مؤتمرنا عُقد في ظروف استثنائية، ولا مساومة على منظمة التحرير والمقاومة
أنجزت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في أيار / مايو الماضي، مؤتمرها الوطني الثامن، في ظل حصار وضعف شديدين يطوقان القضية الفلسطينية من الاتجاهات كافة:
داخلياً، الانقسام قائم ومتجذر سياسياً وجغرافياً، والاستقطاب بين ثنائي السلطة، "فتح" و"حماس"، يجر الساحة الفلسطينية خلفه؛ فما يُطلَق عليه تعبير اليسار مشتت بين هذين القطبين اللذين يجذّران الانقسام جغرافياً بين غزة والضفة، ويتسابقان على إفساد الشتات من خلال شراء الذمم بالمال، وخصوصاً في ساحتَي شتات تعانيان ضيقاً اقتصادياً خانقاً، أي لبنان وسورية.
خارجياً، التخلي العربي عن القضية الفلسطينية متسارع، إن عبر التطبيع العلني المباشر، أو التطبيع المستتر الذي ينتظر اللحظة الملائمة لإعلانه، بينما يزداد الحصار المالي أكان ذلك بقطع الالتزامات تجاه منظمة التحرير، والتي كانت قائمة تاريخياً، أم بالتمويل المشروط لحركة "حماس"؛ أمّا دولياً فالحصار يشتد، سواء عبر فرض عقوبات على "حماس" وفصائل أُخرى، أو عبر تقييد تمويل ميزانية السلطة الفلسطينية، وليس انتهاء باعتبار دول في الغرب أن انتقاد إسرائيل هو شكل من أشكال اللاسامية، فضلاً عن التضييق على حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، وتجريمها.
إسرائيلياً، حيث الاتجاه نحو مزيد من التطرف الذي زاد عن حده كثيراً، فالسعي يومي لاستعمار كل بقعة أرض متاح استعمارها في الضفة الغربية، ولتهويد كل معلم تاريخي فلسطيني ديني أو غير ذلك، وخصوصاً في القدس المحتلة؛ فضلاً عن القتل المتفلت من عقاله، ولا سيما للأطفال وصغار السن، كأن المقصود هو القتل المباشر لمستقبل فلسطين بعدما فشلت إسرائيل في القضاء على الماضي والحاضر.
وسط هذا الواقع المأزوم، ظهرت في العامَين الأخيرَين ملامح انتفاضة فلسطينية متقطعة لكن متواصلة، تمثلت في العمليات الفردية التي ينفذها شبان فلسطينيون من خارج قرار الفصائل ومن دون علمها، وتجسدت بنهضة شبابية ربما كان أهمها هبّة الشيخ جرّاح التي اجترحها شبان وشابات استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي لفضح ممارسات الاحتلال، كاستكمال لمعركة تدور رحاها في الفضاء الافتراضي بين فلسطينيين ومؤيدين للقضية الفلسطينية، وبين إسرائيل التي شكلت جهازاً خاصاً لمتابعة حرب الفضاء الافتراضي هذه.
وسط هذه المناخات، عُقد المؤتمر الوطني الثامن للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي خرج بإنجازات أُعلنت في بيان صدر في إثر انتهاء أعمال المؤتمر، ويمكن أن يُبنى عليها، ونلخصها بما يلي:
1- عُقد المؤتمر الثامن بعد سلسلة من المؤتمرات القاعدية طوال سنة 2021، حتى أيار / مايو 2022، كي لا يكون المؤتمر مجرد اجتماع ميكانيكي توضع فيه السياسات، وتُركّب القيادات وفق توزيع مسبق.
2- لإضفاء مزيد من الديمقراطية، جرى تنظيم انتخابات تمهيدية (primaries) اختارت خلالها مؤتمرات الفروع التنظيمية ممثليها للمؤتمر العام وللهيئات المركزية.
3 – تطبيق قاعدة في النظام الداخلي للجبهة تمنع عضوية الهيئات المركزية لأكثر من دورتين متتاليتين. وبناء على ذلك، غاب عن تلك الهيئات قيادات معروفة: منها من فضّلت التقاعد، ومنها مَن التزمت عدم الترشح للهيئات المركزية، لكنها احتفظت بعضويتها الحزبية.
4- اعترافاً بنضالات الأسرى الفلسطينيين، وبدور الحركة الوطنية الأسيرة، استُثنيت المنظمة الحزبية في سجون الاحتلال من القاعدة المذكورة آنفاً، وبالتالي جرى التجديد لأحمد سعدات أميناً عاماً للجبهة، واختارت المنظمة الحزبية الأسيرة ممثليها في الهيئات المركزية.
وأخذ المؤتمر بعين الاعتبار أيضاً وضع المنظمة الحزبية في الضفة الغربية، فاستُثنيت، بطلب منها، من المؤتمر العلني، كونها ترزح تحت الاحتلال، ولأنها ملاحقة منه وتعمل كمنظمة سرية، وبالتالي اختارت هذه المنظمة الحزبية ممثليها للهيئات المركزية من دون إعلان أسماء مَن سيتم اختيارهم.
