The Man from Al-Sawafir Who Carried His Village on His Shoulders (Part 1)
Date: 
August 22 2022
Author: 

ذاكرته متّقدة، ولغته خالية من التقعر والتعقيد، إن حدّثك أحببت حديثه، وإن صمت رأيت في ملامحه رحلة العمر التي حملته من قريته السوافير الغربية، وطافت به عالماً ما زال يسجله في الوثائق لاجئاً حتى كتابة هذه السطور. بصره بالكاد يمسح ما حوله من شخوص ومناظر، ولعله ليس مهتماً بشحّ بصره في هذه السن المتقدمة من العمر إلا لحاجة واحدة؛ القراءة. ينفق يومه منصتاً إلى الإذاعة، أو الكتب المسموعة، أو ملاعبة أحفاده وإلقاء قصائده، وقص الحكايات والأحجيات النحوية والطرائف اللغوية عليهم، وأغلب الوقت في طريقه إلى المسجد، أو عائداً منه.

إسماعيل محمود عبدالله شحادة، ابن قرية السوافير الغربية، المولود سنة 1936م، إنه والدي الذي أورثني مزيجاً من ملامحه وملامح جدي محمود، وألقى عليّ عباء شعره، فحملت رايتها ومضيت أشقّ البحر بعصا ذاكرة آخر العنقود، المصطفاة من بين أبنائه وبناته.

كلما تحدثنا طوف بي هنا وهناك، تفاصيل السوافير حاضرة دوماً، تأكل وتشرب وتنام معنا، ولهذا فليس مستغرباً أن ينتهي بي الأمر إلى توثيقها؛ لا لأنني ابنته التي تشتغل في الكتابة والنشر، بل لأنني بنت الذاكرة الفلسطينية التي لا تموت، ولا يجب أن تُطمس أو تغيب، مهما تكالبت علينا السنون، أو تجرأ عليها مزوّرو التاريخ، "فإحدى نقاط القوة في هذه المذكرات هي إعادة رسم صور لحياة الفلسطينيين ما قبل النكبة، ثم تتبُّع انكسار تلك الصور وتشظّيها خلال الحرب وفي الأعوام التي تلتها."[1]

****

ذاكرة إسماعيل السوافيرية

يخلل أبو محمود أصابعه في لحيته البيضاء، مستعيداً شريطاً لا يبلى مهما دار على بكرة الذاكرة؛ أدير جهاز التسجيل، فيحكي لي:

قريتي السوافير الغربية قرية بسيطة، بيوتها من طين وطرقاتها ضيقة، موحلة شتاءً، يعمل أهلها في الفلاحة والزراعة البعلية، معتمدين على مواسم المطر. [2]من أشهر عائلاتها دار شحادة، وعفانة، والباز، وعطا الله، والأعرج، وكان هناك بيوت متفرقة تسمى بأسماء سكانها: الرافاتي، والشيخ خليل، والعبد مصطفى. بالإضافة إلى حارة اسمها حارة المصريين، وهم مصريون جاؤوا مع حملة إسماعيل باشا واستقروا في السوافير، ومنهم دار سلامة، وأبو عبدو.

بيتنا كان مبنياً من الطين والقش وسقفه من الجريد والخشب. مقسّم إلى عدة غرف وبايكة، يحيط بها سور واحد. كنا ننام، أنا وأمي وأخي خضر وأختي خضرة، في البايكة على مصطبة، بينما تنام البقرة في الزاوية على الأرض. لكل عمّ من أعمامي غرفة، إلّا عمي عبد الهادي وعمي عبد الحميد، فكان لديهما غرفتان، لأن كل واحد منهما معيل. أما ستي أم أبي، فكان عندها عريشة للنوم والجلوس بجانب بايكتنا، تنتفع منها وحدها ولا تجاورها أي ماشية. بعد وفاتها، ضممنا عريشتها إلى البايكة، وصرنا ننام فيها كذلك.

