شكلت عملية نفق الحرية تحدياً لمفهوم البانوبتيكون (Panopticon) الذي تبناه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1984-1926) في كتابه "المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن"، إذ بحث فوكو في جينولوجيا السجن والاعتقال على خطى الفيلسوف الإنكليزي جيرمي بنثامJeremy Bentham (1832-1748) الذي صكّ هذا المفهوم على أساس فكرة هندسة السجن، وبالتالي هندسة الإرادة والعقل و الجسد، مستنبطاً العلاقة الجدلية بين الرقابة والمعاقبة. فنظام السجن المحصّن بالجدران، والذي يتوسطه برج مراقبة، هو بالأساس أحد أهم وسائل الضبط والرقابة والتعذيب والإخضاع في عصر الحداثة، والمقصود إخضاع العقل وضبط الجسد، عبر إشعار الأسير بأنه مراقب على الدوام. فلا يغدو الجسد قوة للإنتاج المادي، ويتحول الأسير إلى كائن خاضع ومنضبط، تنمو بداخله رقابة ذاتية تخلق لديه حالة خوف مستمرة تسيطر على عقله.
عمل فني لمحمد سباعنة
وكجزء لا يتجزأ من المنظومة الاستعمارية الحداثية الغربية، فإن الاستعمار الاستيطاني في فلسطين شيّد السجون والمعتقلات ضد الفلسطينيين الأصلانيين، تماشياً مع مفهوم البانوبتيكون الذي اعتمده فوكو، مستحدثاً نظام الكاميرات، بالإضافة إلى الأبراج المحيطة بالسجن، ناهيك بأجهزة التنصت المنتشرة في كل صوب، وغرفة المراقبة في كل قسم، الممتلئة بالكاميرات الحديثة.
إن فكرة البانوبتيكون لخلق الأسير المنضبط تنسحب أيضاً على المجتمع المنضبط، أو الذي يتم ضبطه في زمن ما بعد الحداثة، في ظل التكنولوجيا الرقمية المعقدة. لكن لم تكن هذه الحالة نافذة لدى الأسرى الستة الذين شقوا نفق الحرية في سجن جلبوع، وقلبوا المعادلة، عبر خلق ثقافة مضادة لنظام البانوبتيكون كجزء لا يتجزأ من سياسة مقاومة الاعتقال وصراع الإرادات وتحدّي السلطة.
حول سجن جلبوع
يقع سجن جلبوع قبالة جبل جلبوع في بيسان على سهل مرج بن عامر، ويُعتقد أن معركة عين جالوت -حيث هزم المماليك التتار- جرت في المكان ذاته الذي شُيّد فيه سجن شطة، ولاحقاً سجن جلبوع في سنة 2004. فوُضعت فيه خلاصة الخبرات الأمنية والتكنولوجية الممكنة. ويكتسب الموقع أهمية تاريخية تمتد إلى قرابة الستة آلاف عام، كشفت عنها البعثات الأثرية منذ مطلع القرن الماضي. وتستخدم المنظومة الاستعمارية الصهيونية التسمية الكنعانية للمكان، وهي "بيت شان"، أي بيت الإله كما يُعتقد، وذلك بعد أن تم تهجير الفلسطينيين الأصلانيين من المكان خلال التطهير العرقي سنة 1948، مستبدلةً حضارة عريقة أصلانية تمتد إلى قرون طويلة بحضارة استعمارية استيطانية زائفة.