5- حقق التطبيق الصارم لقاعدة الدورتين لعضوية الهيئات المركزية، تجديداً لافتاً في تلك الهيئات، قال بيان الجبهة إنه جاء على النحو التالي: 53% في اللجنة المركزية العامة؛ 100% في أمانة السر المركزية؛ 75% في المكتب السياسي؛ 44% في الرقابة المركزية.
غير أن الإنجاز لن يكون إنجازاً إذا بقي عند الشكل ولم يتحول إلى فعل. ومن أجل بلوغ هذا التحول الضروري، فإنه يجب تنفيذ ما تم إقراره في المؤتمر الثامن، وأداء دور مركزي في إعادة اللحمة الفلسطينية، وتشكيل قطب وطني جامع، ومتابعة هموم الشباب ومخاطبتهم وتأطيرهم، كي يُحصد الثمر في المؤتمر التاسع، ولتستفيد ساحة العمل الوطني كلها أيضاً.
مخرجات المؤتمر الوطني الثامن للجبهة الشعبية، وتحديات المستقبل: تنظيمياً وسياسياً ووطنياً، ناقشتها هيئة تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية" خلال حوار مع نائب الأمين العام للجبهة الشعبية، جميل مزهر، ننشر فيما يلي نصه.
نائب الأمين العام للجبهة الشعبية جميل مزهر
تجديد في الشكل وفي المضمون
حوارنا هذا ينطلق من مخرجات المؤتمر الوطني الثامن للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والهدف هو أن نعيد تقديم الجبهة، إذ آن الأوان لتقديمها بما يليق بها وبدورها النضالي ومكانتها في ضمير الشعب الفلسطيني وضمير الأمة العربية.
السؤال الأول هو: هل لك أن تضعنا في ظروف عقد المؤتمر، في ظل تعقيدات الوضع الفلسطيني بين الشتات وقطاع غزة والضفة الغربية وداخل السجون، وكيف تمكنتم من تنسيق أعمال المؤتمر في ظل تلك الظروف؟
بداية، أود أن أشكركم على هذه المبادرة، ويسعدني اللقاء معكم. إن عقد المؤتمر الوطني الثامن جاء في ظل تحديات كبيرة بفعل حالة التشتت في ساحات متعددة داخل فلسطين وخارجها، وفي ظل الملاحقة والمطاردة والاعتقالات. فالجبهة الشعبية صاحبة التراث العميق لها امتدادات في أنحاء العالم: داخل الوطن وخارج الوطن وفي السجون.
الوضع الطبيعي هو أن يُعقد المؤتمر كل خمسة أعوام، وقد عُقد المؤتمر الوطني السابع في سنة 2013، وكان من المفترض أن يُعقد المؤتمر الثامن في سنة 2018، وشُكلت لجنة للإعداد للمؤتمر، وسط تحديات كبيرة، وخصوصاً تحديات منظمة الجبهة الشعبية في الضفة الغربية الواقعة تحت ضغط ملاحقات العدو والاعتقالات الواسعة، في إثر عملية عين بوبين في سنة 2019، الأمر الذي حال دون عقد المؤتمر في موعده. لكن القيادات والمكتب السياسي والأمين العام [أحمد سعدات] من داخل المعتقل، أصروا على عقد المؤتمر لأنه حاجة حزبية ضرورية في سياق عملية المراجعة والتقييم ورسم السياسات، وحاجة وطنية باعتبار أن تجديد البنى الديمقراطية داخل هيئات الجبهة هي خطوة في طريق تعزيز الديمقراطية فلسطينياً. وعلى الرغم من التأخر الناتج من الصعوبات الأمنية في الضفة الغربية والتضييق على الحركة الوطنية الأسيرة، فإنه جرى إعداد الوثائق والتقارير الحزبية والسياسية للمؤتمر، والبرنامج السياسي والنظام الداخلي، والتي أُدخلت تعديلات عليها خلال اجتماعات اللجنة المركزية.
بوشرت أعمال المؤتمر التي عُقدت في أيار / مايو الماضي، في أماكن متنوعة: في غزة، وفي الشتات، وفي السجون. واستُثنيت الضفة الغربية التي اعتُبرت منظمتها الحزبية منظمة سرّية، ولا سيما بسبب ملاحقة العدو لأي نشاط، حتى النشاطات التي تجري في الجامعات والنشاطات الشبابية، واعتبار الهيئات الطلابية منظمات إرهابية، واعتقال القائمين عليها والناشطين فيها من شابات وشبان، فضلاً عن التضييق على المؤسسات المدنية والمجتمعية وإقفالها. هذا الوضع دعا إلى تفويض الهيئات المنتخبة بالإجراءات المتعلقة بعضوية اللجنة المركزية والمكتب السياسي في الضفة الغربية.
وقد ناقش المؤتمر الوطني الوثائق في الأماكن التي عُقد فيها، وعلى مدار عدة أيام، وأجرى تقييماً شاملاً ومراجعة لما سبق: أين أصبنا وأين أخطأنا، وقدّم المؤتمرون ملاحظاتهم واقتراحاتهم على جميع الوثائق المدرجة في جدول أعمال المؤتمر، وتُوّج الأمر بالعملية الديمقراطية، عبر انتخاب أعضاء اللجنة المركزية، وبعدها انتخاب الأمين العام والمكتب السياسي.