 

خريطة توضح موقع السوافير الغربية وتقاطُعها مع الخط العام (المصدر: موقع المعرفة)

 

كان لدينا دكان واحدة في السوافير؛ هي دكان يونس الأعرج، وكانت على طريق الأسفلت. هذه الطريق كانت تربط السوافير الغربية والشرقية بالمجدل ويافا، عبّدها البريطانيون لتسهيل الحركة نحو الكامب – مثل كامب جولس مثلاً – فتمر السيارات البريطانية في الطريق التي تحتمل سيارة واحدة فحسب، وتقطع جسر السوافير المُقام على وادٍ اسمه وادي الشيخ محمد، وتنتظر السيارة في الاتجاه المعاكس مرورها لتمر، فالطريق والجسر لا يحتملان إلا مرور سيارة واحدة لأي من الاتجاهين. عندما سافر قريب لنا وزار أراضي الـ 48، أحضر لنا صوراً لجسر السوافير.. ما زال صامداً إلى اليوم، على الرغم من أن معظم ما كان في القرية من أبنية صار ركاماً.

 

ما تبقى من جسر السوافير

 

مسجد، ومقام، وبئر

كانت السوافير الغربية تعتمد في السقاية على بئر بعمق عشرين أو ثلاثين متراً، ينزل فيه دلو من الجلد حتى يمتلئ، ثم يضرب الساقي على مؤخرة الجمل، فيسحب الدلو بالخيط المربوط إلى المْحالة، كان الجمل لا يمشي إلا ذهاباً وإياباً، وعمله يقتصر على سحب الماء بالتكرار طوال اليوم. لكن ماء الدلو لم يكن نظيفاً، بل كان مملوءاً بالعلق الدقيق، لذا كان الناس يُصفّون الماء بالثوب أو الخرقة، ومَن تفوته علَقة هنا أو هناك، تلتصق بسقف حلقه، ويحتاج إلى الذهاب إلى حلاق القرية – وكانوا اثنين فقط – ليُخرجها بالملقط أو بالكيّ.

في سنة 1945م، حفر آل الباز – أخوالي: إبراهيم وإسماعيل ومحمد، ووالدهم الشيخ صالح[3] – بئراً جديدة في إحدى قطع الأراضي التي كانت لديهم – وكانت كثيرة – أذكر يوم جاء المهندس الميكانيكي بالموتور (المضخة) ليشغّله، وكيف خرج الماء نقياً، فحفروا له جابية كبيرة، وصارت النساء تتزوّدن بالماء من بئرنا عوضاً عن بئر الدلو. بعد حفر البئر[4]  فرج على الناس، وصاروا يشربون ماءً نظيفاً بلا طحالب أو علق، ثم أحيط البئر ببيارات خيار وقصب وملفوف. وفي بداية سنة 1947م، حفر دار عطا الله بئراً وأقاموا بيارة هم كذلك. أذكر مقام جدنا الباز المدفون في السوافير[5]، وكان مقاماً ومسجداً، المسجد الوحيد الموجود في السوافير حينها.

سنة 1948م، وقبل الهجرة ببضعة أشهر، فكّر دار الغنّام هم كذلك في حفر بئر جديدة، وفعلاً، جاؤوا بالمهندس والمضخة من يافا، وما زلت أذكر منظر هذه المضخة التي تُركت في أغلفتها ولم تُستخدم بعد؛ لأننا هُجِّرنا، وكنا نظن أننا سنعود في غضون أيام قلائل.

 

 

طحين الطفولة

تعتمد السوافير، كما سبق أن أسلفت، على الزراعة البعلية، وكان لدى معظم العوائل بقرة أو بقرتان، قلة كان لديها جِمال، مثل دار عطا الله، كان عندهم جمل أراه يمر من أمام بيتنا من حين إلى آخر.

كان الفلاحون يحرثون الأرض في الخريف مترقبين المطر، كي يبدأ بعدها موسم البذار. كنت صغيراً أشهد كل ذلك، وأشاركهم الحصاد في أيار/مايو، كانوا يخرجون من نجمة الصبح، أو ليلاً قبل الفجر، لحصد القمح والشعير، فالفلاحون ينقسمون إلى حصّاد ومغَمِّر؛ الحصّاد يحصد القمح والمغمِّر يضم الحصيد في حزم كبيرة (غمر)[6]  ثم تُحمل الغمور على جمل لنقلها إلى الجرن. كنت أنا وأخي أحياناً كثيرة ننام في الجرن على القمح، كيلا ينهب الحزم البدو، أو يطلقوا ماشيتهم عليها. وكُثر من أهل السوافير تعرضوا لمثل ذلك من موسم إلى آخر، فمن لا يحرسها تروح عليه!

