Year of Teel Tragedy
Date: 
August 05 2022

منذ زمن، سألت جدي وجاري صديق جدي وعم أبي وأخته عن أحداث مضت، وفي أي عام حدثت، فكان جوابهم: في عام التيل، أو قبل التيل، وربما بعد التيل. ظللت أسأل نفسي عن سرّ هذه السنة وذكراها، أهو مؤلم أم مفرح؟ وتمنيت الأخيرة طبقاً لفطرة طفولتي حتى ذهبت الطفولة مني وعصف السؤال ذاته في ذهني مراراً وتكراراً، إلى أن زرت جدتي حليمة جحشن" أم عمر"، ذات الـ 99  عاماً، وسألتها بجدية هذه المرة عن سرّ تلك السنة، إلّا إن الجواب خان الطفولة وشيئاً، بل أشياء من المستقبل، بعد أن علمت بأن التيل مجزرة تمسّ الدافع الفطري للإنسان، وهو دافع العطش.

 

قرية حلحول على بعد 30 متر من مدينة الخليل، مسجد النبي يونس، 18 أيار، مايو 1940، مجموعة ايريك واطسون.

 

تغيب مجزرة التيل عن المرجعيات والأدبيات، لكن الكاتب محمد أبو ريان وثّق في كتابه "حلحول بين الماضي والحاضر" هذه المأساة، ووردت عدة معلومات في هذه المقالة من هذا الكتاب المهم.

في صيف 1939، وفي ظل الانتداب البريطاني الغاشم، ازداد عدد المقاومين الفلسطينيين ضد الانتداب في مدينة الخليل وقراها، ومن ضمنها قرية حلحول التي تقع شمالي الخليل، وازداد حقد الانتداب، فقرر رئيس الكتيبة في حلحول  دوغلاس غوردون الانتقام، فأصبحت الحياة مقابل تسليم الأسلحة، والموت يلاحق سكان القرية من كل الاتجاهات، حتى أنه وضعهم في مربع مكون من ثلاثة أضلاع، مخالفاً بذلك قانون الكون والهندسة. رجال ممنوعون من الحصاد، ونساء مشردات في الخلاء، وأطفال رضّع جياع، ومع هذا، فإن مهندس العملية لم يوفَّق في كسر صبرهم وبناء هدفه! حتى تملّكه جنون الموت، فقام بحشد رجال القرية، ما يقارب 150 رجلاً، ثم سيّج عليهم سياجاً حديدياً على هيئة مربّع مروّع، مربع الظلام، من دون تعريشه بغطاء، ولا فرشه بسجاد، أو حتى حجارة من السماء، وعلى أرض الشوك أجلسهم، وفوقهم لهيب الشمس يحرقهم من دون رحمة، والهدف كان تعطيشهم وتجويعهم وحرقهم، ثم الممات، وهل بعد هذا كله حياة؟ السؤال  لبريطانيا، وليس للقارئ، بريطانيا التي تحب الحياة!

أدبرَ اليوم الأول مبطِئاً، وتلاه الثاني مبعداً، وجاء الثالث  ظلماً برفقة النزاع ، وكان لهيب أشعة الشمس يدوّي في جسد رجال حلحول كدويّ قنبلة هيروشيما في النصف الأول من دقيقتها الأولى، طلبهم للماء محرّم والطعام مرفوض، حتى جفّ أول جسد، بعد أن حرقته حرارة الشمس، فراح شهيداً؛ تناهى إلى مسامع النساء خبر سقوط الضحية الأولى، فهرولن في سباق مع الزمن لإيصال الماء والطعام، لكن الماء سُكب أمام أعينهن، وأجواف رجالهن على التراب، حتى ركض الرجال، ومن خلف السياج يلعقون التراب لعلهم يستشفون شيئاً من رطوبته، ووسط هذه الحالة تعرضت النساء للجَلد بالسياط والتعذيب وإطلاق النار، أما الضحيتان التاليتان فكانتا في اليوم الخامس لأخوين خططا للوصول الى الماء مقابل أن يرشدا الجنود الإنكليز إلى بنادقهم، وعندما وصلا بحراسة الجنود البريطانيين، ألقيا بنفسيهما في داخل البئر، فأطلقوا عليهما رصاصات غاشمة، ثم خرجا جثتين هامدتين![1]

في اليوم التالي، أخبر رجل من المحاصرين الجنود أن لديه بندقية، فسار بحراسة الجنود البريطانيين إلى عقد جديد من البناء في أطراف القرية وبداخله ماء، ربطوه بحبل ليُخرج البندقية، لكنه تنعّم وتنعّم بالماء وشرب، وعندما شعروا بذلك، سحبوا الحبل وأخرجوه، ثم ضغطوا على بطنه بأحذيتهم لإخراج الماء، فأردوه شهيداً!

أحد المحاصرين أخبرهم عن وجود بندقية في بئر ضحل يُستخدم لسقاية الدواب، وعند وصولهم رمى بنفسه وشرب حتى ارتوى وبلّل ونقع ملابسه قصداً لعله يعود إلى أصدقائه بهدية رطوبة تبلل ريقهم الجاف، علموا بكيده، فأخرجوه وداسوا على بطنه وضربوه، ثم أعادوه الى التيل فاقداً الوعي، وهناك تجمهر أصدقاؤه، فأشار بإصبعه إلى ملابسه، فلعقوها واشتموا شيئاً من رائحة ماء مكدّر!

