لم أقرأ، منذ زمن غير قصير، مذكرات فيها هذا القدر من الخروق؛ وهي مذكرات لم ينصرف صاحبها قبل صوغها إلى التأمل في تجربته لعله يقبس شيئاً من الحكمة المتأخرة والتبصر في مآلات تجربته بالذات. ويلوح لي أن عبد السلام جلّود ما برح ملازماً في الجيش الليبي، على ما كان عليه في سنة 1969، وما زال يصرخ هنا ويصيح هناك لعل الدنيا تستجيب لصرخاته فتثور وتنتفض. وفي الواقع، فإن الليبيين انتفضوا، لكن ليس مثلما يريد عبد السلام جلّود على الإطلاق. وكنا قرأنا جزءاً وافياً من هذه المذكرات في الحوار الذي أجراه غسان شربل ونشره في جريدة "الحياة"، ثم أعاد نشره في كتاب عنوانه "في خيمة القذافي"،[1] وها هي هذه المذكرات تصدر اليوم متضمنة النص الحرفي تقريباً لذلك الحوار.[2] والمألوف أن قيمة أي مذكرات تتلاشى إذا لم تُزِلْ الأستار عن الأسرار، وإذا لم تُمِطْ اللثام عن خفايا الأنام. وفي هذه المذكرات تحاشى عبد السلام جلّود الكلام على القرارات المسلية الحمقاء التي امتازت بها "ثورة الفاتح" في بداية عهدها مثل إغلاق محلات حلاقة الشعر وتزيينه، وإصدار جوازات سفر بالعربية وحدها، وإحراق جميع المطبوعات غير العربية بما في ذلك المراجع العلمية، وإسقاط كلمة "قل" من القرآن مثل "قل هو الله أحد" أو "قل أعوذ برب الفلق" لأن الإمام الفقيه معمر القذافي رأى أن كلمة "قل" هنا هي أمر للنبي محمد وليست من أصل القرآن.
إن السذاجة وقلة المعرفة والافتقار إلى الثقافة، وهي أمور ميزت تصريحات معمر القذافي ورفاقه آنذاك، ما فتئت موجودة في هذه المذكرات حتى بعد مرور خمسين عاماً على تلك الحقبة. فقد كان معمر القذافي يرفض أن يأكل القريدس (الجمبري) على مائدة الرئيس جمال عبد الناصر لاعتقاده أنه جراد، علماً بأن سكان الجزيرة العربية يأكلون الجراد بلذة. وكان القذافي لا يفرّق كوسيغين عن كيسنجر، وكثيراً ما شرح له عبد الناصر الفوارق. وكان يهاجم الاستعمار والاتحاد السوفياتي والإلحاد معاً من دون تمييز الصديق من العدو، الأمر الذي أتعب عبد الناصر كثيراً. وكان يمتنع من مخاطبة جورج حبش باسمه ويصرّ على مناداته "خضر" (جاورجيوس) مع ما في الاسمين من التباس أسطوري.[3] ومع ذلك، فلهذه المذكرات إيجابيات شتى، فهي كشفت أن معمر القذافي تسلّم منصور الكيخيا من الاستخبارات المصرية مباشرة بعد اختطافه (ص 90)، وأنه تسلّم عمر المحيشي من المغرب في سنة 1984 لقاء 200 مليون دولار في صفقة تعهدت فيها المملكة المغربية بتسليم المحيشي لقاء وقف ليبيا دعمها للبوليساريو. وتكشف المذكرات أن معمر القذافي تخلى عن "الجمهورية الصحراوية" في مقابل تخلي الملك الحسن الثاني عن دعم حسين هبري في تشاد (ص 191). ويقول عبد السلام جلّود متباهياً إن معمر القذافي هو الذي أعلن في سنة 1972 تأليف "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" (البوليساريو) لمقاومة الاحتلال الإسباني للصحراء الغربية (ص 185)، وإن "ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة نجحت في تحرير الصحراء الغربية من الاحتلال الإسباني" (ص 185)، ثم لا يلبث، بعد هذا التفاخر، أن يشرح كيف تخلى القذافي عن البوليساريو بمقايضة مذلّة. ومن بين ما كشفته هذه المذكرات أن عبد الرحمن شلقم هو الذي رتّب زيارة اليهود الليبيين للقدس في عيد الأضحى في سنة 1993 (ص 419)، كما أفاض جلّود في شرح طريقة خروجه من ليبيا إلى تونس ثم إلى صقلية برعاية قوات حلف الناتو (ص 415- 418) التي كثيراً ما كان يقدّ ويهدّ تحدياً لهذا الحلف ولقواته.