في الجرن تدرس البقر أو البغال بحوافرها الغمور كي يُفصل القمح عن الشعير. ثم يأتي المذرّي بمذراته ذات الأربع أصابع ليفصل القمح المدروس إلى تبن وقصل وحَب. الحَب لنا بعد أن يكربله الرجال بالكربال في الجرن لفرز الحَب عن الحصى العالق به، والتبن للماشية، والقصل يُستخدم لبناء البيوت بخلطه بالطين. قبل الطحن، تنسّف النساء الحَب لاستخراج الزغب الخفيف منه وتنظيفه من بقايا ما علق به قبل طحنه، ثم يأخذنه إلى بابور الطحين، وكان البابور – المطحنة – في السوافير الغربية لرجل يُقال له أبو رمضان. يوضع القمح في صوامع، ثم يخرج الطحين من البوق إلى الأكياس المربوطة به، فيأخذ كل فلاح حصته.

في مواسم زراعة الخيار والجزر، كنت وأخي نذهب إلى بيّارة سيدي، فنرى المقاولين من يافا يملؤون سحارات الخيار والجزر في السيارات، بعد الاتفاق على شرائها. كان يشتغل في البيارة خالي إسماعيل، أما خالي محمد فكان مسّاحاً. كانت لنا كروم عنب كذلك، وكنا ننام تحت عناقيدها في مواسم قطافها. أذكر هذا المنظر كأنه حاضر أمامي الآن مع أعمامي.

لم يكن جدك ميالاً إلى الفلاحة، لذا، لم يشتغل فيها، كان أول مَن ارتدى العقال في السوافير، متهندماً على الدوام، كأنه ذاهب إلى محفل ما، وسيماً، أشقر، أزرق العينين، لذا، لقبوه بـ"البيك". يذهب إلى يافا أحياناً، وقد باع بضعة دونمات من أرضه في حياته ليتمتع بالمال، وأثار ذلك مشاكل مع أبناء عمومته. رحمه الله، مات في ريعان شبابه. كان زواجه من جدتك فاطمة البازية عائداً إلى علاقة الصداقة الحميمة التي جمعته بأخيها إسماعيل، رفقة عمر.

ألف باء السوافير

المدرسة الوحيدة التي كان يجتمع فيها أولاد السوافيريات الثلاث – السوافير الغربية والشمالية والشرقية – كانت مدرستنا[7]، كان التدريس فيها حتى الصف السادس الابتدائي فحسب، ومقتصرة على الذكور دون الإناث. التحقت بها سنة 1943م، ووصلت إلى الصف الرابع، وفي سنة 1947م، بدأت بوادر النكبة وتوقفت الدراسة. لم يكن كل الأولاد يلتحقون بالدراسة، بعضهم كان يشتغل في رعي البقر والغنم، وغير ذلك من أعمال. كنا أيتاماً، وأظن أن أمي أصرت على إرسالنا للدراسة، ثم لم تعارض، لا هي ولا أخوالي، إتمام دراستنا في الأزهر لاحقاً.

كنا نذهب إلى المدرسة حفاة، حقائبنا من الخيش أو القماش. المدرسة مبنية من الحجارة، وفيها نحو أربع أو خمس غرف، ودورة مياه، ومزرعة لتعليم التلاميذ كيف يزرعون الفول والبصل؛ لأن إحدى الحصص كانت مخصصة لتعليم الطلاب الزراعة. وكان لدينا حصة للتاريخ، وأذكر اسم الكتاب "معالم التاريخ". أما اللغة الإنكليزية، فأذكر عناوين الكتب، حينها (موريس 1) و(موريس2) للرابع، و(ريدر1) و(ريدر2) للخامس والسادس. أما حصة التربية الإسلامية، فكان يعلمنا إياها شيخ من بلدتنا، أو من الفلوجة، من دار عواد، كان يأتي على حماره. وكان الطلاب من قرى، مثل الجلدية، يأتون على حمار أو اثنين من قريتهم ليلتحقوا بالمدرسة كذلك.