في هذا المؤتمر، طُبّق شكل جديد للانتخابات، إذ كان يجري عادة اختيار المرشحين في قائمة مركزية، ثم يُفتح الترشيح الحر، لكن هذه المرة جرت انتخابات تمهيدية تعميقاً للديمقراطية وتعزيزاً لها وبعيداً عن الترشيح المركزي الذي ربما لا يحظى بقبول المؤتمرين. واختارت مؤتمرات الساحات (غزة؛ الخارج؛ السجون) المرشحين الذين حصل المرشحون في القائمة المركزية على أعلى الأصوات بينهم، وانتهت هذه العملية بانتخاب أعضاء اللجنة المركزية الذين حددت أعدادهم في كل ساحة: في غزة، وفي الخارج، وفي السجون. وقد احتُرم النظام الداخلي بحزم، وخصوصاً نصّه الواضح الذي يحدد شغل عضوية المكتب السياسي بدورتين متتاليتين فقط، وأسقط المؤتمر بالإجماع تقريباً، اقتراحاً بتجميد العمل بهذا النص، تأكيداً على إرادة تجديد الدماء. أمّا الاستثناء الوحيد فكان السماح للرفيق أحمد سعدات بالترشح لعضوية اللجنة المركزية للجبهة بإجماع المؤتمر في الساحات كلها التي عُقد فيها، ولاحقاً انتخابه أميناً عاماً. لقد كان من المستحيل أن تتخلى الجبهة عن اختيار سعدات أميناً عاماً وهو في السجن، وفعلاً انتخبته اللجنة المركزية أميناً عاماً وفاء وتقديراً وكمسألة أخلاقية واعترافاً برمزيته ضمن الحركة الوطنية الأسيرة، ورمزيته في النضال الوطني الفلسطيني، وتحصيناً له، كما انتُخبتُ أنا [أي جميل مزهر] نائباً للأمين العام، وجرى انتخاب أعضاء المكتب السياسي في السجون وقطاع غزة والخارج.
تمسّك بالثوابت الوطنية وبالمقاومة
إن التغيير في المواقع القيادية، لا يعني التخلي عن الأهداف والمبادىء، بل ثباتاً عليها وتجذيراً لها، وتمسكاً بالمقاومة.
إن القيادة الجديدة المنتخبة لا تبدأ من الصفر، فالجبهة الشعبية وضعت استراتيجيتها السياسية في سنة 1969، وحددت من خلالها معسكر الأصدقاء ومعسكر الأعداء، وسياساتها الثابتة والواضحة، وستواصل عملها استفادة من التجربة التاريخية كلها للجبهة، والتمسك بالحقوق والثوابت الفلسطينية وبالمقاومة. ومن ضمن ما عدّله المؤتمر الثامن، إزاحة مسألة الحل المرحلي من نص الاستراتيجيا السياسية، والتشديد على الحل الاستراتيجي في ظل موازين القوى المختلة، والصلف الصهيوني. فالعدو الصهيوني في ظل جميع حكوماته المتعاقبة الأكثر يمينية، لم يُبقِ للشعب الفلسطيني أي خيارات سوى اعتبار الصراع معه صراع وجود، والشعب الفلسطيني لا بد من أن ينتصر كونه صاحب الحق في فلسطين كلها من النهر إلى البحر.
ذكرتَ في سياق كلامك، التمسك بالمقاومة. هل يمكن أن تشرح لنا – في الظرف القائم حالياً – ما معنى المقاومة؟
أعني المقاومة بأشكالها كافة: فكراً؛ نهجاً؛ بندقية؛ مقاومة شعبية؛ مقاومة التطبيع؛ مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)؛ المقاومة الثقافية؛ المقاومة الاقتصادية. إنها مقاومة تشمل جميع الوسائل والأشكال، وأرقى هذه الوسائل والأشكال هو الكفاح المسلح. هكذا تفهم الجبهة المقاومة.
التجربة توضح أنه على امتداد 27 عاماً من توقيع اتفاق أوسلو، واختيار التفاوض وسيلة لتسوية مع هذا الاحتلال، لم نحصل خلال هذه الأعوام العجاف إلّا على مزيد من الاستيطان والتهويد، ومزيد من الأسرلة في القدس، ومزيد من القتل ومن التدمير، ومزيد من تقويض حلم الدولة الفلسطينية، أو مشروع الدولة في إطار الحل المرحلي.
الإسرائيلي اليوم أكثر تمسكاً باعتبار الضفة الغربية هي "يهودا والسامرة"، وبأنها جزء رئيسي وأصيل من دولة الاحتلال، بل باتت بالنسبة إليه، أهم من حيفا ويافا وتل أبيب، وغيرها. وبالتالي أمام هذا الوضع وأمام هذا الصلف، أعادت الجبهة الاعتبار إلى الخيار الاستراتيجي وتخلت عن فكرة الحل المرحلي، وشددت على أن المقاومة بمختلف أشكالها هي الطريق لإزالة هذا الكيان السرطاني من أرض فلسطين ومن المنطقة كلها.
