بدأ التوتر مع اعتقال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي في جنين بسام السعدي يوم الاثنين 1 / 8 / 2022، وقد نشرت كاميرات المراقبة في المكان صوراً مستفزة ترصد السحل والضرب والتعذيب خلال عملية الاعتقال، الأمر الذي دفع سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، إلى إصدار بيان عسكري في اليوم نفسه للاعتقال جاء فيه: "نعلن في سرايا القدس الاستنفار ورفع الجاهزية لدى مجاهدينا، والوحدات القتالية العاملة، تلبية لنداء الواجب أمام العدوان الغادر الذي تعرّض له القيادي الكبير الشيخ بسام السعدي وعائلته قبل قليل في جنين."
أغلقت دولة الاحتلال الإسرائيلي معبر كارم أبو سالم وحاجز إيريز أمام حركة المسافرين والبضائع بذريعة أن سرايا القدس قد تنفذ عملية عسكرية ضد هدف في منطقة غلاف قطاع غزة، كما أغلقت المنطقة بالكامل، وكان ذلك في الفترة ما بين 2 – 5 / 8 / 2022. وعلى الرغم من وجود اتصالات يقودها الوسيط المصري، فإن إسرائيل كعادتها غدرت عبر استهداف شقة سكنية في برج فلسطين وسط مدينة غزة أسفرت عن استشهاد مجموعة من المواطنين بينهم قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس الشهيد تيسير الجعبري، وذلك في يوم الجمعة الموافق 5 / 8 / 2022، وهي الشرارة التي أشعلت معركة "وحدة الساحات" التي استمرت ثلاثة أيام وأسفرت عن استشهاد 44 فلسطينية وجرح 360 فلسطينياً، بينهم نساء وأطفال.
تكبّد قطاع غزة خسائر مادية رصدتها وزارة الأشغال في قطاع غزة من خلال إحصاء أولي نشرته في 8 / 8 / 2022 على النحو التالي: هدم 21 منزلاً بشكل كلي؛ 77 منزلاً تضررت كلياً وغير قابلة للسكن؛ 1793 منزلاً أصيبت بضرر جزئي.
أولاً: تحليل البيئة الاستراتيجية ما قبل العدوان
سأتناول تحليل البيئة الاستراتيجية لدولة الاحتلال وللمشهد الفلسطيني والبيئة الاقليمية والدولية.
I - تحليل البيئة الاستراتيجية لدولة الاحتلال الإسرائيلي
بتاريخ 30 / 6 / 2022، صوّت الكنيست في إسرائيل بالقراءة الثانية والثالثة على حل نفسه بأغلبية 92 عضواً، وبموجب هذا القرار أصبحت الحكومة الإسرائيلية حكومة تسيير أعمال، وتقلد يائير لبيد منصب رئيس الحكومة من نفتالي بينت، وتم تحديد الأول من تشرين الثاني / نوفمبر 2022 موعداً للانتخابات الإسرائيلية المبكرة.
ولضمان فوزه في الانتخابات المقبلة، فإن أمام يائير لبيد مجموعة من التحديات يجب تجاوزها، وأهمها هو التحدي الأمني. فضمان الأمن والاستقرار يُعتبر ممراً إجبارياً للسلوك التصويتي للناخب في إسرائيل، وعليه، فإن لبيد يحرص على تحقيق هذا الهدف بأقل تكلفة. وفي هذا السياق طرح معادلة التسهيلات الاقتصادية في مقابل الأمن مع قطاع غزة والضفة الغربية، غير أن هذه المعادلة غير كافية لمواجهة التحديات الأمنية المتعددة، والتي نستطيع حصرها في ثلاثة تحديات هي:
1) الملف النووي الإيراني ومفاوضات فيينا
إن إمكان نجاح مفاوضات فيينا بين إيران والولايات المتحدة يحقق مسألتين لطهران: رخاء اقتصادي يزيد في قدرة إيران على دعم حلفائها، ولا سيما حزب الله وحركتَي "حماس" والجهاد الإسلامي، وفي قدراتها النووية للأغراض السلمية، الأمر الذي يمثل تهديداً لدولة الاحتلال التي تطمح عبر تحالفاتها الأخيرة مع بعض الدول العربية إلى تشكيل ناتو عربي ضد إيران.
وفقاً لما سبق فإن السلوك الإسرائيلي المحتمل يشير إلى ضرب حلفاء إيران وإضعافهم بما يعزز سياسة الردع الصهيونية في ظل التطورات الجديدة، على الرغم من معارضة الولايات المتحدة لأي تحرك إسرائيلي قد يفسد مفاوضات فيينا.