وفي المقابل، لا تكشف المذكرات أي شيء عن الإمام موسى الصدر مع أنه أفرد إحدى الفقرات لهذه القصة تحت عنوان "لغز اختفاء موسى الصدر" (ص 223). فبعد هذا العمر الطويل، أمَا كان عليه أن يكشف اللغز حقاً بحسب معلوماته، ولا يُبقيه مستوراً أو مطموراً؟ وحتى لو كان يجهل تفصيلات تلك الحادثة، فمن البدهي، في مثل هذه الحال، أن يفند رواية كاي بيرد في كتابه المهم "الجاسوس النبيل"،[4] والتي يقول فيها إن موسى الصدر قُتل بناء على طلب من محمد علي بهشتي، وهو أحد كبار رجال الجمهورية الإسلامية في إيران (قُتل بهشتي في 28 / 6 / 1981 في طهران)، وأن الذي نفذ عملية القتل هو خليفة حنيش زوج شقيقة القذافي ومعه عبد الله حجازي. وفي رواية أُخرى أن عبد الله حجازي والرائد عبد السلام سحبان هما مَن أطلقا الرصاص على الإمام الصدر في منطقة جنزور القريبة من طرابلس. وفوق ذلك لا تكشف المذكرات أي صلة للنظام الليبي الذي كان يحتل فيه عبد السلام جلّود موقع الرجل الثاني بعملية فيينا (21 / 12 / 1975) ضد وزراء النفط لدول الأوبك، والتي خطط تفصيلها وديع حداد وفؤاد عوض وكارلوس وولفريد بوزي، وكتب بيانها الذي أذيع باسم "ذراع الثورة العربية" الشاعر السوري كمال خير بك، كما تغاضى جلّود عن اتهام الاستخبارات الليبية بتفجير طائرة "يوتا" الفرنسية فوق النيجر في سنة 1989.
في ملاعب القذافي
واضح تماماً في هذه المذكرات أن اثنين لوّعا عبد السلام جلّود كثيراً: القذافي الذي سمّاه "الرجل الثاني" بينما كان فعلياً الرجل العشرين، وياسر عرفات الذي لم يُلقِ إليه بالاً إلّا حين كانت الأحوال ترغمه قسراً. وهذه المذكرات مكرّسة في كثير من فقراتها وصفحاتها للثأر من معمر القذافي وياسر عرفات. فهو يقول: "علمتُ أن الأخ معمر تخاذل في هذه اللحظة [ليلة انقلاب الفاتح من سبتمبر] وترك ضباطه وجنوده وذهب لينام في غرفته بالمعسكر" (ص 56). ويضيف: "بدأ معمر في وقت مبكر رحلة الخبث والخداع، فقد كان يتقمص شخصية الزاهد والملاك لإخفاء شخصيته الحقيقية بوصفه شيخ قبيلة ورجلاً سلطوياً من طراز الشخصيات المتعطشة للمال والسلطة" (ص 63 - 64). ولا يتردد جلّود في وصف القذافي بـ "الطاغية" (ص 76) بعدما كان زعيمه وقائده، ربما لأنه وجد أن صفة "الرجل الثاني" التي لازمته طوال عمره ضيقة عليه، فأراد الخلاص منها. والخلاص، في هذه الحال، يكون بتحطيم "الرجل الأول"، أو بإضفاء المدائح القدسية على "الرجل الثاني" على غرار ما نقله إلينا عن نائب رئيس جمهورية نيجيريا في مؤتمر الأوبك في الجزائر في سنة 1975 حين قال: "حينما كنتُ أستمع للرائد عبد السلام جلّود كأني كنتُ أستمع لصلاح الدين الأيوبي" (ص 110). وتتردد عبارات "الإرادة الإلهية" (ص 37) و"العناية الإلهية" كثيراً