The Aggression on the Gaza Strip and Its Repercussions
Full text: 

في الثاني من آب / أغسطس الماضي، اعتقل الجيش الإسرائيلي القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي الشيخ بسام السعدي في منطقة جنين. وجاء هذا الاعتقال ضمن حملة أمنية مكثفة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية في الضفة الغربية، والتي أطلقت عليها إسرائيل حملة "كاسر الأمواج"، وكانت تستهدف أساساً أعضاء وناشطي الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية وفصائل أُخرى، فضلاً عن ناشطين فلسطينيين مستقلين.

في أعقاب اعتقال السعدي، عزلت إسرائيل بلدات إسرائيلية في الجنوب لثلاثة أيام، منعت خلالها الدخول إليها في إثر معلومات استخباراتية فحواها أن حركة الجهاد الإسلامي تخطط لعملية انتقامية ضد أهداف إسرائيلية رداً على اعتقال السعدي. وخلال الأيام الثلاثة التي أعقبت اعتقال السعدي بُذلت جهود، ولا سيما من مصر، وعلى ما يبدو من حركة "حماس" أيضاً، لمنع المواجهة. وبعدها شنّت إسرائيل حملة عسكرية ضد الجهاد.

إذاً، جاء العدوان الأخير على قطاع غزة في سياق الجهود الأمنية والعسكرية الإسرائيلية المكثفة في الضفة الغربية، وخصوصاً في منطقة جنين، وفي سياق الاستراتيجيا الإسرائيلية الشاملة تجاه القطاع.

صحيح أن إسرائيل كانت تضرب القطاع وعينها على الضفة الغربية، بمعنى أن ضرب حركة الجهاد الإسلامي جاء في سياق حملتها الأمنية والعسكرية المكثفة في الضفة الغربية عامة، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة. لكن هذا الأمر لا ينفصل عن الاستراتيجيا التي تتمثل في فصل القطاع عن الضفة الغربية سياسياً وأمنياً، الأمر الذي يعني فلسطينياً تكريس الانقسام الفلسطيني وتجزِيء المقاومة، أي خلق وعي مشوّه عن مفهوم الوطن الفلسطيني الذي يتجزأ إلى أرض اسمها قطاع غزة، وأرض اسمها الضفة الغربية، وأُخرى القدس، وطبعاً مناطق 48.

لم يكن للحملة العسكرية على قطاع غزة علاقة بالانتخابات في إسرائيل، فهي ليست سبباً مركزياً في العدوان على غزة، لكن هذا لا يعني أن السياسيين الإسرائيليين لا يسخّرون هذه الحملات في حملاتهم الانتخابية، إلّا إن ذلك ليس سبباً في اندلاعها، ومن المستبعد أن يكون لها تأثير في نتائج الانتخابات الإسرائيلية، على الأقل بسبب بُعدها الزمني عن موعد الانتخابات ومدتها القصيرة. إن السياسيين في إسرائيل يدركون ذلك جيداً، فجُلّ ما هدف إليه العدوان على غزة، هو إغلاق ثغرة كانت تستطيع من خلالها المعارضة الإسرائيلية اليمينية مهاجمة لبيد ونزع شرعيته لرئاسة الحكومة بسبب غياب التجربة العسكرية لديه.

تعمل إسرائيل على فصل قطاع غزة سياسياً من خلال تعزيز الحكم القائم فيها، عبر سياسة جديدة تتمثل في منح بعض التسهيلات الاقتصادية للقطاع، مثل إصدار تصاريح لـ 15,000 فلسطيني من القطاع للعمل في إسرائيل، وهو عدد سيزداد بعد الحملة العسكرية الأخيرة، فضلاً عن تسهيلات أُخرى. وعلى المستوى الأمني تعمل إسرائيل على فصل المقاومة في قطاع غزة عمّا يحدث في الضفة الغربية، وقد شُنّ عدوانها الأخير من أجل هذا الهدف الذي يدخل في سياق فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة والعكس، كما أنه في الحرب التي اندلعت في أيار / مايو 2021، هدفت إسرائيل إلى فصل القدس عن الضفة الغربية وقطاع غزة. إن مواجهة هذه الأهداف تحتاج إلى استراتيجيا فلسطينية مضادة على مستوى المقاومة، وعلى المستوى السياسي والوطني الفلسطيني.