2) حقل كاريش وصواريخ حزب الله الذكية
وجدت إسرائيل ضالتها في ضرب حلفاء إيران، في العدوان الصهيوني الذي أطلقت عليه اسم "الفجر الصاعد"، بينما أطلقت حركة الجهاد الإسلامي عليه اسم "وحدة الساحات". وسعت إسرائيل لاستثمار عدوانها سياسياً في ثلاثة اتجاهات:
الأول: رسالة ضمنية إلى حزب الله فحواها أن إسرائيل لن تتردد في توجيه ضربة إلى الحزب في حال حدث أي تهديد أمني لمصالحها، وتحديداً حقل كاريش للغاز.
الثاني: تحييد الجهاد الإسلامي من الدخول في مواجهة عسكرية محتملة على الجبهة الشمالية.
الثالث: فصل الجبهات عبر الاستفراد المتكرر في قطاع غزة من دون تدخّل سائر أطراف محور المقاومة، وهو ما يصنع ضمنياً رأياً عاماً فلسطينياً يتبنّى فكرة عدم التدخل العسكري من قطاع غزة في حال أي مواجهة محتملة مع حزب الله أو إيران.
3) المقاومة الفلسطينية والتحول الذي طرأ في الضفة الغربية والداخل المحتل بعد معركة سيف القدس في سنة 2021
بعد معركة سيف القدس، ومع تعثّر مسار التسوية السياسية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، بدأت الضفة الغربية تستعيد زخم المقاومة، وشرع بعض الحالات العسكرية يظهر بشكل لافت في شوارع الضفة الغربية ومدنها، وبات هناك تنفيذ لعمليات إطلاق نار، فضلاً عن الاجتياحات المتكررة لمدن جنين ونابلس، وازدياد وتيرة العمليات الفردية، وهو مؤشر إلى أن الداخل المحتل أخذ يتحرك ويلتصق أكثر بقضاياه الوطنية الرافضة للاحتلال ومجازره في فلسطين. هذه الأمور كلها باتت تؤثر في ميزان المناعة القومي في إسرائيل، بحيث تراجعت العلاقة بين المجتمع الصهيوني ومؤسساته العسكرية، الأمر الذي يشكل تحدياً أمام الحكومة الإسرائيلية يتعين على لبيد أن يتجاوزه لضمان مقعده في الحكومة المقبلة، وهو أمر عمل على تحقيقه في معركة وحدة الساحات من خلال توظيف عدم مشاركة "حماس" في الردّ على العدوان سياسياً وإعلامياً، والسماح باقتحام الأقصى في ذكرى "خراب الهيكل" يوم 6 / 8 / 2022، وهي مناسبة دينية إسرائيلية، وكان ذلك خلال العدوان، والهدف من ذلك فصل الساحات والجبهات وضرب الوحدة الداخلية لغرفة العمليات المشتركة، وهو هدف يعمل على تثبيته والاستفادة منه.
الخلاصة: البيئة الاستراتيجية الصهيونية لدخول المواجهة كانت على النحو التالي: لا نريد دخول المواجهة، لكنها إن فُرضت علينا فإننا سندخلها ونحقق النتائج المرجوة. وفي تقديري، فإن إسرائيل نجحت في تحقيق ما سبق، وسيستفيد يائير لبيد من معركة وحدة الساحات سياسياً على المستوى الداخلي الإسرائيلي والإقليمي والدولي، الأمر الذي سينعكس على انتخابات تشرين الثاني / نوفمبر المقبل، ولا سيما إذا نجح في الحفاظ على حالة الهدوء حتى الانتخابات المقبلة.
II - تحليل البيئة الاستراتيجية للمقاومة الفلسطينية
تعاني المقاومة الفلسطينية ثنائية الإنجاز العسكري والفشل السياسي، فقد خاضت العديد من المعارك وأبدعت عسكرياً بشكل لافت، من حيث القدرة على التصنيع والتطور في الإعداد والإمداد العسكري، ومن حيث صلابة وقوة الشباب الثائر الحامل للسلاح، والذي لا يبتغي سوى الحرية والانعتاق من الاحتلال، فضلاً عن تكرار المقاوم الفلسطيني دائماً أن هذا الاحتلال ممكن أن يُهزم، وأن كيانه قابل لأن يهشَّم عسكرياً. إلّا إن هذا يحتاج إلى: وحدة موقف؛ وحدة ساحات؛ وحدة جبهات؛ عقل سياسي ودبلوماسي قادر على التوظيف والاستثمار؛ عمق عربي وإسلامي مؤازر ومساند قولاً وفعلاً.