عندما وصلت إلى الصف الرابع الابتدائي، وأخي خضر في الصف السادس، تعرّضنا لموقف عجيب؛ كان مدرّس التاريخ من دار الوحيدي شديداً على الطلاب، وفي يوم ما أخطأ بحقه ولدان من الصف، فعاقب كل مَن في الصف من تلاميذ، ومن بينهم أخي خضر – الذي كان متميزاً – فاغتمّ لذلك، وبيّتها في خاطره. وفي صباح اليوم التالي، قال لي تعال لنذهب إلى عمتي في بركوسيا[8]، فذهبنا معاً من دون أن نخبر أحداً. كانت بركوسيا تبعد نحو ستة أو سبعة كيلومترات، وكان في الطريق وادٍ فيه ضبع يهاجم الرجال. كانت لي عمة وحيدة تزوجت وانتقلت للعيش مع زوجها في بركوسيا، كما جرت العادة أن تتبع المرأة قرية زوجها، وصلنا إليها في التاسعة صباحاً، وكانت تظن أننا نزورها فحسب. عندما فقدتنا أمي، كلّمت أعمامي وأخوالي، فبحثوا عنا في الكروم، وظنوا أننا وقعنا في البئر، أو أكلتنا الضباع، ثم هداهم الله لإرسال مَن يبحث عنا في بركوسيا، فوصلوا في الليل، عثروا علينا وهمّوا بضربنا، لكن عمتي منعتهم. بتنا ليلتنا معاً، ثم في الصباح عدنا جميعاً إلى السوافير. يأخذ أبو محمود نفساً عميقاً، وتخنقه العبرة، يحضر مشهد جدتي في عينيه وهي تُقبل بلهفة عليه وعلى عمي خضر.. إنهما فلذتا كبدها، كل ما خرجت به من هذه الدنيا بعد وفاة زوجها؛ هكذا.. بلا مقدمات، ها قد عادا إليها، لا ضباع نهشت جسديهما، ولا ابتلعتهما بئر.

يهز أبو محمود رأسه، ماسحاً دمعته، ثم يزمّ شفتيه، ويضحك أخيراً: إيه! راحت علينا هذه السنة؛ خضر رفض الذهاب إلى المدرسة، ولم أذهب تضامناً معه!

مخطط تمكين اليهود من فلسطين

عدنا إلى المدرسة سنة 1947م، لكن هذا العام شهد تصعيداً خطِراً في الصراع بين اليهود والفلسطينيين. كانت عصابات الهاغاناه وشتيرن والأراجون قد تمكنت، سلاحاً وعتاداً ومستوطنات – برعاية وحماية بريطانية طبعاً – وصارت تهاجم القرى الفلسطينية، عياناً بياناً. كنا نرى مصفّحات اليهود تمرّ في قوافل على جسر السوافير، فيها نحو سبع دبابات، عليها مدافع رشاشة، فنسارع، نحن الأطفال، إلى رجمها بالحجارة، وأحياناً ينزل بعض اليهود من مدرعاتهم، فيلاحقون الأطفال لضربهم، تخويفاً للبقية، ثم يكملون مسيرهم.

لم أكن أدرك شيئاً عن حقيقة هذا الصراع في ذلك الوقت، كان خالي محمد يعمل مسّاحاً – في تخطيط الأراضي – وهو وكل الفلسطينيين العاملين في المساحة، حينها، كانوا يعملون لمصلحة اليهود والناس لا يدرون؛ فقد كانوا يتبعون الحكومة البريطانية، والشركات التابعة للحكومة البريطانية تأمرهم بتخطيط فلسطين من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب؛ لتحديد الطرق والأراضي، وكل ما أنجزوه لمصلحة البريطانيين كان يُلقى في أيدي اليهود، هكذا ببساطة، ليخططوا لسرقة فلسطين بالورقة والقلم! يا للأسف!

من البديهي أن الحكومة البريطانية منعت الفلسطينيين من حمل الأسلحة، وأي واحد يحوزها منهم كان يُسجن ويُعذَّب، بينما كنا نرى اليهود بسلاحهم وعتادهم؛ في ذلك الوقت، كان لديهم أكثر من 65 ألف متدرب على القتال، غير الاحتياط.. نحو 130 ألف مسلح مدرّب، تخيلي!

