التذكير بالأسماء هو من باب واجب الشعب تجاه أبنائه الستة: محمود العارضة، وأيهم كممجي، وزكريا زبيدي، ويعقوب قادري، ومحمد العارضة، ومناضل انفيعات، صنّاع ما كان يبدو مستحيلاً إلى حين خروجهم من فتحة النفق إلى مساحات الوطن. ردم الإسرائيليون الحفرة على وجه السرعة كي لا يبقى لها أثر، وصبّوا من جديد أساسات السجن الأكثر إحكاماً، سعياً منهم لسدّ آفاق الأمل الخارجة من النفق، ومصادرتها من أذهان أسرى فلسطين وشعب فلسطين. إنهم محترفون في السعي الفاشل لإخفاء آثار الجريمة، هكذا حدث مع النكبة والقرى والمدن المهدومة، التي ظنوا أنهم ببنائهم فوق الردم الفلسطيني قد ضللوا التاريخ وغابت مسيرة الشعب بالعودة، فاعتقدوا أنهم بردم حفرة النفق قد انتهوا من الموضوع. إلّا إن الحقائق مغايرة، وجرت رياح الحرية بما لا تشتهيه سفن المستعمر.
لقد بات النفق علَم حرية فلسطين وشعبها وأنصارها ونصيراتها في الوطن العربي والعالم، وهو ذاته أيضاً بات حفرة إخفاق عميقة في الذهنية الإسرائيلية الصهيونية الاستعلائية التي، وعلى الرغم من ترسانتها وسيطرتها على كل الوطن الفلسطيني، مجسّاتها وأسوارها وأبراجها، اعتقدت أنها حسبت حساب جميع الاحتمالات. ليتبين أنها فشلت في حساب استراتيجية مياه الينابيع الجوفية، وهي الشبيهة باستراتيجية الحجّار العربي. فالمياه الجوفية تشق طريقها، حيث لا تستطيع أية مجسّات وذكاء اصطناعي إيجادها، فهي الطبيعة بذاتها، القادرة على التحرك حين ترفدها مياه فصل الشتاء، ليكون كل مسرب جاهز كي يندفع فيه نبعاً عذباً، وليست بحاجة إلى مساعدة من أحد، بل إلى قوتها في الدفع الذاتي، وبوتيرتها الذاتية، فالتيارات الداخلية والهادئة قادرة على المفاجأة. أما الحجّار العربي فهو الذي يحمل الشاقوف وينعم النظر إلى صخرة تبدو عصية على الكسر، حتى تقع عينه الثاقبة على نقطة ضعفها، ليبدأ بالطَرق في ذات المكان، وبالقوة المناسبة، بحسب اعتباراته، وإذ بالصخرة تنشطر.
لم يشعر أحد بالأسرى وهم يحفرون النفق، وهذا ما خططوا له وقاموا به لأكثر من عام، بهدوء الماء. وفي الحقيقة، فإن تجربة نفق 2014 في سجن شطة المحاذي في المجمع الاعتقالي نفسه، والتي اكتشفها السجّان واحتفل بغطرسته، هي مدرسة في تمهيد النجاح قبل عام. فقام بحملة تنقيلات للأسرى، لكن أين يذهب بالأسرى المحكومين بالمؤبدات، الذين باتت سنوات سجنهم أطول من سنوات خدمة السجّان، وأحياناً أكثر من سنوات عمره.
في هذه الأيام، وبعد 178 يوماً، أنهى الأسير خليل عواودة إضرابه العنيد عن الطعام، بعد أن حصل على التزام بالإفراج عنه وعدم تجديد الاعتقال الإداري. لم يراهن على المحاكم الإسرائيلية، ولو توجّه إليها، بل قامت المحكمة العليا بدورها المشين بتثبيت اعتقاله وتبرير ذلك، بناءً على "قناعتها" بالخطر الناجم عنه حتى حين بات مجرد هيكل عظمي وروح، إلا إن إرادته هي التي حرّرته من السجن، ومن قرار المحكمة، مسنوداً من أسرته، ومن جماهير شعبنا. كانت إرادة خليل هي "النفق" المكشوف هذه المرة، والذي سار فيه مخترقاً جدران القهر إلى أن انتصر لحقه الإنساني الشخصي، ولحقِّ الأسرى، ولشعبه.