إذاً، إن تصعيد المقاومة هو الطريق، وانبعاث مقاومة شعبية وانتفاضة شاملة، أمر يُعمّق أزمة هذا العدو وهذا الكيان. والمقاومة هي أقصر الطرق للانتصار، وأقصر الطرق لإسقاط مشاريع التسوية ومنها مشروع أوسلو، وذلك في إطار رؤية واستراتيجيا وطنيتين واستراتيجيتين.
لكن للأسف الشديد، نحن نعيش أزمة حقيقية على مستوى الفصائل أساسها غياب الرؤية الوطنية الشاملة والاستراتيجيا الوطنية، وخصوصاً التمسك بالمقاومة كخيار استراتيجي. نحن أمام فريق رهانه الوحيد هو على مسار المفاوضات والتسوية، وفي موازاته فريق آخر يرى أن هذا الطريق هو مسار عقيم، وأن المقاومة هي الخيار الصحيح لانتزاع الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. وقد حددت الجبهة الشعبية الوحدةَ الوطنية والاستراتيجيا الوطنية، مهمةً رئيسية ومركزية لتحقيق ذلك.
وفي الوقت نفسه يعيش العدو، أي هذا الاحتلال وهذا الكيان، أزمة وجودية، إذ أصبح كثير من الكتّاب الصهيونيين الإسرائيليين يتحدث عن أزمة العقد الثامن باعتبار أن هذه الدولة ستنتهي في العقد الثامن، على أساس أنه في التاريخ لم تعمّر أي دولة يهودية أكثر من 80 عاماً؛ ونحن نقترب من موعد العام الثمانين.
المقصود الدولة الحشمونية التي عاشت 80 عاماً؟
نعم هذا ما أتحدث عنه. لكن الأمر لا يتوقف على هذا التصور، فإسرائيل علاوة على ذلك، تعاني مشكلات داخلية جمّة، وأزمة ناجمة عن تعاظم قوة المقاومة ومحور المقاومة.
منظمة التحرير منجز وطني نتمسك به
أنتم كجبهة شعبية لا تزالون أعضاء في منظمة التحرير الفلسطينية، وفي الوقت ذاته تتحالفون ميدانياً، وفي الانتخابات - انتخابات بلدية ونقابية – مع "حماس" و"الجهاد"، وتتعايشون في غزة وتتحالفون مع "حماس" كونها القوة المسيطرة هناك. هل ممكن أن تشرح لنا كيف يمكنكم التعامل مع هذه التركيبة المعقدة للتحالفات؟
هذا سؤال مشروع طبعاً. نحن جزء من منظمة التحرير، وشريك ومؤسس فيها، ونعتبرها منجزاً وطنياً عُمّد بالتضحيات: شهداء وجرحى وأسرى، كما عُمّد بالعذابات والقهر. فالجبهة تتمسك بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وهذا أمر لا يمكن أن نساوم عليه، ولا يمكن أن نسمح بالعبث به أو بخلق أُطر موازية أو بديلة منها. لكن وضع منظمة التحرير حالياً غير صحي: اللجنة التنفيذية للمنظمة تحولت إلى لجنة استشارية ولم تعد مقررة، وهناك تغول من السلطة على منظمة التحرير، أو محاولة لاستبدال المنظمة ودورها بسطوة السلطة، وسط حالة من الهيمنة والتفرد والإقصاء والفساد المستشري في مؤسساتها، وغياب للديمقراطية والشراكة الوطنية. ونحن عندما نوصّف هذه الأزمة التي تعيشها منظمة التحرير، فإننا كجبهة شعبية، لا نتخلى عن المنظمة. وفضلاً عن ذلك، نحن لم نشارك في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني الأخير، ولم نكن جزءاً من مخرجاته، لأننا شعرنا بأن المطلوب من المشاركة هو إعطاء الوضع القائم شرعية، ومواصلة السياسة والنهج نفسيهما. فرهانات المنظمة السياسية لا تزال على ما هي عليه: رهان على المفاوضات، وعلى الأميركي، وعلى ماذا يمكن أن يقدّم الإسرائيلي الذي يتحدث بوضوح عن الاقتصاد في مقابل الأمن، وعلى السلام الاقتصادي في إطار حكم ذاتي إداري، وهو مشروع قائم منذ نتنياهو ومَن جاء بعده. الاحتلال يريد أن تكون وظيفة السلطة الفلسطينية أمنية، بينما نحن نريد سلطة بوظيفة وطنية. تنظيمياً أيضاً، هناك مشكلة كبيرة في منظمة التحرير: هيمنة وتفرد وفساد. نحن نريد إصلاح المنظمة، ونتمسك بها كرمز وطني وكيان سياسي يعبّر عن الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الخارج؛ نريد من منظمة التحرير أن تكون مؤسسة محترمة بمواقف سياسية واضحة وصريحة تقطع مع اتفاق أوسلو، وتسحب الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي، وتوقف التنسيق الأمني، وتتخلى عن الروابط السياسية والاقتصادية مع العدو الإسرائيلي، وأن تعود إلى برنامج الإجماع الوطني وقراراته. نريد مؤسسة ديمقراطية يتم انتخاب المجلس الوطني فيها في الداخل وحيث يمكن في الخارج، أو التوافق على مجلس وطني انتقالي لا تُعطى فيه الأغلبية لا لـ "حماس" ولا لـ "فتح"، وذلك كي لا تقع تحت هيمنة وتسلط من هذا الطرف أو من ذاك الطرف، وكي لا يتحكم طرف بعينه في القرار الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية.