في هذه المذكرات (ص 63 و154 و417 على سبيل المثال) لتوحي كأن الملازم عبد السلام جلّود (الرائد بالترفيع) كان منذوراً، منذ بداياته، لأمر جلل. والواضح من فقرات هذه المذكرات أنه لم يكلّ عن محاولة إيجاد مكان ثابت له في معمعان التقلبات الليبية بأي طريقة وبأي ثمن. وكثيراً ما اعتقد أن الضرب هنا والرفس هناك واللبيط هنالك يجعل "الثورة الليبية" عالمية (ص 83)، ولذلك فإنه لا يتورع عن المباهاة بأن ليبيا قدمت المال والسلاح إلى إيران في حربها ضد العراق، وقدمت المال والسلاح أيضاً إلى الانفصالي جون قرنق، وساعدت الأكراد في شمال العراق، وقدمت الدعم العسكري إلى حركة تحرير تشاد، وهي أمور لا يمكن التباهي بها في أي حال. ويعترف، من غير أي خفر، أن محاولات ليبيا لإسقاط جعفر النميري في السودان استمرت بالتعاون مع جون قرنق (ص 224)، مع أن نظام معمر القذافي – عبد السلام جلّود هو الذي أنقذ حكم النميري في سنة 1971 حين احتجز طائرة بابكر النور وفاروق حمد الله وسلّمهما إلى النميري الذي أعدمهما مع الشفيع أحمد الشيخ وعبد الخالق محجوب وهاشم العطا. ويكشف جلّود أن دور ليبيا "كان أساسياً في التخطيط والتسليح بالتعاون مع القوى الثورية في قفصة" (ص 204). والمعروف أن ما سُمّي "انتفاضة قفصة" في تونس في سنة 1980 تخللتها ممارسات سياسية وإرهابية أساءت إلى فكرة الاحتجاجات المطلبية العادلة والمحقّة لعمال قفصة، وتلك الممارسات كانت من صُنع الاستخبارات الليبية آنذاك.
يتفاخر عبد السلام جلّود بالقول: "حاولنا تشكيل تنظيمات ثورية في المغرب وتشجيع الحركات الثورية والمعارضين المؤمنين بالعنف الثوري (...)، وقررنا القيام بما يشبه المغامرة حين طلبنا من هواري بومدين أن تقوم قاذفاتنا الاستراتيجية بعبور الأجواء الجزائرية لضرب الإذاعة المغربية والقصر الملكي وبعض الأهداف" (ص 188). وهذا الأمر يدل بوضوح وجلاء على "السلوك المغامر" الذي تسربلت به السياسة الخارجية الليبية في سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته، والذي أدى إلى كوارث ومصائب على الليبيين والعرب معاً. وهنا، يتبادر إلى الأذهان السؤال التالي: أين كانت تلك القاذفات الاستراتيجية في حرب تشاد التي لم تجد القيادة الليبية غير "المتطوعين" (لقاء المال) للدفاع عن شريط أوزو الحدودي؟ وهذا السلوك الساذج والمغامر الذي لا يقيم وزناً لموازين القوى وللأهداف المتلائمة مع الإمكانات أدى، فيما أدى إليه، إلى تقاطر الأفّاكين والمسوخ على ليبيا من كل حدب وصوب، فلم يبقَ إرهابي أو جماعة إرهابية إلّا اتصلت بليبيا ونالت الدعم الوفير من المال والسلاح: من أبو نضال (صبري البنّا)، إلى جبهة تحرير فطاني في جنوب تايلاند، وإلى الجبهة الوطنية لتحرير مورو في