Memory of the Present
Full text: 

ما الفرق بين الذاكرة والحاضر؟ أو بتعبير أدق كيف نميز بينهما؟

الذكرى الأربعون لاجتياح بيروت ومجزرة شاتيلا وصبرا.

الذكرى الخمسون لمجزرة تل الزعتر.

الذكرى الخمسون لاغتيال غسان كنفاني.

الذكرى الرابعة والسبعون لدير ياسين.

نستطيع أن نملأ عشرات الصفحات على هذا المنوال، لكننا لا نستطيع أن نقول طفحت الذاكرة مثلما نقول طفح الكيل. فالذاكرة لا تمتلىء، إنها قعر بلا نهاية، توحي بأنها تفيض، مع أنها لا تفيض.

هذا الشعور بالفيض صار متن حياة الفلسطينيين، بل متن حياة العرب، كأننا نعيش الماضي في الحاضر. نعيش كأننا نتذكر، ونتذكر كأننا نعيش.

هل اقتحام نابلس هو الحاضر أم هو فيض ذاكرة؟

اليرموك أم تل الزعتر؟

هل قصف غزة جرى في الأمس أم منذ عشرة أعوام؟

هل تُبنى المستعمرات اليوم على أراضي الفلسطينيين، أم إنها بُنيت قبل سنة 1948؟

هل نستعيد مجزرة شاتيلا وصبرا في سنة 1982، أم نستعيد حرب المخيمات؟

هل...؟

إنها حاضر الذاكرة، فامّحاء الحدود بين الحاضر والماضي مثير ومرعب في آن:

مثير: لأنه يعطينا شعوراً بالاستمرارية، لكنها استمرارية وهمية. فالحاضر لا يستطيع أن يكون استمراراً للماضي. استعادة ماضٍ ذهبي ليست سوى الوهم الذي يحجب الحاضر، ويدمر العقل باسم الخرافة، وفلسطين في نكبتها اليوم ليست فلسطين 1948، لكن إسرائيل تصرّ على التكرار. فالذي يتصرف كأنه الماضي الذي عاد إلى الحياة، لا يقرأ الحاضر إلّا بصفته إشارات قيامية مجبولة بالخرافة.

ومرعب: لأن هذا الوهم القاتل يشلّ العقل ويخنق الروح.

كيف نعيش اليوم كأننا آباؤنا أو أجدادنا؟ أي وهم هو هذا المناخ الذي يستولي على حاضرنا؟

لماذا تستعبدنا ذاكرة لا تتذكر الأشياء إلّا كحنين، وتحوّل الحنين إلى شبح يحتل اليومي، بحيث صار الأليف غريباً والغريب أليفاً؟

لا أملك أجوبة عن هذه الأسئلة، لكنني أستطيع أن أقدم افتراضين:

الافتراض الأول خاص بفلسطين حيث يقوم الاحتلال بعمل ثلاثي الأبعاد:

يقدس الذاكرة اليهودية، جاعلاً من أشكالها القريبة والبعيدة طوطماً للعبادة، من القصص الديني التوراتي، إلى تحويل مآسي المحرقة إلى ترسٍ يحمي الممارسات العنصرية الإسرائيلية من النقد، وصولاً إلى حفل التزوير الذي دار منذ أيام قليلة عن مجزرة ميونيخ.

ويحجب الذاكرة الفلسطينية ويمنعها حين يستطيع، بحيث صارت مآسي النكبة نتفاً تلجأ إلى الهوامش الإسرائيلية كي تعبّر عن نفسها.

ويتابع فعله النكبوي، بحيث لم تعد النكبة ماضياً يمكن قراءته، بل صارت حاضراً يشبه الكابوس.

الافتراض الثاني يقدمه الحاضر العربي، فحين انهزمت العرب في حرب الأيام الستة في سنة 1967 انتصر الاستبداد. فالاستبداد الذي قاد العرب إلى الهزيمة حقق انتصاره الكبير على الشعوب يوم انهزم بشكل مخزٍ في الحرب التي كانت ذريعته الانقلابية.

الانقلابيون يعتقدون أنهم أكبر من التاريخ. محوا التاريخ، ولم يتركوا للناس سوى ذاكرات ممزقة لها عنوانان: العودة إلى ماضٍ متخيل يؤدي فيه الانتماء الطائفي والديني دوراً مركزياً، والتفتّت الذي صنع الحروب والحروب الأهلية التي تعصف بأوطان هشة.

غير أن المكان الذي تختلط فيه الذاكرة بالحاضر بشكل دائم هو فلسطين.

الممارسات الإسرائيلية منذ احتلال فلسطين كلها في سنة 1967، حولت النكبة من ذكرى أليمة إلى حاضر يومي. وكشفت أن النكبة لم تكن ذاكرة قط، ذلك بأن الفعل النكبوي استمر في أراضي 1948 بلا توقف، لكنه اتخذ حجماً متضخماً بعد احتلال 1967، فسالت ذاكرة الماضي في الحاضر واندمجت فيه، بحيث صارت النكبة المستمرة هي نمط الحياة - الموت، تواجهها المقاومة المستمرة التي تسعى لتحويل الموت إلى حياة.

العلاقة بين الحياة والموت وتداخلهما صنعت في الماضي صورة الفدائي، وها هي اليوم تعيد صناعة الصورة من جديد.