وعلى الرغم من الإعجاز في الإنجاز عسكرياً، فإن الثمرة السياسية، وحتى الإنسانية، لم تقطفها الحاضنة الشعبية للمقاومة، تأييداً لفرضية نكررها دائماً، فحواها أن ما يجري هو استنزاف للمقاومة من أجل تآكل حاضنتها الشعبية، وصولاً إلى استهداف حامل السلاح عبر استمرار الحصار، والتمييز بين مواطن وآخر في المعابر والحواجز، وصولاً إلى المنح والمساعدات الدولية.
ربطاً بما سبق، فإن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة متردية بشدة، وبحسب إحصاءات البنك الدولي، فإن نسبة الفقر في قطاع غزة وصلت إلى 64%، وانعدام الأمن الغذائي في القطاع وصل إلى 68%، ونسبة البطالة 46%، وأكثر من 1500 وحدة سكنية تم تدميرها تدميراً كاملاً في العدوان الإسرائيلي في سنة 2021 (معركة سيف القدس)، فضلاً عن عدم صرف شيكات الشؤون لثمانين ألف أسرة فلسطينية هي الأشد فقراً في القطاع منذ أكثر من عامَين. أيضاً هناك 50,000 موظف حكومي في قطاع غزة يعملون منذ أعوام بنصف راتب تقريباً، عدا الإجراءات التي فرضها الرئيس محمود عباس على قطاع غزة من تخفيض نسب الرواتب والتقاعد الإجباري، وأزمة الكهرباء التي بات يشعر المواطن بأن حل القضية الفلسطينية هو أقرب من حل مشكلة الكهرباء، بينما قطاع الصحة يعاني معاناة شديدة جرّاء نقص حاد في الأدوية والمعدات.
بناء على ذلك، فإن قرار دخول مواجهة عسكرية من دون أهداف قوية ومنطقية، يُعتبر قراراً بحاجة إلى تقييم وقراءة من جديد، كونه يستنزف المقاومة أكثر ممّا يستنزف الاحتلال. أمّا سياسة ربط الساحات فهو مفهوم بحاجة إلى إعادة صوغ بما ينسجم وخصوصية الحالة الفلسطينية، وهو ما ينطبق على العدوان الصهيوني في المرات الثلاث الأخيرة (العصف المأكول؛ سيف القدس؛ وحدة الساحات)، والتي دخلت غزة فيها على الرغم من أن الحدث كان في القدس والضفة الغربية.
معركة وحدة الساحات التي أطلقت حركة الجهاد هذا الاسم عليها، والتي أسست لها سيف القدس، وعملت الجهاد على تحصينها، كانت تهدف إلى منع تغول الاحتلال والانفراد بجنين ونابلس، في إثر اعتقال القيادي السياسي البارز في الحركة بسام السعدي. هذه الأهداف النبيلة، رغب الاحتلال الصهيوني في ضربها بالعمق من خلال ترك كل منطقة تواجه ظلم الاحتلال منفردة، الأمر الذي من شأنه استنزاف جنين وكيّ وعي سكانها، وصولاً إلى تدجينها، وسط مشهد غير مقبول لا وطنياً ولا أخلاقياً، بجعل سائر محافظات الوطن تعيش بعيدة عمّا تتعرض له جنين أو غزة، إلخ.
غير أن هناك جدلاً بشأن منطقية هذا الطرح في ظل حالة الانقسام، فهناك مَن يرى أن ربط قطاع غزة بأحداث الضفة الغربية من شأنه أن يضع مشروع المقاومة على المحك أمام الحاضنة الشعبية: فإمّا أن تردّ المقاومة على كل اعتداء من قطاع غزة، الأمر الذي من شأنه أن يكرر المشهد بشكل دوري، ونتيجته الحتمية تآكل الحاضنة الشعبية لمشروع المقاومة؛ وإمّا أن تنتقي المقاومة الأحداث التي تقتضي الرد عليها، وهو ما سيضرب صدقية المقاومة وصورتها أمام الرأي العام.
الخلاصة: أن الاحتلال كان جاهزاً عسكرياً عبر إخلائه جزءاً من مناطق الغلاف، بينما يعيش قطاع غزة واقعاً صعباً، في ظل تأخر للإعمار وحصار يفرضان على صانع القرار في قطاع غزة أن يبتعد عن قرار المواجهة العسكرية قدر المستطاع.
ثانياً: قراءة دوافع حركة "حماس" إلى عدم التدخل، وانعكاس ذلك على وحدة الساحات
منذ اللحظة الأولى لاعتقال الشيخ بسام السعدي وإعلان سرايا القدس حالة الاستنفار، عقدت غرفة العمليات المشتركة التي تضم عشرة فصائل مسلحة في قطاع غزة اجتماعاً تقييمياً لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، ولا سيما بعد أن أعلنت إسرائيل إغلاق المعابر مع قطاع غزة، والبدء بعملية إخلاء لبعض مناطق الغلاف، بعد ورود تحذيرات أمنية تفيد بأن سرايا القدس ستنفذ عملية عسكرية في منطقة الغلاف رداً على اعتقال الشيخ بسام السعدي.
