبات والهزائم والتراجعات العسكرية والسياسية، ولذلك بادر إلى طرح هذا السؤال ذي الدلالة التاريخية المرتبطة بطبيعة المواجهة والصراع مع العدو الصهيوني، فقد لحقت الهزيمة بشعب يملك الحق المطلق. ولذا كانت محاولة جورج حبش التأسيسية للإجابة عن ذلك من خلال "نحو فهم أعمق وأدق للكيان الصهيوني"، معتبراً أن نقطة البدء في أي استراتيجيا شاملة، لمواجهة العدو الصهيوني وإلحاق الهزيمة به، تتجسد في معرفة ماهية العدو، إذ "يجب أن نفهم عدونا فهماً علمياً متطوراً ومترابطاً. وأقول فهماً علمياً لأن الكثير من المفاهيم التي نمتلكها حول هذا الكيان تتسم بالغيبية والتصورات التسطيحية المسبقة، كتلك التي تقسم العالم إلى معسكرين للخير المطلق والشر المطلق، والتي لا ترى اختلاف وتنوع وتعدد المساحات اللونية بينهما، أو تلك التي لا تكفّ عن التحدث عن 'مأزق العدو' وأزمته الخانقة وتخبّطه وارتباكه [....] وأقول فهماً متطوراً لأننا أمام كيان متغير ومتحول. لذا لا يجوز أن نكتفي بالمواقف المسبقة، ولا يجوز لمعارفنا أن تتوقف عنده."[6]
لقد قرأ جورج حبش العدو وقوته وقدرته على التحول باستمرار، وذلك في سياق ترابطه مع المركز الإمبريالي الذي لا يمكن فهم صيرورة وقوانين تطور هذا الكيان وآفاقه الاستراتيجية من دون فهم العلاقة بينهما، وكذلك بارتباطه بحركة وتطور الرجعية العربية التي وجد هذا الكيان والمركز الإمبريالي فيها الأداة المثلى لاحتجاز تطور الوطن العربي ونهب مقدراته. ولم تقف محاولة "الحكيم" عند الإجابة عن سؤال: "لماذا هُزمنا؟"، فكانت أولى خطواته بعد تقديم استقالته من الأمانة العامة للجبهة في سنة 2000، تأسيس "مركز الغد العربي للدراسات" الذي لم يُكتب له أن يستمر، بعد أن أنتج لنا مجموعة من الكتب والدراسات الثرية كان بينها كتاب "إسرائيل من الداخل".
"الحكيم" وسلاح النقد
كان الحس النقدي حاضراً بقوة في تجربة الحكيم ومسيرته النضالية / الثورية، وقد تجلّى ذلك في ممارسة النقد والنقد الذاتي، ليس كمبدأ يتغنى به، أسوة بكثير من القيادات السياسية، بل كمبدأ يترجم واقعاً، داخل الهيئات القيادية أولاً، مروراً بجميع هيئات ومراتب الحزب الوسيطة والقاعدية. ولم يقف الأمر عند النقد الداخلي فقط، بل كان يمتد من الداخل إلى الخارج أيضاً، انطلاقاً من أن مسألة النقد ضرورة حيوية، كونها جزءاً لا يتجزأ من قاعدة أشمل، هي المراجعة العلمية والدورية. وبناء عليه، يجب أن تكون هذه العملية جزءاً من نظام الحياة نفسه، بما لا يُخضعه للتسطيح والشخصنة، وبما يقوّم الـمسيرة الثورية. ومن هذا المنطلق، دعا جورج حبش إلى مراجعة مختلف محطات التجربة الفلسطينية، من خلال الأسئلة والمفاهيم التالية: "كيفية تعاملنا مع هذه الساحة العربية أم تلك، مع الحركة الوطنية التي أهملناها كلياً، فهمنا للعمل الوطني والقومي، للعمل السياسي والدبلوماسي من جهة، والعمل العسكري من جهة أُخرى [....] مشكلاتنا التنظيمية، الصراع الفئوي، التمثيل النسبي، الهيمنة والتفرد، القيادة الجماعية الغائبة، الـمنظمات الشعبية الـمفرغة والـمهمشة والـملحقة، الجوانب الـمسلكية والأمراض الـمستعصية التي علقت بجسم الثورة، كل هذا فضلاً عن النهج السياسي أولاً، وعشرات العناوين التي تبدأ بالأرض الـمحتلة والـمشكلات الجدية الناشئة هناك، وتمرّ بالشتات الفلسطيني، وتنتهي بالأوضاع الداخلية للـمنظمة. كل هذا بحاجة إلى مراجعة وتمحيص وتقييم، نحن متحمسون له، مستعدون لتحمّل مسؤولياتنا على هذا الصعيد."[7]