في الأول من أيلول/سبتمبر الجاري، وفي اللحظة الأخيرة من المفاوضات المسنودة بأعلى جهوزية للحركة الأسيرة، أوقف الأسرى خطوة الإضراب الجماعي الوحدوي عن الطعام، وذلك بعد أن انصاعت إدارة السجون إلى مطالبهم بوقف مجمل الإجراءات التنكيلية التي تسارعت وتكثفت في أعقاب نفق الحرية قبل عام. إنه انتصار صعب آخر يُضاف إلى مراكمة الإنجازات والأمل. هذه الانتصارات لا تعني تغييراً في جوهر سياسة دولة الاحتلال تجاه شعبنا، وحصراً تجاه أسرى الحرية، بل ستواصل عدوانيتها ومساعيها الانتقامية والتنكيلية، وتؤكد المؤسسة الأمنية الاستخباراتية سعيها لتشتيت بنية الحركة الأسيرة. وفي هذا الصدد، الاستفراد بأسرى حركة الجهاد الإسلامي حصراً، وسعياً لتطبيق نمط الاستفراد بهذا الفصيل، كما ضبطت الأمور في عدوانها الأخير على غزة الشهر الماضي.
قد لا تكون الحركة الأسيرة في أفضل حالاتها، فهناك صعوبات وإشكاليات جوهرية تعاني جرّاءها، وهي في المجمل نتاج الحالة الفلسطينية العامة، ونتاج شحّ صنع الأمل الحقيقي بالفرج والحرية وإنهاء الاحتلال؛ وتبقى المسألة الأكثر إيلاماً، والأكثر استعصاءً على الحل، هي مسألة المؤبدات للأسرى البالغ عددهم 543 أسيراً. إمعاناً في استهدافهم، يتعرض الأسرى لمسعى احتلالي لدمغهم وتشويه سمعتهم أمام شعبهم، مع كل ما يرافق ذلك من تداعيات.
مقابل كل الصعوبات، صنع أسرى النفق نموذجاً مغايراً، مؤكدين أن ما كان يبدو غير ممكن من منظار الإحباطات السائدة، بات من الماضي، وتحقق بفضل العزيمة الهادفة والإرادة الكفاحية الإنسانية لصنّاع النفق. لقد ردمت إسرائيل فتحة نفق الحرية، وأعادت أبطاله إلى سجونها، وفرضت العقاب الجماعي عليهم، وعلى عموم الأسرى، معززةً دورها بالتنكيل والانتقام، إلّا إنها هي المُخفقة. فتحول النفق إلى فتحة صراعات بين سدة الحكم وبين مؤسسة السجون والمؤسسة الأمنية، والتي قد يكون فيها حسم داخل المنظومة، لكنها لا تستطيع إعادة المارد إلى القمقم، حتى وإن أعادت اعتقاله بعد تجنيد جيوشها، فهذا المارد بات أكبر وأقوى وأكثر أملاً. ينبغي ألّا ننسى للحظة دور المؤسسة الإعلامية الإسرائيلية، التي تتباهى زوراً بالليبرالية والأخلاقيات، لتكشف كما هو متوقع أنها تتصدر منظومات القهر والعداء الدموي السياسية والأمنية على السواء.
إن رسالة أسرى نفق الحرية هي أنه لا مكان لليأس، ولا للتعامل مع الإخفاقات وكأنها قضاء وقدر، بل إن الأمل يأتينا بقدر ما نصبو إليه، وأن مسيرة الحرية تتقدم فقط بقدر العزيمة الهادفة إلى الوصول إلى نهاية النفق، وبقدر ما نتقدم بها، نحن شعب فلسطين ومعنا كل أحرار العالم.