تبحث هذه الدراسة المطاردة في التجربة الفلسطينية، وتنقسم إلى أربعة فصول: يتناول الفصل الأول فيها الإطار المنهجي وتحديداته، والهيكلية العامة للدراسة، وأدبيات الدراسة حول المطاردة في التجربة الفلسطينية. فيما يستعرض الفصل الثاني المطاردة وثقافة المواجهة في الثقافة العالمية والعربية. أمّا الفصل الثالث، فيتناول المطاردة من منظور المطارَدين كما انعكست في المقابلات التي شملتها العيّنة البحثية. وأمّا مرويّة المطارَد والتجربة الشخصية لكاتب هذه الدراسة، فيتناولها الفصل الرابع بالسرد والتحليل، بعنوان: "الصياد والتنين في جنين". فيما تقتصر الخاتمة على رأي الباحث بأن المطاردة هي تجربة ذات نهاية مفتوحة ما دام الصراع قائماً في فلسطين.
وتسعى هذه الدراسة للإجابة على سؤال مركزي مؤدّاه: كيف شكلت التجربة الفلسطينية في المطاردة، وطرق وأساليب تحققها، نموذجاً خاصاً في مواجهة العدو الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، مختلفاً عن بقية التجارب العربية والعالمية. وتفترض الدراسة وجود تجربة مطاردة فلسطينية فريدة وغنية بأساليبها النضالية – الثورية، وتختلف تاريخياً عن باقي التجارب. وبالتالي، يمكن الاستفادة من هذه التجربة في مواجهة العدو الصهيوني، وبتعميمها على التجارب الثورية الشبيهة في العالم التي لا زالت تعاني من استعمارات حداثية للشعوب الأصلانية. وتكتسب الدراسة أهميتها من التجربة الخاصة للباحث نفسه الذي عاش تجربة المطاردة في مراحل مختلفة من حياته.
على المستوى المنهجي، تجمع الدراسة بين ثلاث أدوات أساسية، هي: تحليل الأدبيات المتعلقة بالمطاردة على المستويات العالمية، والعربية، والفلسطينية؛ والمقابلات الشخصية مع 26 مطارداً فلسطينياً عاشوا تجربة المطاردة بين الأعوام 1968 - 2018؛ والتجربة الشخصية للباحث نفسه، الذي كان أحد المطارَدين خلال انتفاضتَي الحجارة في العام 1987 (في أجواء مجموعات "الفهد الأسود")، والأقصى في العام 2000 (بوصفه أحد مؤسسي "كتائب شهداء الأقصى")، وبعدهما حتى العام 2018 الذي اعتقلته فيه، مجدداً، قوات الاحتلال الصهيوني، ومشاركته في تجربة التحرر في "نفق الحرية" من سجن "جلبوع" في بيسان المحتلة في 6 أيلول [سبتمبر]، 2021، وبقاؤه في المطاردة مدة خمسة أيام.
ورغم تسجيل حالات مطاردة في فلسطين من العام 1905 الذي شهد بداية الغزو الصهيوني لفلسطين، ومروراً بالحقب العثمانية، والبريطانية، والصهيونية، والوصايتين الأردنية والمصرية... إلّا إن هذه الدراسة تختص بتجربة المطاردة في فترة التحرر الوطني التي تلت تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1964، وخاصة بعد صدور الميثاق الوطني الفلسطيني في العام 1968، وحتى العام 2018، مع تركيز خاص على انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى. وتحدَّد الدراسة مكانياً بفلسطين التاريخية، فيما تستثني الملاحقة والاغتيالات الصهيونية للفلسطينيين في الشتات.
أمّا بخصوص المجاز المعكوس للصياد والتنين في هذه الرسالة، فقد نشأ الأطفال الفلسطينيون، بمَن فيهم الباحث في هذه الدراسة، في طفولتهم على صورة أيقونية للقديس جريس الفلسطيني (ويُعرف بالخضر)، فارساً على ظهر حصانه، وهو يسدد الرمح لفم التنين لكي ينقذ العروس الجميلة. وفيما بعد فهمنا أن رمزية هذه الأيقونة المستمدة من المخيلة الدينية الإنجيلية في تراثنا الفلسطيني تكمن في انتصار الإيمان الخيّر المتمثل بالخضر على الوثنية الشريرة المتمثلة بالتنين. كما فهمنا أن هذه الأيقونة تمتد في التاريخ لحضارات أُخرى ضاربة في القدم سواء شرقية كانت أو غربية. ومع الوقت، ومن باب التحبّب صار مجاز القديس جريس أو الخضر يُطلَق على الفلسطيني الذي يصارع الاستعمار الصهيوني.
ولكن مع بداية اطلاعنا على أدبيات المقاومة، وأخلاق الحرب، ناقشني مشرفي في عبارتين لفيلسوفَين فرنسي وألماني (سارتر ونيتشه) تقول: "الصياد حين يلاحق التنين يصير هو التنين"، و"إن ملاحقة التنين لا يجب أن تجعل أرواحنا تتوحش مثل التنين." والغريب أن كل هذا يعزز فكرة الشر المتأصل في التنين، والخير المتأصل في الصياد. ولكن، حين خضنا تجربة المطاردة، والالتصاق بالأرض، وسمعنا تفاخر بعض مؤسسي وحدات المستعربين باللحظة التي تتواجه أعينهم بعين المطارَد، بأنها "لحظة الصياد" الذي تتواجه عينه بعين الفريسة، قررتُ أن أنحاز للتنين، وتغيير صورته الشرّانية إلى صورة خيِّرة، لأنه صاحب المكان، والأقرب للطبيعة، والأكثر أن يكون متماهياً معها، وهو الخصم الوحيد الذي لا يقبل أن يكون "فريسة" سهلة للصياد الطارئ على الأرض والذي يعيش متطفلاً على دم قتل الآخرين. وهذه باختصار قصة المجاز المعكوس للتنين والصياد في هذا الدراسة، والذي يحتاج لاحقاً لتأطير أكثر تفصيلاً، لكن هذه الإشارة تكفي هنا للتمهيد لهذه الدراسة الأكاديمية.