 

قضاء غزة، وتظهر القرى التي هُجِّر منها أهلها سنة 1948م

(الخريطة من موقع دائرة شؤون اللاجئين - منظمة التحرير الفلسطينية)

 

حقيقة الضابط عزت

يصمت أبو محمود، يلملم شتات النكبة، يمسح عينيه الدامعتين. تتغير لهجته، فيبدو كمن يسرّ بمعلومة خطِرة لم ينتبه إليها من قبل. الغريب أن بعض المدربين وفدوا علينا من الخارج عندما زادت هجمات اليهود. وأذكر أن رجلاً ادّعى أنه ضابط يوغسلافي جاء من يوغوسلافيا لنصرة القضية الفلسطينية، كانوا ينادونه الضابط عزت، حضر إلى السوافير، مدّعياً أنه سيشرف على تدريب أي شخص يملك سلاحاً. وحينها، أخرج الفلاحون– بشجاعة وسذاجة في آن واحد – كل ذخيرتهم من البنادق والمسدسات، وكانوا عشرة تقريباً، من عائلتي،  أذكر خالك شقيق أمك عبدالرحيم صالح، كان لديه مسدس، وأذكر أن عمي عبد الحميد الذي كان يملك بندقية، أما دار عفانة، فكان ثلاثة منهم من حمَلة البنادق؛ عموماً، كان عدد الأسلحة قليلاً جداً. لم يطُل مقام الضابط عزت، اختفى بعد ذلك بأسبوعين. وهذا ما جعلنا نشك لاحقاً في أنه مجرد ضابط استخبارات يهودي جاء يحصي عدد البنادق المتوافرة في القرية، ومَن يحسن استخدامها من الرجال؛ لتمكين اليهود من وضع مخططهم النهائي للهجوم على القرى، والاستيلاء عليها.

من طينة بلادك...

كنا نسمع عن الهجمات اليهودية على القرى الفلسطينية، لذا، لما هجم اليهود على قرية بيت دراس[9] تنادى الناس، فخرج لهم السوافيرية، وخرج لهم أهل كرتيا، وحاصروا اليهود وهزموهم. وأذكر قصة اشتهرت عن رجل من بيت دراس، اسمه عطية داود، وكان لحاماً، لم يكن يحمل بندقية، فحارب بساطوره... استخدم الناس كل المتاح في مواجهة اليهود المسلحين. وفي هذه المعركة لم يستشهد أحد من السوافير.

يصمت أبو محمود قليلاً، فأستعيد هنا مشهداً أحبه، عندما اجتمعت بعائلة زوجي – من بيت دراس – وسأل كبيرهم أبو مثقال عني، قالوا له إن زوجة ابننا من السوافير الغربية، فحياني واضعاً يده على موضع قلبه قائلاً: أهلاً وسهلاً بأهل الشرف والمروءة، أهل السوافير الغربية الذين حاربوا معنا في معركة بيت دراس ونصرونا، نحن منكم وأنتم منا. ابتسمت حينها خجلاً، تذكرت المثل الفلسطيني الذي تستشهد أمي دوماً به "من طينة بلادك ليس ع خدادك". أينما حل الفلسطيني، فهو بين أهله، ذاكرتهم الواحدة تجمعهم في النهاية، ولو كانوا في الشتات.

يتابع أبو محمود، مستذكراً سلاسل المعارك التي شارك فيها السوافيريون، مناصرين قرى الجوار.. معركة أُخرى أذكرها، هي معركة جولس[10]، هبّ الناس فيها، كان عمي علي وخالي إسماعيل ممن شاركوا في المعركة، ولأنهما يطلقان الرصاص من البنادق وقوفاً، لا منبطحين كالآخرين، أصيب عمي علي برصاصة في بطنه، فأعادوه إلى السوافير مصاباً، لكنه لم يستشهد حينها، وإنما استشهد بعدها بأشهر، في أثناء ارتحالنا بين القرى بسبب الحرب، ودُفن في قرية جباليا.

