صمود الفصائل السياسية الفلسطينية: نظرة يومية من مخيم نهر البارد
The Endurance of Palestinian Political Factions: An Everyday Perspective from Nahr el-Bared Camp
Perla Issa
Washington: Institute for Palestine Studies and University of California Press, 2021. 186 pages.
تعيد بيرلا عيسى في كتابها هذا، المؤلف من مقدمة وستة فصول، إلى الواجهة طرح تساؤلات تتعلق باستمرارية وجود الفصائل الفلسطينية في مخيمات اللجوء في لبنان على الرغم من السخط الشعبي المحيط بأداء هذه الفصائل على مختلف الصعد. وتطرح الباحثة عدة أسئلة عن حياة اللاجئين الفلسطينيين السياسية في لبنان، أبرزها كيف تمكّنت الفصائل السياسية التي سبق أن فقدت شرعيتها في أعين اللاجئين من إعادة إنتاج ذاتها؟ وكيف حافظت تلك الفصائل على مركزية مكانتها في حياة اللاجئين على الرغم من الانتقادات اللاذعة التي تتلقاها من اللاجئين أنفسهم؟ وكيف احتكرت التنظيمات الفلسطينية التمثيل السياسي داخل المخيمات؟
وبهدف الإجابة عن تساؤلاتها البحثية، اختارت عيسى مخيم نهر البارد الواقع في شمال لبنان أنموذجاً يمثل البيئة الفلسطينية في لبنان، اعتماداً على منهجية بحث إثنوغرافية. فانغمست لنحو 9 أشهر في تفصيلات الحياة اليومية لإحدى العائلات الفلسطينية في المخيم، وحاولت فهم الدينامية القائمة بين حياة اللاجئين من جهة، والفصائل الفلسطينية من جهة أُخرى، من خلال معايشة التفصيلات اليومية للطرفين، وتتبُّع كيف يمكن لتلك التفصيلات أن تتفاعل مع كيانات الفصائل لتعيد تشكيل وإنتاج الواقع السياسي في المخيمات. واعتمدت الباحثة في عملها على مقابلات أجرتها مع لاجئين فلسطينيين من مختلف الفئات العمرية والجندرية: الجيل الذي عايش وانخرط بشكل مباشر في صفوف الثورة الفلسطينية، وجيل ما بعد الثورة الفلسطينية.
هدفت عيسى إلى إيضاح أن تفصيلات معينة في حياة اللاجئ اليومية هي التي تسمح للفصائل بأن تبدو كيانات مؤطرة ضمن نطاق أيديولوجيتها الحزبية مع أنها في واقع الأمر ليست كذلك. وتصف الباحثة الفصائل الفلسطينية بطريقة مثيرة للاهتمام فتشبّهها بـ "المباني الفارغة"، وتخلص إلى أن تلك الفصائل تمكنت من إعادة إنتاج ذاتها يومياً لأنها تُظهر نفسها على أنها موجودة بشكل مستقل عن أعضائها، الأمر الذي يضمن لها استمرارية الوجود حتى إن لم يكن هناك منتسبون إليها. وترى الكاتبة أن التركيز على تفصيلات الحياة اليومية للاجئين يبيّن أن الفصائل الفلسطينية تتمتع بطبيعة ذات وجهين، وأنها عبارة عن "شبكة من العلاقات الرخوة" بين الناس، وأن بعضها مرتبط ببعض بدرجات متفاوتة من الثقة والتماسك، مع أنها من الخارج تبدو هيكلاً يُعرّف عن نفسه من خلال الأيديولوجيا.