خلال اجتماع في لبنان رفضنا أفكاراً تمسّ تمثيل المنظمة
نحن شكلنا على مدار التاريخ حماية لمنظمة التحرير: حماية من إدخالها في صراعات التمثيل السياسي الفلسطيني، ومن البدائل، والأطر الموازية. نحن حمينا منظمة التحرير، وحمينا الساحة الفلسطينية من مزيد من التمزق والتفسخ والتشتت. وأود أن أكشف هنا، أنه خلال زيارتنا الأخيرة للبنان التقينا مع "حماس" ومع الفصائل العشرة [فصائل التحالف]، بدعوة من "حماس"، وطُرحت عدة أفكار، وربما طُرحت أفكار تمسّ بوحدانية تمثيل منظمة التحرير، الأمر الذي رفضته الجبهة التي دائماً ما كانت وستبقى صمام أمان لمنظمة التحرير، وحماية الساحة الفلسطينية من مزيد من الانقسامات. أود أن أطمئنكم وأطمئن جميع أبناء شعبنا، أن الجبهة ستبقى صمام أمان لحماية الساحة الفلسطينية من مزيد من الانقسامات والتفسخ، وحماية منظمة التحرير كمنجز وطني بعيداً عن صراعات التمثيل.
أمّا بشأن العلاقة مع "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وغيرهما، فهناك فارق كبير بين تحالفات أو تنسيق ببعد تكتيكي وميداني، وبين القضايا المركزية ذات البعد السياسي. ففي القضايا ذات البعد السياسي الاستراتيجي، فإن للجبهة خطاً واضحاً وصريحاً، لكن في القضايا التكتيكية الميدانية، كأن نتحالف في هذه النقابة، أو نلتقي في هذا المربع أو نختلف في مربع آخر، فهذه مسائل لا تؤثر في السياسة العامة. يجب أن يعترف الجميع أيضاً بأن "حماس" و"الجهاد الإسلامي" هما قوتان أصيلتان في الشعب الفلسطيني، وجزء من قوى المقاومة، ونحن في الجبهة الشعبية قوة مقاومة، ونلتقي مع "حماس" و"الجهاد" في الخطاب السياسي للمقاومة، وفي المقاومة الميدانية وتصعيدها في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وهذه العلاقات صاغتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في استراتيجيتها السياسية في سنة 1969، والتي شارك الشهيد غسان كنفاني في صوغها كمشارك وصائغ رئيسي لها، وهي علاقات تستند إلى مبدأ: وحدة – صراع – وحدة، أو وحدة – نقد – وحدة. هذا هو ما يحكم سياسة الجبهة وعلاقاتها مع "حماس" و"الجهاد" و"فتح"، ومع الأطراف كافة. ونحن نتفق في مكان ونتقاطع، ونختلف في مكان آخر؛ نتفق في المقاومة ونختلف في القضايا الديمقراطية والمعيشية والحياتية، والقضايا ذات الصلة بإدارة غزة، فقد اختلفنا مع "حماس" في كثير من القضايا المتعلقة بسوء الإدارة، باعتبار أن "حماس" هي السلطة التي تحكم قطاع غزة. الخلافات كانت واضحة وعلنية في محطات عديدة، بل إن "حماس" لاحقت واعتقلت أعضاء وأنصاراً للجبهة، بسبب تحركات على صلة بقضايا حياتية وإنسانية.
في هذه الحقول نتفق ونختلف مع "حماس" أو "الجهاد" أو "فتح" أو غيرها، لكن في خطوات ذات بعد استراتيجي تمسّ منظمة التحرير ككيان ممثل للشعب الفلسطيني، أو في القضايا الوطنية الاستراتيجية، فإن الجبهة تمتلك رؤيتها وخطها الواضحين والصريحين.
التخلي عن الحل المرحلي والعلاقة مع قوى اليسار اليهودية
هل الجبهة في وارد فتح حوارات، أو التنسيق، مع يهود يساريين غير صهيونيين؟
للجبهة علاقات مع القوى اليسارية اليهودية التي تعادي الصهيونية، مثل الحزب الشيوعي الإسرائيلي "راكاح". ونحن نتواصل مع هذه القوى وننسق في ملفات محددة، ولا مشكلة لدينا في التعامل معها.