وفي اليوم السادس من أيام التيل، قام رجل من مكانه وأخبرهم بوجود بندقية في بيت صديقه، فهددوه بالقتل إذا كذب كالبقية، لكنه أقسم لهم بأنها موجودة، وعندما خرج معهم إلى بيت صديقه، بحث عنها ليجد أن زوجة صديقه أخفتها في الخلاء، خوفاً على زوجها، لكنها صدقته بوجود البندقية، فعثروا على رصاصات مكان البندقية فصدقوه، عادوا به الى التيل، وأكرموه كرم الجائع المحتل، وضعوا أمامه الطعام والماء البارد على مرأى من المحاصرين، وأحياناً كانوا يرمون الفواكه أمامهم ويصبون الماء لتضييق الخناق عليهم!

أحد الرجال أخبرهم بمكان بندقية، واصطحبهم إلى مكان قريب كله سلاسل مبنية من الحجارة المتعرجة غير المنتظمة، فأخذ يقفز بين سلسلة وأُخرى لعله يتوه منهم، ووجد نفسه في بئر ماء، فهرب، لكنهم أردوه شهيداً.. حتى وجد نفسه في موته!

أما مبيّض النحاس، فكان عاملاً مصرياً قدِم إلى حلحول من أجل تبييض طناجر أهل القرية، لكنه وجد نفسه بعد أيام في حصار التيل، لم يجد ملجأً له سوى مسجد النبي يونس، وهو المسجد الذي تشتهر به قرية حلحول، اصطحبهم إلى هناك، وقبل أن يقول أي شيء طلب منهم قارورة ماء مقابل الإفصاح، أحضروها له، فشرب وتوضأ، ثم استسلم وبكى: أنا غريب الديار اعتقوني لوجه الله، فكان الرد بقتله في بيت الله!

مرت عشرة أيام، وكان يرتقي الشهيد تلو الآخر على تراب بلده جرّاء الظمأ، إلى أن وصلت أخبار التيل (السلك الشائك) إلى الأسماع في المناطق المجاورة وكل العالم، عندها تحرك السيد المناضل أجمد هرماس واتصل بمدير المعارف الإنكليزي جيروم فرل، بواسطة مفتش المعارف شريف صبوح، وأطلعاه على الأمر وحثّاه على التدخل، فأحضر الصليب الأحمر ومعه الماء والطعام والدواء، لكن الكتيبة البريطانية رفضت التدخل رفضاً قاطعاً، حينها، قال جايلس بك: "ستظل مأساة حلحول وصمة عار على جبين الإمبراطورية البريطانية، لا يمكن حجبها عن الأنظار في القرن العشرين."[2]

بعد ذلك، شكّل المحاصرون وفداً للتفاوض مع دوغلاس وجنوده، للتصريح عن أماكن البنادق التي لم تكن موجودة أصلاً، فاضطر أهالي القرية إلى جمع المال وشراء بنادق وتسليمها للانتداب، بعد أن راح ضحية التيل سبعة عشر شهيداً، ثم حضر طبيب الجيش برفقة طبيبين عربيين، أحدهما مصري، فأخبر القائد بخطورة الحالة، وبأن الموت يحيط بالجميع لا محالة، وأن أكبادهم جفت، ومن الصعب أن تُكتب لهم الحياة بعد ذلك، فنصحهم بتقديم اللبن والماء في البداية، لكن القائد لم يكترث لكلام الطبيب، وتبادل معهم الكلمات القاسية واللوم. وبعد 14 يوماً، وبعد أن حقق دوغلاس ما أمره به شيطانه، وقف أمام الجميع قائلاً:

أيها الرجال الأبطال، لقد أكبرت فيكم هذه الروح، وأدهشني صبركم ، فأنا آسف للنتيجة المؤلمة التي خلّفتها الإجراءات القاسية بحقكم بموجب الأوامر الصادرة إليّ، وكان عدم انصياعكم للأوامر العسكرية وإصراركم هما السبب في موت بعضكم على الطريقة التي أحبها، وقد حرّك ما تحملتموه من جوع وعطش قوة الحجر، فكيف لا يثير إعجابي، وسأظل أذكر ما حييت ما حدث لكم، أنا اللورد ابن اللورد دوغلاس وخادم الإمبراطورية البريطانية التي أحبها بقدر حبكم لوطنكم هذا الذي رأيته؛ مرة أُخرى أحييكم من خلال إعجابي وتقديري. وبعد 14 يوماً، انتهى التيل، وانتهى حريق الشمس، وبدأ ندى حلحول يتسرب الى أجوائها، وخرج مَن كان في الطوق، وقد بدأ البخار يخرج من أجسادهم، وذاكرتهم ما زالت تحترق بلهيبها. المستر فرل الإنكليزي، مدير المعارف في فلسطين، قال: 

"ستظل واقعة حلحول تلطخ جبين بريطانيا العظمى."[3]

 

[1] عرفات حجازي، "مدينة الخليل والتحدي الصهيوني" (الكويت: دار الصباح، 1985). 

[2] محمد أبو ريان، "حلحول بين الماضي والحاضر"، رابطة الجامعيين (الخليل: دائرة البحث والتطوير، 1993). 

[3] المصدر السابق.

Read more