فحين نقرأ في عينَي فتى في التاسعة عشرة من عمره اسمه إبراهيم النابلسي، وهو يحتضن موته وبندقيته في أحد أزقة المدينة القديمة في نابلس، نجد أنفسنا أمام علي أبو طوق وهو يحمل عصاه ويسقط في مخيم شاتيلا، أو أمام دلال المغربي وهي تعبر البحر مع رفاقها كي ينتصر موتها في حيفا.

هذا التشابه جميل لكنه ليس المتن، إبراهيم النابلسي ورفاقه ليسوا تكراراً لما كان، إنهم ما يكون وسيكون.

صحيح أن ما سيكون يقف على أرض صنعها نضال طويل، لكنه وليد الحاضر الذي يتطلع إلى المستقبل.

هذا لا يعني أن هذا النضال لا يمتلك ذاكرة، بل على العكس من ذلك، فإن ذاكرته لا تنضب، لأنه يقرأ الماضي بعيون الحاضر، ولا يقرأ الحاضر بعيون الماضي.

فدائيو نابلس وجنين وغزة والبيرة، وغيرها من مدن فلسطين وقراها، ينبثقون من حاجات الحاضر. إنهم الوارثون لذاكرة كبرى، والوارث يصنع تجربته الخاصة، ولا يجعل من الحاضر أسيراً للماضي، ولذلك تتخذ المقاومة اليوم أشكالاً متنوعة ومتداخلة؛ إنها مقاومة تعلو فوق التنظيمات من دون أن تتنكر لها، أو تكون أسيرتها.

بُنية المقاومة التي تتشكل، تحيّر الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تقف عاجزة عن سحقها.

كيف يتم سحق شكل هلامي لا يتشكل إلّا ليعيد تشكيل نفسه من جديد؟

هكذا تكون البدايات وهذه علامات زمنها الآتي، فالمقاومة ليست نتاج فعل إرادوي منظم تقوم به مجموعة من المناضلين، إنها نتاج انفجار الحياة في مواجهة الموت، وهذا عصيّ على الفهم.

لن نفهم هذا التحول إلّا إذا قرأنا دلالات ومعاني الصراع بين "الصياد والتين"، مثلما كتبها وعاشها زكريا زبيدي.

كما لن نفهم إذا لم نستوعب دلالات نفق الحرية الذي حوّل سجن جلبوع إلى أحد أسماء الحرية.

إبراهيم النابلسي ورفاقه قرأوا بتجربتهم ومعاناتهم هذه الدلالات فقرروا أن يكونوا الأبطال والضحايا.

هذه هي المعادلة الفلسطينية التي تنشأ وتنمو خارج الأطر المتعارف عليها كلها؛ إنها مجرد علامات تعيد رسم معالم الطريق، وعلينا أن نقرأ هذه العلامات كي يكون لنا لغة معجونة بالتجربة.

هذه العلامات يجب أن تُقرأ في واقعها الملموس، لأنها بشارة الآتي الذي كي ينمو ويتكون، يحتاج إلى حاضنتين:

حاضنة شعبية عبّرت عنها والدة إبراهيم النابلسي في خطابها الملحمي أمام نعش ابنها الشهيد. فهذه المرأة الفلسطينية كأنها خرجت من ملحمة جلجامش معلنة أن الملحمة الفلسطينية لن تندثر أبجديتها المكتوبة بالحب والدم والتراب.

وحاضنة فكرية تعي أن الحي يولد من الميت، وأننا وسط هذا الحصار، ووسط هذه النهايات كلها التي تدمر المنطقة، لا خيار لنا سوى أن نصوغ بداية جديدة تليق بموتنا وصراعنا من أجل الحرية والأرض والبقاء.

لقد وقعت الفصائل الفلسطينية في فخّين:

فخّ أوسلو وأوهامه، من جهة.

وفخّ السلطة بصفتها آلة لا تملك من أمرها سوى قدرتها على التسلط، من جهة ثانية.

خارج هذين الفخّين، وكعلامة على التحرر منهما، تلتمع إشارات الحياة التي ترتسم على جبين الموت الفلسطيني.

المقاومون اليوم، أكانوا مطارَدين أم أسرى، أكانوا حقوقيين أم ناشطين، يبنون لفلسطين ذاكرة الحاضر. 

*** 

هذا العدد من "مجلة الدراسات الفلسطينية" يخصص محورين لذاكرة الحاضر: المحور الأول هو تحيتنا إلى الأسير زكريا زبيدي، من خلال نشر وقائع مناقشة أطروحته للماجستير في جامعة بيرزيت: "الصياد والتنين". والمحور الثاني يناقش مؤتمر الجبهة الشعبية مع مقابلة خاصة مع نائب الأمين العام جميل مزهر.

كما يقرأ العدد وقائع أيام الحرب الثلاثة على غزة، ويفتح أفقاً للنقاش من خلال محور صغير عن قبر فالتر بنيامين، وفيه تُطرح الأسئلة من جديد من خلال قراءتين: قراءة مايكل تاوسيغ المدنسة، وقراءة عبد الرحيم الشيخ التي تقدم بنيامين كمتأمل في التاريخ بصفته صوفياً ثورياً.

وفي ختام العدد نقرأ كُتيبا غير منشور بعنوان: "شاعرا الغزل في الأدبين العربي واللاتيني"، عمر بن أبي ربيعة وكاتُلّوس، للشاعر الفلسطيني الراحل توفيق صايغ، وهو كناية عن مخطوطة وصلت إلى يد صقر أبو فخر، وحررتها ناهد جعفر وصقر أبو فخر.