معركة جنين الكبرى 2002: التاريخ الحي
جمال حويل
بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2022. 189 صفحة.
ينبش جمال حويل في كتابه هذا التاريخ الثري للمقاومة الفلسطينية في واحدة من أكبر محطاتها وملاحمها وربما مفاصلها الأهم بعد اتفاق أوسلو، وبعد أن تم حشر الحركة الوطنية الفلسطينية بين هويتين: سلطة لإدارة الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، وحركة وطنية تتنازعها تيارات واتجاهات على زعامتها وشرعيتها، في عالم ومحيط عربي متغيرَين بقوة.
في خمسة فصول وملاحق مدعومة بالمراجع وبمقدّمة بقلم عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" الأسير مروان البرغوثي، يقدم حويل في هذا الكتاب معركة مخيم جنين من موقع المشارك في جميع تفصيلاتها العسكرية والسياسية والإعلامية والاجتماعية، مستخدماً أسلوباً سلساً وموضوعياً، ومقدماً التفصيلات المتعلقة بالفدائيين الذين صنعوا هذه المعركة بأسمائهم، ومكانتهم في أطر المقاومة والمخيال الشعبي، وتجاربهم العسكرية والسياسية والشخصية، وألقابهم التي التصقت بهم في أحياء المخيم وأزقته؛ فلكل اسم حكاية وسيرة وأحلام وهدف اجتمعت كلها في صورة المخيم الذي لا يقبل تكرار تجربة النكبة واللجوء الأولى في سنة 1948.
أسست تلك المعركة لصورةٍ تلاحم فيها المقاومون، أفراداً في الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية، أو ضباطاً وأفراداً من الأجهزة العسكرية والأمنية للسلطة الفلسطينية، مع الأهالي في المخيم، صانعين جميعاً معركة صمودهم.
يقول البرغوثي في تقديمه للكتاب: "قدّم حويل تحليله للتجربة بما يتجاوز بُعدها العسكري ليصل إلى المعنى الإنساني الملحمي، إذ بيّن لنا كيف انتصرت الروح والإرادة والإيمان على فارق الإمكانات الشاسع بين المقاومة والاحتلال." ويضيف أن "الإرادة الوطنية هي سلاح المقاومة الفتّاك في مواجهة تفوقهم [أي الإسرائيليين] العسكري" (ص 3)
وعن التركيبة القيادية للمخيم ينقل حويل في كتابه عن مصادر أُخرى، على الرغم من معرفته بالتفصيلات، أن منطقة جنين، وتحديداً المخيم، شهدا إعلان أطر وأجسام عسكرية مثل "كتائب شهداء الأقصى" التابعة لحركة "فتح"، و"سرايا القدس" التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، و"كتائب القسّام" التابعة لحركة المقاومة الإسلامية "حماس". لكنه عندما يروي أحداث وتفصيلات المعركة والقتال والصمود والبطولة لا يسمي أي مقاوم إلّا باسمه الشخصي ولقبه باستثناء حالتين لم يذكر اسمهما ولا لقبهما لأسباب تتعلق بخروجهما من المخيم بأوامر تنظيمية.
وعن صعوبة الفصل بين الكاتب والمقاوم المشارك في التجربة أشار حويل إلى صعوبة الإدلاء بكل ما يمكن معرفته من "المعلومات الحساسة" عن المقاومة، أو عن مقاومين شاركوا التجربة ولا يرغبون في ذكر أسمائهم أو إضافة معلومات عن تجربتهم في مخيم جنين بعد خروجهم من السجن الإسرائيلي، وصعوبة تجميع المصادر لغياب التوثيق الرسمي، وتشوش روايات أُخرى متأثرة بـالتحيز الحزبي أو الفصائلي. وقد استبعد الكاتب أسطرة بعض الأحداث، ولم يركن إلى المبالغات الشعبية لصورة البطولة العامة في الصمود والمقاومة الشعبية.