سردية الحدث من الواقع المعاش
كنت في سجن جلبوع حين جرت عملية نفق الحرية، حيث تواجدت في قسم/عنبر ملاصق للقسم الذي شقّ به الأسرى موعدهم مع شمس الحرية. كانت الساعة الخامسة والنصف صباحاً، حين أيقظني رفيقي نادر صدقة، ليُعلمني بأن هناك مَن يناديني من الغرف الأُخرى. نهضت مسرعاً ووقفت أمام باب الزنزانة، فسمعت عدداً من الأسرى يتكلمون في آن معاً، من أكثر من زنزانة، لتبليغي أن ستة أسرى نجحوا في الفرار من السجن، بناءً على ما تناقلته وسائل الإعلام، وسألوني: ما العمل؟
أتذكر جيداً ما قلته: "عيشوا اللحظة، لكن لا تنسوا إتلاف كافة الأوراق التنظيمية المهمة فوراً." كنت أعلم بأن حملة تفتيشات مسعورة ستبدأ، لأننا تعودنا على سياسة العقوبات الجماعية الممنهجة، وما إن شرعت في فتح الراديو على المحطات العبرية لتتبُّع التفاصيل، حتى سمعت أسماء الأسرى الستة الأبطال، كانت المذيعة تتلو أسماءهم واحداً تلو الآخر، وهم الذين حطموا المنظومة الأمنية العنيفة للسجون. وتحدوا بعقلانية الثوار وجرأتهم أسلوب الضبط والرقابة الممنهجة لنظام البانوبتيكون الحداثي. وما هي إلا لحظات، حتى جاءت مجموعة من الضباط الكبار من مصلحة السجون وأخرجوني من زنزانتي إلى المقصف/الكانتينا.
كنت محاطاً بعدة ضباط، معظمهم من خارج السجن، كانت وجوههم تدل على الإهانة والذل والاستفزاز والخوف من عواقب وتداعيات ما جرى، كنت أرى الحقد في عيونهم. وتمحور النقاش معهم حول عدة محاور: الأول –ركز بعضهم على اتهامي بالمعرفة المسبقة بنفق الحرية، وذلك بحكم موقعي التنظيمي من جهة، ومن جهة أُخرى بحكم علاقتي بالأخوة زكريا زبيدي ومحمد ومحمود العارضة وأيهم الكممجي، وخصوصاً أنهم اعتادوا زيارتي في القسم الذي أقيم به. أنكرت المعرفة المسبقة بالنفق، وهذه حقيقة إن دلت على شيء، فهي تدل على المستوى العالي من السرية التي امتلكها الشبان الستة، وهي ملكات تُكتسب بالممارسة النضالية، ولكي أزيد في استفزازهم، أكدت لهم أن الفرار من السجن حق وواجب على أسير الحرب، وأن أي أسير لا يفكر في كسر قيده عنوة، هو بائس وعاجز.
بينما المحور الثاني من النقاش كان في سياق كيّ الوعي أو صَهره، بحسب تعبير الأسير وليد دقة، أي محاولتهم البائسة لإقناعي بأن ما جرى ليس في مصلحة الأسرى، كونه سيحمل تداعيات من عقوبات وسحب منجزات، وكان ردي النابع من نشوة الفرحة بهذا الإنجاز الكفاحي والوطني الكبير، مفاده أن جلّ الإجراءات التعسفية والهمجية لن تنزع الفرحة من قلوبنا، مؤكداً عدم مبالاتنا بالعقوبات، وأننا أيضاً مستعدون للرد، مخاطباً إياهم باللغة التي يفهمها السجّان جيداً.
العقوبات أعادت اللُحمة بين الأسرى
خلال هذا اللقاء، كان يتم نقل أسرى القسم الذي شهد عملية النفق إلى سجون أُخرى، وبعد لحظات من عودتي إلى الزنزانة، هجمت العشرات من القوات الخاصة من "اليماز" و"المتسادا" بطريقة همجية على القسم الذي كنت أعيش فيه، فهاتان القوتان لهما سِجلّ طويل من الانتهاكات ضد أسرى الحرية، وبدأتا بحملة تفتيشات انتقامية تخللها تخريب ومصادرة مقتنيات الأسرى. الملفت أنني رأيت لأول مرة لامبالاة الأسرى وعدم اكتراثهم بمقتنياتهم، وكأن لسان حالهم يقول: "افعلوا ما شئتم، فلن تنغصوا فرحتنا".