حددت إسرائيل أربعة أهداف للحملة العسكرية: إحباط عملية للجهاد الإسلامي ضد أهداف إسرائيلية؛ فصل الحملات الأمنية في الضفة الغربية عن قطاع غزة؛ إبقاء "حماس" خارج المواجهة مع حركة الجهاد الإسلامي؛ ضرب حركة الجهاد بصورة مؤلمة.

وقد أوضح المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، أهداف هذا العدوان فقال إن هذا العدوان هو "جزء من عملية أكبر، مستمرة منذ أشهر، لقمع البنية التحتية التي يبنيها الجهاد الإسلامي بتوجيه إيراني في الضفة الغربية. فقد خطط قادة الحركة في دمشق لإنشاء تهديد من غزة على سكان غلاف غزة، من أجل لجم موجة الاعتقالات التي تنفذها إسرائيل في الضفة، وتوجّب على إسرائيل كسر هذه المعادلة."

لم يخلُ العدوان الإسرائيلي من تحقيق أهداف إقليمية، وفي طليعتها هدفان:

1 - ردع حزب الله من التفكير في دخول مواجهة عسكرية مع إسرائيل التي أرادت من خلال الحملة العسكرية - وما ميّزها من دقة المعلومات الاستخباراتية التي ساهمت في اغتيال قياديين عسكريين بارزين في الجهاد الإسلامي، وتحسين أداء القبة الحديدية التي أسقطت أغلب الصواريخ التي أطلقها الجهاد - ردع حزب الله الذي زادت لهجة تهديداته لإسرائيل في الفترة الأخيرة، ولا سيما أن المشترك بين حركة الجهاد الإسلامي وحزب الله أنهما منظمتان تتمتعان بدعم إيراني مباشر.

2 –عطفاً على النقطة السابقة، فإن إسرائيل اعتبرت أن هذه المواجهة هي جزء من المواجهة مع إيران وأذرعها في المنطقة، باعتبار أن حركة الجهاد الإسلامي تقع تحت الوصاية الإيرانية وتحظى بدعم عسكري ومالي كبيرين من إيران، مع الأخذ في الاعتبار أن الحملة العسكرية تقاطعت مع انتهاء مباحثات فيينا مع إيران، ووضع اتفاق من طرف الاتحاد الأوروبي، وانتظار موافقة إيران عليه. 

منطق الفصل وفعل الوحدة

لا يمكن فصل العدوان الأخير على قطاع غزة عن أحداث أيار / مايو 2021، فخلالها توحد الشعب الفلسطيني من أجل مدينة القدس، وأيضاً تعبيراً عن قضية واحدة، وليس فقط شعباً واحداً ذا قضايا متعددة. ففي أيار / مايو 2021 خرج الفلسطينيون في مناطق 48 والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ضد الممارسات الاستعمارية الإسرائيلية في القدس، واندلعت المواجهة العسكرية في قطاع غزة (سيف القدس) كنتاج لهذه الممارسات. وفاجأت هذه الوحدة على مستوى الشعب والقضية إسرائيل، كما فاجأها أكثر ما حدث في الضفة الغربية؛ وعلى خلاف ما يُعتقد، فإن صدمة إسرائيل من أحداث الضفة الغربية كانت أكبر من أحداث الاحتجاجات في مناطق 48، وذلك على الرغم من أن الممارسات القمعية في مناطق 48 والضفة الغربية والقدس كانت تقريباً متشابهة. لقد كان منطق الفصل الاستعماري هو المحرك للسياسات الإسرائيلية تجاه هذه "المناطق" الفلسطينية.

في أعقاب ما حدث في أيار / مايو، أطلقت إسرائيل حملة أمنية مكثفة في الضفة الغربية من أجل قمع التنظيمات الفلسطينية المقاومة، وشمل ذلك حتى اعتقال طلاب فلسطينيين، وتصاعدت هذه الحملة بعد سلسلة العمليات المسلحة في المدن الإسرائيلية في نيسان / أبريل الماضي. وقد وضعت سياسة حكومة بينت - لبيد هذه العمليات في إطار استراتيجيتها لما أُطلق عليه اسم "تقليص الصراع"، وهو اسم جديد من التقليعات الإسرائيلية للتعامل مع الحالة الفلسطينية، والتي تتضمن منح تسهيلات اقتصادية مثل زيادة تصاريح العمل داخل إسرائيل، وتحسين العلاقة مع السلطة الفلسطينية والتنسيق الأمني معها، ومن جهة أُخرى قمع كل محاولة لتنظيم عمل احتجاجي، أكان سلمياً أم مسلحاً في الضفة الغربية. 