ترتب على ذلك ما هو أشبه بحظر التجول في مناطق غلاف غزة استمر ثلاثة أيام، في معادلة فرضتها سرايا القدس على الاحتلال، وفي توقيت بالغ الحساسية مع قرب إجراء الانتخابات الإسرائيلية المبكرة في تشرين الثاني / نوفمبر المقبل. وعليه، فإن مؤشرات التصعيد كانت واردة إذا لم تتم الاستجابة لجهود القاهرة التي سعت منذ اللحظة الأولى لتفويت الفرصة على الاحتلال، لكن على الرغم من الوساطة المصرية، فإن الاحتلال كعادته غدر بالجميع وأطلق شرارة العدوان عبر اغتيال تيسير الجعبري في مبنى برج فلسطين وسط مدينة غزة.
بعد شنّ إسرائيل عدوانها، أثارت مسألة مشاركة حركة "حماس" في المعركة من عدمها، جدلاً كبيراً فلسطينياً وعربياً، وانقسمت الآراء بين مؤيد ومعارض، كأن قرار المشاركة من عدمه ترف سياسي لهذا الطرف أو ذاك.
في تقديري إن دوافع عدم مشاركة "حماس" في معركة وحدة الساحات نابع من:
1) اتفاق بين أركان غرفة العمليات المشتركة، تتصدر بموجبه سرايا القدس المشهد، وتوجه ضرباتها إلى الاحتلال، الأمر الذي من شأنه أن يُفشل هدف العدو في تحييد الجهاد عن معركة محتملة مع حزب الله في حال تصاعدت الأمور المتعلقة بحقل كاريش للغاز، عبر إيصال رسالة فحواها أن حركة لوحدها كبدت إسرائيل خسائر مادية ومعنوية، فكيف بحزب الله؟
2) عدم مشاركة "حماس" أسس لمعادلة ردع جديدة تضمن عدم المساس في الأبراج والبنية التحتية والمقار الحكومية.
3) المؤشرات الرقمية عن الواقع الإنساني في قطاع غزة كانت حاسمة في اختيار غرفة العمليات المشتركة طريقة إدارة المعركة.
4) من منظور آخر، فإن مشاركة "حماس" كانت ستحافظ على وحدة الميدان والساحات، لكن المقاومة ستعاني استنزافاً عسكرياً كبيراً، ولا سيما أن المقاومة أطلقت في معركة سيف القدس الآلاف من الصواريخ، ولا أعلم ما إذا كانت قد استعادت دراتها العسكرية بعد المعركة أم لا.
ثالثاً. الرؤية الصهيونية والإقليمية والدولية بشأن عدم مشاركة "حماس" في معركة وحدة الساحات
تتلخص رؤية إسرائيل إلى عدم مشاركة "حماس" ضمن زاويتين: نجاح قوة الردع الصهيوني، وسياسة السلام الاقتصادي التي تخشى "حماس" من فقدان بعض مكتسباتها التي تخفف من حالة الحصار.
بعض الأطراف الإقليمية والدولية قرأ موقفاً إيجابياً من طرف "حماس"، بينما اكتفى محور المقاومة بإشارات عدم رضا، وهو ما اتضح من خلال تغطية قناة "الميادين" لمعركة وحدة الساحات.
الخلاصة: لعبت إسرائيل على وتر تحييد "حماس" في هذا العدوان، واستثمرت ذلك سياسياً وإعلامياً، وهذا وجه آخر للحرب ضد المقاومة عبر تقسيمها مكانياً وزمانياً. لكن على الرغم من ذلك، فإن حالة النضج السياسي التي تعاملت بها "حماس" يسجل لها كون عدم تدخّلها ساهم في إنهاء المعركة في أسرع وقت، الأمر الذي ربما يساعد الوسطاء على الضغط على الاحتلال والمجتمع الدولي للبدء بخطوات كبيرة في إنهاء الحصار الظالم على قطاع غزة. غير أن ما حدث لا يمنع من تقييم داخلي لمثل قرارات كهذه لدى جميع الأطراف بما يغلّب المصلحة الوطنية العامة على الحزبية الخاصة، وبما يضمن أن يكون قرار الحرب والسلم في يد مؤسسة جامعة، وبالتوافق على أهداف واضحة قابلة للتحقق.