القيادة والتجديد وتفعيل الطاقة القصوى
كان لدى جورج حبش دائماً دوره وموقعه كقائد أول في تنظيم اعتبر نفسه عنواناً للحركة التقدمية، ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب، بل العربي أيضاً، وبالتالي فإن موقعه يحمّله مسؤولية أن يكون القدوة والمثل والنموذج في تحويل الأقوال إلى أفعال أو ممارسة منسجمة ومتناغمة معها. بناء على ذلك أدرك أولاً محورية ومركزية الدور القيادي في الحزب، ووعى المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق الرأس القيادي / الهيئات القيادية / العقل المفكر في الحزب، وعليه لم ينفك عن التأكيد أن: "القيادة أولاً"، ولذا حذّر من أن يلحق بالحزب، وخصوصاً قيادته، الأمراض التي لحقت بجسم الثورة جرّاء العمل العلني والظاهرة العلنية، والتأثر بالقيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، وأشار إلى بعضها بوضوح، كالبيروقراطية وتبوّؤ المراتب والخمول، والابتعاد عن الجماهير وشعور القواعد بصورة عامة بأن الأوضاع القيادية لا تمثل المحفز، وكذلك الإحساس بالفارق الكبير بين الشعارات المعلنة والبرامج والخطط والقدرة على التنفيذ.
ليس أوضح ممّا سبق، ومن الحديث عن الأمراض التي تتعرض لها الهيئات القيادية، وما يترتب على ذلك من ضرورة أن يكون التجديد في الكوادر الشابة والواعدة التي تتمتع بدرجة عالية من الوعي والكفاءة والكفاحية والأداء العالي والفاعلية القصوى والالتصاق بالحزب ودوره الوطني والاجتماعي، إلّا قول "الحكيم": "إن فهمي للتجديد لا يقوم على أساس أنه موضة لا بد أن نمارسها، ولا يقوم على أساس شكلي أو ردة فعل على أحداث جرت في هذا العالم.. إن التجديد ضرورة موضوعية وعملية دائمة ومتواصلة يفرضها منطق الحياة والتطور، وصيرورة تشمل كافة جوانب عملنا. والتجديد ليس كلمة تقال، بل هي مضامين وتغيير جذري لأسلوب وطرائق عمل أصبحت بالية. والتجديد في جوانب العمل يشترط بالضرورة التجديد في الهيئات القيادية التي يجب أن يتم ضخها باستمرار بالدماء والأفكار الجديدة."[8]
درسٌ في الديمقراطية
آمن "الحكيم" بالديمقراطية وآلياتها في الحياة الحزبية الداخلية، أو على صعيد الممارسة المجتمعية الأشمل والأوسع، وبما يؤمّن البيئة والحاضنة التي تتحول من خلالها الديمقراطية إلى ثقافة متمثلة في الوعي والممارسة، ويفتح باستمرار الآفاق والمناخات الملائمة لإطلاق أوسع فاعلية فكرية تحرر العقل الفردي والجمعي من قيود الركود والشلل، كشرط أساسي للنهوض وجذب الكفاءات الاجتماعية، الأمر الذي يؤسس لديناميات التطور والتقدم والتصدي للمهمات الوطنية الكبرى، ويؤمّن أيضاً إدارة صحيحة للتناقضات الداخلية. ولعل في ممارسة الحكيم، ما يدل على وعيه بخطورة توظيف القوة المادية أو المعنوية، في مواجهة المختلفين، داخل الحزب وخارجه، بمَن في ذلك أولئك الذين شكلوا ظواهر انقسامية أو انشقاقية، ومنهم مَن انشق فعلاً، فنجده في أثناء حماسة بعض الرفاق في الهيئة القيادية للجبهة، لاستخدام القوة ضد رموز المنشقين من الجبهة الديمقراطية، في أواخر ستينيات القرن المنصرم، يعلن شعاره "الطلاق الديمقراطي"، وحفظ حق الاختلاف وعدم اللجوء إلى القوة في حل التناقضات الداخلية، حتى مع إدراكه دور الجهات الخارجية في ذلك.