الفيليبين التي انشق عنها قاطع الرؤوس أبو سياف، فإلى الجماعات الانفصالية من طراز منظمة إيتا الباسكية وحركة أتشيه في أندونيسيا وغيرهما. ولمزيد من التبجح، زعم جلّود أن الثورة الساندينية في نيكاراغوا لم تكن لتنتصر لولا دعمه (ص 84)، وهذا الكلام هراء تام وانتقاص غير لائق من نضال شعب نيكاراغوا. وفي هذا السياق لا يذكر عبد السلام جلّود، ولو بالإيماء، عملية الهجوم على وزراء نفط دول مجموعة الأوبك في فيينا في 21 / 12 / 1975، ولم يُشر قط إلى كارلوس أو أنيس النقاش مع أنه كان يفاوض أنيس النقاش وجهاً لوجه في مطار طرابلس الدولي. وهذه العملية طلبها القذافي بنفسه من كمال خير بك ووديع حداد، وموّلتها ليبيا، ونقل حسونة الشايش، وهو أحد المسؤولين الليبيين آنذاك، الأسلحة إلى فيينا في حقيبة دبلوماسية. وشدد القذافي على ضرورة إعدام أحمد زكي اليماني وزير النفط السعودي، وجمشيد أموزيغار وزير النفط الإيراني، وهو ما لم يحدث.
الغريم ياسر عرفات
إن كلامه المتدفق على ياسر عرفات، وهو كلام غير صحيح وغير نزيه في الوقت نفسه، يعكس غيظاً قديماً منه. فياسر عرفات، مثلما هو معلوم، لم يكن يُلقي بالاً إلى عبد السلام جلّود، ولم يعتبره، ولا مرة واحدة، وسيطاً محايداً أو لاعباً في الملعب الفلسطيني – السوري – اللبناني لأنه كان يستقوي على حركة "فتح" إمّا بالمنشقين عنها من أمثال مجموعة أبو خالد العملة، وأبو صالح، أو جماعة صبري البنّا، وإمّا بالمناوئين لها مثل الجبهة الشعبية – القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل. وكان القذافي طلب مبكراً من "فتح" أن تتبنّى "الكتاب الأخضر"، لكن صلاح خلف (أبو إياد) سخر من هذا الطلب قائلاً إنه ليس كتاباً فكرياً كي تتبنّاه "فتح"، فقطع القذافي المعونة المالية في سنة 1977. أمّا عبد السلام جلّود فيقول: "أبلغني أناس أن ماسونيين كانوا وراء فكرة الكتاب الأخضر."[5] وهكذا، بعد تلك الأعوام الطويلة، ما زال جلّود يلوك عبارة سقيمة عن دور الماسونية في صوغ "الكتاب الأخضر" متوهماً أنه بذلك يلقي ظلالاً من الشك على القذافي وكتابه المُسلّي. والسبب الأصلي في كراهية ياسر عرفات وحركة "فتح" بدأ مبكراً؛ فقد طلب القذافي من عرفات اختطاف الطاهر الزبيري الذي قام بمحاولة انقلابية فاشلة ضد الرئيس هواري بومدين في سنة 1967، وتسليمه إلى السلطات الجزائرية، فرفض أبو عمار، كما رفضت حركة "فتح" اغتيال عبد المنعم الهوني في مصر. وطلب القذافي في سنة 1978 من ياسر عرفات تدمير سفن تجارية في قناة السويس وفي مضيق هرمز لإغلاقهما فرفض عرفات ذلك. وحين دعا القذافي المقاتلين الفلسطينيين المحاصرين في بيروت في سنة 1982 إلى الانتحار ردّ عليه ياسر عرفات باستهزاء قائلاً: "تفضل وانتحر معنا."