هذا الكتاب عملٌ أكاديمي مميز تفرّدت فيه الكاتبة بمناقشة موضوع الفصائل الفلسطينية انطلاقاً من منظور العناصر والأعضاء المنضوين تحت رايتها، وأولئك الذين ليسوا منتمين إليها، وذلك على عكس الدراسات والأبحاث التي تنطلق، في أغلبيتها، في تركيزها على طبيعة الفصائل، من وجهة نظر قيادات الفصائل والنخب المحيطة بها. وتجدر الإشارة إلى أن الباحثة حققت إنجازاً حقيقياً من جهة العلاقة الناشئة بينها وبين موضوعات بحثها (الأفراد المقيمون في المخيم)، إذ، ومثلما تشرح في كتابها، هي فلسطينية ولدت في لبنان ولم تعش في مخيم وأمضت معظم حياتها في الغرب، لكنها مع ذلك استطاعت خلق علاقة حقيقية مع محيطها الإثنوغرافي، الأمر الذي سمح لها بالوصول إلى تفصيلات دقيقة وحميمة عن حياة اللاجئين الذين ما كانوا ليشاركوا بهذا الانفتاح مع أشخاص يصنفوهم "غرباء" (outsiders). فضلاً عن ذلك، فإن اختيار الباحثة مخيم نهر البارد في حد ذاته، مثّل قيمة إضافية مهمة للبحث، ذلك بأن الحرب التي شهدها المخيم في سنة 2007 نتج منها تواري سلاح التنظيمات عن المشهد اليومي. ومع أن هناك إيماناً قوياً لدى اللاجئين بأن ما يضفي شرعية حقيقية على وجود هذه الفصائل هو السلاح وتبنّيها للكفاح المسلح، فإن سؤال شرعية هذه الفصائل يصبح أكثر تعقيداً عندما تخسر هذه الحجة، ومن هنا كانت أهمية إجراء البحث في مخيم نهر البارد وفي تلك الحقبة بالذات.
ومن الجدير بالذكر أن الحرب التي شهدها المخيم وتداعيتها على العلاقة بين اللاجئين والفصائل لم تكن واضحة في الكتاب. ومع أن حدث الحرب في حدّ ذاته لم يكن ضمن نطاق البحث، إلّا إن تقديم بعض التفصيلات عن الموضوع كان سيساهم في فهم القارئ للعوامل المتغيرة والثابتة التي تحكم العلاقة. على صعيد آخر، تؤكد الباحثة في سياق كتابها أن العلاقة بين اللاجئين والفصائل ليست محكومة بطبيعة المنافع المادية التي يتلقاها المنتسب إلى التنظيم، ذلك بأن النظر إلى الموضوع من تلك الزاوية يجيب عن سؤال لماذا ينتسب الفلسطينيون إلى الفصائل، لكنه لا يقدّم إجابة شافية لمنهجية اختيار الفرد لفصيل ما، "وإلّا لانتسب كل الناس إلى التنظيم الذي يدفع أعلى راتب"، علماً بأن هذا العامل يؤدي دوراً في تشكيل العلاقة بين الأفراد والفصائل، وهو ما يقودنا إلى طرح السؤال عن مكانة الفصائل الفلسطينية في المخيم وطبيعة العلاقة بينها وبين اللاجئين قبل تدمير المخيم، لأن نهر البارد، دوناً عن سائر المخيمات في لبنان، عُرف ما قبل حرب 2007 بأنه كان بمثابة شريان اقتصادي نابض في شمال لبنان. وتؤكد التقارير أن أكثر من 60% من سكان المخيم كانوا يعتاشون من عملهم داخل المخيم، وأن هذا المخيم هو الوحيد في لبنان الذي كان يضم أكثر من 10 محلات لبيع الذهب،* إلّا إن حرب 2007 فرضت تغييراً جذرياً على واقع المخيم وسكانه، وعليه، وبما أن السكان في نهر البارد كانوا يتمتعون ببحبوحة اقتصادية نسبية، فإن هذا الأمر كان في إمكانه أن يجعل من الفصائل الفلسطينية تفصيلاً هامشياً في حياة سكان المخيم، وهو ما لم يتم التطرق إليه في الكتاب.
إن البحث الذي قدّمته عيسى يساهم في إعادة تسليط الضوء على الحياة السياسية في المخيمات والدور الذي يضطلع به اللاجئون في المشهد السياسي الفلسطيني، وخصوصاً في الحقبة التي تلت خروج منظمة التحرير من بيروت ومرحلة ما بعد اتفاق أوسلو، بينما اقتصر جلّ الأبحاث الأكاديمية الأُخرى على الشق الإنساني والسوسيو-اجتماعي للاجئين الفلسطينيين في مخيمات لبنان، في إمعان على إظهار المخيمات كأنها محيّدة سياسياً عن المشهد الفلسطيني العام، مع أن المخيمات تفاعلت مع جميع الأحداث السياسية الفلسطينية الداخلية والخارجية. كما أن البحث يزودنا بتحليلات وقراءات غنية عن العلاقة التي تجمع بين الفصائل الفلسطينية واللاجئين، وبمعلومات عن فترة تاريخية تكاد تكون مهمشة من حياة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
* هبة عبّاني، "خريطة اقتصادية لمخيم 'البارد' "، "الأخبار" (بيروت)، الخميس 6 أيلول / سبتمبر 2007، في الرابط الإلكتروني.