ورد في كلامك في سياق هذا الحوار أن الجبهة تخلت عن فكرة الحل المرحلي.. هل لك أن توضح هذا الأمر؟
الإسرائيليون تخلوا عن التزاماتهم إزاء اتفاق أوسلو. فمع أن الفلسطينيين تخلوا بموجب هذا الاتفاق عن 78% من أرض فلسطين، إلّا إن إسرائيل تجاوزته، بل داست بدباباتها [خلال اجتياح الضفة الغربية في سنة 2002] على هذا الاتفاق الذي لم يعد مطروحاً إسرائيلياً، وبات المطروح هو السلام الاقتصادي. الدولة الفلسطينية لم تعد مطروحة، إنما المطروح هو ترتيبات إدارية في سياق السلام الاقتصادي. فهل من المعقول بالتالي أن يبقى الفلسطينيون يطرحون الحل المرحلي؟
لقد توقفت الجبهة الشعبية أمام هذه المسألة وأعادت النظر فيها. إن مفهوم الجبهة للدولة الفلسطينية، هو إنشاء دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الوطني الفلسطيني من البحر إلى النهر بحقوق متكافئة لجميع المواطنين، وأن تكون جزءاً من مجتمع عربي اشتراكي.
شعار الدولة الديمقراطية العلمانية رفعته كل من الجبهة الشعبية و"فتح" منذ سنة 1969، ويجب التدقيق الآن فيما إذا كان المجلس الوطني قد تبنّى في قراراته الأخيرة العودة إلى هذا الشعار.
العلاقة مع الجيل الجديد
بشأن الدولة الديمقراطية العلمانية، هو مشروع طُرح في 1969 ونُشر في كُتيب لـ "فتح" وجرى تبنّيه، ثم تدحرجت الأمور نحو النقاط العشر... وهبوطاً. لكن سؤالنا التالي هو: محور حديثكم حتى الآن هو عن العلاقة مع فصائل منظمة التحرير وخارج منظمة التحرير، وخصوصاً "حماس" و"الجهاد". أود أن أطرح سؤالاً، وهو سؤال يتكرر لدى الجميع: ماذا عن علاقتكم بالناس وبالجمهور؟ ألا تلاحظ وجود ثغرة في التعامل مع فئة الشباب؟ هناك انفكاك، كأن لا أحد من الفصائل يتواصل مع الشباب، والأهم أنه لا أحد يمثل الجيل الجديد من فئة الشباب، ولا أحد يمثل الناس، كأن الفصائل تجلس في أبراج وتتحدث في السياسة، بينما المطلوب، مثلما ذكرتَ أنت، العودة إلى المقاومة الشاملة.. أي أن يكون الشعب كله جزءاً من المقاومة. أنتم كجبهة، بعد المؤتمر الثامن، هل لديكم تصور أو أفكار أو خطط للاقتراب من هذا المكان الهلامي الذي يحتله الفراغ من دون وجود أحد يملأه؟
هذا السؤال على جانب كبير من الأهمية. إن عضوية الجبهة تُعتبر بنسبة 70% من فئة الشباب، الأمر الذي يعكس حيوية تنظيم الجبهة، لكن التمثيل في الهيئات القيادية العليا لا يستوي مع هذه النسبة، وهذه مشكلة، على الرغم من حجم التجديد الكبير الذي جرى في المؤتمر الوطني الثامن الذي شبّهه البعض ممّن تحاورنا معه بـ "التجريف"، بل كان سؤال هذا البعض: أين ذهبتم بالقادة التاريخيين؟ علماً بأن التقييم العام من طرف معظم مَن التقيناهم كان إيجابياً وترحيباً بالتجديد الذي حدث.
لقد شخصت الجبهة المرحلة، وأكدت أنها مرحلة تحرر وطني في سياق مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ومرحلة عمل ديمقراطي في الاشتباك الداخلي لمصلحة حقوق الناس: الشباب؛ المرأة؛ دفاعاً عن الحريات؛ هموم الناس؛ الدفاع عن الحياة الكريمة للناس؛ العدالة؛ المساواة؛ محاربة الفساد. هذه القضايا يُفترض أن تكون في أساس عمل الجبهة، كونها شخّصت المرحلة على أنها مرحلة تحرر وطني وديمقراطي.
صحيح أننا شعب تحت الاحتلال، لكنْ هناك سلطتان فلسطينيتان في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وبالتالي يتوجب علينا العمل على الملفات ذات الصلة بحقوق الناس في مواجهة السلطتين في الضفة وغزة.
لقد اشتبكنا في محطات كثيرة مع السلطة في رام الله ومع السلطة في غزة. وفي رام الله كنا متهمين بأننا نريد تقويض السلطة في الضفة، وظهر ذلك جلياً خلال الاحتجاج على مقتل نزار بنات، إذ وُجهت إلينا اتهامات بأننا نعمل على خلع الرئيس أبو مازن من السلطة، وخصوصاً أن المشاركين في الاحتجاجات كانوا من شباب الجبهة وهم مَن رفعوا شعار "اِرحل.. اِرحل"، وقد أوضحنا في حينه أننا لسنا في هذا الصدد، وأننا لا نزال نعتبر أن التناقض الرئيسي هو مع الاحتلال؛ هذا الأمر لا يمنع النضال من أجل الناس وحقوقهم وهمومهم والحريات، والوقوف في مواجهة التعدي على حريات الناس وكراماتهم، سواء في الضفة أو في غزة.