والأمر ذاته جرى في أوائل سبعينيات القرن المنصرم، عندما هتفت مجموعة ممّن كانوا يعتبرون أنفسهم أصحاب "رأي" في الجبهة ضد الحكيم شخصياً وأمام مكتبه في بيروت، ودعوه إلى أن يذهب ليصبح "راهباً في دير". وعندما حاول بعض مرافقيه التعامل بالقوة معهم، رفض "الحكيم" ذلك، ونزل يحاورهم بنفسه، فيما عرف بعد ذلك باجتماع "29"، بل تبنّى بعض مطالبهم التي رُفضت من قيادة الجبهة آنذاك، وعلى أساسها أعلنوا انشقاقهم باسم "الجبهة الثورية".
أخيراً، جاءت استقالته من موقع الأمين العام أمام المؤتمر الوطني السادس الذي عُقد في سنة 2000، لتكرّس وعيه بالديمقراطية ودورها، فكانت درساً آنياً ومستقبلياً "بأن الإنسان المناضل والقائد يستطيع أن يستمر في العمل والعطاء حتى بدون مواقع قيادية رسمية، هذا من جانب، ومن جانب آخر إعطاء مثل نقيض للحالة العربية والفلسطينية، والتي تتجسد في تشبث المسؤولين في مواقعهم مهما طال بهم العمر، حيث لا مجال لتداول السلطة إلّا تحت وقع الموت أو الانقلابات."[9]
توفي جورج حبش في 26 / 1 / 2008 في العاصمة الأردنية عمّان ودفن فيها، وما زال جثمانه وجثامين آلاف الشهداء وملايين الفلسطينيين الموزعة في مقابر ومخيمات ومواقع اللجوء، ينتظران أن تُقرع أجراس العودة.
المصادر:
[1] فؤاد مطر، "حكيم الثورة سيرة جورج حبش ونضاله" (بيروت: دار النهار للنشر، ط 1، 2008،)، ص 13.
[2] محمود سويد، "التجربة النضالية الفلسطينية: حوار شامل مع جورج حبش" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ط 1، 1998)، ص 10.
[3] جورج مالبرينو، "جورج حبش: الثوريون لا يموتون أبداً"، ترجمة عقيل الشيخ حسين (بيروت: دار الساقي، 2009)، ص 74.
[4] طلال أحمد، "جورج حبش: استحقاقات الراهن والأفق القادم" (د. م.: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ط 2، 2021)، ص 12.
[5] من كلمة لجورج حبش أمام المؤتمر الوطني الخامس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، شباط / فبراير 1993.
[6] جورج حبش، "نحو فهم أعمق وأدق للكيان الصهيوني"، نسخة إلكترونية منقولة عن جريدة "القبس" (الكويتية)، العدد 1056، 8 / 7 / 1988، ص 7.
[7] فيحاء عبد الهادي، "د. جورج حبش: نموذج القائد الديمقراطي الوحدوي"، جريدة "الأيام" (الفلسطينية)، 3 / 2 / 2008، في الرابط الإلكتروني.
[8] من كلمة لجورج حبش أمام المؤتمر الوطني الخامس، مصدر سبق ذكره.
[9] مقطع من الكلمة التي ألقاها جورج حبش أمام المؤتمر الوطني السادس للجبهة الشعبية، مجلة "الهدف"، العدد 1308 (تموز / يوليو 2000)، ص8.