اتفقنا في اللجنة الوطنية، وهي اللجنة العليا للفصائل في السجن، على ضرورة امتصاص الهجمة، وعدم إعطاء الإدارة فرصة لقمعنا جسدياً، وخصوصاً أن المؤشرات تدل على أننا أمام حالة من هيجان السجّانين المسعورين، تسودها رغبة في الانتقام العنيف. واستمرت التفتيشات المُذلة مدة ثلاثة أسابيع، وأبرز ما يُقال هو أن إدارة السجن عاشت حالة هوس من وجود أنفاق أُخرى، وشددت إجراءاتها القمعية، مثل إجراء عدّ الأسرى أكثر من ثلاثين مرة في اليوم، بدلاً من ثلاث مرات. كما تم إحضار وحدة خاصة من سلاح الهندسة في جيش الحرب الإسرائيلي كي تقوم بفحص كافة الأقسام والتأكد من عدم وجود أنفاق أُخرى.
وفي إثر أحداث النفق وتداعياتها على المستوى الوطني، وتشكيلها ضربة للمنظومة الأمنية، تم تشكيل لجنة "أمنية" خاصة للوقوف أمام الحدث، وبقرار وزاري، فاتخذت مجموعة قرارات تتّسم بالبعد الانتقامي، وليس الأمني، إذ منعت العديد من أصناف الكانتينا، كما حظرت المشتريات الخارجية من خضار وفواكه موسمية، وأقرّت حجب القنوات الرياضية، ومنع زيارات الأقسام والغرف، ومنع إدخال الأطفال في الزيارة، وقررت نقل المحكومين بالمؤبدات والأحكام العالية كل ثلاثة أشهر، وشملت العقوبات الانتقامية منع إدخال الكتب، وتحديد نوعية وكمية الملابس المسموح بإدخالها خلال الزيارة أكثر من ذي قبل، وتم أخيراً نقلنا من سجن جلبوع وإغلاقه بحجة إعادة تحصينه.
هذه الإجراءات استدعت وقفة جدية للحركة الأسيرة، كونها شملت كافة السجون، لذا، تم الاتفاق على ترتيب البيت الداخلي للحركة الأسيرة، وأبرز ما يقال بهذا الصدد إن ما بعد السادس من أيلول/سبتمبر، ليس كما قبله، إذ نجحنا، لأول مرة منذ سنة 2002، في تشكيل لجنة قيادية عليا من كافة الفصائل، لمواجهة القرارات الانتقامية التعسفية التي اتُّخذت بحق الأسرى، فنشوة الانتصار وبراعة المناضلين الستة، زودت الأسرى بالحافز لإعادة بناء وترتيب الصفوف داخل السجون، بعد أكثر من عقد من التشرذم والانقسام والتفتت، متسلحين بقوة الإرادة والعمل وعزيمة الانتصار.. وقد نجحنا فعلاً في صدّ الهجمة جزئياً، وكان ذلك في آذار/مارس العام الماضي.
وصف حالة الأسرى
كانت درجة انفعال الأسرى رهيبة، كنت قد أمضيت عقدين من الزمن داخل السجون واقترب موعد الإفراج عني، بينما أغلب رفاقي من المحكومين بالمؤبد، كانت عيونهم تلمع وكأن لسان حالهم يقول: ليتنا كنا معهم. هممت بمراقبة الوجوه المفعمة بالحياة والأمل وعشق الحياة، كانت لغة أجسادهم خارج الزمان والمكان الذي جمّده الاعتقال، وللمرة الأولى، تتحرك الساعة الحياتية في وجدانهم.. كان نيلسون مانديلا في سيرته الذاتية يقول: "السجن نقطة ثابتة في عالم متحرك." قلَب الأسرى الستة هذه المعادلة، كما قلبوا معادلة البانوبتيكون، ونقل كل أسير إلى ربوع العالم الآخر ومنطقه المغاير لمنطق السجن الثابت والساكن. قفز الأسرى بأرواحهم وأفكارهم إلى مكان وزمان مختلفين، وتكرس إيمانهم بجدوى المحاولة، وعلى الرغم من إعادة اعتقال الأبطال الستة، فإن هذا لا يقلل من شأن الأبعاد الاستراتيجية لنفق الحرية. والأهم أن منطق المقاومة والتحدي والثقافة المضادة انتصر على منطق الحداثة الاستعمارية والمراقبة والضبط للبانوبتيكون، إذ استنهض الجانب السوسيولوجي للأسير إمكانية تحدّي تكنولوجيا الاعتقال والتعذيب والضبط والرقابة والإخضاع.