تحتل معركة جنين في إطار عملية اجتياح دولة الاحتلال لمدن الضفة تحت مسمى عملية "السور الواقي" في نيسان / أبريل 2002، مكانة مميزة في رأي الكاتب، لترابط أحداثها مع أحداث معركة نابلس التي دارت في حي القصبة ومخيم بَلاطة شرقي المدينة، وكذلك معركة بيت لحم وحصار المقاومين في كنيسة القيامة قبل إبعادهم، وحصار الرئيس الراحل ياسر عرفات في مقره في رام الله، والمعركة على شرعية المقاومة الفلسطينية برمّتها.
كانت المعركة في جنين معركة جيش احتلال وتشكيلاته العسكرية بقيادة أعلى مستوى عسكري إسرائيلي، فقد شارك في الإشراف على ساحة المعركة رئيس الأركان شاؤول موفاز وكبار مساعديه، ولا سيما: موشيه يعلون وأفيف كوخافي، فضلاً عن وزير الدفاع بنيامين بن - إليعيزر (فؤاد) ورئيس الحكومة آنذاك أريئيل شارون.
ومعركة جنين في سنة 2002، ليست غريبة عن السردية الفلسطينية لتلك المنطقة المقاومة في جميع العهود، منذ العهد الصليبي، ثم حملة نابليون في سنة 1799 الذي انتقم من صمود المدينة بقصفها بالمدفعية، وكذلك في العهد العثماني.
ومثلت جنين ومنطقتها نموذجاً لمقاومة الاحتلال البريطاني، فقد استشهد الشيخ عز الدين القسّام وأربعة من رفاقه في سنة 1935 في أحراش قرية يعبد في معركة بطولية بعد أن أطلق مقولته "هذا جهاد نصر أو استشهاد" التي يستلهمها المقاومون إلى اليوم. وطبعاً لا ننسى المقاومة التي قادها الشيخ فرحان السعدي خلال ثورة البراق في سنة 1929، والذي أعدمه البريطانيون في سجن عكا في سنة 1937 وهو صائم. علاوة على ذلك، دحرت جنين في سنة 1948، العصابات الصهيونية بعد معركة هاجم خلالها 4000 جندي صهيوني المدينة التي تم تحريرها بمساعدة جنود من الجيش العراقي.
ويُسمّي الكاتب الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية التي تأسست في منطقة جنين ومخيمها ومنها: "الفهد الأسود" التابعة لحركة "فتح"، و"النسر الأحمر" التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، و"كتائب عز الدين القسّام" التابعة لحركة "حماس"، وكذلك مجموعات "عشاق الشهادة" لحركة " الجهاد الإسلامي"، والتي انطلقت من قرية عنزة جنوبي جنين قبل أن تُطلق "الجهاد" اسم "سرايا القدس" على تنظيمها المسلح. ويربط الكاتب الحراك الوطني بمتغيرات القضية الفلسطينية والتحديات التي واجهتها في عدة مراحل ومنعطفات، كي لا يغيب التاريخ الفردي للبطولة، ولا التاريخ الوطني العام لمعركة مخيم جنين من سياقاته.
عن هذا الجهد الأكاديمي الذي يوثق لشهادة ثرية بمهنيّتها ومعلوماتها من موقع المشارك المحايد في صناعة التجربة والتأريخ لها، نقول إن الحديث عن تجربة المقاومة المسلحة في سياق التحرر هو أمر أصيل لدى أهل المنطقة التي عانت الاحتلالات والغزوات والآثار التي خلّفتها، من دون إلغاء الهوية والإرادة والسعي للحرية حتى مع أعتى استعمار استيطاني.
يُقدم جمال حويل إضافة مهمة إلى سرد التاريخ النضالي للمنطقة، أمّا معاني النصر والهزيمة، المعركة أو المجزرة، فيقرأها المهتم في متن الكتاب وحواشيه ومقدماته وجداول الأرقام والمعلومات.. وهي تستحق القراءة والتأمل واستخلاص العبر.