رسائل "لجنة المعرفة والحرية" (2)
لم أتعرّف على زكريا زبيدي من قبل. كنت أعرفه كما عرفه الكثير من الفلسطينيين من خلال الإعلام الإسرائيلي، أو من خلال ما كان يرشح لنا من الإعلام الفلسطيني غير الرسمي -الشائعات، وربما الوشاية، على مواقع التواصل الاجتماعي، التي غالباً كانت تعلّق إمّا على تقرير نشره الإعلام الإسرائيلي، أو على خبر اعتقاله من قبل السلطة الفلسطينية. وإذا كان الإعلام الإسرائيلي هدفه شيطنه زكريا، فإن الشائعات الفلسطينية، وغالباً ما كانت شائعات موجهة ومدروسة، قد حولته إلى كاريكاتور لرجل خارج عن القانون. وبين هاتين الصورتين، أطل عليّ أبو محمد مبتسماً في قسم "4" جلبوع، زائراً. وبعد بضع دقائق من لقائنا، استطاع أن يبدد صورته المنمّطة، وأن يستبدلها في ذهني وأذهان الأسرى المستمعين إليه بصورة المثقف المشتبك. وأصبحت صداقتي له ليس مكسباً فحسب، وإنما من أهم الصداقات التي كوّنتها على مدار الـ 36 عاماً داخل الأسر.
أول ما لفتني هو قدرة زكريا على قصّ حكاية، مهما كانت بسيطة، بأسلوب مشوّق ومتغير دائماً بحيث تتلاءم مفرداتها والتقديم والتأخير فيها وطبيعة جمهور المستمعين. فيجعلك مشدوداً له وتنتظر بلهفة الجملة اللاحقة التي سينطق بها. هذه الميزة، وهي كاريزما قيادية، تحمل في طيّاتها قدرة أهم يمتلكها زكريا، وهي التحرك دون تكلّف أو تصنّع، من المجرد إلى الحسّي، وبالعكس. وهو الذي اعتقدته في البداية غارقاً في الحسّي يمقت النظري والمنظرين، أظهر قدرة جيدة على تجريد تجربته وتقديمها لا بصفتها تجربة فرد فحسب، وإنما تجربة جماعة: مقاتلين، مخيم، وشعب. قلة من بين المناضلين ممّن حملوا السلاح مالوا نحو التسلح بالكلمة، وزكريا فعل ذلك، لا اعتقاداً منه بأن السلاح قد انتهى دوره، وإنما أيقن، ومن عمق تجربته النضالية، ضرورة الارتقاء بالسلاح من موقع القوة إلى موقع القدرة.
إن بحثه "الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية، 1968 - 2018"، هو محاولة منه للإسهام في مراكمة التجربة في هذا الاتجاه، اتجاه امتلاك القدرة. وإذا كانت القدرة ليست غاية، وإنما أداة، فقد أحسست من خلال نقاشاتي له بعمق قناعته بأن الحرية هي القيمة بأل التعريف، فهو القادم من مسرح الحرية طفلاً، ثم شاباً، وقد تتلمذ على هذه القيمة على يدي أستاذه وصديقه جوليانو مير خميس الذي دفع حياته ثمناً بغية تحقيقها. أن تكون أخاً لشهيد، وابناً لشهيدة، ورغم ذلك أن تبقى قادراً على أن تحافظ بأن ترى عدوك ليس من خلال المهداف، فأنت تملك بوصلة أخلاقية لا يمكن حرفها، وأن تحمل سلاحاً وتبقيه نظيفاً دون أن يسكرك الإحساس بالقوة، فهذا فهم عميق للعلاقة الجدلية، بين قيم الحرية وأهداف التحرر.
هكذا هو زكريا زبيدي الذي حاورته، وناقشته، وناقشنا سوياً عشرات الدراسات والكتب، ليس بحثاً عن الإجابة، وإنما عن السؤال الصحيح.
داخل قاعة المحكمة في سنة 2012