موقف "حماس" من المواجهة

تميزت هذه المواجهة بغياب مشاركة "حماس" فيها، وقد امتنعت إسرائيل من استهداف هذه الحركة في عملياتها العسكرية كي لا تجرها إلى المعركة، أمّا "حماس" فامتنعت من دخول المواجهة للأسباب التالية:

1 - لم يكن هنالك مصلحة مباشرة للحركة في دخول المواجهة بعد عام واحد فقط من العملية العسكرية الأخيرة في أيار / مايو 2021، فدخولها المعركة سيكبدها خسائر كبيرة، وهي التي لم تعمل بعد على إكمال ترميم ما أصاب بُنيتها العسكرية في أعقاب المواجهة الأخيرة، فضلاً عن أن مشاركتها ستطيل مدة المعركة، وتزيد في الدمار الذي ستُلحقه بالقطاع.

2 - الحفاظ على المنجزات التي حققتها الحركة في العام الماضي منذ انتهاء المواجهة الأخيرة في أيار / مايو 2021، ومنها بدء مصر بعملية إعادة الإعمار في قطاع غزة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية للقطاع نسبياً بعد السماح بدخول 14,000 عامل فلسطيني للعمل في إسرائيل، وفتح المعابر مع مصر. فقد أشار مصدر أمني إسرائيلي إلى أن زيادة التسهيلات الاقتصادية لقطاع غزة كانت "عاملاً حاسماً" في امتناع "حماس" من الانضمام إلى المواجهة، وهو ما يمكّننا من تفسير قرار إسرائيل بالسماح بعودة العمال الفلسطينيين إلى العمل في إسرائيل، وفتح المعابر التجارية مباشرة بعد وقف إطلاق النار. وقد طالبت مصادر أمنية إسرائيلية بزيادة عدد العمال من قطاع غزة الذين يعملون في إسرائيل بعد المواجهة الأخيرة، لما يؤديه هذا الأمر من دور في الحفاظ على الهدوء الأمني في القطاع، بعدما أثبت هذا التوجه نجاحاً كبيراً.

3 - لم تختر "حماس" توقيت المواجهة، وبناء عليه فهي لم تستعد للمعركة، فضلاً عن وجود ضغط شعبي في القطاع بعدم التصعيد والدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، ولا سيما أن المواجهة كانت محصورة بحركة الجهاد الإسلامي، وأن إسرائيل التي شنّت حملة اعتقالات ضد قياديين من الجهاد، تنفذ اعتقالات في الضفة الغربية في جميع الأوقات، وبالتالي فإن الدخول في مواجهة عسكرية شاملة لهذا السبب ليس أمراً عملياً.

4 - العلاقة مع مصر: حرصت "حماس" على علاقتها بمصر، وهذه العلاقة لها جانبان: الأول سياسي، ذلك بأن مصر دخلت قبل اندلاع المواجهة في وساطة بين الطرفين لمنع الانفجار، وهو ما جعل "حماس" تنسجم مع الموقف المصري في تحقيق هذا الهدف؛ ثانياً، تدرك "حماس" أهمية الدور المصري وتعاظمه في إعادة إعمار قطاع غزة، ولن تكون طرفاً في مواجهة تفسد وتدمر ما أُنجز في هذا الصدد، من خلال مصر.

لم يكن الانقسام الفلسطيني قراراً إسرائيلياً مباشراً، وإنما جاء نتاج اتفاق أوسلو، وما ولّده على الأرض: أي سلطة فلسطينية تتعامل مع نفسها كدولة، وتجري فيها انتخابات، وفي أول تنافس حقيقي فيها ("فتح" و"حماس")، حدث انقسام فلسطيني بعد عام، استغلته إسرائيل وبات جزءاً من استراتيجيتها لمنع الوحدة الفلسطينية. وهذا الانقسام الذي أدى إلى الفصل بين الضفة الغربية وغزة، نتج من صراعات قوى فلسطينية نسيت أنها في مرحلة تحرر وطني، ثم تحول إلى حالة بتر بفعل سياسات إسرائيلية متعلقة بتعزيز الانقسام السياسي - الجغرافي بفصل أمني والتعامل مع كل "منطقة" كحالة منفردة لا علاقة بينهما، وجاء العدوان الأخير كحلقة أُخرى من حلقات الفصل.

Author biography: 

مهند مصطفى: المدير العام لمركز مدى الكرمل: المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية – حيفا، ورئيس قسم التاريخ في المعهد العربي للتربية - بيت بيرل.