في أي حال، وبعد هذه التجربة المتشعبة في دروب السياسة، ها هو عبد السلام جلّود يُلقي "جواهره ودُرره" علينا كأنه ما زال في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وكأن المياه لم تجرِ من تحته وأمام ناظريه أو في غفلة عنه، وهو ما برح مصرّاً على التذكير بأن الفلسطينيين والعرب يعرفون كيف كانت الثورة الفلسطينية قبل ثورة الفاتح وكيف أصبحت بعدها (ص 78 - 79)، وهو ما كان قاله في الحوار مع غسان شربل بصيغة أُخرى: "الثورة الفلسطينية لم تكن قوة فاعلة قبل العام 1969. ولا نبالغ في القول إن دعمنا المالي والعسكري والسياسي لها ساعدها على ترسيخ موقعها."[6] ويشرح بكل ثقة: "دَعَمْنا الثورة الفلسطينية بالمال والسلاح، كما فتحنا ليبيا أمام الفصائل الفلسطينية لإقامة معسكرات التدريب، ودرّبنا وسلّحنا الآلاف" (ص 79). نعم، لقد أقام النظام الليبي بزعامة القذافي- جلّود معسكرات التدريب، ودعم بالمال والسلاح أكثر الجماعات الفلسطينية إرهاباً وإجراماً مثل صبري البنّا، وقدم المعونات المالية والعسكرية واللوجستية والسياسية والإعلامية إلى المجموعات الأكثر تخلفاً في حركة "فتح" مثل مجموعة المنشقين أبو موسى، وأبو صالح، وأبو خالد العملة، وإلى المنظمات التي اعتاشت على المال الليبي (والآن على المال الإيراني) وانتعشت على ركام الانقسامات الداخلية مثل الجبهة الشعبية – القيادة العامة. ويعترف، في الوقت نفسه، بأن ليبيا خصصت 60 مليون دولار سنوياً للمنشقين عن "فتح"، أي ما معدّله خمسة ملايين دولار شهرياً.[7] وبهذا المعنى كانت القيادة الليبية (ومن أركانها عبد السلام جلّود) تدفع إلى المنشقين ملايين الدولارات، وهم كانوا يردون لها الجميل بإصدار بيانات زائفة باسم "كتائب عمر المختار". ومن صنوف هؤلاء أبو خالد العملة الذي لم يتورع عن تهريب مجموعات من الإرهابيين الإسلاميين من العراق وسورية إلى لبنان بعد تدريبهم في قاعدة "حلوة" الحدودية. وكان من عقابيل ذلك أن ظهرت على يديه مجموعة "فتح الإسلام" بقيادة شاكر العبسي، والتي دمرت مخيم نهر البارد في شمال لبنان. وكان معمر القذافي يريد من المنظمات الفلسطينية تنفيذ عمليات اغتيال أو خطف لمعارضيه في أوروبا الذين كان يسميهم "الكلاب الضالة". وطبعاً رفض ياسر عرفات وصلاح خلف ذلك، بينما قبل صبري البنّا وغيره تلك الموبقات. وفي هذا الميدان تجاهل عبد السلام جلّود في مذكراته هذه اجتماعه المعروف بأبو نضال في طرابلس في 30 / 12 / 1979، ولم يتطرق إلى ما جرى في ذلك الاجتماع وعلى ماذا اتفقا. فهل كان الهجوم على فندق الأكروبول والنادي البريطاني في السودان في 6 / 6 / 1988 من نتائج ذلك الاجتماع؟ ومهما يكن الأمر، فإن السيد عبد السلام جلّود، جرّاء هزال معارفه، وقع فيما يجب ألّا يقع فيه كاتب محدود التجربة؛ فقد تحدث كمَن له سلطان، أو كأنه مؤسس المقاومة الوطنية اللبنانية، فراح يردد: "كان العمل الفدائي يعني قنبلة عن بُعد، أو الهجوم الخاطف على هدف محدد. ولكن أن يلغّم الإنسان نفسه أو يقود سيارة ملغّمة (...) فهذا أمر لم يعرفه النضال [الفلسطيني] من قبل. لقد قمنا بممارسة ضغط شديد، وحرّضنا الفصائل الفلسطينية والحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي (...) لتحفيزهم على محاكاة تجربة حزب الله في القيام بالعمليات الاستشهادية. وبالفعل نجحنا مع الحزب السوري القومي والحزب الشيوعي [اللذين] قاما بعمليات استشهادية" (ص 162). والصحيح، مثلما هو معروف، أن العمليات الانتحارية الفلسطينية بدأت قبل أن يظهر حزب الله إلى الوجود بنحو عشرة أعوام، ومنها على سبيل المثال: عملية كريات شمونة (الخالصة – 1974)؛ عملية معالوت (ترشيحا – 1974)؛ عملية كفار شمير (أم العقارب – 1974)؛ عملية كفار جلعادي (جنوبي المطلة - 1975)؛ عملية كفار يوفال (آبل القمح – 1975)؛ عملية متيولا (المطلة – 1975)؛ عملية فندق سافوي (تل أبيب – 1975)؛ عملية كمال عدوان (ساحل حيفا – 1978).