نعم الشباب محبطون، وخصوصاً في ظل الانقسام في الساحة الفلسطينية، وفي ظروف القهر، وعدم وجود فرص حياة كريمة. هذا الوضع قد يدفع البعض إلى البحث عن حلول مثل الهجرة. في جميع التنظيمات الشباب هم وقود المواجهة؛ هم العناصر التي تشكل الأُطر العسكرية في "كتائب القسام"، و"كتائب أبو علي مصطفى" و"سرايا القدس" و"شهداء الأقصى" وغيرها من الأُطر المشابهة. الشباب هم مَن يقاوم ومَن يقاتل. الشعب الفلسطيني هو شعب فتيّ، ومعظمه من فئة الشباب.
الجبهة في هذا السياق تتحمل مسؤولية كبيرة، وخصوصاً بعد عقد المؤتمر الوطني الثامن، وعليها أن تنفتح أكثر على الناس وعلى الشباب. إن ما يميز الجبهة هو موقفها السياسي والديمقراطي تجاه الناس، وعدم تلوث سلاحها وعدم دخولها في الصراعات، بل إنها تتميز بشفافيتها ووضوحها. وهذا كله يجعل الناس يعلقون آمالاً كبيرة عليها وعلى تاريخها وقادتها المؤسسين: جورج حبش،؛ وديع حداد؛ غيفارا غزة؛ غسان كنفاني؛ أبو علي مصطفى. وبالتالي، فإن على الجبهة وعلى قيادتها الجديدة مسؤولية كبيرة متمثلة في النهوض بواقعها وبأوضاعها وبحضورها الوطني، محلياً وإقليمياً ودولياً. كما أن عليها أن تعيد النظر في علاقاتها مع جميع قوى التحرر وقوى اليسار الديمقراطي في العالم.
نعم، لدينا مشكلة في العلاقات والانفتاح على المجتمع، وخصوصاً الشباب، والدفاع عن / وتبنّي مطالبهم وهمومهم ومشكلاتهم وأزماتهم، ومع ذلك فإنهم يرون في الجبهة طوق نجاة من الأزمة التي تعيشها القضية ويعيشها الشعب الفلسطيني.
لقد تلمست هذا كله في الجولات الداخلية التي قمنا بها، وفي جولتنا بعد المؤتمر في مخيمات لبنان. فقد زار وفد من قيادة الجبهة، وكنت على رأسه، المخيمات، ووجدنا حالة من القبول والترحاب واستقبالاً شعبياً لافتاً في عين الحلوة والبداوي ونهر البارد وشاتيلا، وفي مقابل ذلك لمسنا وجود حالة من التهميش وغياب القيادة الفلسطينية عن المخيمات. هذا الاستقبال الشعبي يلقي على عاتق الجبهة مسؤولية كبيرة.
عندما غادرت لبنان وعدت إلى الوطن، إلى قطاع غزة، قررت القيام بلقاءات مع الناس، مع الشباب، والاستماع إلى رؤيتهم وكيف يرون العمل السياسي، وماذا يريدون منا كجبهة شعبية، وما هي القضايا التي يمكن للجبهة أن تقوم بها، كي يكون الجمهور شريكاً مع الجبهة. وستشمل اللقاءات المجتمع المدني والمثقفين والكتّاب والإعلاميين والنقابات المهنية. يجب أن نُطلع الناس على رؤيتنا كقيادة جديدة، وأن نستمع إليهم. وأنا أتفق معك تماماً في مسألة الشباب وحالة الانفكاك بينهم وبين الفصائل. إن الشباب هم الأغلبية بين أبناء شعبنا، وهم وقود النضال والكفاح، وهم المستقبل. نعم هناك أزمة وهناك مشكلة، وهناك محاولات احتواء ووصاية وتضييق مساحات على الشباب. الأحزاب والتنظيمات تحولت إلى ما يشبه الشركات الخاصة للقيادات وأتباعهم، فالقائد فيها قائد من المهد إلى اللحد، والأمين العام لا يتغير ولا يتبدل.
المثقفون والثقافة والأيديولوجيا
شهدت الجبهة الشعبية عبر تاريخها تحولات فكرية: فكر قومي عربي كحركة قوميين عرب، ثم ماركسي، ماوي، وفييتنامي، وغيفاري في مرحلة التحول بعد تأسيس الجبهة الشعبية. والآن بعد المؤتمر الوطني الثامن الذي يتحدث عن النضال التحرري والديمقراطي والتوجه نحو الشباب، هل هناك تخلٍّ عن الأيديولوجيا والتوجه نحو الثقافة؟
المؤتمر رسخ الفكر اليساري. المادة الأولى في النظام الداخلي تقول: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حزب سياسي يساري كفاحي، وعبارة يساري كفاحي أضيفت في المؤتمر الثامن، يعمل على توعية وتنظيم وقيادة الجماهير الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين، وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، والتي يعيش جميع مواطنيها بمساواة كاملة من دون تمييز في الحقوق والواجبات، وهو يناضل من أجل إقامة مجتمع اشتراكي خالٍ من الاستغلال، وقائم على المبادىء الديمقراطية والإنسانية.