كلمة لا بد منها
إن استخدام تعبير "الهرب" من السجن قد يأخذ طابعاً مغايراً لحقيقة الحدث. فنفق الحرية ليس هرباً، أو فراراً من واقع أليم، يخلو من الإنسانية، إنما هو قرار مواجهة وتحدٍّ، وهو قرار كفاحي نضالي بالأساس، يرفع وتيرة الاشتباك مع المنظومة الكولونيالية الاستيطانية في فلسطين، ويضع الأسرى الستة أمام مسؤولية كفاحية، لأن الخروج عنوة من الأسر يعني الملاحقة الدائمة ومواجهة خطر الاغتيال، لذا، فإن في صميم الأسرى الستة الذين عانقوا شمس الحرية لسويعات، تأتي فكرة الاستمرارية النضالية في الميدان.
أغلبية التغطية الإعلامية لهذا الحدث الاستراتيجي ركزت على فكرة ضرب المنظومة الأمنية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، والاستهزاء بها، وهذا صحيح لأن ملعقة صغيرة هزمت التكنولوجيا الغربية الحداثية والمتقدمة، لكن غاب كثيراً النقاش في دلالات رغبة الحرية عنوة، وهي دلالات رمزية تعني مواجهة منظومة الضبط والرقابة، وفشل البانوبتيكون أمام تصميم الإنسان الحر، وأمام إصرار الشعب على المقاومة والحرية مهما بلغت التضحيات، وأمام تصميمه على التخلص من المنظومة الاستعمارية الاستيطانية، ونظام الأبارتهايد العنصري في فلسطين، والذي شيّد سجونه لتكون على شاكلته، وهي شبيهة، إلى حد بعيد، بمعسكرات الاعتقال النازية إبان الحرب العالمية الثانية.
القانون الدولي عاقب النازية وحكامها وانتصر عليها، بينما يغض النظر عن جرائم الاستعمار في فلسطين على الرغم من فظاعة الانتهاكات بحق الفلسطينيين الأصلانيين.. فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بنفق الحرية، وبخلاف القانون الدولي، تمت معاقبة الأسرى الستة بالعزل الانفرادي، وأضيفَت إلى أحكام كلّ منهم خمسة أعوام، الأمر الذي يخالف اتفاقية جنيف الثالثة (المادتان 91-94) واتفاقية جنيف الرابعة (المادة 104)، إذ تنص هذه المواد، بوضوح، على أنه لا تستوجب معاقبة أسرى الحرب على محاولتهم الفرار من السجن، ولم نسمع أيّ رد من المحافل الدولية المختلفة، الأمر الذي يُعتبر تشجيعاً، بل تواطؤاً مع السلطة الاستعمارية في فلسطين.
شقّ الأسرى الستة نفق الحرية، ولامسوا نور الشمس وضوء النهار بأطراف أصابعهم، بينما نفق المصالحة الفلسطينية مغلق، ولا نور نراه في الأفق ليتلمسه أبناء شعبنا، ونفق الانتخابات قد انهار على وقع الإصرار الوقح على الاستخفاف بشعبنا وطموحاته وتضحياته.
هؤلاء الأسرى الستة يعلموننا درساً يستوعبه شعبنا جيداً، أما القيادة فلم تفهم، ولن تفهم.