يلوح لي أن عبد السلام جلّود مصاب بأرتيكاريا (urticaria) ياسر عرفات، أي الحكاك أو الشرى الذي يظهر في كل مرة يرتفع فيها اسم أبو عمار، حتى إنه روى رواية ملفقة ورد فيها ما يلي: "في إحدى زياراتي إلى عدن، وحين استقبلني علي ناصر [محمد] في المطار، لاحظتُ أن المطار يعجّ بسيارات المرسيدس الفارهة من نوع 400 و500، فقلت لعلي ناصر: من أين هذه السيارات الفارهة؟ فقال: هذه هدية من ياسر عرفات. فقلت له: عرفات أفسد الثورة الفلسطينية والآن يريد إفسادكم" (ص 222 - 223). والواقع أن علي ناصر محمد قُبع بالقوة من منصبه في 24 / 1 / 1986، أي أن الزيارة الهذيانية جرت قبل ذلك التاريخ بحسب المنطق، بينما سيارات المرسيدس 500 لم يبدأ صنعها إلّا في سنة 1990. وهذه الرواية هي من أعاجيب الحكايات وغريبها في آن؛ فكيف يهدي ياسر عرفات قبل سنة 1986 سيارات فارهة إلى رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية قبل إنتاجها في سنة 1990، ونزولها إلى الأسواق في سنة 1991؟ وفي أي حال، لم يُفسد أحد الناس في فلسطين وسورية ولبنان وتونس والمغرب ومصر مثلما أفسدها عصر القذافي؛ لنتذكر روجيه غارودي وأمثاله وهم كثر جداً. فهل أفسد ياسر عرفات القذافي وبطانته ووزراءه ورجال أمنه أيضاً؟ وهل بادر القذافي إلى طرد الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في ليبيا في سنة 1995 ورميهم عند الحدود الليبية - المصرية انتقاماً من ذلك الإفساد الموهوم؟
أبو المراجل
تعجّ المذكرات بحكايات يحار الباحث هل يصدقها أم يعتبرها مجرد "مراجل" عابرة صنعتها خيالات صاحب السيرة، فهو يقول: "لما وصلتُ إلى مطار أبو ظبي (في سنة 1971) فوجئتُ بالعسكريين الإنكليز يرتدون الملابس العسكرية مع الشال والعقال الخليجي فوق رؤوسهم. وحين دخلتُ قاعة الاستقبال وجدتُ مجموعات من العسكريين الإنكليز فطردتهم من القاعة" (ص 216). ويستطرد: "في بداية زيارتي إلى إمارة دبي للقاء حاكمها راشد بن مكتوم (...) فوجئت بأن مهدي التاجر كان الحاكم الفعلي، فغضبتُ غضباً شديداً وطردت وزير الخارجية [أي مهدي التاجر] من الاجتماع" (ص 217). والمعروف أن مهدي التاجر لم يكن وزيراً لخارجية دولة الإمارات في أي يوم من الأيام، ولم يؤدِّ هذا الدور رسمياً في إمارة دبي، وإنما كان مستشاراً ورجلاً ثرياً فقط. ومن مراجله أيضاً: "اتصلتُ بأحمد خطاب مسؤول الأمن في صالة كبار الزوار في المطار [مطار طرابلس] وقلت له غاضباً: عليكم أن تُخرجوا لي الإمام موسى الصدر من تحت الأرض وإلّا فسوف أعدمكم جميعاً" (ص 224). وهنا تنقطع الحكاية، ولا ندري هل أعدمهم جميعاً أم لا. ويروي عبد السلام جلّود أنه في أثناء عقد القمة الإسلامية في مدينة الطائف (1981) أمسك علي عبد الله صالح من ربطة عنقه وقال له: "يا قرد، أنت عبد العبد. أنت عميل للسعودية التي هي عميل لأميركا" (ص 140- 141). ولم يكتفِ جلّود بهذا التصرف، وإنما وقف في تلك القمة، وقرّع الحاضرين من الملوك والأمراء والرؤساء بقوله: "يا جبناء، مَن هو مقتنع بعودة مصر عليه أن يرفع يده أربعة أمتار فوق الطاولة. لماذا يا جبناء ترفعون أيديكم تحت الطاولة؟ (ص 140 - 141). وزعم جلّود أنه قال للرئيس المصري حسني مبارك في أثناء زيارة هذا الأخير لليبيا في سنة 1992: "أنا لست موظفاً في وكالة المخابرات الأميركية مثلك" (ص 336). وفي حادثة أُخرى يقول: "على الفور صفعتُ [الضابط عبد السلام الزادمة] على وجهه عدة مرات وأرسلته إلى السجن" (ص 344). وروى أنه في أثناء مداولات تأليف جبهة الصمود والتصدي في طرابلس (2 / 12 / 1977)، وبعد أن شكر معمر القذافي الرئيس حافظ الأسد وياسر عرفات، طلب جلّود الكلام، ونهض ثم قال: لا يا أخ معمر. السادات مثل الطائر الذي طار بجناحين: سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية" (ص 138 - 139).
جاحظيات
يظهر عبد السلام جلّود في هذه المذكرات رجلاً ملحمياً خارقاً تمكّن، في بعض أشواط عمره، من سحب القوات السورية من عدد من مواقعها، وخصوصاً في مطار بيروت ورأس بيروت في سنة 1976، ومن إخراج ياسر عرفات عنوة من طرابلس الشام في سنة 1983، وطرد رفعت الأسد إلى روسيا في سنة 1984، وسحب القوات الفلسطينية من بلدة مغدوشة في سنة 1986. وفي خضم هذه المعارك لا ينفك راوياً وقائع من المحال تصديقها بالصيغة التي وردت فيها في مذكراته. فهو يروي، على سبيل المثال، أن أحمد جبريل أخذ الهاتف منه في أثناء مكالمته الرئيس حافظ الأسد وقال له: " إذا كنتَ تعتقد أننا سنقابلكم بالورود فأنتم مخطئون. لا تقل لي زهير محسن ومصباح البديري، ولا عاصم قانصوه ولا بطيخ. بدكم تمروا على جثثنا" (ص 149). وهذه الرواية ترد بصيغة أُخرى في حواره مع غسان شربل؛ فقد خاطب جبريل الرئيس الأسد على النحو التالي: "يا سيادة الرئيس حرِّر فلسطين أولاً. لن تدخلوا بيروت إلّا على أجسادنا."[8] وهذه لغة من المحال أن يتجرأ أحمد جبريل على التفوه بها للأسد. ويقول إنه نجح بعد تسعين يوماً من العمل الشاق في إنهاء حصار المخيمات (ص 174): "لقد نجح العمل البطولي الجهادي الذي قمتُ به بالتعاون مع إيران (...) في رفع الحصار عن المخيمات ووقف الحرب" (ص 175)، وعاد إلى طرابلس من دمشق في 2 / 3 / 1985 (ص 175). وهنا سأتجاوز عبارة "العمل البطولي الجهادي" لأقول إن حرب المخيمات بدأت في 19 / 5 / 1985، وتوقفت في 11 / 9 / 1987. فكيف عاد إلى طرابلس في 2 / 3 / 1985 بعد أن أوقف الحرب؟ هل أوقفها قبل أن تبدأ؟ ويقول: "في أواخر الثمانينيات تعرّض الرئيس السوري حافظ الأسد لنوبة قلبية" (ص 178)، والصحيح ليس في أواخر الثمانينيات بل في أوائلها، وبالتحديد في 12 / 11 / 1983. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد من خلط الوقائع والتواريخ، فيقول: "كان ياسر عرفات في زيارة إلى ليبيا في عام 1973، وطلب منا طائرة خاصة لنقله إلى القاهرة. وبعد وصوله بساعات شاهدناه يحضر مع الخائن السادات جلسة ما يُسمى مجلس الشعب المصري الذي أعلن فيه [السادات] زيارة فلسطين المحتلة، وشاهدنا عرفات وهو يصفق" (ص 163). وهذه الفقرة ملخبطة تماماً؛ فجلسة مجلس الشعب التي أعلن السادات فيها استعداده لزيارة القدس عُقدت في سنة 1977 وليس في سنة 1973، أي بعد أربعة أعوام، الأمر الذي يدل على مقدار الدقة في الحكايات التي يرويها عبد السلام جلّود عن ياسر عرفات. ومن معالم تلك "الدقة" ما يلي: "أسقطت المقاوِمات الأرضية طائرتين أميركيتين حاولتا شن غارات على منطقة الجبل [اللبناني]، ووقع أحد الطيارين في الأسر. وأعتقد أن الطائرتين أسقطتهما قوات الدفاع الجوي الليبي المتمركزة في منطقة الجبل" (ص 159). والحقيقة الدامغة أن الطائرتين أُسقطتا فوق ثكنة الشيخ عبد الله في بعلبك لا في الجبل اللبناني. وقد أسقطتهما في 4 / 12 / 1983 المدفعية السورية المضادة للطائرات، وأُسر أحد الطيارَين، واسمه روبرت غودمان الذي استرجعه السيناتور جيسي جاكسون زعيم حركة الحقوق المدنية للسود الأميركيين. وللأسف الشديد، فإن عبد السلام جلّود الذي اتهم محسن إبراهيم وجورج حاوي بالانتهازية (ص 153) هو نفسه الذي يقول عن بشير الجميّل: "لديه شهامة ورجولة، وهو صادق مع نفسه، وهو زعيم لديه احترام، ويمتاز بأنه ليس تاجراً سياسياً"،[9] ثم كرر ذلك في هذه المذكرات بالقول: "كان بشير الجميّل شاباً شهماً وشجاعاً" (ص 152). وما دام بشير الجميّل كان شخصاً صادقاً وشهماً وشجاعاً ومحترماً وذا رجولة، فلماذا لم يحاول عبد السلام جلّود إنقاذ مخيم تل الزعتر منه ومن مقاتلي حزبه وحزب الوطنيين الأحرار وحزب حراس الأرز ومجموعة "التنظيم" وغيرهم من ميليشيات الحرب الأهلية اللبنانية وأرذالها؟
المصادر:
[1] غسان شربل، "في خيمة القذافي: رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده" (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2013).
[2] انظر: عبد السلام جلّود، "مذكرات عبد السلام أحمد جلّود: الملحمة"، (بيروت؛ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022)، 479 صفحة.
[3] انظر: جورج مالبرينو (محاوِر)، "جورج حبش: الثوريون لا يموتون أبداً" (بيروت: دار الساقي، 2009)، ص 295.
[4] كاي بيرد، "الجاسوس النبيل: حياة روبرت إيمز وموته"، ترجمة محمد جياد الأزرقي (بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2015)، ص 220-221.
[5] انظر: شربل، مصدر سبق ذكره، ص 82.
[6] المصدر نفسه، ص 46.
[7] راجع: المصدر نفسه، ص 45.
[8] المصدر نفسه، ص49.
[9] المصدر نفسه، ص 41.