"عمك علي هذا كانت تبكي عليه جدتك مريم كلما سمعت صباح تغني في الراديو (يا حبيبي يا علي.. يا كاويني يا علي)". أذكر هذه الإضافة من أمي التي كانت رضيعة عندما هُجّروا من البلد، كان أخوالي وخالاتي كُثراً، فأنساهم الرعب والطخ إياها، نائمةً بوداعة في سريرها الخشبي، عادوا إليها فوجودها كما هي، حملوها بسريرها الذي ستتربى عليه ثلاثة أجيال من أحفاد العائلة لاحقاً. تضيف أمي: "عندما وسّع الله على أهل جباليا وعمروا دورهم لاحقاً، حفروا، فوجدوا جثمان عمي علي كما هو، كبّر الناس وهللوا.. الله يرحم شهدانا".

أرى في خال أبي "إسماعيل"، وعمه "علي" شجاعة الشباب، وطلب الحق، وأدرك أن جدتي فاطمة اختارت اسم إسماعيل لأبي تيمناً بأخيها الذي أحبته حباً جماً. يذكر أبي قصة أُخرى عن خاله إسماعيل: قاتل خالي إسماعيل في معركة نقبة قرب قرية عراق سويدان، منعته أمه من الخروج وغلقت عليه الأبواب، فلطم خده وقال لها: بدك يانا ما نحارب ونقعد مع النسوان؟ ثم أخرج بندقيته وأطلق رصاصة على الباب فأصابته. خافت أمه وتركته يخرج، فقاتل مع مَن قاتلوا. لما وصل إلى الفالوجة، أمسك به الجيش المصري – الذي كان وصل حينها ضمن جيش الإنقاذ – سحبوا منه السلاح واتهموه بأنه جاسوس يعمل لمصلحة اليهود وسجنوه. حينها، تدخّل مختار الفالوجة بنفسه وقال لهم إنه رجل شهم شجاع، مشهود له بالاستقامة ويعرفه كل الناس. فأفرج عنه المصريون، لكنهم صادروا سلاحه وأعطوه إيصالاً به. فقد خالي إسماعيل سلاحه؛ فالمصريون لم يردوه إليه أبداً. كانت تلك حيلتهم لجمع الأسلحة من المقاتلين الفلسطينيين بدعوى حفظ الأمن!

بمرورالأيام، صارت المقاومة أصعب فأصعب على الناس بسبب قوة اليهود ودعم البريطانيين لهم، وقلة العتاد والسلاح والخبرة العسكرية، وفشل جيش الإنقاذ العربي. خرجنا من السوافير في 19 حزيران/يونيو، حسبما أذكر، تحت ضرب النار من اليهود لتخويف الناس ودفعهم إلى الهرب دفعاً.

 

* أجرت اللقاء وأعدّت المادة: أمل إسمـاعيل.

[1] عادل مناع، "نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2015)، ص41.

[2] بلغت مساحة السوافير الغربية 25 دونماً، أما عدد سكانها فبلغ 1030 نسمة سنة 1945م، وكانت أكثر السوافيريات الثلاث سكاناً بسبب موقعها على الطريق العام (الموسوعة الفلسطينية).

[3] توفي جدي – والد أبي – وقد بلغ بالكاد الثالثة والعشرين، في إثر مرض خطفه خطفاً، أما والدي فكان رضيعاً في شهره السادس.

[4] يذكر أكثر من موقع أرشيفي أن بقايا المضخة والبئر ما زالتا موجودتين في السوافير الغربية حتى يومنا هذا.

[5] مقام الشيخ محمد السفاري، الذي ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي – رضي الله عنهما.

[6] يقول المثل الشعبي الفلسطيني عن الشخص الثري: إله حصّاد ومغَمّر.

[7] بلغ عدد الطلاب المسجلين سنة 1945م  في هذه المدرسة 280 طالباً، وفقاً للمراجع التاريخية.

[8] قرية تقع شمال غربي مدينة الخليل، وتبعد عن مركزها 31 كلم.

[9] تقع قرية بيت دراس في الشمال الشرقي من مدينة غزة، على مسافة 46 كلم منها، بلغت مساحة الأراضي التابعة للقرية 16.357 دونماً (الموسوعة الفلسطينية).

[10] قرية جولس تقع على مسافة 29 كلم إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة. بلغت مساحة أراضيها 13.584 دونماً، منها 350 دونماً للطرق والأودية (الموسوعة الفلسطينية).

Read more