وتقول المادة الثانية من النظام الداخلي: تسترشد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالفكر الماركسي وبجوهره، المنهج الجدلي المادي التاريخي، وبكل ما هو تقدمي وديمقراطي وإنساني في التراث الفكري والثقافي لشعبنا وللأمة العربية وللإنسانية جمعاء.
هاتان المادتان تجيبان عن السؤال بوضوح وبشكل حاسم.
يبرز هنا سؤال من المهم الإجابة عنه، وهو عن علاقة الجبهة بالثقافة والمثقفين. هذه الجبهة التي أنتجت أحد أكبر الكتّاب العرب المعاصرين، وهو الشهيد غسان كنفاني، كيف ترون دورها الثقافي في المرحلة المقبلة؟ كيف ستُفعّلون هذه العلاقة؟ هذه مسألة أراها أساسية في أي عمل سياسي عميق ومؤثر، في سياق الحديث عن قيادة جديدة ورؤيا جديدة ودم جديد.
الرفيق مروان عبد العال استلم مسؤولية الملف الثقافي في الجبهة. وكلامكم صحيح، فالمثقف المشتبك، والمثقف المناضل، وليس المثقف الذي يبيع ويشتري، هو ركيزة مهمة في النضال والكفاح، وهو موجّه ومرشد. لقد أدى غسان كنفاني دوراً ليس على مستوى الجبهة الشعبية فقط، بل على مستوى النضال الوطني وعلى مستوى الثورة الفلسطينية ككل. كان غسان لاعباً مهماً في صوغ الوعي الفلسطيني، وصوغ الرؤى والاستراتيجيات، وكان مساهماً رئيسياً في صوغ وثيقة الاستراتيجيا السياسية التي لا نزال إلى اليوم نبني سياساتنا على أساسها. الجبهة تسعى لإعادة الاعتبار إلى العلاقة مع جميع المثقفين، وتسمية الرفيق مروان كمسؤول لهذا الملف لم يأتِ من فراغ، فهو يمتلك الكفاءة كمثقف وكاتب على التعامل مع هذه الشريحة المهمة.
إن القلم المقاوم والمشتبك لا يقل أهمية عن البندقية، بل هو الموجّه والمرشد للبندقية، وبالتالي فإن هذا الموضوع أساسي ومهم بالنسبة إلى القيادة الجديدة، وإلى الجبهة الشعبية.
فلسطين والفضاء العربي
ختاماً: في بداية الحوار، تحدثت عن نضال / مقاومة على المستويين الفلسطيني والعربي؛ اليوم وفي ظل هذا الوضع العربي الراهن، بعد اتفاقيات أبراهام والتطبيع، كيف ترون في الجبهة فلسطين في المحيط العربي؟
فلسطين موجودة في وجدان كل عربي. الشعوب العربية تتوق إلى فلسطين وتعشق فلسطين، ولديها الاستعداد لتقديم كل شيء من أجلها. في الجزائر الجزائريون يقدسون فلسطين والفلسطينيين، وكذلك في المغرب، وفي مصر، وتونس، وأي مكان آخر. هناك عشق وعلاقة وجدانية مع فلسطين، لكن مشكلتنا هي مع الأنظمة التي تعتقد أن حمايتها وحماية عروشها تتأمن من خلال العلاقة مع الإسرائيلي والأميركي.
أعترف بأن الجبهة مقصرة في هذا الموضوع. نحن عمقنا هو الجماهير العربية، لكننا لم نعطِ أهمية كافية لعملية تأطير الجماهير العربية التي هي ضد التطبيع. أيضاً يجب أن نعترف بأن الأحزاب القومية واليسارية العربية ضعيفة وتعيش حالة من الوهن. هذا الوضع يحمّل الجبهة مسؤولية ودوراً في تعزيز العلاقات مع هذه الأحزاب، وفي تأطير الجماهير العربية.
لقد شاركت أخيراً في افتتاح المؤتمر القومي العربي. المؤتمر يُعقد كل عام أو عامين أو ثلاثة، ويخطب الخطباء ثم يذهب كل إلى مكانه.. والأسئلة التي تبادرت إلى ذهني هي: ماذا بعد عقد المؤتمر؟ وهل تعمل قيادة المؤتمر على تأطير الجماهير العربية، وعلى تحشيدها في مواجهة الحلف العربي – الأميركي – الإسرائيلي، وفي مواجهة اتفاقيات أبراهام؟
نحن نؤمن بالعمق العربي وبأهميته، وبضرورة تعزيزه، لأن صراعنا مع العدو هو صراع عربي – إسرائيلي، ويجب عدم حصره بالجانب الفلسطيني. وبالتالي، فإن دور الجبهة والقيادة الجديدة هو البحث عن وسائل لتعزيز مواجهة التطبيع، وتعزيز العلاقة مع الأحزاب القومية والتقدمية.